بحث هذه المدونة الإلكترونية

2008/07/30

جيل الهباء

لو كنت فرنسيا لمت في فرنسا... ولو كنت كنديا لمت في كندا... ولو كنت يابانيا لمت في اليابان... ولو كنت كوبيا لمت في كوبا... ولكن انا تونسي ومع ذلك لا أحب ولا أتمنى ان أموت في تونس!!!
«أنا» لا تعود عليّ أنا، وإنما هي ضمير ـ ليس حيا ـ يعود لعدد غير قليل من ابناء جلدتنا ولدوا وكبروا هنا وهم الان يكبرون وسيهرمون هناك... ولأكن واضحا فأنا أقصد عيّنة بذاتها من شباب تونس وشاباتها، هم تحديدا ابناء وبنات عدد كبير من «المناضلين» السياسيين والحقوقيين والنقابيين ـ أعرف أغلبهم ـ قاموا «بتهريب» ابنائهم وبناتهم الى الجامعات الغربية والامريكية ليواصلوا تعلمهم ويحصّلوا من الشهادات ما تيسّر لهم، ولهم في ذلك كل الحق، ولكن ما يحزّ في النفس ان العديد من أولئك «المناضلين» الذين صرفوا اعمارهم في السجون والسرية وفي الاعتصامات والمظاهرات من اجل تونس الحلم لأبنائهم وبناتهم وللجيل الذي سيبقى بعدهم، ترى أغلبهم يشجع ابنه أو ابنته على البقاء هناك وعدم التفكير في العودة الى تونس... تراهم يفاخرون ببقاء ابنائهم في باريس ونيويورك ومونتريال والمانيا وغيرها من العواصم ولا تسمعهم يتحدثون الا عن رفاهيتهم هناك وعن حريتهم هناك حتى أقنعوا أنفسهم بأن هذه البلاد ما عادت تصلح لهم وان مناخها أضيق من نشاطاتهم وطموحاتهم فلماذا يعودون؟ ولماذا يؤوبون؟!!
هنا أود أن أسألكم أنتم بالذات، لماذا ناضلتم ولا تزالون؟! لماذا صرفتم أعماركم في النقد والاصلاح وحتى في الحلم بالثورة؟! أليس من اجل ابناكم وبناتكم ومن اجل جيل كامل؟!! هل أفنيتم سنون حياتكم من اجل جيل منذور للهباء والشتات؟!! يا لنفاقكم وخيبتكم ايها المناضلون الثوريون؟!
وحدهم ممن تطلقون عليهم صفة «الشعبيون» يكدون هناك لأجل العودة هنا وبناء مشروع لصالح البلاد... وحدهم صادقون في حب هذه الارض... بل اني اعرف الكثير من الشباب الضائع هنا من «حرق» الى «طاليا» ليعود الى تونس ويبني مشروعا ينقذه من الضياع الذي كان فيه...
وحتى لا أتجنى على احد فاني بالمقابل اعرف عدد قليل جدا جدا من شبان وشابات تغربوا عن تونس وأصروا على العودة اليها بزادهم العلمي والمعرفي الذي حصلوها هناك ولكنهم ـ مع الاسف الشديد ـ يعدون على اصابع اليد...
لن أصف الجيل الذي تربيت على نضاليته بأنه امتهن النضال النخبوي والبورجوازي والفئوي... لن اصفه بذلك لأني بالاخير اظل احترمهم واحترم نفسي باعتباري ثمرة من ثماره... ولكن لست ادري كيف اصف وبماذا اصف صنفا اخطر من الاول من اولئك المناضلون السياسيون والنقابيون والحقوقيون (اقصد كل الحساسيات والاحزاب، حاكمة وتابعة ومعارضة) واقصد بالصنف الثاني عددا كبيرا من «المناضلين» الذين أفنوا اعمارهم في الانصهار في العائلات الحزبية او الحقوقية أو النقابية او المدنية ومع ذلك لم ينجحوا في تكوين عائلاتهم «الدموية» على المبادئ والقيم والشعارات التي رفعوها وآمنوا بها خارج عتبة بيوتهم ومنازلهم اذ نادرا ما تلتقي ابن او ابنة «مناضل» مهتم بالشأن السياسي او النقابي او الحقوقي... فالكل منصرف الى شأنه الخاص... وأي شأن... كرة، مقاهٍ... فضائيات!!!

2008/07/15

كأني اشبه ظلكم

إذا رأينا شرطيا يقود مجرما إلى السجن
فلنتريث لكي نعرف من هو الشرطي ومن هو المجرم
جبران خليل جبران


عاد هيثم إلى الهذيان من جديد
كان صوته يأتي من بعيد, من أعماقه, وهو يصيح وينادي دون توقف " كل شيء بخمسمايا. فرصة وربي فرصة". عندما ركله الشرطي بحذائه ركلتين متتاليتين بعنف على بطنه استفاق مذعورا وتذكر أنه موقوف منذ ساعتين في مركز الشرطة. تماسك قليلا. استوى على الكرسي الخشبي, وبدأت أنفاسه تنتظم شيئا فشيئا وعندما رفع يديه ليمسح العرق المتصبب من جبينه, أحس بسائل ساخن متخثر تحت أذنه اليسرى. مرر أصابعه بحذر فوق السائل المنساب على عنقه فاختلط الدم المتخثر بالعرق وببعض الأوساخ المتجمعة فوقها من جراء الغبار الذي أحدثته عجلات السيارات وأرجل المارة أين كان يعرض بضاعته فوق " كردونة " في نهج الدباغين.
تذكر البضاعة. أين هي ؟ وتذكر الأموال التي استدانتها أمه من صاحب المصنع الكبير, الذي تشتغل في بيته غسالة, من أين سيرجعها ؟ وهو الذي وعد أمه أنه سيأتيها في المساء بالسلفة ومعها بعض الخضار والدواء لعينها, الذي انتهى منذ شهر وأيضا سيعطيها ثمن قارورة الغاز مثلما اتفق معها ليلة البارحة.
عندما كان يتذكر ما حصل له قبل ساعتين حينما هجمت سيارة "الحاكم" الزرقاء على الباعة المنتصبين شمالا ويمينا فوق الأرصفة المهترئة في نهج الدباغين, وفرقتهم يمينا وشمالا وهم يهرولون ويركضون باتجاه الأزقة والمنافذ ويختبئون داخل الدكاكين والمقاهي, بعضهم يحضن ما تبقى معه من بضاعته التي تبعثرت وسط النهج, والبعض الآخر يحمل "كردونته" بكلتا يديه ويحاذر في الجري بها وسط الجموع المتراكضة, خوفا من سقوطها, وآخرون لم يحملوا شيئا لشدة رعبهم وذهولهم من الطريقة المباغتة لهجمة الحاكم.
كان لفيف منهم يتتبع حركة صديقهم هيثم وهو يتهاوى على مؤخرة رأسه ويسقط فوق بضاعته التي تكسرت تحته وتحت أحذية رجال "الحاكم". كان البعض ينظر إلى المشهد وهو يلعن الحاكم وأبو الحاكم. وكان البعض الآخر ينظر باشمئزاز وقرف شديدين لقسوة هؤلاء "البشر". وهناك في الركن القصي لمقهى الدباغين تسمر صبيان يتداولان على عقب سيجارة وهما ينظران بشماتة لما يحدث لصديقهم هيثم لأنه سبقهم إلى المكان الذي رغبا الانتصاب به صباحا.
عندما كان يتذكر كل هذه المشاهد فاجأه صوت الشرطي الجالس فوق الطاولة وهو يضع ساقيه فوق الكرسي المحاذي لها. سأله بصوت غليظ من أين أتيت بالبضاعة يا ابن الزانية ؟
قفزت مباشرة إلى ذهن هيثم صورة أمه وهي جاثمة على ركبتيها, محنية الظهر , وسط فيلا الحاج إسماعيل, تمسح القاعة الفسيحة تارة وطورا تحك الجدران العالية. تذكر حالتها هذه وأجاب متلعثما بصوت مبحاح لكثرة صياحه في نهج الدباغين
اشتريت البضاعة بعرق أمي. بصبرها وشقائها وقلة نظرها. لقد باعت قوتها, كل قوتها, من أجل أن أشتري البضاعة
رفع الشرطي إحدى ساقيه من على الكرسي وضغط بها على بطن الصبي الفارغة ثم أمسكه بكلتا يديه من شعره الملبد وصاح في وجهه فتناثر بصاقه على عيني هيثم وأنفه قلت لك من أين أتيت بالبضاعة يا سارق يا ابن السارقة ؟
أنا لم أسرق أحدا. أنا لست سارقا, لقد اشتريت البضاعة من عند... من عند...
تلعثم هيثم ثانية وارتبك ثم صمت تماما وأغمض عينيه. نزل الشرطي البدين من فوق الطاولة واتجه صوب الباب. أغلقه بعنف ثم عاد إلى هيثم وصفعه صفعتين قويتين وبصق في وجهه الشاحب ملئ فمه.
_ من عند من ؟ انطق و إلا سأقطع لك هذا اللسان. وأمسكه من شدقيه بشدة ثم دفعه إلى الخلف بعنف.
كان هيثم كثيرا ما يسمع من عند أصدقائه الباعة في نهج الدباغين, عن غلظة "رجال الحاكم" وقسوتهم ووحشية معاملتهم. كما حدثه بذلك رفيقه الطالب سامي الذي تعرف عليه أيضا في نفس النهج, حيث كان يأتي كل يومين تقريبا رفقة بعض الطلبة, من كليات مختلفة أين يجلسون الساعات الطوال في مقهى النهج, وقد تطورت علاقة هيثم بسامي خاصة بعدما قدم الصبي ذات مرة للطالب نظارات شمسية دون مقابل لما اشترى من عنده ولاعة وعلبة سجائر مستوردة (مندية) وأجندة وحاملة مفاتيح وحافظة أوراق دفعة واحدة, فكان كل مرة يمر بالدباغين يعرج على نصبة هيثم وفي بعض الأحيان عندما يكون مفلسا يستلف من عنده ثمن كأس شاي أو ثمن بعض السجائر, ثم بدأ يعطيه كل مرة كتابا يقرأه أو مجلة يطالعها, عادة ما تكون سياسية أو أدبية, ثم بدأ يصطحبه بانتظام مرة كل أسبوع إلى بيته بباب الخضراء, حيث يطلعه على عدة كتيبات وصحف لم يسمع بها من قبل وأوراق... و كانت في بادئ الأمر تخيف الصبي ثم بدأ يتعود عليها فيما بعد لإحساسه أنها تتحدث عنه هو بالذات وعن أصدقائه الباعة بل وحتى عن أمه وأمثالها دون نفاق أو كذب, حتى أنه أصبح ينتظر بلهفة وبشغف كبيرين يوم يرافق سامي إلى بيته لعلمه أن هناك خبرا جديدا أو فضيحة أخرى سيطلع عليها.
ويذكر هيثم أن سامي سلمه مرة كراسا صغير الحجم من دون عنوان وقال له أن ذاك الكراس سيعلمه كيف يتعامل مع أسئلة "الحاكم" وكيف يحسن الجواب حين يقع في قبضتهم. ولكن هيثم في وضعه هذا, والدم ينزف منه ويختلط بالعرق والدموع والمخاط, كيف له أن يستحضر تلك القواعد التي قرأها ؟وهل فعلا ستنقذه من هذا الموقف ومن هذا الوضع المزري ؟ ألن تزيد الأمر سوءا وتعقيدا ؟ألن يتفطن الشرطي إلى طريقة إجابته ويشك في أمره فيضاعف عقابه ويضع رفيقه في ورطة ؟.
ماذا سأفعل ؟ كيف سأجيب هذا البدين, عديم الشفقة والرحمة ؟ ولكن ماذا لو قلت له الحقيقة كاملة, هل سيصدقني ويطلق سراحي ويعيد لي بضاعتي ؟ ... لا. لا تهم البضاعة, المهم سراحي قبل أن ينزل الليل وأتأخر عن أمي... لا يهم ثمن البضاعة, المهم سراحي, ستتوسل أمي للحاج إسماعيل لكي يخصم لها السلفة من مرتبها البائس, أو ستقترح عليه أن تشتغل عند ابنته في الليل بعد أن تنهي شغلها في الفيلا الكبيرة, لا يهم ستتعب أكثر ويزداد ظهرها تقوسا وستهترئ أصابعها من رغوة الصابون... لا يهم سوف أعوضها عن كل شقاء ومهانة تلحقها مني ومن هذه الأيام الزانية... سأتدبر أمري ثانية... سأستلف وحدي من عند سامي أو من عند أحد الأصدقاء من نهج الدباغين أشتري لها الدواء والخضار وقارورة الغاز وسأشتري لها أيضا قرطاس حنة لتزين بها أصابع قدميها ويديها. أعرفها إنها تحب الحناء كثيرا. إنها تذكرها بليالي الحب الخضراء مع أبي رحمة الله عليه...
لا يهم الثمن الآن, المهم سراحي وعودتي إلى بيتي.
أشعل الشرطي سيجارة جديدة ونفث دخانها نحو السقف, ملقيا عود الثقاب المشتعل في وجه الصبي, وصرخ فيه بأعلى صوته
_ من عند من اشتريت البضاعة يا قذر ؟.
وضع هيثم يده على رقبته المتسخة وكاد يقول للشرطي أنا لست قذرا. أنت القذر, بل أنت خنزير متعفن ولكنه تمتم بصوت خفيض متقطع
الحقيقة. الحقيقة اشتريتها من عند شرطي يشتغل في الميناء , وهو يسكن قريبا من حينا, تعرفت عليه مرة عندما أعنته على إغلاق باب المستودع الذي اكتراه من عند عم سالم منذ سبعة أشهر ليضع فيه بعض الأدباش المستعملة والأشياء القديمة مثلما قال.
عقد الشرطي حاجبيه وزم شفتيه وبدا, لهيثم, وكأنه يبتسم خلسة ثم أدار كرسيه إلى الحائط ربما ليستر ضحكته أو لينتشي بها بعيدا عن عينيه. زم شفتيه وقال له وهو لا يزال يدير ظهره إلى الحائط
عم سالم شنيب جزار حي السلام الذي يبيع لحم الحصان والحمير ؟ ثم ضحك هذه المرة بصوت مسموع.
ارتبك هيثم وتلعثم وهو يتذكر عم سالم الجزار وشنبه الطويل المفتول بدقة وبطنه المنتفخة تحت قميصه المبقع بالدم والمزرر حتى نصفه الفوقي دائما, صيفا وشتاءا, وتذكر أيضا صبيحة, تلك المرأة المطلقة... صبيحة التي كان لا يمارس عادته السرية إلا وهو يستحضر صورة مؤخرتها الرجراجة ونهديها المنتصبين دائما رغم تقدمها في السن... صبيحة التي كانت تشتري اللحم من عند الجزار أكثر من الأستاذ خالد مدرس العربية بمعهد الحي ورغم أن هذا الأخير يقدم دروس تدارك لأبناء الميسورين في بيوتهم ليلا وأيام الآحاد وفي العطل, فإن صبيحة المطلقة تشتري اللحم أكثر منه. لقد كانت كثيرة الضحك مع عم سالم ويبدو أنها كانت سخية عليه بلحمها الأبيض مثلما هو سخي معها باللحم الأحمر, لحم الحمير والأحصنة.
تذكر هيثم الجزار وبدا و كأنه يسأل نفسه : من أين يعرف هذا الشرطي ذو النجمتين عم سالم ؟ أهو من زبائنه ؟ أم تراه أمسكه سابقا متلبسا مع صبيحة ؟ هل يعرف شرطي الميناء ؟...
قطع الشرطي سيل الأسئلة المتدفق داخل رأس هيثم وقال له بنبرة هادئة
هل تدخن يا سار... ؟
ثم أردفه بسؤال ثان
ما اسمك ؟
أجابه هيثم بسرعة عن اسمه ونسي بنفس السرعة استغرابه ودهشته من تبدل لهجة الشرطي, بمجرد أن سمعه يسأله عن الدخان
أعاد السؤال
هل تدخن يا سي هيثم ؟
لم ينتظر إجابته وإنما قدم له سيجارة ومده بمنديل ورقي ليجفف به العرق ويمسح عن عنقه الدم ومن وجهه بقايا البصاق المختلطة بالدموع والمخاط.
التقط هيثم السيجارة بلهفة قبل أيأخذ المنديل. أشعلها بارتباك وسحب منها نفسا عميقا وطويلا, ثم زاد نفسا ثانيا وثالثا بنفس الشراهة وكأنه يعوض الساعتين اللتين ظل فيهما موثوق اليدين في مركز الشرطة.
تركه الشرطي يدخن قليلا ثم سأله بعد أن قام من كرسيه المقابل
اسمع يا هيثم انس الآن كل ما حدث لك في المركز ولا تهتم لأمر البضاعة التي تكسرت فسوف تعوض عنها بضعفها, فقط كن متعاونا معي ولا تخف مني فلن أضربك ثانية.
وضع علبة السجائر فوق الطاولة بعد أن سحب واحدة وأشعلها ثم قال
أمك تبيع قوة عملها لتشتري أنت البضاعة. جيد. كلام جميل بل كلام علمي ولكن هل تبيع قوة عملها أم قوة مؤخرتها
ود هيثم لو كانت في يده الآن عصا غليظة ليدكها في مؤخرة هذا الخنزير النتنة.
واصل الشرطي سؤاله
هل تعرف من قال أن العامل يبيع قوة عمله ؟
قفزت إلى مخيلة الصبي فورا صورة كارل ماركس وصورة لينين المعلقتين في بيت رفيقه سامي بباب الخضراء ومرت أمام عينيه عدة عناوين لكتب اقتصاد واقتصاد سياسي كان قد قرأها في بيت سامي وناقشاها سوية, ولكنه لم يكن مستعدا للإجابة عن سؤال الشرطي, بل إنه لن يكون مهيأ أبدا مهيئا للإجابة عن مثل هذه الأسئلة لأي كان, لا الآن ولا غير الآن. إنه لن يخون رفيقه حتى لو قتله الشرطي وكل "الحاكم" ضربا ولطما وركلا... حتى لو فتحوا له رأسه الصغير... واتلفوا كل بضاعته وحتى لو قدم له الشرطي علبة السجائر كاملة وعوضه عن بضاعته بأضعافها فلن يخون "الروح الرفاقية" التي جمعته بسامي وباقي الرفاق الذين عرفهم في باب الخضراء وفي مقهى الدباغين وفي أماكن مختلفة.
أموت ولا أنطق بحرف واحد. نطقها في سره وخرس.
طال صمته وذابت السيجارة من دون أن ينتبه إليها إلا عندما أحرقت طرفي إصبعيه, حينها تفطن للشرطي القابع أمامه فخرج من مخيلته التي أخذته إلى أزقة باب الخضراء ليعود إلى مخفر الشرطة.
رفس عقب السيجارة المحترق تحت حذائه وتجرأ وطلب سيجارة ثانية.
بعد أن أشعلها والتهم منها نفسين متتاليين قال متلعثما
_ صدقني سيدي أنا لا أعرف شيئا, لا عامل ولا قوة عمل, فقط أعرف أن "كل شيء بخمسميا" وأعرف أن أمي تنتظرني الآن وتنتظر الدواء لعينيها وأموال السلفة وبعض الخضار وثمن قارورة الغاز إن أمكن ذلك. صدقني سيدي هذا كل ما أعلمه. والله هذه هي الحقيقة.
وبدا وكأنه سينتحب.
طيب. حسنا.
أردف الشرطي ذي النجمتين ثم صمت قليلا وكأنه يرتب أفكاره. قام من فوق كرسيه المقابل لهيثم وأخذ علبة السجائر. فتحها ببطء وأشعل سيجارة ثم استدار من خلف الصبي وعاد إلى كرسيه وراء الطاولة, وشرع يتكلم وكأنه يواصل حديثا سابقا وكان هذه المرة يركز نظراته الحادة إلى عيني الصبي الصغير
اسمعني جيدا يا هيثم, دعنا الآن من قوة العمل وكارل ماركس ودعنا من نهب البروليتاريا واضطهادها واحتكارات البرجوازية وجشعها وانس أنك متهم بالبيع الموازي والانتصاب العشوائي من دون رخصة.
صمت قليلا. سحب من سيجارته أنفاسا متتالية ثم واصل كلامه
ما دمت تعرف قوة العمل فالأكيد أنك تعرف عقوبة مخالفتك وتعرف أنك ستسجن على الأقل ستة أشهر وتدفع خطية مالية ضعف قيمة بضاعتك وتعرف أيضا أننا سنحجزها هنا عندنا وسنقتسمها فيما بيننا
احجزوا البضاعة يا سيدي واتركني أعود إلى أمي
نطق هيثم الجملة الأخيرة وكأنه يتوسل الشرطي القابع أمامه, وتقافزت إلى مخيلته صور السيارات الفارهة والفيلات العالية وسط الحدائق الشاسعة وتخيل مالكيها رائحين غادين بين الطباخ والجنان والسائق والحارس الشخصي والليلي والمنظفة و... أليسوا هم الذين يجب أن يحجز سمومهم المستوردة ؟ أليسوا هم الذين يجب أن يحاكمهم لما اقترفوه في حق بلاد كاملة ؟...
قطع الشرطي شرود هيثم قائلا
اسمع جيدا يا هيثم ستأخذ كل بضاعتك وتعود إلى حضن أمك قبل مجيء الليل, بل سنمنحك مع بضاعتك رخصة للانتصاب والبيع بنهج الدباغين ومعها أيضا مبلغا محترما من المال لتقتني بها بضاعة أخرى وتوسع نصبتك وتجارتك. فقط كن متعاونا معنا.
صمت قليلا ثم أضاف
نريدك أن تأتينا فقط بأخبار رفيقك سامي لا أكثر ولا أقل

2008/07/11

بصمات

نادرا ما تترك بعض البرامج التلفزية بصمة ايجابية عند المشاهد، ذلك ان اغلب البرامج تتميز بالظرفية والآنية التي تسوّر خطابها وصورها بزمنها مهما طال، وقليلة جدا هي البرامج التي تنفلت من عُقال الشاشة ليتناثر صداها ووقعها على ألسن الناس في البيوت وعلى الارصفة وفي المقاهي والنوادي...
ولا أخال ان برنامج «الرابعة» الذي قدمه الزميل الاعلامي عادل بوهلال اثناء البرمجة الشتوية لقناة حنبعل الا حبّة للبرامج التلفزية التي افتقدناها على أثيرنا الوطني وبتنا نلهث خلفها على مختلف القنوات الاجنبية...
«الرابعة» قد تكون فكرتها غير مبتكرة ولكن أعتقد ان تخطيط الساهرين عليها وبالاخص مقدمها عادل بوهلال هو الذي رفدها بتيمة «الأثر» أو هو الذي منحها التفاصيل الدقيقة للبصمات التي لا تمّحى، ومن دون اطراء او اسراف لغوي يمكن لأي مشاهد تابع اكثر من حلقة من برنامج «الرابعة» ملاحظة توفر جملة من القرائن الثقافية أولا والجمالية ثانيا والتقنية ثالثا التي مثلت مشكاة «الرابعة» ونبراس عادل بوهلال مدة برنامجه.
فالمقدم / المنشط متمكن من فنون تسيير الحوار وفطنٌ في إلقاء الاسئلة و «توريط» ضيوفه وجرّهم نحو هدف الحلقة وزاويتها التي يختارها هو طبعا...
أما جماليا فان برنامج «الرابعة» ارتقى الى حد كبير بمستوى الخطاب التلفزي التونسي عموما وهذا طبيعي باعتبار ان ضيوف البرنامج هم من الميدان الاعلامي ولهم ما يكفي من معلومات وخبرة وهم قريبون من نبض التونسي وخطواته...
وتقنيا أثبت برنامج «الرابعة» ان المهم هو العقل وليس الآلات والتجهيزات فبأفكار الفريق التقني الشاب عاش المشاهد مع كل حلقة «تنفيسة» تقنية ومشهدية بعيدة كل البعد عن الكاميرا الثابتة والكلاسيكية وديكورات الخشب والبلور التي أورثتنا خطابا خشبيا وهشا كالبلور...
البرنامج وبغض النظر عن مفاتيحه المنطقية (الشفافية والمصداقية والتلقائية والمسؤولية والقرب من الواقع) وبغض النظر عن كون مواضيع البرنامج معادة أو مستهلكة فانه ـ وبشهادة المئات على الأقل ممن استمعت الى آرائهم وردود أفعالهم ـ تمكن فعلا من تحويل وجهة الخطاب التلفزي الممجوج وكذلك من «إجبار» الكثير من المسؤولين على متابعته وتقصي بصماته وآثاره على الاقل لتدارك ما كان مخفيا ومنسيا ومسكوتا عنه...

2008/07/09

ونصيب الاتحاد

من بين الملاحظات التي تقدم بها النائب محمد الدامي خلال مناقشة ميزانية وزارة الاتصال، والتي شملت صلوحية وتركيبة المجلس الأعلى للاتصال وجمعية الصحفيين وتكثيف الحوارات ومنابر النقاش بالإذاعة والتلفزة الوطنية، وتشريك الأحزاب الوطنية ومنظمات المجتمع المدني... وغيرها من النقاط الدقيقة والحساسة بالنسبة لقطاع يمثل وجه البلاد ومرآتها في الداخل والخارج على حد السواء... من بين تلك الملاحظات القيمة، استوقفني تنصيص النائب على تمكين الاتحاد العام التونسي للشغل من استرجاع حصته الإعلامية بالإذاعة الوطنية «بما يعود بالفائدة على كافة الشغالين بالبلاد» مثلما ذكر، وهو أمر لا يختلف تونسيان حول ضرورته في ما نعلم.
«صوت الشغالين» هو عنوان البرنامج الإذاعي الذي كان يٌبث على موجات إذاعتي تونس الوطنية وصفاقس الجهوية حتى سنة 1985، وقد كان يمثل نافذة مهمة بين المنظمة الشغيلة وكافة شرائح المجتمع التونسي، إذ كان برنامج «صوت الشغالين»، الإخباري بالأساس، يرفد طرق التواصل بين هياكل الاتحاد وقواعده العمالية وكان يساهم بشكل كبير في الإعلام النقابي، فإلى جانب البلاغات والبيانات والنشريات الداخلية والجهوية ومنشورات قسم الدراسات بالاتحاد وطبعا جريدة «الشعب» لسان الاتحاد العام التونسي للشغل ، كان برنامج «صوت الشغالين» جسرا أثيريا بين الاتحاد والعمال التونسيين في تلك الفترة.الآن، ومنذ 1985 تاريخ توقّف البرنامج الإذاعي عن البث، والاتحاد لم يتوقف عن التواصل بقواعده ومنخرطيه وأصدقائه في كل شبر داخل الجمهورية التونسية وخارج حدودها، مستعملا في ذلك شتى الوسائل المتاحة والممكنة، كالشبكة العنكبوتية والهواتف المحمولة وغيرها من وسائل التكنولوجيا الحديثة، وما موقع جريدة الشعب الالكتروني إلا دليلا قاطعا على السعي الجدي لمنظمة العمال لتكون دائما على أهبة الحدث والمعلومة.وعلى نجاعة ومردودية هذه الطرق والوسائل التقليدية والحديثة، فان حق الاتحاد العام التونسي للشغل في استرجاع، بل في استحداث برامج إذاعية تبث على أكثر من موجة ومحطة إذاعية (الوطنية، الشباب، جوهرة، تطاوين، صفاقس، المنستير، الكاف...) ولمَ لا حصة تلفزية خاصة بأنشطة وفعاليات الاتحاد وبالعمل النقابي عموما، هو حق يجب أن يٌؤخذ بعين الاعتبار والحرص في أقرب الآجال إن لم نقل في مفتتح السنة الجديدة.وبغض النظر عن مسالة أحقية نصيب الاتحاد العام التونسي للشغل من هذه المؤسسة الإعلامية، ذات الصبغة الوطنية، والتي هي أيضا من نصيب ومن حق كل الأحزاب المعارضة والجمعيات الحقوقية، بغض النظر عن ذلك، فإن التوازن الإعلامي والإخباري والتنشيطي الذي ستكتسبه هذه المؤسسة سينتشلها حتما من بوتقة وذهنية الخطاب الواحد الأوحد ومن منطق الاستحواذ المجاني واللاقانوني على المؤسسات الوطنية.كما أن النقلة النوعية التي يٌمكن أن تحدثها وسائل الإعلام والاتصال الوطنية لن تتحقق أبدا مادام المشهد أحادي البعد والصوت أحادي الوجهة والصورة كذلك أحادية الخطاب والتوجه، وما نفور المشاهد والمستمع والقارئ لمختلف وسائل الإعلام الوطنية وهروبه منها، بل وتندره واستهزائه بها وسحب ثقته من مصداقيتها، إلا حجة دامغة وبرهانا قاطعا على فظاعة الوجه الواحد مهما حاول أن يتجلى في أبهى حلله...ثم إن الثقل الرمزي والمادي الذي يمثله الاتحاد العام التونسي للشغل وطنيا وإقليميا وعربيا وعالميا ،يجعل من حصته الاعلامية بديهة ومسلمة لا تنازع حول ضرورتها، وأعتقد أنني لن أكون لا حالما ولا طوباويا اذا ما قلت وكتبت انه كان من الأجدى ان نكتب ونتحدث عن محطة اذاعية وقناة فضائية خاصتين بالعمال ومنظمتهم، خاصة ان تاريخ المنظمة وحاضرها يزخران بإحتياطيّ ثقافي وابداعي ونضالي وفكري ثري ولها من الرموز الوطنية والمحطات التاريخية ما يؤثث أثيرا مأثورا، ومن الغُبن ان نلتقط كلمة الاتحاد العام التونسي للشغل عرضا وبصورة برقية وخاطفة بل وبشكل موسمي واحتفالي مرة في الاذاعة واخرى في التلفزة الوطنية.

2008/07/08

قصة قصيرة

زوجـا حذاء

من يتحمل مسؤولية واحد يتحمل مسؤولية اثنين
حنا مينه

استأنف رسم الأرقام فوق الورقة الفضية التي انتزعها من العلبة الحمراء، بعد أن أشعل اخر سيجارة كانت بداخلها ظل يركّب ثمن كل قطعة تقفز إلى ذهنه، ويجمعها مع سابقاتها فوق الورقة الصغيرة ثم يشكل صورتها لون خشب بيت النوم مثلا, نوع التلفاز, حجم الثلاجة, شكل طاولة المطبخ وعدد مقاعدها, عدد الأطباق والكؤوس والفناجين... حتى صيغة الدعوات كتبها في ذهنه، واختار شكل مظاريفها وألوانها.بدأت مساحة البياض فوق الورقة الفضية تتضاءل وظل ذهنه هائما وسط الفضاءات التجارية الكبرى ومحلات الأثاث المشهورة كان يتنقل من محل إلى اخر ويناقش الأسعار والأثمان مع التجار والباعة، ولم يستفق إلا على أزيز القلم ينكسر فوق صلابة خشب طاولة المقهى أين كان يجلس.أسقط القلم في جيب قميصه وأخذته ابتسامة شاحبة نحو الركن الأيسر للمقهى ليلمح أصابع فتى ـ في عمره تقريبا ـ تتشابك مع أصابع عجوز سائحة وفوق طاولتهما تذكرتا سفر ـ على ما يبدوـ وزجاجتا بيرة.طوى الورقة الفضية بأصابعه الخشنة ودسّها في العلبة الحمراء، الفارغة ثم نهض وخرج. ألقى علبة السجائر المملوءة بالخشب والأطباق والدعوات في أول حاوية فضلات اعترضته ثم قطع الشارع العريض باتجاه الإسكافي الرابض أمام صندوقه الأزرق منذ أن جاء إلى هذه المدينة. دفع له ما تبقى في جيبه من قطع نقدية ليستلم زوجي الحذاء بعد أن تفحصهما جيدا. وضعهما داخل كيس بلاستيكي أسود ثم دلف إلى شارع عريض اخر.كان ينظر إلى زوجي حذائه البني وفي عينيه كل الغبطة, فزوجا الحذاء تزاوجا إلى الأبد دون حاجة إلى أثاث أو دعوات أو ابتسامات شاحبة.

2008/07/05

حوار مع الباحث خالد الحداد


مؤلف كتاب «بورقيبة والإعلام» الباحث والصحفي خالد الحداد (الجزءالاول):

النضال النقابي عاضد السياسيين والمهنيين في فرض هامش أوسع للحرية الاعلامية

يعتبر كتاب «بورقيبة والإعلام: جدلية السلطة والدعاية» للزميل الصحفي والباحث خالد الحداد وثيقة مهمة للوقوف على الجوانب الخفية في تمثلات وكيفية ممارسة الرئيس الأسبق للجمهورية التونسية الحبيب بورقيبة للإعلام والاتصال.
فبحث خالد الحداد الذي نال به شهادة الماجستير في علوم الإعلام والاتصال نهض متنه على تدرج منهجي وعلى كم هائل من المعلومات والحقائق والوثائق المبوبة ضمن زاوية بحث الرجل المتمثلة في السياسة الإعلامية للزعيم الراحل الحبيب بورقيبة وخطته الاتصالية التي انتهجها قبل وبعد نيل الاستقلال التام وقد رفد خالد الحداد بحثه بجداول إحصائية وشهادات قيمة لوزراء وكتاب دولة وعاملين في الميدان الإعلامي من الذين عايشوا الفترة البورقيبية، وفيه أيضا انتقى الباحث اضمامة مرجعية لخطب ألقاها الرئيس الحبيب بورقيبة تناولت مسألة الإعلام والاتصال، إلى جانب نماذج من المقالات الصحفية التي نشرها الرئيس بورقيبة.
ونظرا لقيمة هذا المنجز التأريخي والتحليلي الذي ينضاف إلى المكتبة التونسية والعربية ارتأينا أن نقف مع الزميل الباحث خالد الحداد على أهم ما قدمه ضمن مؤلفه في هذا الحوار.

لو أني تركت الصحافة تفعل ما تريد لخرجت من الحكم في غضون ثلاثة أشهر» هل يمكن أن نعتبر مقولة نابليون هذه التي صدرت بها مؤلفك هي الخلاصة التي توصلت إليها في بحثك حول تعامل بورقيبة
مع الإعلام؟

ـ نعم ، هذا القصد موجود ، فرجل الحكم في أيّ نظام سياسي يسعى إلى الهيمنة والمسك بدواليب الشأن الإعلامي كسعيه للهيمنة على سائر الشؤون والمجالات حتّى يضمن سيطرته ويتجنّب وقوع أيّ نوع من القلاقل، فنواميس مختلف المجتمعات والشعوب والحضارات أقرّت هذا المدّ التسلّطي والرقابي من الدولة بمختلف أجهزتها ومكوّناتها وعلى اختلاف تلويناتها وتشكّلاتها على سائر مناحي الحياة الّتي هي تحت سيطرتها وفي حدودها الترابيّة والجغرافيّة، وليس الإعلام فقط هو المستهدف بالحصار بل كذلك مناحي الإبداع الفكري والثقافي والتنظّم الجمعياتي والسياسي وغيرها هي كذلك وستظل تحت أعين الرقيب.
والحالة تلك وخوفا من كلّ الانفلاتات والاهتزازات الّتي قد تقوّض كيان الدولة وتمسّ بسلطان الحاكم كان وما يزال الإعلام محلّ التضييق والخنق والتشويه والتوجيه، أنا هنا لا أُعطي حكما عامّا شاملا ولكن حتّى في الأنظمة الّتي تلحّفت برداء الديمقراطيّة والحداثة يُمكننا لو تفحّصنا مليّا التكوينة الإعلاميّة والاتصاليّة بها وطريقة دورانها أن نجد أثرا للدولة فيها وفي أيّ بلد من بلدان العالم سواء عبر التمويل أو الإغراء والرشوة أو الضغط الضرائبي أو غيره ، هناك مداخل عديدة للسلطة السياسيّة والتنفيذيّة حتّى تلج رحى العمليّة الاتصاليّة والإعلاميّة وتفعل فيها الفعل الّذي تشاء وتريد.
أمّا لماذا كلّ هذا التوجّس والخوف من الإعلام، فلأنّه قادر على كشف المستور واختراق التعتيم ونقل الأخبار والأحداث على نطاق واسع ، ولأنّه كذلك قادر على تحليل المعطيات وتنزيلها في سياقاتها الصحيحة ، بلغة أوضح الإعلام لمّا يكون حرّا بإمكانه أن يُشكّل الرأي العام ويضبط ثقافة الناس ووعيهم بالأحداث والمستجدّات، أي أنّه من هذا المنطلق بإمكانه أن يُهدّد وجود رجال السلطة والحكّام، لذا تعبّر مقولة نابليون إلى درجة كبيرة جدّا عن هذا المعطى الأساسي والهام.
الإعلام في منطلقه هو سلطة قائمة الذات أو هو يجب أن يكون كذلك، أي أنّه شيء آخر مختلف عن السلطات الأخرى الّتي عرفتها المجتمعات الديمقراطيّة الحديثة، وشيئا فشيئا لم يعُد مصطلح السلطة الرابعة معبّرا عمّا أضحى للإعلام من قوّة تأثير بالغة الأهميّة وسط هذا الانفجار الإعلامي والاتصالي الرهيب بل أصبح مجالا حيويّا واسعا تسعى كلّ القوى للسيطرة عليه والحدّ من تلك السلطة المتزايدة الّتي أضحى يمتلكها في التأثير على بقية السلطات التنفيذيّة والقضائيّة والتشريعيّة حتّى أصبح الإعلام على حدّ تعبير تشومسكي صانعا للإجماع الوطني وحتّى الإقليمي والدولي في كلّ المجالات والميادين.
والمخيف اليوم والمزعج حقّا، هو هذا التمازج بين السلطة السياسيّة وسلطة رأس المال، السلطة السياسيّة تعقدُ العلاقات والصفقات مع رأس المال وتضمن له مصالحه ومنافعه في مقابل أن يقوم هذا الأخير بالقبض على المقود الإعلامي، وأسألك هنا: من يملك اليوم السيطرة على الإعلام في العالم؟ لتجيبني بالتأكيد: إنّهم الرأسماليّون وكبار رجال المال والأعمال في العالم ومن ورائهم الساسة، يتبادلون الأدوار والمهمّات لغاية مشتركة هي السيطرة والهيمنة وحماية النفوذ.
وأُريد أن أُذكّر هنا بأنّني في نهاية بحث «بورقيبة والإعلام» وجدت نفسي أمام إشكاليّة بحثيّة جديدة، وهي: كيف يمكن لرجل السياسة أن يتمثّل مفهوما حداثيّا للإعلام والاتصال ويُترجمه في الواقع من خلال ترك المجال واسعا لحريّة التعبير والإعلام المستقلّ والحال أنّ ذلك قد يُقصيه عن موقع القرار والقيادة ويفقده الزعامة ويجرّده من كلّ «سلطاته» ؟ لأنّ سياساته وقراراته وممارساته ستكون حينها عرضة للنقد والتقويم والتحليل.

* هل يمكن أن نقول أنك بهذا المنجز حاولت أن تجيب عن سؤال الدكتور منصف وناس (كيف يمكن أن نقرأ بورقيبة؟) وسؤال الدكتور عبد الجليل بوقرة (من هو بورقيبة؟)؟

ـ ما أقوله أنّني أجبت عن السؤال الأوّل وقدّمت محاولة للإجابة عن السؤال الثاني، سؤال الدكتور منصف ونّاس سؤال يهمّ منهجيّة البحث بما فيها من آليات ونظريات ومراحل بحثيّة ، هذا قٌمت به في البحث حيث جمعت بين الدراسة التاريخيّة والبحث الوثائقي وتحليل مضامين الخطاب السياسي وعاضدتُ كلّ ذلك بمجموعة من الأحاديث مع وزراء وكتاب دولة للإعلام وصحافيّين عايشوا الحكم البورقيبي وأخضعت كلّ ذلك إلى مقاربات نظريّة دقيقة وواضحة وأقمت للبحث إشكاليّة محوريّة وعددا من الفرضيات منذ البداية مكّنتني من الوصول إلى ما توصّلت إليه من نتائج واستنتاجات، والمهمّ في هذا الجانب أنّ مسألة ذاتيّة ساعدتني على تطبيق تلك المنهجيّة العلميّة الّتي ينشدها الدكتور ونّاس وهي أنّني بعيد عن أيّ التصاق مصلحي وشخصي بفترة الحكم البورقيبي ، أي أنّني ولجتُ دراستي الجامعيّة بما فيها من وعي سياسي ونضج فكري وثقافي وتلمّس لخيوط البدء في هذه الحياة المتداخلة زمن انتهاء ذلك الحكم وبداية حكم سياسي جديد في البلاد وانفتحت على الحياة السياسيّة والإعلاميّة وكنت عاملا فيها بعد زوال حكم الرئيس بورقيبة، هذا مهمّ جدّا ليست لي أيّة صلة بالمرحلة الّتي درستها ربّما إلاّ الولادة ومرحلة الابتدائية والثانويّة ولا تجمعني بمختلف أطرافها مسائل عميقة أو صداقات متطوّرة، ومن المعلوم أنّ العلاقة الحميميّة بموضوع البحث هي من العوائق الابستومولوجيّة الّتي تحول دون الموضوعيّة العلميّة كما وضّح ذلك غاستون باشلار، إذ لا يُمكن للمرء أن يكون بالشرفة ويرى نفسه مارّا بالشارع، لذلك انطلقت في البحث دون أفكار أو ارتسامات مُسبقة أو نوايا مبيّتة تجاه هذا الشخص أو ذاك أو هذا التيار أو غيره مثلما يعمُدُ إليه البعض ممّن صنعوا الأحداث وكانوا في مواقع القرار والفعل والمشاركة ثمّ كتبوا لاحقا بعد غيابهم عن تلك المواقع ما به يُبرّرون نقاوتهم وبراءتهم من أخطاء تجربة كانوا هم من المشكّلين لأهمّ مفاصلها أو يتّهمون غيرهم بما لم يكن فيهم وكشفت منتديات مؤسّسة التميمي للذاكرة الوطنيّة هذه الحقيقة، وربّما هذا ما دعا الدكتور ونّاس إلى الإقرار بوجود قراءات مختلفة ومتباينة «قراءات لا تكاد تلتقي، بل هي متفرّقة تماما، فهي إمّا مدحيّة مُسرفة في المدح، وإمّا نقديّة مُوغلة في النقد، وإلى الإقرار كذلك بغياب قراءات معتدلة وموضوعيّة»رؤية الدكتور ونّاس أقدّر أنّها منطلقة من ذلك التوصيف الّذي ذكرته ، والّذي فعلته أنّني سعيت وبصرامة علميّة رعاها الدكتور مصطفى حسن الّذي أطّر هذا البحث ودعّمها عضوا لجنة المناقشة الدكتور يوسف بن رمضان والدكتورة سلوى الشرفي ( الّذين أتوجّه إليهم بهذه المناسبة بتحيّة تقدير)، إلى تجاوز الغياب الّذي أشار إليه الدكتور منصف ونّاس، وذلك عبر قراءة اجتهدت قصارى جهدي أن تكون معتدلة وموضوعيّة لمسألة في غاية الدقّة والأهميّة، قراءة لها ضوابط منهجيّة ونظريّة دقيقة أي ليس فيها مدح مجاني ولا فيها كذلك نقد مبيّت.
هناك اليوم منهجيات واضحة للبحث العلمي وهناك نظريات للدراسة الأكاديميّة يُمكن أن نطبّقها على أيّ فترة أو مرحلة تاريخيّة وعلى أيّ تجربة في أيّ دولة من الدول، نفس المنهجيّة ونفس أدوات البحث الّتي عالجت بها التمثّل البورقيبي يُمكن أن تطبّق ـ مثلا ـ بنفس العناوين وبنفس الخطوط وبنفس الضوابط على الخطاب والممارسة الإعلاميّة في تونس بعد 1987 ، ولكن الاختلاف ربّما سيكون في النتائج لأنّ الفترة ليست الفترة والمرحلتان لهما خصائص ورؤى مختلفة في العديد من الجوانب وبالأخص منها حسب تقديري في مفاهيم الخطاب السياسي الرسمي وفي التشابكات الّتي انتهى إليها المشهد الإعلامي ككلّ ، وهذا الأمر يتطلّب كما يبدو لي بحثا جامعيّا آخر.
أمّا سؤال الدكتور بوقرّة فمن الصعب الإجابة عنه ،لأنّ شخصيّة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة بما فيها من خصائص وميزات ستظلّ في حاجة للدراسة والتمحيص ومن العسير تحديد رؤية متكاملة لهذه الشخصيّة الفذّة والنادرة شأنها ككلّ شخصيات الزعماء والقادة الكبار الّذين ترشّحهم معطيات الواقع دون سواهم لمثل تلك المهمّات المستعصية والمعقّدة في قيادة شعب ما أو أمّة في ظرف تاريخيّ خاص ، أنا أؤمن بوجود ظواهر تاريخيّة لم تستوف إلى حد الآن البحث ولا تخضع لمنهج آلي أو مقاربة نهائيّة ، وقصارى جهد الباحثين فيها تقديم اجتهادات تأويليّة.
لو تتتبّع مثلا مسيرة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة ستجد فيها الكثير من الغرابة انعكست مراحلها المختلفة على شخصيّة الرجل، حتّى أنّك في العديد من الوضعيات تجد نفسك وكأنّك أمام شخصيات متعدّدة لبورقيبة، فهو الليّن والمسامح وهو القويّ العاصف الّذي لا يعرف شفقة ، وهو رجل الحوار وهو رجل القمع ورفض الآخر ، وهو الرجل المدافع عن الحريات وحقوق الإنسان وهو رجل أصدر قرارات لتنفيذ العشرات من أحكام الإعدام وعرفت فترات من حكمه محاكمات قاسية وغير إنسانيّة، هو رجل خدم البلاد في العديد من الجوانب التنمويّة والتعليميّة والثقافيّة والانتصار لتحرير المرأة ولكنّه كذلك كان الرجل الّذي حرم البلاد الّتي يحكمها من الديمقراطيّة والتعدّديّة وحرمها من الاستفادة من مساهمات لخيرة من نخبها وكفاءاتها السياسيّة والفكريّة والنقابيّة لفترات طويلة ومتعاقبة حيث لم تخل عشريّة من عشريات الحكم البورقيبي من المحاكمات والاعتقالات والمطاردات ،وهو الرجل الّذي دعا إلى العلمانيّة ولكنّه حافظ على جوهر الدّين ولم يُحطّمه كليّا، وهو كذلك الّذي كافح لاستقلال البلاد وطرد المستعمر ولاحقا من أجل بناء الدولة التونسيّة الحديثة والمستقلّة ثمّ أدخلها نهاية حكمه إلى مأزق خطير كاد يعصف بالأخضر واليابس، كيف يُمكن لي أن أجيب عن تساؤل:من هو بورقيبة ؟ أينما تضعه تجده، وربّما تلك سمة من سمات الزعماء والعظماء والقادة التاريخيّين.
ولكن المطّلع على بحثي يُمكنه أن يُلامس محاولة لرصد التمثّلات الّتي كانت للرئيس الراحل بورقيبة حول الإعلام ، وهي تمثّلات لم ترتق بحسب ما توصّلت له في البحث إلى مفاهيم الاتصال الحديث القائمة على جعل الإعلام مجالا للجدل وتباين الآراء والمقاربات وفضاء للمناظرة،إعلام للجميع لهم فيه حقّ التعبير والكلام ، كما بحثت عن أسباب وجود فترات إعلاميّة تعدّديّة ومضيئة في فترة الحكم البورقيبي متناقضة مع تلك التمثّلات لأجد أنّ الضغط الّذي مارسته عدّة قطاعات منها الإعلام المهني والنضال السياسي والنقابي وأطراف خارجيّة وكذلك تداعيات الأزمات الاجتماعيّة فرضت وجود تلك المحطّات المشرقة مثل «ربيع الإعلام» في بداية ثمانينيات القرن الماضي، وأٌلاحظ هنا أنّ التمثّل البورقيبي جعل من حريّة الإعلام بابا للتنفيس عن حالات اجتماعيّة متدهورة ومتّسمة بالاضطراب والمخاطر ووجد في»حريّة الإعلام» مخرجا مرحليّا لتلك الأزمات.
وفي المحصلة فإنّ هوامش الجدل الإعلامي الّتي تواجدت في بعض فترات الحكم البورقيبي لم تكن نابعة عن تمثّلات الرئيس بورقيبة بل كانت في غالب الأحيان نتيجة لعوامل خارجة عن تلك التمثّلات ، وذلك ما أبقى في تقديري مقولة «الحريّة الإعلاميّة» حبيسة الظرف التاريخي وأهواء الرئيس بورقيبة ولم تخرج المبادرات الّتي تمّ الإعلان عنها في بعض الفترات عن مستوى «القرار السياسي العابر» والكلام الإيديولوجي والدعائي، وهو ما يفسّر تساقط تلك المبادرات وتهاويها حتّى تلك الّتي كانت صادرة عن جهاز الدولة نفسها مثل مبادرة «الانفتاح» في ثمانينات القرن الماضي، وما توصّلت إليه في البحث أنّ الإرادة السياسيّة البورقيبيّة لم تكن في أيّ فترة من الفترات ترغب في ترسيخ روح الجدل داخل المشهد الإعلامي بصفة فعليّة وحقيقيّة، كما أنّ مضامين الجدل الإعلامي لم يكن مسموحا لها بولوج عدد من الميادين الحساسّة ذات الصّلة خاصّة بانتقاد نظام الحكم وبرامجه. وحتّى وإن أكّدت الدراسة النوعيّة للممارسة الإعلاميّة طيلة الحكم البورقيبي وجود نظامين إعلاميين الأوّل أحاديّ والثاني تعدّديّ فإنّ الدراسة الكميّة القائمة أساسا على ضبط المدى الزمني لكلا النظامين تشير إلى هيمنة وسيطرة النظام الأحادي وظرفيّة ومحدوديّة النظام التعدّدي، كما أنّ المقارنة بين التمثّلات والممارسات دفعت إلى الإقرار بأنّ العديد من المفاهيم المتواترة في الخطاب البورقيبي حول الإعلام بقيت دعائيّة ولم تعرف التجسيد على أرض الواقع.

* لو تجمل لنا أهم نقاط الاختلاف في تعامل بورقيبة مع الإعلام لما كان زعيما وطنيا ثم لما صار رئيسا للجمهورية التونسية؟

ـ إنّ مقاربة علاقة بورقيبة بالإعلام تمثّلا وممارسة والتدرّج في متابعة تطوّر هذه العلاقة وتنوّعها تبرز أنّ الحبيب بورقيبة قد وعى بصفة مبكّرة بأهمّية الوسيلة الإعلاميّة في خدمة الأهداف والغايات وبالقوّة التأثيريّة والتوجيهيّة للإعلام ، وعدّد بورقيبة في الكثير من خطبه فضائل «الإعلام» على الحركة الوطنيّة التونسيّة، فعبر الصحافة تمّ تبليغ هموم التونسيّين تحت سلطة المستعمر الفرنسي، وعبرها كذلك تمّت المناداة بحقّ البلاد في الاستقلال، كما ساهمت المقالات الصحفيّة في إثراء الجدل بين النخب التونسيّة وبينهم وبين نظرائهم في فرنسا والعالمين العربي والغربي، كما أنّ أطر وهياكل إدارة وتحرير الصحف والجرائد كانت مهدا للدفاع عن الهويّة الوطنيّة التونسيّة ومنطلقا لتنظيم العمل الكفاحي والتحريري.
وأدّى «الاتصال المباشر بالجماهير والمواطنين» الّذي آمن به بورقيبة طويلا إلى تكوين حزام شعبي واسع حول أقطاب النخبة السياسيّة والثقافيّة والنقابيّة ممّا ساهم في إذكاء روح المقاومة ومن ثمّ تقوية الضغط على المستعمر الفرنسي وإخضاعه في الأخير إلى مطالب التحرّر والاستقلال، ولا بُدّ هنا من الإشارة إلى تعويل الزعيم بورقيبة كثيرا على الصحافة والإعلام الأجنبي لضمان التأييد الدولي للقضية الوطنيّة ، إذ كتب في عديد الصحف الفرنسيّة على وجه الخصوص وأدلى بحوارات إذاعيّة هامّة جدّا من أبرزها الحوار مع المذيع منير شمّا في مقرّ إذاعة الـ» بي بي سي» في لندن سنة 1950 وهو الحوار الّذي كاد يتسبّب في قطع العلاقات الفرنسيّة البريطانيّة.
ولكن ما إن امتلك بورقيبة زمام الأمور بين يديه حتّى انقلب عن تلك المواقف والقناعات ، ولم يكن غريبا أن يكون أوّل وزير مستقيل من حكومة الاستقلال هو كاتب الدولة المكلّف بالإعلام البشير بن يحمد ، وتتالت الضغوطات على الصحف، وأبرزتُ في البحث أنّ عدد الصحف والدوريات التونسيّة بدأ في التناقص مع تقدّم مسيرة الدولة التونسيّة عمّا كان عنه حتّى زمن الاستعمار نفسه ، وهذه من المفارقات الغريبة الّتي تحمل الكثير من الدلالات ، فإذا كانت الصحافة التونسية وكما ضبط ذلك الباحث جمال الزرن تعدّ 51 عنوانا سنة 1937 و 25 عنوانا سنة 1950 و17 عنوانا فجر الاستقلال ، فإنّها بعد الاستقلال وبسبب ضغوط الرئيس بورقيبة على حرية الصحافة تقلّص عددها فمن 7 يوميات ناطقة باللغة العربية قبل الاستقلال لم تعمر إلا صحيفتان يوميتان بعد الاستقلال، أما الأسبوعيات والدوريات الّتي كان يُناهز عددها العشرين لم يبق منها سنة 1965 سوى خمسة عناوين يتيمة فقط ، فجريدة «الزهرة» أعرق الصحف وأوّل يومية تونسية مستقلة والتي تأسّست سنة 1890 اختفت سنة1959 ، كذلك الشأن بالنسبة إلى صحيفة الطليعة
وAfrique Action qeCG Tribune de progrès فقد عرفت العديد من الأطوار انتهت بالسيطرة عليها وتسليمها إلى الوزير الأسبق محمّد الصياح سنة 1963 لتُمارس سياسة دعائيّة للزعيم الأوحد وترسم ملامح فردانيّة لنضال شعب بأسره من أجل طرد المستعمر، ففي سنة 1958 عارضت الجريدة الّتي كان يديرها حينها محمّد المصمودي والبشير بن يحمد محاكمة الطاهر بن عمّار، فاهتزّ بورقيبة وسارع بطرد المصمودي من الديوان السياسي للحزب برغم العـلاقة القويّة الّتي كانت بينهما، ولاحقا وبسبب المقال الشهير الصادر في عدد 12 سبتمبر 1961 الّذي تطرّق إلى ظاهرة الحكم الفردي
Le pouvoir personnel الّتي بدأت قيادات الدول العربيّة المستقلّة في انتهاجه أبعد بورقيبة بن يحمد واضطرّه إلى الهجرة، كما قرّر بورقيبة وبسبب نفس المقال طرد المصمودي من الديوان السياسي للحزب للمرّة الثانية ، كما حاصر بورقيبة جريدة «الصباح» بسبب ما أبدته من ميل للزعيم صالح بن يوسف وحجب عنها تمويلات الدولة والحزب مدّعيّا خروجها عن الإجماع الوطني في حين أنّها كانت تعبّر عن رؤية معيّنة من مسألة الاستقلال وطبيعة العلاقة الّتي يجب أن تكون مع الدولة الفرنسيّة. وفي الكتاب شهادات معبّرة عمّا تعرّض له الإعلام في العهد البورقيبي من تكبيل ومراقبة وحصار وتدخّل في شؤونه (عبد الحميد بن مصطفى وصلاح الدين الجورشي) ، وحتّى الإعلام الرسمي نفسه ـ مثل وكالة تونس إفريقيا للأنباء والإذاعة والقريب من الحزب الحاكم مثل جريدة «بلادي» ـ كان يتعرّض إلى صنوف من التوجيه والانتقاء والصنصرة والرقابة المكثّفة ( وحيد براهم وبلحسن بن عرفة). الرئيس بورقيبة ونتيجة لهواجس السلطة والزعامة والتفرّد في الحكم وقيادة البلاد كان يرفض وجود إعلام تعدّدي فيه الرأي والرأي الآخر ، وكان يعتبر كلّ من ينتقد فلسفته في الحكم مناوئا ومعاديّا ووصف في إحدى خطبه مقالات البشير بن يحمد بأنّها «سفاسف» ، ولاحق أمنيّا وقضائيّا مجموعة «الطليعة « و Tribune de progrès وغيرها من الصحف ، وقصر فهمه لأهداف الإعلام على أهداف معيّنة هي الدعاية لبرامج الحكم، وفي تقديري فأنّ بورقيبة لم يتمثّل الإعلام والاتصال كشيئين منفصلين عن أجهزة الدولة بل اعتبرهما أحد هذه الأجهزة ، إن لم يكونا أبرزها على الإطلاق ومن المهمّ هنا الإشارة إلى أنّ الحكومة التونسيّة لم ينقطع عنها ومنذ تشكّلها في 15 أفريل 1956 وإلى 6 نوفمبر 1987 كاتب دولة أو وزير مكلّف بالإعلام تماما كالحقائب الوزاريّة السياديّة.
وبحسب رأيي فإنّ بورقيبة قد تمثّل الوسيلة الإعلاميّة كأداة لتنفيذ برنامج سياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي محدّد لطرف وحيد هو «الدولة» وطالما أنّه كان يعتقد أنّه والدولة سواء في قولته الشهيرة L'Etat c ' est moi فقد غاب عنه الإيمان بأهمية التفاعل والتواصل بين مختلف الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين وبقيت النظرة إلى «الإعلام» محكومة بهواجس الخوف من «الآخر» والسعي إلى الحدّ من فرص وجوده على المسرح الإعلامي. ومن خلال ما توفّر من وثائق فإنّ بورقيبة قصر ذكر مفهوم «الاتصال» كمرادف للإعلام التقليدي والاتصال المباشر بالشعب ولم يستوعب المفهوم في توسّعه وانفتاحه وجدله وتعدّد أطراف بث «الرسالة الإعلاميّة» أي بمفهومه الديمقراطي والحداثي كفضاء ومجال للجدل السياسي والتفاعل والمناظرة، وهذا في نظري ما يُمكن أن يبرّر استمراريّة التدخّل الرقابي والقمعي للسلطة السياسيّة في الميدان الإعلامي منذ فجر الاستقلال وإلى مغيب الحكم البورقيبي دون انقطاع، إذ شهدت عقود الحكم البورقيبي الثلاثة ـ وإن بدرجات متفاوتة ـ العديد من القرارات والإجراءات الهادفة إلى تعطيل «الجدل الإعلامي والاتصالي» وإيقافه كلّما حاول الانطلاق.