بحث هذه المدونة الإلكترونية

2013/05/28

السلفية، ذاك المارد الذي لن يعود إلى قمقمه

تلتقي أغلب المؤشرات الموضوعية والذاتية، حول حقيقة، باتت اليوم بمنأى عن أي تفنيد، حقيقة مفادها أن مارد السلفية قد كَسَرَ كل القيود المضروبة عليه، وانفلت من القمقم الذي حُشر فيه حشرا طيلة عقود من الزمن، وحقيقة أن عودته، إن طوعا أو غصبا، إلى قمقمه باتت صعبة، أن لم نقل مستحيلة، على الأقل على المدى القريب... بعد أن "حُوصرت" تونس بين أضلاع مثلث برمودا (حركة النهضة، حزب التحرير وأنصار الشريعة). فالسلفية، التي لا تمثل ظاهرة عامة في المجتمع التونسي، هي بصدد افتكاك تمظهرها الحقيقي والطبيعي الموؤود في الفترتين "الدستوريتين" السابقتين، مستندة في ذلك على المعطيين المكاني والزماني، فجغرافيا، تحولت تونس إلى معبر حقيقي للأسلحة الخفيفة والثقيلة، بعد أن "تأثثت" مكتباتها ومعارضها بالكتب المحرضة على الجهاد والعنف، وبعد أن صارت قبلة "شرعية" للدعاة المتشددين ولأصحاب الفكر الأصولي، وتحديدا الوهابي منه، الذي يضخ كميات هائلة من الأموال لتثبيت قدم محمد بن عبد الوهاب من جديد، ومذهبه الوهابي القائم على قاعدة "أسلم تسلم"، بعد أن "قطع دابرها" العلامة التونسي عمر المحجوب بطلب من حمودة باشا، باي تونس في القرن الثامن عشر... أما المعطى الزماني، فقد مثل ما سمي "الربيع العربي" مناخا مناسبا لاستفاقة التيار السلفي وظهوره إلى العلن، لممارسة السياسة والتشكل في الأحزاب والجمعيات والمنظمات غير الحكومية، ("أنصار الشريعة" لها 213 جمعية خيرية تقدر نسبة تعاملاتها المالية 3 مليارات و826 مليون دينار... وحركة النهضة لها189 جمعية خيرية واجتماعية تقدر معاملاتها المالية ب4.2 مليار... ولحزب التحرير87 جمعية خيرية وطبية تقدر معاملاتها المالية ب1.9مليار من المليمات)، معتبرين أن الزمن هو زمن الصحوة الإسلامية التي انطلقت منذ سقوط نظام صدام حسين في العراق سنة 2003، وأن الأوان حان لإقامة دولة "الخلافة الراشدة السادسة"، تلك التي أعلن عنها السيد حمادي الجبالي في إحدى الاجتماعات العامة لحزب حركة النهضة (الاتجاه الإسلامي سابقا)، وهو التصريح الذي فتح المجال واسعا أمام الصنفيين الثانيين (حزب التحرير وأنصار الشريعة) إلى المضي قدما في تحويل وجهة الدولة التونسية من دولة جمهورية مدنية إلى إمارة إسلامية (عاصمتها القيروان) تحكمها الشريعة. بين حركة النهضة، صاحبة الأغلبية في المجلس الوطني التأسيسي، وحزب التحرير المحظور في عدة بلدان عربية وأوروبية، والسلفية الجهادية ممثلة في أنصار الشريعة من جهة ثالثة، يتحرك المارد بسرعات مختلفة، وبأشكال متنوعة، ولكن في اتجاه غاية واحدة، ولأجل تحقيق هذه الغاية بالذات، فإن كل الوسائل متاحة ومُباحة، وهي شرعية بالتالي لا نقاش فيها ولا اختلاف... ومن ثمة تم تقسيم الأدوار بين الأطراف الثلاثة، كل حسب موقعه، وحسب ارتباطاته الداخلية والخارجية، حيث اضطلعت حركة النهضة بتعطيل مداولات المجلس الوطني التأسيسي من خلال أصوات ممثليها، وتكفلت وزارة الشؤون الدينية بترك باب المساجد مفتوحا أمام الأيمة المتشددين والمختصين في تفرقة الشعب التونسي بين المؤمنين والكفار، كما جعلت المؤسسة الأمنية مرتبكة في أدائها (أحداث السفارة الأمريكية وأحداث بئر علي بن خليفة والروحية...الاعتداء على زوايا الأولياء الصالحين...) ووقفت حركة النهضة ضد مشروع دسترة المؤسسة الأمنية وضد النقابات المنبثقة من هذا الجهاز، ولم تتوانى وزارة الخارجية التونسية في جعل دولتا قطر والسعودية، دولتا تدخل بامتياز في الشؤون الداخلية لتونس... أما حزب التحرير، وبعد الإيهام بمقاطعته لانتخابات 23 أكتوبر، فقد تكفل بإعلان ما لا يمكن أن تعلنه حركة النهضة بشكل مباشر، وهو إقامة دولة الخلافة، و"رجوع الإسلام"، خاصة بعد أن وزع "دستور الخلافة" الذي ينص على أن الديمقراطية كفر وشرك بالله، كما أن حزب التحرير تكفل بمهمة "تشويه" الخصوم السياسيين لحركة النهضة، ومنهما خاصة "العلمانيين والملحدين"، مثل الجبهة الشعبية اليسارية، و"أزلام النظام البائد" مثل حركة نداء تونس، ولم يتأخر أنصاره في كل مرة، في ضرب العمل النقابي وتشويه الاتحاد العام التونسي للشغل... أما السرعة القصوى لمارد السلفية والتشدد الديني، فيتجلى في المجموعات السلفية الجهادية، والمعروفة بأنصار الشريعة، فبعد الأعمال الخيرية والدعوية التي انتظمت في المناطق الأكثر فقرا وتهميشا في تونس، وبعد إجراء التدريبات في المعسكرات الجهادية خاصة في ليبيا للتنقل إلى سوريا وإسقاط نظام بشار الأسد وإقامة دولة الخلافة، خاصة أن أنصار الشريعة يقاسمون "تنظيم القاعدة المنهج الفكري والعقائدي"، ورغم أن أنصار الشريعة لا يعتبرون تونس "أرض جهاد"، إلا أنهم مثلوا "ورقة رابحة" لدى حركة النهضة لكسر عنق الانتقال الديمقراطي وتحويل وجهة نظر الرأي العام الوطني عن مشاكل التنمية والتشغيل في تونس، وإلهائه عن الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الخانقة، فالعلاقة "الأخوية" بين قياديين من حركة النهضة و "أمير" أنصار الشريعة، سيف الله بن حسين المكنى "أبو عياض"، علاقة لم تعد خافية عن أحد، خاصة بعد التحول الكامل في نظرة راشد الغنوشي "لأبنائه" السلفيين، واعتبارهم "جماعة تكفيرية"، وأيضا تصنيف علي العريض رئيس الحكومة المؤقتة أنصار الشريعة "بالجماعات الإرهابية"، ليصير بذلك "أمن التونسي" الأولوية القصوى بدلا من التشغيل والتنمية وإنهاء كتابة الدستور والمرور إلى الانتخابات، وقد نجحت الحركة ومن ورائها حزب التحرير وأنصار الشريعة، في "تأليف قلوب" الشعب والنخبة التونسية لتجاوز هذا "الخطر" و"التضحية" من جديد بالفقر والتهميش وحالة الضبابية السياسية... أن توزيع الأدوار بين الأطراف الثلاثة، ولئن كان مكشوفا لدى الطبقة السياسية والفكرية، فإنه مازال يفعل فعله لدى الأوساط الشعبية المستبطنة في لا وعيها لمقولة "التونسي مسالم بطبعه"، والأوساط الشعبية، تمثل الطرف الأهم بالنسبة لحركة النهضة في المعادلة الانتخابية القادمة، باعتباره يمثل ثقلا معتبرا من ناحية الأصوات التي سيمنحها للحكومة التي "تمكنت" من "كبح جماح الإرهاب والتطرف الديني" في الفترة الحالية... رغم أنها أطلقت سراح الناطق الرسمي باسم أنصار الشريعة؟ ولكن هل ستتمكن فعلا حركة النهضة من "كبح جماح أنصار الشريعة"؟ وهل ستتوقف دوامة العنف باسم الدين في حدود مواجهات "غير رسمية" بين رجال الأمن و"أشباح" الجهاديين في جبال الشعانبي وبوقرنين، وفي باحة المساجد وفي الأحياء المفقرة والمهمشة؟ أم أن "انفلاتات" مرتقبة من الشباب السلفي قد تنقلنا إلى مرحلة التفجيرات الانتحارية والأحزمة الناسفة والذبح والسحل وما شابهها من طرق تطبيق "شرع الله" في تونس؟ بين تفادي الحلقة الأخيرة من مسار تدمير الانتقال الديمقراطي، و"إحلال" نظام ديكتاتوري جديد، وبين "تأمين" هذا المسار الذي طال أمده، يظل "مقود البلاد" (مثلما قال راشد الغنوشي) بيد حركة النهضة، ويظل الخط المستقبلي لتونس رهين صندوق النقد الدولي ومدى تطبيق شروطه وضمان سياسته.

هناك تعليق واحد: