بحث هذه المدونة الإلكترونية

2011/08/29

وزارة التنمية والكتاب الأبيض أو التفكير بالنيابة


ستنظم وزارة التنمية الجهوية في الأيام القادمة ملتقى وطنيا لتقديم نتائج أعمالها للأشهر السبعة المنقضية. أعمال تركزت في محاضر جلسات أجراها ممثلو الوزارة في مختلف الجهات وتم خلالها تدارس الوضع التنموي في كل المناطق وجمعها وتوثيقها في كتاب اختارت له الوزارة عنوان "الكتاب الأبيض" تهدف من خلاله إرساء استراتيجيا تنموية هدفها تغيير واقع الجهات على مستوى التهيئة العمرانية والبنية الأساسية والحَوْكَمَة والحكم الرشيد ودور المسؤول الجهوي والمحلي... ومن ابرز المقترحات إعادة تقسيم الجهات اقتصاديا من خلال تقسيم الشريط الساحلي إلى خمسة جهات أو ما يشبه الأقاليم الاقتصادية من أجل ربط الجهات الداخلية بالساحلية.

ودون التقليل من جهد الوزارة في هذا المنحى إلا أنه من الضروري أن نبدي بعض الملاحظات التي نراها ضرورية، فأول الملاحظات التي يمكن استنتاجها هو استفراد الطرف الحكومي ـ كالعادة ـ بوضع الخطط الإستراتيجية والتفكير نيابة عن باقي الهياكل وعن المواطن في حد ذاته، فمن خلال هذا التمشي نتبين أن وزارة التنمية المؤقتة عولت على هياكلها دون غيرها، و"أقصت" أو لنقل "تجاهلت" الأطراف الأخرى من أحزاب وجمعيات ومنظمات، وخاصة منها الاتحاد العام التونسي للشغل في صياغة مشروع "الكتاب الأبيض"، وما ستقوم به في الملتقى المزمع تنظيمة لا يعدو أن يكون ذرا للرماد في العيون وإيهام بالحوار وتشريك جميع الأطراف المعنية، وهي ذات السياسة وعينها التي كان ينتهجها النظام السابق ولم تعد على هذا البلد إلا بالوبال...

الاستنتاج الثاني الذي يمكن أن نقف عليه هو أن وزارة التنمية الجهوية، ومن ورائها الحكومة، تستبطن عن غير قصد (أو عن قصد) الإقامة الدائمة في مواقع القرار والحكم، ذلك أن خططها واستراتيجياتها لا يمكنها بأي مقياس أن تكون لمدة وجيزة لا تتجاوز المدة التي تفصل الشعب التونسي عن أول استحقاق انتخابي نتمنى أن يكون حقيقيا... فالمنطق يقتضي أن تنتهي مهام الحكومة المؤقتة ليتم تشكيل حكومة جديدة سيرسم معالمها أعضاء المجلس التأسيسي المنتخبون، وحتى إن سلّمنا أن بعض الأسماء ستواصل مهامها الوزارية المناطة بعهدتها الآن لإجماع حولها أو ثقة حازتها، فإن المرحلة الراهنة لا تٌلزم أحدا بوضع الخطط والاستراتيجيات طويلة الأمد بقدر ما تتطلَّب حنكة في تسيير الأمور الإدارية وعَقْلنة المطالب الشعبية فقط.

الاستنتاج الثالث أيضا الذي يمكن أن نستشفه من "حركة" وزارة التنمية، هو إهدار المال العام والجهد البشري في تنظيم مثل هذه الأعمال والبحوث والدراسات، خاصة إذا علمنا أن النظام السابق كانت جل دراساته وخططه التنموية "رائدة" نظريا وعلى الورق فوق مكاتب الوزراء والمديرين والولاة والمعتمدين، غير أن تطبيقها على أرض الواقع كان مشلولا بقصد وبوعي كبيرين غذاهما الفرز الجهوي والطبقي الذين انتهجتهما العائلة الحاكمة سابقا بمعية أعوانها ومباركة الرأسماليين المنتفعين من هذا الفرز... دراسات تنموية أوهمت بالعدالة الاجتماعية والتوازن الجهوي ودولة الرفاه والرخاء، مثلها مثل الدراسات "الحقوقية" التي كانت تدبجها الأقلام المتمعشة من النظام النوفمبري والتي حولت تونس إلى أيقونة للحريات العامة والفردية وللديمقراطية واحترام حقوق الإنسان... دراسات جعلت المنتظمات الدولية تعتبر تونس "معجزة" على وجه الأرض...

الاستنتاج الأهم أيضا في تقديري، هو التجاهل التام للدراسات الميدانية التي أنتجتها كفاءات علمية وأكاديمية في صلب الاتحاد العام التونسي للشغل الذي آل على نفسه أن يضرب المثال العملي في بناء تونس لكل التونسيات والتونسيين، فالاتحاد العام التونسي للشغل يشبه خلية نحل لا تكل ولا تمل من إنتاج المعرفة ومراكمة التصورات والاقتراحات العملية الرصينة ذات المنطلق الواقعي والأفق الاستشرافي، والصبغة التنويرية التي تُشع على كامل البلاد أرضا وشعبا، ومن ينكر قيمة هذا المشروع لا يتوانى في الاستئناس بنتاجاته المعرفية ومعطياته العلمية وخاصة تصوراته ومقترحاته في السر وفي العلن، ولعل خير مثال على كلامي آخر الدراسات المنجزة في هذا السياق وأعني به كتاب "التنمية الجهوية بولاية سيدي بوزيد: بين الواقع المكبل والإمكانات الواعدة"، كتاب لم يكن ابيضا ولكنه برهن على الاقتناع التام بأن بناء الدولة التونسية ليست مسألة شخصية تهم هذا الشخص دون غيره أو هذه الوزارة دون سواها أو هذا الحزب دون شبيهه أو تلك الفئة دون بقية الفئات... كتاب أعد مثله الاتحاد كتبا أخرى عن الكاف والقصرين وجندوبة وقفصة... وكان أولى بوزارة التنمية الجهوية أن تعتمد هذه المنشورات كمرجع أو أرضية لعمل مشترك وبناء وطني تتعانق فيه الأفكار وتتشابك فيه الأيادي بعيدا عن منطق الوصاية والاستفراد بالرأي، فالبيت بيتنا جميعا والبناء يعنينا معا ونجاح الكتاب لا يكون إلا بتقاسم متنه بين الكاتب والقارئ.

2011/08/26

أحمد بالنور والانتخابات وكلمة السر



طالعت في إحدى الأسبوعيات الجديدة حوارا مع السيد أحمد بالنور المدير العام الأسبق للأمن أتى فيه على علاقته بالمنظومة الأمنية في عهد الحبيب بورقيبة وخصوصا حادثة قصف الإسرائيليين لمدينة حمام الشط في غرة أكتوبر1985 كما تحدث في الحوار عن بن علي الجاسوس للنظام الليبي والموساد، واختتمت الصحيفة حوارها مع أحمد بالنور بالحديث عن إمكانية تزوير انتخابات المجلس التأسيسي المزمع انجازها يوم 23 أكتوبر
,2011 خاصة أن قائمة الناخبين لا تزال في أدراج مكاتب وزارة الداخلية وفي أيدي المتنفذين في هذا الجهاز.

مدير الأمن الأسبق، السيد أحمد بالنور، قرن عملية تزوير الانتخابات في العهد السابق بما أسماه "كلمة السر"، تلك التي "تخرج من وزير الداخلية إلى الوالي بسرية تامة ودون علم أي كان".

السيد بالنور قال أيضا في ذات السياق:"لسنا في حاجة إلى اللجنة العليا المستقلة للانتخابات... ولا أرى أي موجب لوجودها".

إن مثل هذا التصريح يجعلنا نستنتج بكل يسر أن السيد أحمد بالنور قد "تَفَّهَ" ثاني أهم مرتكزات النظام السابق، بعد الأمن، وأعني به تزييف العملية الانتخابية والإصرار على نسبة 99 بالمائة.

فالتزوير الذي ورثه نظام السابع من نوفمبر عن نظام المجاهد الأكبر (بشهادة الباجي قائد السبسي أحد وزراء بورقيبة) لا يقتصر على وزير الداخلية والولاة فحسب بل إن أطرافا عديدة تساهم في العملية، وأول هذه الأطراف هي الأحزاب الكرطونية التي كان يستخدمها النظام السابق شمَّاعة برَّاقة للإيهام بالتعددية السياسية وبالتنافس على مقاعد الحكومة.

كما أن وسائل الإعلام البنفسجية كانت تلعب دورا مفصليا في عملية التزييف، فقبل الانتخابات تنهال التلفزة الرسمية والإذاعات والصحف على المواطن ببرامج التمجيد ومقالات التفاخر بانجازات التحول وبأن حامي حمى الدين هو الوحيد الأوحد القادر على مواصلة مسيرة البناء والانجاز، أما بعد الانتخابات فان أبواق الدعاية التي تكون قد أخذت نصيبها من الوليمة من خلال الاشهارات والعطايا والهبات، فان مهمتها الأساسية هي شن حملات تشويه وتخوين ضد كل من يشكك في شفافية وديمقراطية صندوق الاقتراع، وخاصة ضد بعض المناضلات والمناضلين والجمعيات والمنظمات المستقلة.

الطرف الثالث المساهم في تزييف الانتخابات هي الدوائر الخارجية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا بالخصوص، فرغم علمها بزيف العملية الانتخابية فإنها تسارع لمباركة نتائجها وتفوق تلميذها النجيب الذي سيواصل رعاية مصالحها الاقتصادية والعسكرية والجيوسياسية بكل تفان وإخلاص، كما أن هذه الدوائر "تطوع" بعض وسائل اعلامها لتقديم النموذج التونسي مثالا يحتذى به في النمو الاقتصادي والرفاه الاجتماعي والمناخ السياسي الديمقراطي...

الجزء الأول من تصريحات السيد أحمد بالنور يجعلنا أيضا نستنتج أن كل وزراء الداخلية في عهد بن علي على الأقل وكل الولاة متهمون بتزوير الانتخابات، الرئاسية والتشريعية والبلدية، وبالتالي انتهاك دستور البلاد وهو ما يترتب عليه اليوم أن يقفوا جميعا أمام القضاء.

أما الجزء الثاني من كلام المدير الأسبق للأمن، والمتعلق بنفيه لجدوى دور اللجنة العليا المستقلة للانتخابات فهو أيضا فيه نظر ومنه استنتاجات كثيرة، فمن حق هذا الشعب أن يتشبث بأية بارقة أمل صادقة، أو شبه صادقة، لتأمين عملية الانتقال الديمقراطي المرجوة والتي لا ينتظرها الشعب التونسي فقط، بل كل العالم، والتشبث بهذه البارقة مأتاه أن عدة مؤشرات لا تٌنبىء بمحو "كلمة السر" من ذهن السياسيين الجدد والقدامى، ومن وزارة الداخلية في حد ذاتها التي لن تتحول بقدرة قادر وفي ظرف نصف سنة إلى مؤسسة محايدة، هذا فضلا عن سلك الولاة الحالي الذي تتم عملية تعيينه وفقا للأهواء والمصالح والرغبات والولاءات، كما أن مسألة المال السياسي والتلاعب بالأصوات الانتخابية تزداد حدة اليوم بين من تربى على شراء ذمم الناس بالترهيب والترغيب وبين طامع جديد في كرسي القصر... ولا ننسى طبعا تعويم المشهد السياسي بعد الثورة بأكثر من مائة حزب وهو مدخل منهجي إلى التّزييف والتّدليس.

كما أن الجزء الأكبر من المؤسسات الإعلامية، وبعد تغيير جلدتها لأيام معدودات، عادت إلى طريقتها ونهجها واستكثرت على أقلامها ومصادحها ما وفره لها شهداء الثورة من هامش للتحرر والحرية من قيود الرقيب والخوف، ووسائل الإعلام كما نعلم، ومثلما نلاحظ اليوم، لها دور مهم في تحويل وجهة الناخبين إلى هذا الحزب أو ذاك... بل إنها اليوم تمعن في التحريض الغبي للفئات الشعبية ضد القوى الديمقراطية والحداثية مستغلة في ذلك طبيعة انتخابات المجلس التأسيسي التي هي بالضرورة "كمية" تقوم أساسا على عدد أصوات الناخبين "المجهَّلين" الذين لا يملكون حدا أدنى للتفريق بين التوجه اليميني المتطرف الذي سيكرر منظومة الاستبداد في أشكال أخرى وبمعايير مغايرة، وبين الأفق الديمقراطي الحداثي الذي يؤمن إلى حد كبير بإمكانية بناء تونس أخرى لكل التونسيين دون تمييز أو ظلم أو استبداد...

في الأخير أقول للسيد أحمد بالنور المدير الأسبق للأمن بأن تزوير الانتخابات لا يمكن أن نختزلها في "كلمة سر" بل هي كتاب دهاء ومكر ونذكره بأن الطوباوية المفرطة لا يصدقها إلا المراهقون السياسيون...

2011/08/25

الموت لا يعرف النوايا الحسنة




ربما الطريقة المثلى لإيقاف تدحرج كرة النار المشتعلة بين تصريحات المقدم سمير الطرهوني والوزير السابق للداخلية أحمد فريعة بشأن إصدار الأوامر لإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين بشارع الحبيب بورقيبة والشوارع المتفرقة عنه يوم 14 جانفي وقبله وبعده أيضا، تتمثل حسب رأيي في ترتيب برنامج تلفزي يستضيف الشخصين حتى يتبين الشارع التونسي الخيط الأبيض من الأسود، وتكون بينهما "مكافحة" على الهواء مباشرة قد تساهم ربما في إخماد النار الملتهبة في صدور أمهات الشهداء ولدى الرأي العام، ولما لا تكون طريقة جديدة في تقصي الحقائق والكشف عنها...

فالثابت أن الشهداء الذين سقطوا برصاص "الحاكم" هم الدليل القاطع على أن هناك من أصدر أمرا جللا لإخماد الأنفاس الثائرة بطريقة إجرامية ووحشية، ولأن الاتهام واضح ولا لبس عليه لوزير الداخلية السابق والأمين العام المستقيل من حزب سياسي جديد منحه إياه زميله في وزارة الداخلية، فما على السيد أحمد فريعة إلا أن يمثل للقانون أو يثبت بطلان التهمة الموجهة إليه علنا ويرفع قضية في الادعاء بالباطل في حقه ضد السيد سمير الطرهوني.

وإذا كانت الحكومة الانتقالية قد منحت هذا الوزير رخصة حزب سياسي، ونفس الحكومة رتبت تفاصيل الندوة الصحفية للمقدم سمير الطرهوني ببهو الوزارة الأولى بعد سبعة أشهر وأمنت "سبقا" صحفيا لقناة "نسمة" (لا ندري لماذا قناة نسمة بالذات ؟؟؟) لاستضافة المقدم أو "بطل المطار الذي رفض الرئاسة" على حد وصف أحد الصحف السيارة، إذا كانت الحكومة الانتقالية غير بعيدة عن هذه التفاصيل فالأكيد أن جل الحقائق، إن لم نقل كلها، بحوزتها.

ثم إن "الكرطوش الحي" الذي أمر المخلوع في خطابه الأخير بالكف عن إطلاقه، كان يحصد أرواح المتظاهرين قبل أحمد فريعة، وكان بحوزة المؤسسة الأمنية والمؤسسة العسكرية، ولدى بعض العصابات المتنفذة التي تتاجر بالسلاح والذخيرة ومازالت إلى اليوم طليقة... مما يعني أن الذين يتبادلون اليوم التهم فيما بينهم هم كلهم في سلة واحدة، وان اختلفت النوايا، لأن الموت لا يعرف النوايا الحسنة؟؟؟

إذن مسالة الرصاص الحي تشبه حقل الألغام الموقوت المعدل بعقارب ساعة خبيثة تتقن اختيار التوقيت المناسب والاسم المناسب لحياكة سيناريو مشوق يأخذ الألباب ويسيل حبر الأقلام ويسرق عدسات الكاميرا من نبض الشارع وهموم المواطن، فكل رواية جديدة تمحي ما سبقها، وكل اسم جديد يتوارى خلفه الاسم القديم وهكذا دواليك تستمر الأطراف المتنفذة في حياكة كمامة ملائمة للمطالبين بالعدالة الحقيقية وبإنجاح أهداف الثورة...

أطراف تقاسمت الأدوار، وجندت بعض وسائل الإعلام (التي لم ولن تتخلى عن جبتها القديمة) لإلقاء الطعم في كل مرة للمواطن التونسي وتلميع صورة "بطل وطني" جديد حتى أني قرأت "تحليلا صحفيا" بعنوان "معجزة الواحد الأحد" فأهلا بزمن الأنبياء الجدد أصحاب الرصاص الحي الملثمون بالدهاء، ومرحى لنا بالوطن الزريبة الذي تتناطح فيه أكباش الفداء وتتناسل فيه الذئاب...

إن هيبة الدولة المزعومة لن تجد مكانا لها وسط حقل ألغام من المتفرقعات الكلامية الذي يُنثرُ هنا وهناك، كما أن هذه الهيبة لن تتحقق بسياسة الاستغباء التي تتبعها الأجهزة المتكلسة لدولة ما قبل الثورة، وحيل الالتفاف على أمل الفقراء والمعطلين والمهمشين لن تنطلي عبر أجهزة إعلام لم يستوعب أصحابها أنهم يمثلون سلطة في حد ذاتها وليسوا بيادق يتكلمون بأمر ويصمتون بأخر...

2011/08/03

الدولة الصفر


يعرف أهل القانون الدولة بما هي وحدة لثلاث عناصر هي الأرض أو الإقليم والشعب والسيادة، ولسائل اليوم أن يسأل عن ما آلت إليه هذه الأركان الثلاثة.

فأما الأرض، ففي بلداننا لم يبق لها من وجود حقيقي وقد فقد حدود ملكيته الوطنية. تتقلص مساحات السيادة على كل شبر منه بالتفويت فيه إلى رأس المال الأجنبي وتتعالى الأصوات منادية برفع الحدود بين الدول بينما قوارب الموت تشهد على أمرين أولهما الهروب من هذا الإقليم الذي سُلبنا الإحساس بالانتماء إليه ثم ارتفاع صرح جدران بلدان ترفع شعار رفع الحدود وتضع في ذات الحين لأقاليمها حراسا يمنعون اختلاط الأجناس.

وأما الشعب فقد عرف مفهومه انزياحا نحو مفهوم السكان وأقصد بذلك أن الشعب هو الذي يصبو إلى تغيير أوضاعه طامحا إلى التحرر والتقدم والرقي ويمارس في سبيل ذلك كل الوسائل السلمية وحتى غير السلمية في اتجاه إقامة مثلى تحقق له الاستقرار والكرامة والنمو على أرضه، أما السكان وهو المفهوم الذي حل محل مفهوم الشعب فأولئك الذين يئسوا من التغيير وانغمسوا في الآني يلاحقون ما تجود به السوق من منتوجات استهلاكية وهم ملعونون على الدوام بأقساط البنوك وفوائد الدائنين.

وأما السيادة، المكون الثالث للدولة، فقد أزف عهد فاعليتها الخارجية. انتهت السيادة بانتهاء الاحتكام لقوة القوانين واللجوء لقوانين القوة. والسيادة اليوم تعود أولا للقوى المتحكمة في العالم بأسره تحدد سياساته وتسطر استراتيجياته وثانيا لصناديق النهب الدولي ولرؤوس الأموال متعددة الجنسيات. أما السيادة الداخلية فهي كل ما تبقى لدولنا حتى أن سكان دولنا لفرط ما يشعرون بهذه السيادة يلخصون الدولة فيها ويجعلون السلطة مرادفا للدولة.

و في ذات الوقت، وقد أصبحت الدولة مرادفا للسلطة أي للمؤسسات والأجهزة التي تنظم إقامة المواطنين على الإقليم وحتى بهذا المفهوم الضيق فإن الدولة تشهد تدهورها وتراجع دورها إلى درجة الصفر فتنتهي إلى شبه هيكل فارغ لا يدل عليه غير جدران المؤسسات التابعة لهياكلها..

الدولة، كما عرفناها، تلك الهياكل والمؤسسات المتماسكة بهرميتها التنظيمية التقليدية، بأدواتها ومهامها التسييرية تصل اليوم إلى درجة الإهمال واللامبالاة، وتتخلى تدريجيا وبنسق تصاعدي عن أسباب وجودها. تسحب ذمتها وترفع يديها عن كل ما يؤمّن استمراريتها وفاعليتها ويضمن هيبتها… إنها تتخلى عن رأس مالها الرمزي: المواطن لتتركه في مهب دولة جديدة أكبر من الجغرافيا واصغر من التاريخ لأن لا تاريخ لها إلا تاريخ تقنين النهب الدولي. تفتح الباب على مصراعيه لتدخل الأشخاص فيتماهوا معها إلى أن تغيب الفواصل ويعلو صوت لويس الرابع عشر من كل الجهات. دولة تحالف السلعة العابرة للقيم لا دولة القوانين والمبادئ العامة…

إن المؤشرات المحيلة على بلوغ الدولة إلى مرحلة الصفر أكثر من أن تعد وتحصى، وقد طالت جميع المجالات، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والمعرفية والقيمية، مما جعل معها طبيعة العلاقات الاجتماعية تطفو عليها الاضطرابات الدائمة فتتصاعد مشاهد العنف وتطول اللحي وتمتد تلابيب الأقمشة وتشتد الرقابة ويرتفع الضغط في رغبة تراجيدية إلى استعادة الوقار الحديدي. اليوم، وفي ظل تعطل جزء كبير من قوة العمل المتاحة، وفي ظل انخرام خارطة التوازن الاجتماعي بشكل حاد ومستفز وتعميق اللاتوازن بين الشمال والجنوب، وبين المركز والهامش، وبين الداخل ودواخل الداخل تتسلعن القيم، كل القيم: الحب، الجمال، الأدب، العلم، العمل… وما تبقّى من الدولة أو ما اختاروا أن يحتفظوا به منها إنما هو مرجل ساخن يغلي بما يعتمل في نفوس المواطنين المنضوين تحت هياكلها…

كل هذه المؤشرات سارعت في نسق تدهور الدولة مفهوما ووجودا إلى درجة الصفر والانتهاء بها إلى شبه هيكل فارغ لا ينبئ شيئا بحيويته سوى جدران المؤسسات التابعة لهياكلها…

*******

… وقف طفل صغير أمام والدته يسألها ببراءة:لماذا لا تدفئين المنزل يا أمي؟ فأجابته: لأنه لا يوجد لدينا فحم بالمنزل يا ولدي. فسألها: ولماذا لا يوجد فحم بالمنزل؟ فأجابت الأم: لأن والدك معطل عن العمل. فسألها الابن مجددا: ولماذا يتعطل أبي عن العمل؟ قالت الأم: لأنه يوجد فحم كثير بالأسواق يا ولدي…