بحث هذه المدونة الإلكترونية

2008/10/31

تحرك سينمائي

لستُ مؤهلا لتقييم واقع السينما التونسية وآفاقها لأنّي أفتقد الأدوات اللازمة والمناهج الضروريّة لذلك، ولكن أعتقد أنّه من حقي ومن واجبي أيضا أن أسوق بعض الملاحظات والهواجس والخواطر التي تنتابني كل مرّة تهلّ فيها علينا أيّام قرطاج السينمائية باعتبار هذه الأيّام المحرار الأهم للوقوف على مدى مواكبتنا للمشهد السينمائي الوطني والاقلمي والعالمي...
فهذه الأيّام تمثّل الزّفرة الوحيدة (في حجم اشعاعها) التي يتنفسها أهل السينما ومحبّوه، وبعدها تتناسل الأيّام متشابهة متكرّرة فيما عدا بعض التظاهرات السينمائية المتناثرة هنا وهناك...
فالمشهد السينمائي التونسي في عمومه مازال يسير مسيرة التحرّك الروتينيّ والتململ العشوائي غير المدروس والفاقد لأي أفق تأسيسي...فلا صوت يعلُو على صوت الأقفال الحديديّة التي تُضرب على أبواب القاعات.. ولا صوت يرتفع أمام قلّة الانتاج السينمائي وفوضويّة توزيع الدعم وندرة الحصول على الجوائز...
لا أحد ينكر أنّ هنالك من الأسماء التي تشتغل ليل نهارً للخروج من عنق الزجاجة، ولكنّهم قلّة قليلة وبصماتهم تظلّ بسيطة ومتفرّقة.. وربّما لهذا بالذات لم يتغيّر الواقع السينمائي بشكل جذري أو حتّى في مستواه الأدنى.. المستوى الأدنى، ربّما، يتمثّل على الأقل في الحفاظ على ما تبقّى من قاعات السينما والذّود عن أبوابها ومقاعدها بما ملكوا من ايمان...
ماذا سيحصل لو شاهدنا يوم افتتاح هذه الدورة الجديدة من أيّام قرطاج السينماذية حركة احتجاجيّة يُعلنها المخرجون والممثلون والتقنيون والمشتغلون بقاعات السينما ومعهم الاعلاميون، يحتجون من خلالها على الوضع المتردّي لقاعات السينما وعلى الغلق الدائم والمدروس للعديد من القاعات.. ماذا سيحدث؟! قطعا سيسجّلون موقفا للتاريخ أولا وثانيا قد يوقفون نزيف القتل الرمزي الذي ينتهك قاعاتنا...تخيّلوا النوري بوزيد وفريد بوغدير، سلمى بكار، يونس الفارحي، الناصر خمير، محمد علي النهدي، محمد علي بن جمعة، لطفي العبدلي، لطفي الدزيري، محمد أمين بن سعد، الناصر الصردي، رؤوف بن عمر، المنصف ذويب، بهرام العلوي، نجيب بالقاضي، إلياس بكار، حلمي الدريدي، سناء كسوس، تخيّلوا تجمّعا بهذه العناصر وغيرها ممّن نسيت في قلب شارع الحبيب بورقيبة أو في نهج ابن خلدون حيث قاعات السينما...
تخيّلوهم يتحرّكون والجماهير خلفهم.. يعضدهم أهل المسرح وبعض الكتاب والفنانين والشعراء والإعلاميين... ومعهم ضيوف الدورة خالد يوسف وياسمينة خضرا وعزت العلايلي واسماعيلو وخالد النبوي...
تخيّلوهم حتى بشكل سينمائي...
المهم أن نتخيّل أنّ السينما دون موقف وتحرّك كهذا لن تدوم طويلاً...

2008/10/23

صديقي العربي نصرة


لفْتًا لانتباه الرجل المعنيّ بمضمون هذه الأسطر رسمتُ حروف اسمه عنوانًا لهذه البطاقة الأسبوعيّة.. ورفعًا للكلفة والتكلّف اللتين تفترضهما الخطابات الموجهة للمسؤولين الرسميين ناديتُ الرّجل بصديقي وأنا الذي لم أُلاقِه الاّ مرّة واحدة عندما جلست إليه في مكتبه بقناة حنبعل قرابة الساعتين أنجزت معه حوارًا كنتُ نشرته السنة الفارطة على أعمدة «الشعب»...
السيد العربي نصرة ليس صديقًا شخصيا لناجي الخشناوي ولكن أعتقد أنّه أصبح صديقًا لكل مشاهد يتابع برامج فضائياته الثلاث: حنبعل TV وحنبعل الشرق وحنبعل الفردوس، وواضحٌ أنّ منبع هذه الصداقات الافتراضية هي تلك المادة الاعلامية والترفيهية والتثقيفية التي يحرص الرجل على تقديمها إلى المشاهد والتي لن أضيف جديدا إن قلت أنّها أحدثت «رجّة مشهدية» في الاعلام التونسي.ليس تقييم برامج حنبعل هو محور حديثي ولا هو أيضًا داعٍ من دواعي ادّعاء صداقتي للعربي نصرة ولكن تحديدًا أرغب من وراء هذه الأسطر أن ألفت انتباه الرّجل إلى امكانية احداث قناة جديدة ضمن باقته المُزمع فتحها في قادم الأيّام..«حنبعل الثقافة» أو «حنبعل الثقافية» أمنية قد يكون لي السبق في التصريح بها وقد تكون أمنية تأججت في صدور مئات المثقفين في هذه البلاد ومن ينوسنا بالهم الثقافي..قناة تونسيّة تُعنى بالثقافة وحدها مشروع مهم وفارقٌ وتأسيسيّ.. مشروع نفتقده في مشهدنا الاعلامي وفكرة تأخّرت كثيرا عن التحقق والانجاز...مشروع أقدمه إلى السيد العربي نصرة رأسًا وقلبًا ربّما لأنّه الرّجل الأوّل المؤهل لذلك لما عُرف به من طموح مجنّحِ ومن روحٍ مُغامرة لم تصله الاّ إلى أرض النجاحات المتواصلة.. لن أبدي رأيي في قناة «حنبعل الفردوس» لأنها لا تعنيني بالمرّة ولا تضيف لي جديدا في ظلّ الطوفان الملائكي الذي يُغرقنا يوميّا بدءًا من الاذاعات الدينية وصولا إلى أطفال الشوارع الذين يبيعون كتيبات دينيّة مرورًا بالمعارض الرسمية وشبه الرسميّة التي تروج لكتب الدين وصكوك الغفران...شخصيا أعتبر قناة «حنبعل الفردوس» قناة كميّة تدخل في باب التكاثر العددي وبالمقابل أعتقد جازمًا أنّ فتح قناة ثقافية يُعتبر انجازًا نوعيّا وتأسيسًا ايجابيّا...إنّ تأثيث ساعات بث يومي بمادة ثقافية عميقة ليس بالأمر الصعب ولا المستحيل ذلك أنّ المادة التوثيقية متوفّرة ولا أخالها باهظة الثمن هذا فضلا عن المواكبات والمتابعات المطوّلة لمختلف الفعاليات الثقافية الوطنية والعربية والدولية، وطبعا إلى جانب احداث برامج حواريّة مع مبدعين ومثقفين بشكل تأسيسي لا بشكل تهريجي وعشوائي كالذي نراهُ في برامج تدعي أنّها ثقافية وهي إلى التهريج أقرب، وأهم من كل ذلك الايمان بأنّ المثقف ليس المُكرّس من قبل وسائل الاعلام، بل المثقف هو الباحث الذي لا نراهُ وهو المبدعُ المشغول بابداعه وهم كثُرٌ في بلادنا غير أنّ الضوء لا يطالهم بعد ان استأثرت به أسماء معلومة أخاف أن تموت وتظلّ أيقونة أبدية في الشاشات وعلى الأثير...صديقي العربي نصرة لست مُلزما بتنفيذ هذا المشروع ولست ملزمًا بفتح قناة ثقافية ولكنّك ملزما بالحفاظ على احترام الملايين الذين يتابعون برامج قنواتك...

2008/10/19

أربـــــــــعون


بين صمت وكَلام تَتدحرَجُ الفكرةُ من سَديمها نحو قَرَارَة قلبك أو دمَاغك. تُباغتك على غَير موعد، وأنَّى لهَا ذلك... فتَتدفّقُ كالدَم في شَرايينك الأخطبُوطية...
أن تَقبَل الفكرَة وتَستسيغَها أو تَرفضَها وتطرحهَا جانبًا فتلك مسألة لاَحقة، ولكن الثابتَ والمؤكد أنهَا ـ وهي تبَاغتك ـ تمنحك حرارة ودفء تنسي معهما أن تقف على إمكان تحققها على أرض الواقع من استحالتها...
«أربعون» لا تحيل بالمرة لا على «خمسون» الفاضل الجعايبي ولا على «ثلاثون» الفاضل الجزيري، ولكنها عنوان تخيرته لفكرة باغتتني على غير موعد بإيعاز إعلامي تكثف في الآونة الأخيرة من خلال المنابر والومضات الاشهارية والأخبار والمتابعات اليومية والفورية ومن خلال البرامج التلفزيونية والإذاعية والمقالات الصحفية والالكترونية المحتشدة حول «سنة الحوار مع الشباب».
سأسرد الفكرة التي باغتتني على علاّتها بكل تجرّد تماما مثلما وردت عليَّ... سأطرحها بين يدي القارئ على بساطتها ... وأترك له فسحة التأويل علّه يقف على عمق ما بين تلافيفها أو جدية محتملة فيما خامر دماغي ورجَّ قلبي...
قالت لي الفكرة على لسان خيالي في سياق يوم تونسي شبيه بأمسه وقد لا يختلف عن غده، ماذا لو يُعْلنٌ بشكل قطعيّ وحاسم على أن يصير السقف الأقصى العُمُري لكل مسؤول «أربعون» سنة لا أكثر؟؟؟
هكذا قالت الفكرة العَابرة تاركة خيالي سابحًا في أقانيمهَا القريبة والبعيدة حيث انبريتٌ أعدّد المسؤولين الإداريين والسياسيين والثقافيين والمدنيين والرياضيين... و...و... وأراهم دون الأربعين حولا... يعلنون ويدشنون وٌيمضون ويقررون ويوافقون ويدعّمون ويرفضون و...
رَأيتُ وزراء دون الأربعين سَنة ورؤساء مديرين عامين كذلك والأمناء العامون للأحزاب السياسية والمنظمات المدنية دون الأربعين سنة... وتخيلتُ مديري القنوات التلفزية والإذاعات الوطنية ورؤساء تحرير الصحف والمجلات ومديري دور الثقافة والشباب ومدير مدينة الثقافة دون الأربعين سنة... وكذلك المجالس النيابية والاستشارية والاقتصادية...رأيتُ عٌمداء الجَامعات والكليات والمعَاهد العليَا دون الأربَعين سنة... وبالمثل رؤساء البلديّات والمعتمدين والولاّة... ومعهم تخيّلتُ مدير مكتب التشغيل أربعينيّ هو الآخر...
مدير بيت الشعر والمسرح البَلَدي ومهرجاني قرطاج والمدينة وكَذا مدير الوَكَالة الفنية للانترنت ورؤساء الجمعيات الرياضية ومعهم ممرنو المنتخبات الوطنية لمختلف الرياضات... رأيت الجميع دون سن الأربعين...
أوصَلتني الفكرة بعيدا فرأيتُ آن زمان التَّنصيب والتَّعيين قد مضى بلا رجعة، وان من سيتحمل مسؤولية ما في أي هيكل كان عليه أن يبرهن قبل الأربعين جدارته بما عُهد إليه لا بما يرصفه من مدح مجاني... وذكرتني الفكرة ذاتها أن مقولة الشباب هو شباب الروح والقلب والفكر لا شباب العمر هي مقولة لا تنسحب إلا على نسبة ضئيلة جدا ممن تخلص فعلا من عقدة التكلس والأبوية والبطريركية والدوغمائية...
أَلَم يُعلن محَمدًا نُبُوءَتَهُ في سنّ الأربعين؟

2008/10/06

درجة أولى

ألقىبجسده داخل العربة وهو يلهث دون أن يتثبت منها, بعد أن فاجأته صافرة القطار منذرة بانطلاق الرحلة. أنزل الحقيبة الثقيلة من فوق ظهره وركنها حذوه, فوق الكرسي الفارغ, ثم رفع رقبته إلى الأعلى حيث يندفع الهواء باردا من مكيف العربة.لما انتظمت أنفاسه شرع يتفرس ملامح المسافرين المنتشرين داخل العربة الواسعة. لم يكونوا كثرا: سائحة متوسطة العمر مشغولة بتفاصيل الطريق وأزرار آلة التصوير الرقمية تداعبها تارة أمام صواري المراكب المتناثرة فوق ماء البحر وطورا نحو قرص الشمس الذاهبة في حمرتها إلى أسفل زرقة الماء وشاب يلاحق إيقاع الموسيقى المنبعثة من سلكي آلة التسجيل المثبتين في أذنيه, وامرأة تطالع مجلة باللغة الفرنسية.كانوا ثلاثة وهو رابعهم صامتين وسط عربة القطار الواسعة والمكيفة وكانت باقي المقاعد شاغرة المقاعد كانت من الجلد الخالص وسليمة من آثار التخريب أو التمزيق وفي طرف كل مقعد ثٌبتت مطفأة سجائر.ـ إذن التدخين مسموح به في هذه العربة.أشعل سيجارة وعاد يمشط العربة ببصره عله يعثر على خربشة بالقلم فوق أحد المقاعد أو تصادفه مُلصقة اشهارية ممزقة الأطراف فوق البلور المفتوح على الخارج.توقف القطار في المحطة الأولى. انزلق باب العربة على اليمين والشمال ولم يصعد أحد, وإنما تناهى إلى سمعه ضجيج وصياح تعالى من ذيل الثعبان الحديدي.في المحطة الثانية نزلت السائحة وصعدت فتاة تحتضن بين ذراعيها جروا أبيض اللون ومن عنقه تدلت قلادة ذهبية. ظل ينقًل بصره بين صدرها الناهد وذيل الجرو الملتصق بإحدى حلمتيها برهة من الزمن ثم فتح حقيبته وأخرج سكينا ومقصا. وضعهما فوق المقعد بجانبه، وعاود النظر إلى الفتاة... ثم شرع في تجميع وترتيب زهرات الفل والياسمين و يلفها بالخيط الأبيض الرفيع، بحركات بهلواني. سريعة ودقيقة.عندما كان مشغولا بما بين أصابعه لم يتفطن إلى مراقب التذاكر وهو يدخل من الباب الخلفي للعربة ويتجه نحوه مباشرة بعد أن وزع ابتسامته للفتاة وتحيته للشاب والمرأة.ـ التذكرةـ تفضلسحبها من جيب سترته وهو يغلق حقيبته كيفما اتفق ويجمع حبات الياسمين والفل المتناثرة فوق ركبتيه.ـ ماذا تفعل هنا ؟ إنها تذكرة درجة ثانية.ـ لم انتبه, فاجأني القطار فصعدت من أول باب مفتوح.توقف القطار في المحطة الثالثة. نزل مراقب التذاكر حاملا الحقيبة المملوءة بأزهار الياسمين والفل وهو يتبعه من الخلف ويتوسله أن يخلي سبيله.بعد أن خرج من مخفر الشرطة أين حجزت حقيبته بما حوت، قطع السكة في اتجاهها العكسي. اقتطع تذكرة للعودة من حيث جاء وغاب طيفه في الضجيج المتعالي أمام العربة درجة ثانية.

2008/10/04

ايقاع الصدفة لمنذر العيني

... لولا القصائد حين تأتي

قد لا أتجنى على الديوان الشعري الجديد للمنذر العيني اذا ما كثفت متنه كاملا في السطر الشعري الوارد في أولى قصائد الديوان والذي يقول ضمنه الشاعر «أشياؤنا نتف كنثار الدواخل» فتيمة هذا الاصدار الجديد الصادر منذ اسابيع قليلة عن دار مسكلياني للنشر والتوزيع تنهض اساسا من الانصهار الكلي بين التفاصيل اليومية او العادات السيئة العابرة من جهة وايقاع الذاتي الداخلي المثخن بأحاسيس مختلفة ومتضاربة في الغالب...
فالشاعر المعزول في أرضه الشاحبة يتدفق عالمه الداخلي بنجوم اخر الليل... بالاصداء تسقط وترا في يديه... لنلمحه من بعيد مترنحا بين عالمين / ايقاعين... مادي عابر زائل ورمزي استوطن عريشات قلبه وحاصر ذاكرته من كل الجهات... ومن يطلع على اعمال المنذر العيني السابقة لايقاع الصدفة، فاتحة لمدار الريح وظلال المسافة سيكتشف ان العيني زرع «زهرة النرد» وانبرى يعتني بوريقاتها وزهرة النرد عند نيشته او مالارمي هي اخصاب للتعدد حيث تضحي اللغة ملعب الشاعر لاثبات كينونته التاريخية او هي جسد التاريخ بعد العود الابدي لجوهر الكائن في العالم المحيط به... ذلك ان لغة الشاعر تلعب لعبة الذات في الحضور والتخفي وفي الفعل واستحضار الفعل... انها لغة «على مقربة من سان جون بيرس، على مرأى وسمع من قفانبك. لغة للميعاد في التيه اصداؤك» كما يصفها منذر العيني في قصيدة «موعد النار» من ديوانه «ايقاع الصدفة»...ضمن هذا الاصدار تتأكد لدى الشاعر منذر العيني تلك القدرة على اضفاء الهيبة والقدسية وأسطرة الاشياء العادية والاحداث العابرة من خلال الزوايا الدقيقة التي يبني عليها متنه الشعري، وايضا من خلال توليد الرؤى وترتيب التداعيات والصور حول النواة الاولى لكل نص شعري والتي غالبا ما تكون تجربة حسية او نفسية عاشها الشاعر او كذلك أحالت او ارتبطت بحدث تاريخي لكأنه أقرب الى الروح التأملية العميقة ولعل ذلك ما يفسر تنوع الايقاعين الداخلي والخارجي لنصوص هذا الديوان وتواتر النصوص النثرية المشبعة بالروح الشعرية...كتب الشاعر في الصفحة 84 من «ايقاع الصدفة»:«تنبت الذكرى على راحتها حين أريد الامحاء، لن تمّحي الآن مازال لك الآهات ـ أحلامك في الريح ـ وأيامك ثكلى ايها المنثور في الارجاء هنا في «رأس بوغاز» قبلة السور الأغلبي بسوسة أين ضوء الفنارات.

2008/10/03

ذاكرة المحو الدرامية


حفظ الذاكرة من أمر صاحبها واتلاف حياتها واخماد نبضها كذلك من صنعه هو، وصاحب الذاكرة قد يكون فردا كما يمكن ان يكون مؤسسة، وكذلك هما الاثنان معا يشكلان ما يسمى الذاكرة الجماعية لشعب ما أو أمة ما.والذاكرة هي مجموع الاحداث والمحطات التاريخية التي يصنعها اعلام وشخصيات يدوّنون ويؤثثون حاضرنا فيما مضى من زمنهم فتصير مشتركا عموميا نعود الى تفاصيلها المضيئة ونعتبر من نكساتها وهزاتها...وتتفنن الشعوب بأفرادها ومؤسساتها في حفظ ذاكرة أيامها وتخليد اسماء من بصموا التاريخ بأفعالهم ومواقفهم التي تبلغ حد الاسطرة.
وكانت اشكال حفط الذاكرة، في القديم، تتمثل اساسا في بناء المتاحف وصقل التماثيل وانشاء الساحات العامة وبالخصوص على الذاكرة الشفوية بزخمها الحميمي وفائضها الرمزي...أما أشكال حفظ الذاكرة حديثا فتتمظهر أساسا ـ الى جانب الاشكال التقليدية ـ في التعويل على ما تقدمه التكنولوجيا من محامل الكترونية وأيقونات رقمية اين نقف على الاعمال التوثيقية وعلى الاعمال المستلهمة من من فورة الماضي ومن ذاكرة الشعوب، ومن بين هذه الاعمال المنجزات الدرامية كالافلام والمسلسلات والتي صارت تمثل شكلا مهما من اشكال التوثيق وحفظ الذاكرة وانعاشها...ولنا في الدراما المصرية والسورية واللبنانية عشرات الاعمال التي تخلد وتحيي أعلامها وتاريخها ويكفي ان نذكر اعمالا لجمال عبد الناصر وأنور السادات وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ واسمهان ولحرب الايام الستة وناجي العلي والاجتياح الصهيوني والكثير الكثير من الاعمال التي أحيت ذاكرتنا...أما درامتنا التونسية فهي غارقة في اجترار حكايات الريف والبلدية، حيث تهدر المليارات سنويا لسيناريوهات بائسة وبسيطة وساذجة، تطالعنا حكاية أزمة النص والسيناريو بعد كل خيبة يناله المشاهد التونسي، في حين ان تاريخنا زاخر بأكثر من حدث واكثر من اسم يمكن الاشتغال عليه وانجاز عمل محترم يمكن ان يتحول الى مرجع ويكفي ان نذكر معركة الجلاء وأحداث ساقية سيدي يوسف وأحداث الخبز أو نذكر حبيبة مسيكة وصليحة والهادي الجويني والحبيب بورقيبة والدغباجي ومنور صمادح وتجربة التعاضد وفرحات حشاد ومحمد علي الحامي، الى جانب المدونة الروائية للعديد من الكتاب التونسيين التي يمكن تحويلها الى اعمال سينمائية أو درامية...