بحث هذه المدونة الإلكترونية

2012/05/23

مقاولات صحفية

يبدو أن مصطلح "الصحافة المؤسسة" قد دخل طور الانقراض من أوسع أبوابه، بعد أن تم "تحرير سوق الإعلام" بشكل غير معلن، وفُتح الباب على مصراعيه للأفراد والمؤسسات التجارية ذات الغطاء الإعلامي للاستثمار والاتجار في السياق الصحافي... بذهنية المرابين... فمثلما تفيض اليوم الفضاءات التجارية الكبرى والأسواق المنظمة والموازية بالسلع القابلة للتلف والإتلاف بعد أول استعمال، تفيض سوق الصحافة بالمقالات والحوارات والتحقيقات والأخبار التي لا طعم ولا رائحة لها، وتنتصب أكشاك الإعلام لتبيعنا معلباتها الفاقدة للصلاحية، أو منتهية المفعول بعد أول عرض لها، وتنتصب "حضائر" الصحافة هنا وهناك فتستعر حمى المقاولات وينشط سوق البيع والشراء ويتناسل الوسطاء والسماسرة للتسريع ببيع المنتوج الوفير وعقد الصفقات دائما وأبدا... إن كل صحفي مشنوق بنصه، وكل مقال على قدر الزيت فيه يضيء. قد يحرق المقال بكاتبه فيصير لعنته الأبدية، وقد يضيء سبيله فيصير قنديلنا الأبدي نرصد به انسجام الخطوات من تبعثرها في الدرب الإعلامي الذي يُكابده مقالا بعد مقال...ونختار بين إحراقه أو الاحتراق به. بين الإحراق والاحتراق تسير اليوم بعض الصحف اليومية والأسبوعية في سياق واحد هو سياق البيع والشراء، ولكل "مقال" ثمنه من هذا أو من ذاك، حتى تدربت أنوفنا على شم رائحة هذا المقال ومن يقف خلفه بماله قبل أن نعثر على معلومة أو خبر صحفي قد ينيرنا أو يفتح لنا سبيلا من سبل هذه البلاد الذاهبة نحو حتفها. وربما أفضل تشخيص لمهمة الصحفي المحترم/لا المحترف ذاك الذي يرهن وجوده كله للإحساس النقدي، وهو إحساس يشي بعدم تقبل الصيغ السهلة أو الأفكار الجاهزة أو البراهين الناعمة الملائمة تماما لما تقوله الجهات القوية أو التقليدية، تلك "الجهات القوية والتقليدية" التي لا تستعين بآراء الصحفي لتقويم سلوكها وتعديل سياساتها بل إنها تعمل جاهدة على تدجينه واحتوائه لتنـزع عنه وظيفة النقد والسؤال والمحاسبة... هي ذي مهمته الأساسية التي لا يتنازل عنها مهما كانت الإغراءات، غير أن تاريخ الصحافة، ومثلما يشهد على الموت المادي والرمزي الذي طال مئات الصحفيين وهم يدحرجون كل الإغراءات تحت نعالهم، فهو أيضا يشهد على الآلاف من الذين سقطت أقلامهم تحت نعالهم، ولم نعد نعرف هل هم فوق النعال أم تحتها... هل هم كتاب أم هم مستكتبون؟. ربما يتم اختزال هذه الظاهرة من القراء في "تصفية حسابات" بين هذا الرأسمالي وذاك، أو بين هذا الجهاز وذاك، ولكن الثابت والمؤكد أن الأداة التي يتم استعمالها هي الأخطر من هذا الرأسمالي أو ذاك، فقد ينتهي واحد من الاثنين، ولكن الأخطر أننا بصدد إعادة إنتاج "صحافة المجاري" وبصدد تكريس القلم المستأجر الذي يكتب تحت وقع الدينار، ويبدو أننا لم نعد بحاجة إلى "القائمة السوداء" فيكفينا ما يتنازع عنه المهرجين، الصغار منهم والكبار، في هذا السرك الذي لا ينتهي لنعرف من هذا ومن ذاك...

2012/05/02

النهضاويون والباجيون

بين النهضاويين والباجيين (نسبة للباجي قائد السبسي) قد تتقهقر البلاد بعيدا في الاستبداد من جديد، فهذا الاستقطاب الثنائي الذي يطوق الزمن التونسي الآن، من خلال انتشار الإسلاميين فوق الكراسي الوزارية والمكاتب الإدارية من جهة، والعودة المنظمة للتجمعيين في جبة الدستوريين من جهة ثانية يجعل البلاد تسير في اتجاهين اثنين أحلاهما مر. فالإسلاميون، بتفرعاتهم النهضوية والسلفيات المتعددة، انقضوا على البلاد بعد انتخابات 23 أكتوبر، حيث "احتلت" النهضة الواجهة، وتركت الشوارع الخلفية للسلفيين، أما التجمعيون فقد منحهم تراخي الحكومات المتعاقبة، الزمن الكافي لإعادة ترتيب بيتهم من الداخل والتشكل في مرحلة أولى ضمن أحزاب مختلفة الأسماء متشابهة المرجعية، وفي مرحلة ثانية ها هم يلتفون حول مبادرة "نداء الوطن" التي أطلقها الباجي قائد السبسي، والتي "أوقعت" عديد الأحزاب ذات التوجه اليساري والشخصيات الحقوقية في "شراكها" باسم الوسطية والاعتدال... الأكيد أن للسياسة شروطها و"حكمتها" في تبرير "التبدل" و"التفسخ" و"التماهي" و"الذوبان"، ولكن الأكيد أن رجل السياسة الفطن لا يمكنه أن "يتورط" في مثل هذه المبادرة دون أن يطرح أكثر من نقطة استفهام، لعل أهم هذه النقاط تلك التي تسائل "الدستوريين/البورقيبيين" عن دورهم طيلة فترة حكم "التجمعيين" وإهانتهم للحبيب بورقيبة وصمتهم على قبر ذاكرة الرجل وذاكرة جيل بناء الدولة الحديثة؟ بينما لا يمكن أن ننسى الرسالة الشهيرة، التي وجهها المناضل الوطني جورج عدة (أحد ضحايا بورقيبة ذاته) لبن علي يدعوه فيها إلى فك عزلة الزعيم بورقيبة وإخراجه من الإقامة الجبرية. لماذا بزغ "الحب البورقيبي" فجأة بعد أن أسقط المفقرون والمهمشون والمعطلون عن العمل نظام بن علي؟. أما نقطة الاستفهام الثانية، والتي لا تقل أهمية عن الأولى، فهي تلك التي تسأل عن مدى تخلص التجمعيين من الدكتاتورية والانتهازية والفساد، الصفات التي صارت ألصق بهم من جلدتهم؟. الثابت أيضا أن اختلاط التجمعيين بالإسلاميين والعكس بالعكس، هي حقيقة راسخة لا يمكن أن ينكرها أحد، ولكن هل يعني هذا أن البلاد محكوم عليها بأن تُشنق بحبلهما دون سواهما؟ أليس من حق المواطن أن يتجه إلى المؤسسات العمومية دون خوف من المظلة السياسية؟. إن السباق السياسي هو في الأخير سباق مصالح ومواقع لا سباق مواقف ومبادئ، وربما الأخطر في هذا السباق هو التشبث بالاطلاقية وبنظرية "أنا ربكم الأعلى"، فهذا وزير نهضاوي يقول بأن "أفضل حكومة عرفها التاريخ الحديث لتونس هي حكومة حمادي الجبالي"، وهذا "كاتب دستوري" يكتب مقالا على أعمدة الصحف يصف فيه "نداء الوطن" للباجي قائد السبسي بأنه "نداء الزمن.". إن الوسطية الموهومة من جهتي النهضاويين و"الباجيين"، لا تعني "الإسلام المعتدل" لدى النهضة، ولا "الإسلام التونسي" لدى "الباجيين"، بل الوسطية لدى المواطن التونسي الذي يدفع الضرائب حتى على أنفاسه، تعني له تحقيق العدالة الاجتماعية بعيدا عن الاستغلال الفاحش لأصحاب المال الذين "غرفوا" عرق العمال بحماية بن علي. وتعني الوسطية كذلك، تحقيق الكرامة الإنسانية الحقيقية للمواطن التونسي باعتبار صفته المواطنية بعيدا عن تصنيفه الديني. أما السؤال الذي لا يمكن تجاوزه، فهو الذي يقول: متى كانت الثورات تنتهي إلى الوسطية؟ إن "الثورة" لا تندلع إلا لتقطع بشكل جذري مع الوجه المظلم للماضي، هذا الوجه الذي رسمته في تونس أيادي الدستوريين باستبدادهم والتجمعيين بفسادهم والنهضاوين بعنفهم.