بحث هذه المدونة الإلكترونية

2009/07/25

دليــدا تـــونس



كلما ألقت جملة موسيقية في الهواء الطلق أتذكر تلك الجملة الشعرية المشحونة حميمية ورهافة للشاعر بول ايلوار تلك التي يقول فيها "إني أسمع صوتك في ضوضاء العالم"، ولا أجد بدا من الانحناء لها ألف عام وعام لأنصت لآهاتها وهي تدحرج الحروف وتوازنها بين مهموس ومجهور لتنثرها شهبا أو حبات ثلج من شرفات حنجرتها الأسطورية لتطوف وتطوف حتى تستقر في أعماق مريديها، وفي أعماق أعماق الروح.
هكذا أنصتُ إلى "سمو أمينة فاخت"... وهكذا أنصتً إليها الآلاف من مريديها... هكذا كنا...خاشعين في حرمها وهي تغني مما اختارت، فكأنها بسخاء توزع علينا كراماتها...نتلقى السحر من صوتها...من تلاعب الريح بشعرها...من رقصها ويديها المفتوحتين تعانقان السماء...من بذخ جسدها في التلفظ بما اختارت أن تغني لنا...
يطوف بنا صوتها فتطوحنا إلى الأقاصي، وتطوف هي بتمائم الألحان والكلمات ولا تترنح... تدرك يقينا أنها تتدثر بأوتار الكمنجات الهاربة من صقيع هذا العالم ... تشحن الفضاء بتعويذاتها مثل فراشة أرجوانية تنضو على قنديل الغناء الأخضر فتحترق بلهيبه ولا تموت على غير عادة الفراشات... تبوح بأشيائها الصغيرة، بقُبلها الطائشة، وبدولاب روحها...
كنجمة مكابرة فاض ضياءها فوق ركح مسرح قرطاج الأثري حاضنة كيسها السحري المملوء بالسحابات والعصافير والفراشات والشهب... وتشرع في توزيعه بالتساوي على جهات القلب المليون... فتضيء صدأ الروح وتملأ خواء القلب وتُزهر مفاصل الجسد ليتدرج بنا معها من سنواتها الأولى فالتسعينات وسلطان فعلها إلى أيامنا هذه واستعادة الطبول لسلطتها على المشهد.
يخترقك صوتها، فاستمالتها للمصدح، فتماهيها مع آلاف الأحجار المرصوصة منذ ألاف السنين، فعينيك، فقلبك، فتهوي مثلما هوت على الركح ليتسع فجأة لك وللآلاف من الذين امتلكهم سلطان حبها...
تخال نفسك في حضرة "دليدا" عندما تمرر لك ذلك الإحساس الاستثنائي فترغب في البكاء وفي الطيران وفي تسامق السماء وفي التوحد مع صوتها...تماما مع الفنانة أمينة فاخت "داليدا تونس" ستكتشف حتما أن حياتك أنت عند غيرك مثلما هي حياة غيرك عندك أنت، لا فكاك لك منه، ولا فكاك له منك إلا بالحب، بالحب وحده تصير حياتكما حديقة بلا سياج، مفتوحة على اللامنتظر منها ومنك...
بالحب ننتظرها، وبالحب تهل علينا، لتجعل كل واحد منا يهذي بكلمات "سارج لاما" وصوت "دليدا" في أغنية "je suis malade" ويقول:" مثل تشبثي بصخرة/مثل تشبثي بخطيئة/أتشبث بك/أنا متعب/أنا مرهق/لتصنعي السعادة/عندما يتواجدون/أسكر كل ليلة/لكن الخمور كلها/لها نفس المذاق عندي/وكل السفن/تحمل رايتك/لم أعد أعرف أين أتجه/فأنت في كل مكان/سيهلكني هذا الحب/إذا ما استمر الحال/سأهلك وحدي مع ذاتي/قرب مذياعي/كطفل ساذج/أنصت لصوتي..."

2009/07/22

الشاعر آدم فتحي يكتب عن خطوة القط الأسود

حديقة بلا سياج:
خطوة القط الأسود
* آدم فتحي

تُؤتَى النُصوص من عتباتها مثلما تُؤتى البيوت من أبوابها، إلاّ أنّ هذا النصّ جعل من عتبته الأولى رَحِمًا للبيت كلّه، فإذا نحن أمام عنوان لا يكتفي بلعب دوره كمدخل إلى العمل، بل يحتضنه من الغلاف إلى الغلاف، ويجعل منه نصًّا واحدًا على الرغم من كونه مجموعة متعدّدة العناوين والأصوات. تلك في نظري إحدى عتبات نجاح «خطوة القطّ الأسود»، مجموعة ناجي الخشناوي القصصيّة الصادرة أخيرًا عن دار ورقة للنشر.
يعيد ناجي الخشناوي الاعتبار إلى الحديث في مواجهة الحدث وإلى الحكْي في مواجهة الحكاية من خلال ثالوث «الراوي» و»المحكيّ عنه» و»المؤلّف» الذي يرتدي قناع «المحكيّ له» حينًا و»المحكيّ عنه» أحيانًا...وهي السمة نفسها الغالبة على عمل أنور براهم الذي يحمل الاسم نفسه: فرانسوا كوتورييه على البيانو وجان لوي ماتينييه على الأكورديون وأنور على العود، إضافة إلى كونه «المؤلّف» أيضًا وأحد أقنعة «المتلقّي».
في «خطوة القطّ الأسود» لأنور براهم انحياز إلى البساطة والتأمّل الباطنيّ وتغليب للإيحاء القريب من المدرسة التعبيريّة في الرسم. تتكلّم الآلات بما يقترب من الارتجال لولا أنّ أغلب كلامها مكتوب، وبما يقترب من الحوار لولا أنّ كلاّ منها منقطع إلى نفسه، وبما يشبه المونولوغات المتقاطعة لولا ما يصل بينها من روح المؤلّف: لازمة هنا وأخرى هناك تحمل الشرق إلى الغرب وتعود بشمال المتوسّط إلى جنوبه.
ينطبق الأمر نفسه على قصص ناجي الخشناوي. لغة حيّة تأخذ من البساطة عمقها، وتصوير يأخذ من السينما مشهديّته ومن الانطباعيّة كثافتها، وتعبير يأخذ من الشعر إيحاءه. كلّ ذلك إلى بناء مؤسّس على التداعي الحرّ القريب من الارتجال لولا أنّه محسوب، القريب من الملحمة لولا أنّ الصراع دائر بين أبطال مضاديّن، يواجهون انكساراتهم في سياق مواجهتهم لرداءة العالم، ويتحاورون في مونولوغات متقطّعة، وكأنّهم يتكلّمون إلى داخلهم وقد انتشروا شظايا، بينما امتدّت بينهم خيوط من روح المؤلّف: صوت فيروز هنا، وصدى الصمت هناك.
أبطال الخشناوي في معظمهم صامتون أو يعانون الصمت أو تجري على ألسنتهم كلمة الصمت. ولعلّ الأمر لا يتعلّق بتيمة بل بمادّة بناء. فهي قصص مكتوبة بالصمت من أجل التنويه بالكلام. محتفية بما يدور في الدواخل من أجل الحثّ على التصريح. مترعة بهواجس تخرج أحيانًا من بين الشفاه فلا تجد غير استجابة باهتة، في كناية عن ضرورة الجدل. وقد وُفّق المؤلّف كلّ التوفيق في الانتصار جماليًّا إلى الحريّة، بعيدًا عن الخطابة والاستعراض، عن طريق إدارة شخوصه في سياق استحالة الحوار، استنكارًا لانعدامه وإعدامه.
للقطّ قصّة مع المخيّلة البشريّة (خاصّة القطّ الأسود) فهو سليل الأساطير منذ ما قبل التاريخ وهو كناية عن الهرطقة في العصور الوسطى رديف الشرّ والشيطان حين اختُزلت الشيطنة والشرور في المرأة والمجنون أي في المنشقّ والمختلف. ثمّ تفتّحت العقول وبادر المبدعون (ليس أوّلهم إدغار بو وليس آخرهم بودلير) فأعادوا الاعتبار إلى القطّ في سياق إعادتهم الاعتبار إلى الانشقاق والاختلاف. واستبطن ناجي الخشناوي كلّ ذلك بعيدًا عن الخطابة والاستعراض فانتصر في مجموعته إلى كلّ ما هو «قطّ أسود»، أي إلى المرأة المتمرّدة والفقير الكادح والحالم المحروم والكاتب المنشقّ وناسك الأرصفة والعاشق المستحيل والغريب في الزحام وطالب الحريّة المتمنّعة.
كلّ ذلك بشعريّة حكائيّة وبسرديّة شعريّة يشدّان القارئ ويجعلانه يتمعّن في ما يقرأ ليكتشف شيئًا فشيئًا أنّ «خطوة القطّ الأسود» ليس عنوان قصّة من الأقاصيص أُطلق على كامل المجموعة تحيّةً لمبدع موسيقيّ، بل هو المجموعة نفسها وقد تجلّت باعتبارها خطوة «قطّ أسود» من جنس جديد، هو المؤلّف نفسه. مؤلّف يتقمّص ما للقطّ من حسيّة وعناد ونعومة وشراسة وحدّة بصر وحرص على الاختلاف والمقاومة والحريّة.
لا أعرف إن كان المؤلّف قد ذهب إلى كلّ هذا عن قصد وتخطيط، ولا أعرف إن كان قد ذهب إليه أصلاً، ولا يهمّني أن أعرف. فمن علامات التجارب الإبداعيّة الناجحة والمتميّزة أن تأخذ أصحابها إلى غير ما يخطّطون وإلى أبعد ممّا يظنّون، وأن تولد من جديد عند كلّ قراءة مشرعة آفاقها للتأويل. وليس من شكّ في أنّنا مع ناجي الخشناوي في مجموعته القصصيّة هذه، أمام تجربة إبداعيّة ناجحة ومتميّزة، تنضاف إلى قائمة التجارب الشابّة الجادّة التي سعدنا بها في السنوات الأخيرة، بما يجعلنا نطمئنّ على حاضر القصّة التونسيّة ومستقبلها.

الشروق

الثلاثاء 21 جويلية 2009

2009/07/21

قليبية والسينما الهاوية

عندما كانت قاعات السينما تواصل تقهقرها إلى الوراء بإصرار وعزم أسطوريين، كانت مدينة قليبية تسابق الريح وتُجنّح عاليا وهي تعرض الأفلام والأشرطة السينمائية على بياض الجدران والحيطان...
وعندما كانت قاعات السينما بالعاصمة وبمختلف ولايات البلاد تتنافس فيما بينها للفوز بأولوية إعادة الأفلام التي تعرض كل ليلة في الفضائيات... كانت مئات السيارات تقل الناس وتتجه إلى مدينة قليبية لمتابعة أفلام عالمية تعرض لأول مرة بتونس...
وعندما كان بريق السينما المحترفة / التجارية يخفت ويتوارى في ظلمة الدهاليز الموحشة، كانت السينما الهاوية تزداد تألقا... تتوهّج وتشعل الحرائق فتغذي العقول وتشحن القلوب لتكون النقاشات البنّاءة والأفكار الخلاقة متاريس ضوئية ضد التسطيح السينمائي والتعليب المشهدي...
لقد تحولت مدينة قليبية إلى قاعة شاسعة لعرض الأفلام ومناقشتها... لقد صارت قلعة شامخة بما تقدمه كل سنة ـ طيلة ربع قرن تقريبا (23 سنة) ـ من نجاح وتميز إن على مستوى اختيار المادة السينمائية، وان على مستوى صدقية منح الجوائز والحوافز، وان على مستوى حسن التنظيم... حيث تتضافر هذه العوامل الثلاثة في كل دورة من مهرجانها السنوي لفيلم الهواة لتؤمن في كل مرة دورة ناجحة لا تصنف على أنها تدخل في باب التراكم الكمّي بقدر ما تؤكد أنها دورة نوعية ودورة مؤسسة...
وها هي الدورة 23 لهذا المهرجان الدولي (رغم موت أحمد بهاء عطية أحد مؤسسي هذا المهرجان) تؤكد بما لا يدع مجالا للشك بأن أفق هذا الفعل الثقافي لا تسوّره أسوار وبأنه أفق اللامنتظر... إذ تناثرت في هذه المدينة المكتنزة بشهوة الصورة، الأفلام صدفا ومرجانا فطوّقت عُريشات قلوب المهوسين بالسينما الخلاقة، بالسينما التي تغير وتطور وتتقدم بمريديها ومشاهديها... سينما صمبان عصمان التي شرحت التفاوت الطبقي في داكار... سينما باولينهو كادوزو التي وقفت على عمق المشكلات الاجتماعية بالبرازيل... سينما وسام شرف وهو يدربنا على الانضباط لجيش النمل والذكريات القديمة... سينما وائل نور الدين وهو يقفز كالمعتوه بين قنابل القصف الوحشي للطيران الصهيوني على القرى والمدن اللبنانية... سينما شادي سرور وهي تعلمنا أن حيفا هي الأنا والأنا هي فلسطين وفلسطين والأنا معا هما الحرية والعالم الحرّ... سينما وليد مطار وهو يرجمنا بحب البلاد ويحرّضنا على الهجرة السرية في دواخلنا العاطفية والإيديولوجية والثقافية لنعرف كيف نهاجر من تونس في العلن ولا نهرب منها... سينما شريف البنداري تفتح على مشاهديها خزانة الأحزان فتعلمهم كيف يكون الحزن بطعم الورد ورائحة الصباحات الندية...
سينما... سينما... قليبية... قليبية... تجريب خلاّق وتثوير مدروس... أفق ممتد في المدى وأديم من الإصرار والثبات والمغايرة والاختلاف... إضمامة من التحايا والتصفيق... قبلات وعناق... وعود صغيرة وأكياس من أحلام الشباب ـ شباب الفكر لا العمر ـ تترقرق في عيون هواة السينما ومريديها... شباب يحج كل سنة إلى قليبية، زادهم دقائق معدودة هي عمر الفيلم وطموح بأن يظلوا أبد الدهر هواة ومريدين لئلا تصيبهم لعنة الاحتراق وظلمة القاعات النائمة في الشوارع الباهتة...

2009/07/13

شــوارع الرعـــب


شارع الحبيب بورقيبة، شارع باريس، شارع قرطاج، شارع الحرية، شارع فرحات حشاد...

نهج شارل ديغول، نهج ليون، نهج روسيا، نهج القاهرة، نهج مرسيليا ونهج ابن خلدون...

شوارع وأنهج تمتد وتتقاطع في قلب العاصمة، في قلب الحياة المدينية بحركتها وصخبها وضجيجها... شوارع تفيض بالأعين البشرية المشرئبة في كل اتجاه وعلى كل ما يدخل حيزها البصري... شوارع تخيط الليل بالنهار بحركة الغادين والرائحين فوق اسفلتها وعلى أرصفتها...

فائض الخطوات والأنفاس والعيون في قلب هذه الشوارع والأنهج من المفترض أنه يؤمن فائضا موازيا من الطمأنينة والأمان والسلامة للمواطنين والمواطنات العابرين بهذه المساحات الممتدة في كل الاتجاهات... غير أن المرور بهذه الخطوط الشريانية بقلب العاصمة التي ينتصب بها أكثر من مركز للأمن لم يعد آمنا بل انه لدى الكثيرين لم يعد مشجعا على المرور بهذه الأماكن سواء للتسوق بمحلاتها أو الجلوس إلى مقاهيها بعد أن تفشت فيها مظاهر الإجرام وخاصة السرقة والاعتداء على المشاة خاصة الأطفال والنساء وحتى الشبان المسالمين والكهول لم يعودوا في مأمن من هذه الاعتداءات التي يحدث أن تحصل في واضحة النهار مثلما تقول لغة القانون.

هي ذي الحياة في جانب من شوارع العاصمة التي تختفي خلف حرارة حركة الناس وابتسامات البائعات بالمحال التجارية، كابوس يومي من الرعب والخوف والاستنفار على عكس ما نظن. وقد صرنا اليوم نسمع بحكايات غريبة لا تشبه إلا تلك الحكايات التي تحدث في الأفلام الهوليودية من عمليات متطورة في اعتراض الناس والسطو على ممتلكاتهم التي قد لا تتعدى في أغلب الأحيان حافظة أوراق وبعض الدنانير.

هذا فضلا عن ترصد المنحرفين المحترفين لضحاياهم من الناس أمام مراكز البريد والبنوك وأمام المحال التجارية لسلبهم أجورهم، وقد شاهدت بأم عيني شابا يسلب فتاة هاتفها الجوال أمام مقر وزارة الداخلية بشارع الحبيب بورقيبة!!!

هكذا صار القلب النابض للعاصمة وشوارعها التي تفيض حياة، أخطر من تلك الأحياء الشعبية المعروفة بمنحرفيها وبمنسوب الجريمة المتطور فيها، وصار المشي فيها أشبه بالمشي على النار، نار الخوف وعدم الطمأنينة من صائدي الفرائس البشرية الذين يصولون ويجولون وحدهم في أمن وأمان في قلب هذه الشوارع وكأنهم في مملكتهم الخاصة.

بالأخير لا يمكنني إلا أن أقول إن المدن الآمنة تبني نفسها بنفسها

2009/07/08

تكنوقراط الثقافة


التكنوقراطية كلمة أصلها يوناني تعني حرفيا حكومة الفنيين، والتكنوقراط كلمة مشتقة من كلمتين: التكنولوجيا وتعني المعرفة أو العلم، و"قراط" وتعني الحكم، وبذلك يكون معنى تكنوقراط حكم الطبقة العلمية الفنية المتخصصة.

والتكنوقراطيَّة حركة بدأت عام 1932 في الولايات المتحدة الأمريكية وكان التكنوقراطيون يتكونون من المهندسين والمعماريين والاقتصاديين المشتغلين بالعلوم ودعوا إلى قياس الظواهر الاجتماعية ثم استخلاص قوانين يمكن استخدامها للحكم على هذه الظواهر

وقد انتشر استعمالها بسبب التأثير الحاسم للتقنيات، أي للمناهج الصناعية في العالم الحديث وتعني صفة التكنوقراطي الشخص الذي يستند إلى كفاءته التقنية في ميدان من الميادين من اجل مد نفوذه وسلطته إلى ميادين اجتماعية أخرى تخرج عن اختصاصه، وتعيين أشخاص يملكون كفاءة تقنية وينظرون إلى المصلحة العامة من زاوية كفاءتهم المُحددة خطر على إدارة المجتمع كله.

صحيح أن إدارة المجتمع مسؤولية سياسية بالتعريف لكن التعقيد الذي أصاب الحياة الاجتماعية في المجتمع الحديث جعل السياسيين كثيرا ما يلجؤون إلى ايكال مهمة إدارة المجتمع للتقنيين الذين يتحولون عند ذلك إلى تكنوقراط...

في تونس يتناسل هذا الصنف التكنوقراطي الذي يدير عدد لا بأس به من دواليب الدولة، وخاصة منها الدواليب الثقافية، تلك التي يُفترض أن تنتهي إلى عقول مدبرة وطاقات خلاقة وكفاءاة تُجيد بناء الفعل الثقافي بأفق تأسيسي، وأعتقد أنه لم يعد خافيا اليوم على المطلعين على الشأن الثقافي، إدارة ومشاريع، أن الكثير من الذين يديرون شأن الثقافة خاصة في الدواخل وفي المناطق النائية لا علاقة لهم البتة بالثقافة، وهذا ليس كلاما فضفاضا ولا حكما في المطلق بل هو حقيقة واقعة، وقد روى لي مؤخرا أحد الأصدقاء حكاية غريبة هي بمثابة الطرفة المبكية فعلا، وهذا الصديق هو جامعي وناشط في الحقل الثقافي بشكل جدي، قال لي بأنه في أحد المرات وفي منطقة نائية تحول أحد المسرحيين مع مجموعته المسرحية لتقديم عرض بالمنطقة حسب اتفاق سابق وعقد مُمضى مع دار ثقافة المكان.

عندما وصل إلى هناك لم يجد مدير المؤسسة الثقافية، سأل عنه فدلوه على مكانه. اتجه المسرحي إلى باب خلفي بدار الثقافة فوجد جمع غفير من الناس يأكلون والنسوة يزغردن. اتجه إلى مدير دار الثقافة وقدم له نفسه فرحب به بعد أن اعتذر له عن نسيانه التام لعرضه المسرحي ثم دعاه مع فرقته المسرحية لأكل كسكسي حفل ختان ابنه وقال له بالحرف الواحد:"آش من مسرحية يا ولدي هاو الطبال والزكرة وأضرب الكسكسي باللحم وهات هاك العقد بتاع الفلوس نصححهولك".

هذه رواية من عشرات الروايات والحكايات التي تحدث في دور الثقافة وفي المؤسسات الثقافية المنتشرة ببلادنا والتي يأتيها إما من عُينوا بشكل اعتباطي في مناصب لا علاقة لهم بها واما لأنهم تكنوقراطيين يطبقون ما يُأمرون به ولا يجتهدون في تقديم برامج ثقافية ولنا أن نسأل مثلا أين نوادي السينما في المناطق الداخلية... وأين الفرق المسرحية المحلية وأين الندوات الفكرية والمسابقات الثقافية والأمسيات الشعرية والفقرات التنشيطية؟

إن ناد للسينما مثلا لا تفوق كلفته ألفا دينار على أقصى تقدير ومع ذلك لا يسعى المسؤول ولا يجتهد لتأسيس ناد سينمائي بل الأدهى من ذلك أنه يقوم بتعطيل من يحاول أو يفكر في تأسيس نادي سينما يعرض فيه بعض الأشرطة السينمائية وهذه مسألة باتت معروفة وفي أكثر من منطقة وأكثر من شخص روى لي التعطيلات السريالية التي تحدث له بمجرد أن يعلن عن رغبته في تأسيس أي فعل ثقافي...

2009/07/02

صيادون في شارع واسع

ليعذرني الروائي الكبير جبرا إبراهيم جبرا وأنا أستعير منه عنوان أحد أهم رواياته "صيادون في شارع ضيق" تلك التي تواترت أحداثها بين أمكنة متناقصة اجتماعيا، فمن الفنادق سيئة السمعة والمواخير إلى قصور العائلات العريقة، وقد يكون الشارع الضيق المشار إليه في عنوان الرواية هو شارع الرشيد ببغداد الذي احتل مساحة واسعة من الرواية، أما الصيادون فهم شخصيات الرواية المتهافتة تحت ضغط من المناخ الاجتماعي السائد في بغداد المدينة الممزقة بين الحضارة والبداوة وبين التقاليد والحداثة وبين الأصيل والدخيل... وقد قال عنها الناقد محمد عصفور :"انها سيرة شخص غريب في مدينة أو سيرة مدينة غريبة عن شخوصها قاسية عليهم."

ولا ازعم أني سأجاري الكاتب جبرا إبراهيم جبرا ضمن هذه المساحة، أو أحاكي شخوص روايته، وإنما استعرت منه العنوان فقط وتصرفت في تركيبه، فاستبدلت الضيق بالواسع لأصف فئة من الناس الذين يتحركون في أكثر من مكان في تونس بذهنية الصياد الذي يتوثب في الشوارع والأزقة والأنهج بحثا عن الفرائس البشرية بطريقة انتهازية ومبتذلة.

ولنبدأ من وجه البلاد كما يقولون، المطار، فمثلا في مطار قرطاج الدولي نلفي أصحاب سيارات التاكسي متوثبين، مترصدين للقادمين للانقضاض على فريسته وسلبه ما تيسر له من الدولارات أو الدينارات بعد رحلة ثعبانية يشفعها بتسعيرة خيالية للحقيبة...

في تونس اليوم أيضا ينتشر الصيادون في مآوي السيارات لسلب الموظفين البسطاء بتعلة حراسة سياراتهم وهي الآمنة أصلا، وينتشرون أيضا أمام محطات سيارات الأجرة بين المدن فتراهم يختطفون المسافرين عنوة ويركبونهم هذه السيارة دون غيرها، كما تراهم جالسين أمام دورات المياه العمومية يترصدون الداخلين اليها لابتزاز مائة من هذا أو مائتين من ذاك، وهذه الظاهرة باتت متوفرة حتى في النزل ففي قلب العاصمة لا يمكنك استعمال دورة المياه إلا بعد الاستظهار بتذكرة مشروبك!!!

الصيادون أيضا هم أولائك السماسرة الذين يبيعون الهواء للمشترين أو المكترين، فهناك من بات ينشر رقم هاتفه بصحيفة ما بعد أن يعلن أن لديه شققا وأراض للبيع ثم وبمجرد أن يتصل به مواطن يريه شقة من بعيد ويقول له بأنها للبيع وبها كذا غرف وسعرها مناسب ثم يلهف منه عشرين دينارا على الأقل.

صيادون محترفون ينتشرون أمام المحاكم ينهشون مآسي الناس الجاهلين بالقانون، وصيادون موسميون ينتظرون أوبة الطلبة لمقاعد الدرس لينهبوا عرق آبائهم وأمهاتهم بألف حيلة وحيلة... وآخرون "اختصوا" في اصطياد أصحاب الشهائد الباحثين عن العمل ونهبهم الملايين بحجة تشغيلهم... صيادون رسميون ينتظرون السيارات في عبورها بهذا الشارع أو ذاك ليغنموا عشره دنانير أو عشرون ... صيادون في الشواطئ يترصدون المصطافين والسائحين ليسلبوهم فرحتهم بيوم سباحة هادئ... صيادون يلتحفون اللحي ويطلبون التبرعات باسم المشاريع الخيرية... صيادون افتراضيون على شبكة الانترنت وعلى الهواتف النقالة، وباسم السفارات وشركات العمل، ينهبون المبحرين أموالهم... صيادون في الملاهي وفي الفضاءات التجارية الكبرى وفي القطارات والحافلات... وأمام البنوك ومكاتب البريد...

صيادون بحقائب وآخرون بملابس أنيقة وآخرون بزي العمل... يختلفون في ملابسهم وفي أساليبهم وفي طرقهم غير أنهم يتشابهون في ذئبيتهم المتوثبة دائما وفي انحدارهم الأخلاقي المسور بالصمت والتجاهل وغض الطرف، بل وحتى مساعدتهم والتستر عن ابتزازهم للناس...

صيادون ضيقوا الخناق كثيرا كثيرا على المواطنين فاستحالت الشوارع الفسيحة والواسعة إلى علب ضيقة جدا قابلة للانفجار في أية دقيقة...