بحث هذه المدونة الإلكترونية

2011/10/03

عروب الفالت ضد الحكومة



* بقلم: نـاجـي الخشنـاوي

يبقى السجن سجنا مثلما يبقى المجرم مجرما مهما كانت صفته، ومهما علا مركزه الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي أو الفكري، ولا فرق بين اسكافي فقير ووزير ارستقراطي في العقاب، مادامت أركان الجريمة متوفرة، ومادام كل الناس متساوين في الحقوق كما في الواجبات، غير أن هذه المسلمة يبدو أنها لا تنطبق إلا في السينما أو في الروايات، أما في الواقع فالأمثلة تعد على أصابع اليد الواحدة...

ولعل الذاكرة تسعفنا بفيلم "ضد الحكومة" الذي تنبأ فيه مخرجه عاطف الطيب منذ سنة 1992 بما يدور اليوم في أروقة المحاكم المصرية والتونسية، فهذا الفيلم الذي جسد فيه أحمد زكي شخصية مصطفى خلف المحامي الذي اعتاد التحايل على القانون باستغلال ضحايا حوادث الطرقات، ليحصل من أسرهم على توكيلات تطلب تعويضات يحصل عليها لنفسه محققا بذلك أرباحا طائلة. ومن تشابك تفاصيل الفيلم نصل مع البطل إلى درجة رفع دعاوى ضد وزير التعليم ووزير النقل ورئيس هيئة السكك الحديدية يتهمهم فيها بالإهمال، فيساومه لسان دفاع السلطة للعدول عن القضايا التي رفعها ضد الحكومة ثم يزج به في قضية تنظيم إرهابي ليلقى جميع أنواع التعذيب دون أن يتخلى عن موقفه، فأصبحت القضية قضية رأى عام وفي الأخير وافق القاضي على استجواب كبار المسؤولين.

كما يمكن للذاكرة أن تحيلنا على رواية عبد الجبار العش "محاكمة كلب" تلك التي تضعنا "منذ البداية في قاعة المحكمة، وإزاء شخصية ملتبسة وقضية لا تقل عنها التباسا، فالمتهم له مواصفات إنسان ولكنه يحمل في ظاهره ملامح من الكلب وفي باطنه شعورا عميقا بالتكلب" والكلب المتحدث عنه في الرواية "ليس قناعا للشخصية وإنما هو جزء من حقيقتها الاجتماعية والأنطولوجية وحتى الجسدية." وربما لذلك استعصت محاكمة عروب الفالت، بطل الرواية، رغم ترافع عميد المحامين العرب في قضيته والذي قال في ختام الرواية "نحن هنا نظرا لكون المواطن عروب الفالت ليس متهما عاديا في قضية عادية، بل انه في تقديرنا، يمثل بل يختزل نسغ روح هذه الأمة. انه التكثيف المأساوي للمواطن العربي في هذه اللحظة الجليلة من الألفية الثالثة... إن محاكمته هي محاكمة تاريخنا، فمن في مقدوره محاكمة التاريخ؟."

ولا يفوت من شاهد الفيلم أو اطلع على الرواية أن يمسك بذاك الخيط الشفيف الرابط بينهما والمتمثل في انزياح الأزمة الوجودية لشخصية "مصطفي خلف" في الفيلم وشخصية "عروب الفالت" في الرواية، وتحولها إلى أزمة اجتماعية بالأساس وسياسية بشكل معلن في الفيلم ومتستر في الرواية...

إن هذين المثالين يرفعان جسرا متينا ينقلنا من المتخيل إلى الواقع، أو من خطاب النص إلى خطاب السلطة على الطريقة الفوكاوية، فها نحن اليوم نبلغ آخر سيناريو فيلم عاطف الطيب وخاتمة رواية عبد الجبار العش، ونكاد نصدق نبوءتهما، وان تباينت، ونحن نتابع تتالي أسماء كبار المسؤولين سابقا يقفون أمام القضاء من أجل تهم الفساد بالخصوص وتورطهم في منظومة مافيوزية نخرت كل إمكانات النهوض بهذا البلد... من رئيس هارب بما ملك جبن مع أفراد من عائلته إلى وزراء ومديرين عامين ورجال أعمال وإداريين... يتم استنطاقهم بشكل يومي... منهم من تحصن بالفرار ومنهم من يقف خلف قضبان "ناعمة" بشكل تحفظي ومنهم من حجر عنه السفر... ملفات مفتوحة وأبحاث جارية أما الأحكام النهائية فمازالت قيد الغيب... الغيب!!! هل يوجد هذا المصطلح في نظام السلطة؟؟؟

يعلمنا ميشال فوكو أن السلطة تتفاني في ترويض أجسادنا دون أن تستعمل وسائل الإكراه والقمع بل "بالنظرة واللغة"، وها نحن نقف اليوم على انصع مثال في الترويض السلطوي من خلال إقامة ندوة دولية حول الفساد والرشوة والدعوة لإقامة هيكل مؤسساتي لمقاومة الفساد والرشوة واستغلال النفوذ!!! فمتى ينتهي موسم فتح الأبواب المفتوحة؟؟؟

هنا تتراص الأجساد المتعبة في زنزانات السجون التونسية (العمومية) ... يتقاسم المسجونون "القميلة"... أم ملتاعة تأتي من أقصى الجنوب لتعود ابنها المسجون في أقصى الشمال وفي يدها قفة بسيطة... كلمات محمومة تدور بينهما داخل "البارلوار" (غرفة الزيارة) تحت أعين الحارس... تقول له كل شيء إلا عن بيعها قطعة الأرض الوحيدة لديهم لتدفع أجرة المحامي...

وهناك يطلع علينا المتهمون في بهو المحاكم بربطات عنق قزحية وبدلات أنيقة وشعر مصفف بعناية... ابتسامات في وجوه القضاة وطوابير لا نهاية لها من المحامين... قنوات تلفزية ترصد المحاكمات وصحف تتابع الأخبار... سيارات فاخرة تزورهم أمام "سجنهم الخاص"...

الأكيد أن للقضاء مبرراته حول التأخير في التصريح بالأحكام حول من ثبتت التهم الموجهة إليهم، والأكيد أيضا أن تأسيس منظومة قضائية مستقلة وعادلة تستوجب وقتا طويلا وإرادة حقيقية... ولكن بالنسبة لي يبدو أن السجن لا يليق بغير الفقراء مادام حكرا عليهم كالأسواق الشعبية والمستشفيات العمومية وحانات الشوارع الخلفية...

سأستعير من الصديق فتحي بالحاج يحي فكرة ساقها في كتابه "الحبس كذاب والحي يروح" تلك التي تحدث فيها عن أغنية المطرب الفكاهي صالح الخميسي "يا بودفة شبحتنا" "تلك الأغنية الشهيرة التي تفاعل معها كل التونسيين وحفظوها عن ظهر قلب، وكأن فيهم توجسا بأنهم زائروه يوما لا محالة."

2011/10/01

ادرسْ‮ ‬لأننا نحتاج إلى ذكائك


في كتابه "دفاتر السجن" كتب الفيلسوف والمناضل الايطالي انطونيو غرامشي: "ادرسْ لأننا سنحتاج إلى ذكائك، حرّض لأننا سنحتاج إلى حماسك ـ نظّم لأننا سنحتاج إلى كل قوتك، فالأمير الحديث لا يستطيع أن يكون فردًا أسطورة إنما هو فقط يمكن أن يكون تنظيمًا".

أستحضر هذه المقولة المشحونة والمتقدة ونحن في مفتتح السنة الجامعيّة، نتابع عودة آلاف الطلبة إلى الجامعات والكليات التونسية، نستحضرها لأن الجامعة ليست فضاء محايدًا أو عابرًا بقدر ما هي نقطة تحوّل جذرية في حياة كل طالبة وطالب، فهي منارة علم وساحة نضال وبوابة نحو عالم أرحب، هو عالم الشغل، وأعتقد أن الجامعة هي التي تنحت الجزء المهم في شخصية الفرد الوافد عليها لما توفّره من علاقات مختلفة ومهمة في آن واحد، ولما تقدمه من زاد معرفي أكاديمي وثقافي، الفضاء الجامعي الذي يختلط فيه ابن العامل وابنة الفلاح بأبناء الطبقة البرجوازيّة، الفضاء الذي تتقاطع فيه خطى الآفاقيّين، أبناء الأرياف والمدن الداخلية بأبناء العاصمة والمدن الساحلية هي التي تؤججّ الشعور الايجابي لدى كل فرد ليقتلع مكانه الطبيعي والشرعي باعتباره طليعة المجتمع.الجامعة هي فضاء الإمكان والمبالغة... الفضاء الذي نٌعلن فيه حالة السعادة الدائمة...

إن الأفكار لا تنبت في السماء ولا تمطرها السحب، وإنما تختمر في العقول وتنعقد عبر الصّلة مع الآخر المختلف، والطالب الذي يراهن على ذكاءه وزاده النضالي وتماسكه الأخلاقي بين مقاعد الجامعة ومدارج الكليات هو الأقدر على تأثيث الجامعة التونسية "الَمحلٌوم بها"، الجامعة التي وهبت هذا الشعب كوادره الفكرية والعلميّة وساهمت، باعتبارها جزءًا من الحركة الشعبيّة، في بناء دولة حديثة وعقلانيّة...

الجامعة اليوم، يخفت بريقها بفعل نظام همّش أفقها وقلّص من دورها وحولها إلى مؤسّسة ميّتة... فشلت حتى في إخراج جيل قادر على المشي باعتداد في الشارع... جيل لم يتخلّص من "فكر" الانسجام واليقين والثّابت... ولم يتجرّأ على فكر الاختلاف الذي يمر حتما بفكر الصراع... جيل توغَّلَ بعيدا في الفراغ المعرفي واليباب الاخلاقي...

اليوم، وفي انتظار تثوير الطاقات الأكاديمية، وأن تلعب النخب الجامعية دورها الحقيقي قد يعود الأمل إلى هذا الفضاء ليرسخ في ذهن كل طالب انه لا وجود لغير الواعي بوجوده، وأن الدرس الحقيقي هو التدرب على فن العيش والتعايش، التعوّد على الصراع والمقاومة لكل أشكال التّشيُّؤِ، وان الدرس الحقيقي هو نزع الأقنعة عن الأساطير الزائفة وإنتاج البدائل المجتمعيّة الأمثل، فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل إن الحرية والخبز ينبتان على ساق واحدة...

أعتقد أن الطالبة والطالب اليوم على مرمى إصرار من إعادة الوهج إلى الجامعة التونسية حتى تكون فعلا جامعة شعبية بشروط تعليم ديمقراطي ومَقاييس ثقافة وطنيّة نقديّة، وحتى تصبح الحركة الطلابيّة جزء لا يتجزء من الحركة الشعبيّة الناهضة اليوم من جلباب الدكتاتورية رغم بقاياها الناتئة هنا وهناك...

"ادرسْ لأننا نحتاج إلى ذكائك" هكذا قالها غرامشي الذي كان مثلكم طالبا في الجامعة، ناضل بحماس، درس بنجاح ومات لأجل الحرية...

لا تكن مثل غرامشي أيها الطالب... كن فقط كما أنت، ذكيّا، ومناضلاً تتقد حماسًا وتتنفس حريّة...

وكن مواطنا عنيدا في فكرك، متسلّحا بالتَّحدي وفي تشكك مستمر... ولتزرع القلق أيْنما وليت وجهك في الثقافة المطمئنّة والمستكينة...

2011/09/19

نـعـم سـنقـول‮ ‬لا‮ " ‬‬تَوْ‮ ‬تَوْ‮"


لا يختلف تونسيان في أن التجربة السياسيّة في تونس كانت مشوّهة ومشلولة لأسباب يعلمها القاصي والداني ويمكن أن نُجملها في دكتاتورية الحكم في "جمهورية" ما بعد الاستقلال بنسختيها البورقيبيّة والنوفمبريّة...

والتجربة السياسية موصولة حتمًا بالوعي السياسي، هذا الذي انحسر طيلة نصف قرن فيما يُعرف بالطبقة السياسية في مختلف تلويناتها وخطوطها، بمعارضتها وموالاتها، وهو ما ساهم في غلق قنوات التواصل بين "الطبقة السياسيّة" والقواعد الجماهيرية المعنية بالشأن العام فظلت تلك الجماهير طيلة حكم بورقيبة وبن علي "بضاعة مٌعلَّبة" تُباع وتُشترى زمن "المسرحيات الانتخابية" السابقة...

أمّا اليوم، ورغم عدم التخلّي عن سياسة القطيعة بين ما اصطلح عليه بالنخبة وبين الشعب، ورغم تعدّد المؤشرات السلبيّة والسالبة لمواطنة المواطن، فإنّ التجربة السياسية التي سيُقدم عليها الشعب التونسي من خلال المشاركة في انتخاب أعضاء المجلس التأسيسي الوطني تحمل في عمقها عديد المؤشرات الممكنة للقطع مع سياسة الوصاية والاستحواذ على إدارة الشأن العام... ويكفي اليوم أن يجلس كل مواطن إلى نفسه ويسأل كيف سأختار من يمثلني ولماذا؟ هذا طبعًا بعد ان يكون قد آمن بأن صوتًا واحدًا من شأنه أن يحدّد وجهة هذا المجلس والكف عن الاستخفاف بقيمة الصوت الواحد... وبالتالي بقيمته إنسانا أولا ومواطنا ثانيا.... وهي الدرجة الأولى للدخول في التجربة السياسيّة... بوعي بسيط، ولكنَّه عملي في مرحلتنا الراهنة...

نعم أنا مواطن، نعم أنا مواطنة... نعم من حقنا ومن واجبنا أن نقول "لا"... ولكن لمن سنقول "لا" ولماذا؟

أمّي، أبي، أخي، أختي، جارتنا، بائع الدجاج، سائق التاكسي، عامل البلديّة، الطالب، المعلم، الممرضة، الفلاح، الميكانيكي، الخبّاز... كل الفئات الشعبيّة وكل القطاعات وكل الجهات وكل مواطن تونسي قادرٌ ـ من موقعه ـ أن يُنجح الانتخابات لو فكّر بطريقة عكسيّة، أي قبل أن يقول "نعم" لهذا المرشّح عليه أن يعرف لماذا سيقول "لا" للمترشح الآخر... وأعتقد أن القرائن المعزّزة لقول "لا" ملقاة على قارعة الطريق بفضل ما راكمته السياسة السابقة من غباء مفرط من جهة وبما يأتيه اليوم بعض السياسيين من تكالب وتهافت غبي على السلطة من جهة ثانية ليكونوا بذلك أوفياء للذهنية التجمعية... وهذا ما سيسهل عمليّة الفرز بين القوائم التي قد تبدو كثيرة ـ بعد أن هوَّلَتها وسائل الإعلام والحيوانات السياسيّة المٌصابة بإسهال كلامي لتعسير المهمة على المواطن ...

إذ يكفي مثلاً أنّ "أمّي" لا تعرف حزب العمال الشيوعي التونسي ولا حركة الوطنيين الديمقراطيين ولا حركة التجديد ولا الاتحاد الوطني الحرّ ولا حزب الوطن ولا حزب الوحدة الشعبية ولا حزب التنمية والعدالة ولا الجبهة الشعبية التقدمية ولا الحزب الدستوري الجديد ولا حزب التكتل ولا التحالف الوطني للسلم والنماء ولا حركة النهضة ولا حزب الإصلاح والتنمية...

لا تعرف هذه الأحزاب وغيرها، ولا رؤساء القوائم، ولا المناضلين التاريخيين أو القادمين اليوم على بساط الدولار والأورو... لا تعرفهم رغم المعلقات الاشهارية الضخمة ورغم الومضات اليومية في التلفزات والإذاعات والصحف....

"أمّي" لا تعرف هذه الأحزاب ولا باقي قائمة المائة ولكنها تعرف بالاسم والفعل في مدينتها أن من كان مع "التجمع" سابقًا يحرم الفقراء والمحتاجين من علب الطماطم والزيت والأقلام والكراسات ويأتي اليوم في جبّة جديدة وتحت يافطة حزبيّة مفضوحة ستقول له "لا"... "لا" أيها التجمّعي لن أمنحك صوتي.. ولن أمنحك فرصة جديدة لمواصلة ما جٌبلتَ عليه من زيف وسرقة وكذب وبهتان...

"أمّي" ليست مُتعلّمة ولم تدخل مدارس أو جامعات ولكنها تبكي كل يوم من غلاء أسعار الخضر واللحم والغلال ومواد التنظيف...(وفي لاوعيها تسأل لماذا لا يساعدها والدي في الطبخ والتنظيف)... وبوعيها المحدود تعرف أمي أن حٌفَرَ الطريق أمام دارها تسبب فيها بدرجة أولى المسؤول البلدي التجمعي الذي يعتني بما أمام بيته فقط، وأن فوانيس الشارع الأمامي مٌعطبة بفعله هو... وأن المدينة تفتقر إلى محطة سيارات الأجرة وأن مياه الرَّي لا تٌوَزّعٌ بالعدل بين الفلاحين، وأن الطلبة يٌحرمونَ من المنح الجامعية لأنهم لا ينتمون الى طلبة التجمع؟؟؟ وتعرف أيضا أن المسؤولين السابقين أقاموا "شكلا حجريَّا" في مدخل المدينة بمئات الملايين وقالوا إنّه تمثال وأن المستشفى والمدارس والمعاهد والمؤسسات الثقافية والأراضي والبنية التحتية كلها تخلّفت بفعلهم هم... ولذلك ستقول لكل النسخ التجمعيه "لا" ثم "لا"...

"أمّي" أيضًا تُصلي وتصوم وتقيم فرائضها الدينية وتتمنّى ان تزور البيت الحرام ومع ذلك لم تُلزم أختي يومًا ما بارتداء الحجاب عنوة وهي لذلك ستقول "لا" لأصحاب المشاريع الظلاميّة المتسترين بواجهة بلوريّة سيهشمونها بعد قليل... ستقول "لا" وهي التي لا تستطيع أن تلفظ تركيب "مشروع ظلامي".. ولكنها تعرف ان ابنتها من حقها أن تشتغل ولا تبقى في البيت تنتظر رجلاً... وتعرف أنها هي وحدها المسؤولة عن اختيار الحجاب من رفضه...

"أمّي" سَتٌكَوّنٌ وعيّا سياسيًّا بسيطًا يشبهها، وستساهم من موقعها في انتخابات المجلس التأسيسي وسأساعدها على فرز صوت الحداثة والعقلانية والعدالة الاجتماعية والديمقراطيّة... وهي التي لا تعرف هذه المصطلحات والمفاهيم، ولا تدري ما معنى الانتقال الديمقراطي والتداول السلمي على السلطة والتوزيع العادل للثروات بين الجهات والقطاعات... وسأقنعها بأنّه حتّى لو لم يُثمر صوتها وصوتي ما نحلم به فإنه تكفينا المساهمة الإيجابية أولاً من موقعنا البسيط وسأقنعها أيضًا، وهي تعرف ذلك، أننا كثرٌ جدًا في البلاد... وأن ما ستفعله هي ستقوم به امرأة أيضا من بنزرت وأخرى من جربة وثالثة من بن عروس لأنهن يلتقين في الألم والفقر.. وفي الحلم...

وأمي أيضا لا تعرف أن مدينتها وكل المدن التونسية والوضع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في وطننا لن يتَحَسَّن "تَوْ تَوْ" على الطريقة "الرَّيَاحيَّة"، تعرف ذلك وهي التي سألتني لماذا كل تلك الاشهارات لحزب "تَوْ تَوْ"المرسومة على اللوحات الكبيرة وعلى الحافلات وفي التلفزات؟ سألتني لماذا لمْ يَشْتَرِ هذا الحزب مثلا حاويات فضلات ويوزعها على الأحياء والشوارع في المدن ويكتب عليها شعاره الانتخابي، وقالت لي بالحرف الواحد "على الأقل نربحوا حويجة مفيدة"...

نعم سَنَقٌولَ "لا" أنا وأمي وأختي وزوجتي وأخي... للمشروع الاستبدادي القادم من بقايا التجمّع وللمشروع الاستبدادي المتسترّ بكلام اللّه زورًا وبهتانًا... لأن "تشبيك الأصوات الانتخابية" ممكن ومتاح لكل مواطن بسيط يعلم أن انتخاب المجلس التأسيسي ليست عملية إيديولوجية بقدر ما هي عملية سياسية تخضع للمعادلات الحسابية المضبوطة...

سنقول "نعم" يوم 23 أكتوبر للقائمة التي تٌشبهٌنَا والتي لن تتردَّدَ في كتابة دستور مَدَني سيضمن حتما لأمي أن تؤدي فريضة الحج دون أن يسرقها صاحب وكالة أسفار حفر على جبينه علامة الصلاة وهي براء منه ومن أفعاله... دستور يؤكّد أن الإسلام جزء من الهوية التونسية وليس كلها، وأن السرقة جريمة في حق الوطن قبل أن تكون في حق مواطنة بسيطة مثل أمي "فضيلة"...

2011/09/16

رؤوف كوكة يهزم عبد الفتاح مورو





هل يمكن أن نجري مقارنة بين مخرج محترف يجيد ملاعبة الكاميرا والوقوف خلف عدستها باعتداد وتوثب، وبين منشط تلفزي يقدم برنامجا تلقينيا يقف أمام عدسة الكاميرا وينتظر توجيهات المخرج لحركاته وسكناته؟
هل تجوز مقارنة المخرج رؤوف كوكة بالمحامي عبد الفتاح مورو الذي نشط برنامجا تلفزيا؟
قد تجوز مقارنة من هذا القبيل بعد أن انتهت أيام رمضان وانتهت معها العادات التي يتدثر بها التونسيات والتونسيون في هذا الشهر دون سواه لتعود ألسنتهم إلى ما التصق بها من سقط الكلام وأياديهم إلى ما استطاعت إليه سبيلا من الحركات المشبوهة، وبالمثل تعود أرجلهم إلى سالف أمكنتها وفضاءاتها بعد أن أنهوا واجبا لا مفر منه...
المقارنة تبدو ممكنة بعد أن انتهت البرامج التلفزية التي تتكدس في هذا الشهر دون سواه، ورغم البعد السياسي الذي ميز برمجة هذا "الموسم الرمضاني" فان مآل البرامج التلفزية، كالعادة، منذور إلى النسيان وفي أقصى الحالات إلى "تيمة" إعادة البث بعد شهر أو شهرين...
ومن بين برامج هذه السنة التي "منت" بها الثورة على المشاهد التونسي، برنامج "الكاميرا الانتقالية" الذي قدمه رؤوف كوكة وبرنامج مستحدث على قناة حنبعل بعنوان "صحة شريبتكم" لعبد الفتاح مورو، وان جازت المقارنة بينهما فان النتيجة التي يمكن أن نظفر بها هي هزيمة مورو أمام كاميرا كوكة، والهزيمة هنا رمزية من جهة التنافس الطبيعي بين القنوات التلفزية على استقطاب أكبر عدد من المشاهدين خاصة أن البرنامجان يبثان في نفس التوقيت تقريبا، وهو ما يفترض "صراعا" خفيا بين القناتين على نسبة المشاهدة وبالتالي قيمة الاستشهار التلفزي.
هزيمة رؤوف كوكة لمورو يمكن أن نقرأها من عدة مداخل، مشهدية وسيميولوجية وايتيقية، وحتى السياسية، فبرنامج الكاميرا الانتقالية اعتمد على الحركة والتنوع وتعدد الفضاءات في حين ظل برنامج صحة شريبتكم ساكنا يدور في نفس السياق اللغوي وفي ذات الفضاء والديكور الفاخر جدا كملابس مقدمه... وكان البرنامج الأول ذا طبيعة تفاعلية تشاركية لعب فيه المواطن دور "البطل" (ولو لدقائق) في حين أن البرنامج الثاني كانت فيه العلاقة بين الباث والمتقبل علاقة عمودية فوقية اعتمدت الأسلوب التلقيني الوعظي التي تحول معها المشاهد إلى تلميذ منضبط لتعاليم المدرس في الفصل... يستمع ولا يناقش...
هزيمة كوكة لعبد الفتاح مورو تتجلى أيضا من خلال ردود أفعال المواطنين الواقعين في كمائن مخرج الكاميرا الانتقالية، فهذا المواطن الذي التصقت به شتى النعوت والصفات السلبية باعتباره إفرازا من افرازات المجتمعات المعلبة "المابعد عولمية" برهن بطريقة عفوية وتلقائية عن طينة أخرى للمواطن الايجابي فعلا من خلال تصرفات وسلوكات اتسمت مجملها، إن لم نقل كلها، فيما تعرفه فلسفة حقوق الانسان بالأخلاق المواطنية، في حين أن البرنامج الإرشادي لعبد الفتاح مورو ظل متعاليا في برج التنظير الفضفاض حيث اللغة تعلو أكثر إلى سماء أخرى تنأى عن أوجاع هذه الأرض السفلية...
إن النتيجة التي يمكن أن نخرج بها هي أن برنامج رؤوف كوكة قدم لنا صورة عن المواطن الموجود بالفعل في ثنايا الأزقة والشوارع والمؤسسات الإدارية في تونس، في حين ظل البرنامج الثاني يرسم صورة "منتظرة" أو محلوم بها للمواطن الموجود بالقوة من خلال تكريس خطاب الأخلاق أو ما يُعرف بخطاب "ما يجب أن يكون"...

2011/08/29

وزارة التنمية والكتاب الأبيض أو التفكير بالنيابة


ستنظم وزارة التنمية الجهوية في الأيام القادمة ملتقى وطنيا لتقديم نتائج أعمالها للأشهر السبعة المنقضية. أعمال تركزت في محاضر جلسات أجراها ممثلو الوزارة في مختلف الجهات وتم خلالها تدارس الوضع التنموي في كل المناطق وجمعها وتوثيقها في كتاب اختارت له الوزارة عنوان "الكتاب الأبيض" تهدف من خلاله إرساء استراتيجيا تنموية هدفها تغيير واقع الجهات على مستوى التهيئة العمرانية والبنية الأساسية والحَوْكَمَة والحكم الرشيد ودور المسؤول الجهوي والمحلي... ومن ابرز المقترحات إعادة تقسيم الجهات اقتصاديا من خلال تقسيم الشريط الساحلي إلى خمسة جهات أو ما يشبه الأقاليم الاقتصادية من أجل ربط الجهات الداخلية بالساحلية.

ودون التقليل من جهد الوزارة في هذا المنحى إلا أنه من الضروري أن نبدي بعض الملاحظات التي نراها ضرورية، فأول الملاحظات التي يمكن استنتاجها هو استفراد الطرف الحكومي ـ كالعادة ـ بوضع الخطط الإستراتيجية والتفكير نيابة عن باقي الهياكل وعن المواطن في حد ذاته، فمن خلال هذا التمشي نتبين أن وزارة التنمية المؤقتة عولت على هياكلها دون غيرها، و"أقصت" أو لنقل "تجاهلت" الأطراف الأخرى من أحزاب وجمعيات ومنظمات، وخاصة منها الاتحاد العام التونسي للشغل في صياغة مشروع "الكتاب الأبيض"، وما ستقوم به في الملتقى المزمع تنظيمة لا يعدو أن يكون ذرا للرماد في العيون وإيهام بالحوار وتشريك جميع الأطراف المعنية، وهي ذات السياسة وعينها التي كان ينتهجها النظام السابق ولم تعد على هذا البلد إلا بالوبال...

الاستنتاج الثاني الذي يمكن أن نقف عليه هو أن وزارة التنمية الجهوية، ومن ورائها الحكومة، تستبطن عن غير قصد (أو عن قصد) الإقامة الدائمة في مواقع القرار والحكم، ذلك أن خططها واستراتيجياتها لا يمكنها بأي مقياس أن تكون لمدة وجيزة لا تتجاوز المدة التي تفصل الشعب التونسي عن أول استحقاق انتخابي نتمنى أن يكون حقيقيا... فالمنطق يقتضي أن تنتهي مهام الحكومة المؤقتة ليتم تشكيل حكومة جديدة سيرسم معالمها أعضاء المجلس التأسيسي المنتخبون، وحتى إن سلّمنا أن بعض الأسماء ستواصل مهامها الوزارية المناطة بعهدتها الآن لإجماع حولها أو ثقة حازتها، فإن المرحلة الراهنة لا تٌلزم أحدا بوضع الخطط والاستراتيجيات طويلة الأمد بقدر ما تتطلَّب حنكة في تسيير الأمور الإدارية وعَقْلنة المطالب الشعبية فقط.

الاستنتاج الثالث أيضا الذي يمكن أن نستشفه من "حركة" وزارة التنمية، هو إهدار المال العام والجهد البشري في تنظيم مثل هذه الأعمال والبحوث والدراسات، خاصة إذا علمنا أن النظام السابق كانت جل دراساته وخططه التنموية "رائدة" نظريا وعلى الورق فوق مكاتب الوزراء والمديرين والولاة والمعتمدين، غير أن تطبيقها على أرض الواقع كان مشلولا بقصد وبوعي كبيرين غذاهما الفرز الجهوي والطبقي الذين انتهجتهما العائلة الحاكمة سابقا بمعية أعوانها ومباركة الرأسماليين المنتفعين من هذا الفرز... دراسات تنموية أوهمت بالعدالة الاجتماعية والتوازن الجهوي ودولة الرفاه والرخاء، مثلها مثل الدراسات "الحقوقية" التي كانت تدبجها الأقلام المتمعشة من النظام النوفمبري والتي حولت تونس إلى أيقونة للحريات العامة والفردية وللديمقراطية واحترام حقوق الإنسان... دراسات جعلت المنتظمات الدولية تعتبر تونس "معجزة" على وجه الأرض...

الاستنتاج الأهم أيضا في تقديري، هو التجاهل التام للدراسات الميدانية التي أنتجتها كفاءات علمية وأكاديمية في صلب الاتحاد العام التونسي للشغل الذي آل على نفسه أن يضرب المثال العملي في بناء تونس لكل التونسيات والتونسيين، فالاتحاد العام التونسي للشغل يشبه خلية نحل لا تكل ولا تمل من إنتاج المعرفة ومراكمة التصورات والاقتراحات العملية الرصينة ذات المنطلق الواقعي والأفق الاستشرافي، والصبغة التنويرية التي تُشع على كامل البلاد أرضا وشعبا، ومن ينكر قيمة هذا المشروع لا يتوانى في الاستئناس بنتاجاته المعرفية ومعطياته العلمية وخاصة تصوراته ومقترحاته في السر وفي العلن، ولعل خير مثال على كلامي آخر الدراسات المنجزة في هذا السياق وأعني به كتاب "التنمية الجهوية بولاية سيدي بوزيد: بين الواقع المكبل والإمكانات الواعدة"، كتاب لم يكن ابيضا ولكنه برهن على الاقتناع التام بأن بناء الدولة التونسية ليست مسألة شخصية تهم هذا الشخص دون غيره أو هذه الوزارة دون سواها أو هذا الحزب دون شبيهه أو تلك الفئة دون بقية الفئات... كتاب أعد مثله الاتحاد كتبا أخرى عن الكاف والقصرين وجندوبة وقفصة... وكان أولى بوزارة التنمية الجهوية أن تعتمد هذه المنشورات كمرجع أو أرضية لعمل مشترك وبناء وطني تتعانق فيه الأفكار وتتشابك فيه الأيادي بعيدا عن منطق الوصاية والاستفراد بالرأي، فالبيت بيتنا جميعا والبناء يعنينا معا ونجاح الكتاب لا يكون إلا بتقاسم متنه بين الكاتب والقارئ.

2011/08/26

أحمد بالنور والانتخابات وكلمة السر



طالعت في إحدى الأسبوعيات الجديدة حوارا مع السيد أحمد بالنور المدير العام الأسبق للأمن أتى فيه على علاقته بالمنظومة الأمنية في عهد الحبيب بورقيبة وخصوصا حادثة قصف الإسرائيليين لمدينة حمام الشط في غرة أكتوبر1985 كما تحدث في الحوار عن بن علي الجاسوس للنظام الليبي والموساد، واختتمت الصحيفة حوارها مع أحمد بالنور بالحديث عن إمكانية تزوير انتخابات المجلس التأسيسي المزمع انجازها يوم 23 أكتوبر
,2011 خاصة أن قائمة الناخبين لا تزال في أدراج مكاتب وزارة الداخلية وفي أيدي المتنفذين في هذا الجهاز.

مدير الأمن الأسبق، السيد أحمد بالنور، قرن عملية تزوير الانتخابات في العهد السابق بما أسماه "كلمة السر"، تلك التي "تخرج من وزير الداخلية إلى الوالي بسرية تامة ودون علم أي كان".

السيد بالنور قال أيضا في ذات السياق:"لسنا في حاجة إلى اللجنة العليا المستقلة للانتخابات... ولا أرى أي موجب لوجودها".

إن مثل هذا التصريح يجعلنا نستنتج بكل يسر أن السيد أحمد بالنور قد "تَفَّهَ" ثاني أهم مرتكزات النظام السابق، بعد الأمن، وأعني به تزييف العملية الانتخابية والإصرار على نسبة 99 بالمائة.

فالتزوير الذي ورثه نظام السابع من نوفمبر عن نظام المجاهد الأكبر (بشهادة الباجي قائد السبسي أحد وزراء بورقيبة) لا يقتصر على وزير الداخلية والولاة فحسب بل إن أطرافا عديدة تساهم في العملية، وأول هذه الأطراف هي الأحزاب الكرطونية التي كان يستخدمها النظام السابق شمَّاعة برَّاقة للإيهام بالتعددية السياسية وبالتنافس على مقاعد الحكومة.

كما أن وسائل الإعلام البنفسجية كانت تلعب دورا مفصليا في عملية التزييف، فقبل الانتخابات تنهال التلفزة الرسمية والإذاعات والصحف على المواطن ببرامج التمجيد ومقالات التفاخر بانجازات التحول وبأن حامي حمى الدين هو الوحيد الأوحد القادر على مواصلة مسيرة البناء والانجاز، أما بعد الانتخابات فان أبواق الدعاية التي تكون قد أخذت نصيبها من الوليمة من خلال الاشهارات والعطايا والهبات، فان مهمتها الأساسية هي شن حملات تشويه وتخوين ضد كل من يشكك في شفافية وديمقراطية صندوق الاقتراع، وخاصة ضد بعض المناضلات والمناضلين والجمعيات والمنظمات المستقلة.

الطرف الثالث المساهم في تزييف الانتخابات هي الدوائر الخارجية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا بالخصوص، فرغم علمها بزيف العملية الانتخابية فإنها تسارع لمباركة نتائجها وتفوق تلميذها النجيب الذي سيواصل رعاية مصالحها الاقتصادية والعسكرية والجيوسياسية بكل تفان وإخلاص، كما أن هذه الدوائر "تطوع" بعض وسائل اعلامها لتقديم النموذج التونسي مثالا يحتذى به في النمو الاقتصادي والرفاه الاجتماعي والمناخ السياسي الديمقراطي...

الجزء الأول من تصريحات السيد أحمد بالنور يجعلنا أيضا نستنتج أن كل وزراء الداخلية في عهد بن علي على الأقل وكل الولاة متهمون بتزوير الانتخابات، الرئاسية والتشريعية والبلدية، وبالتالي انتهاك دستور البلاد وهو ما يترتب عليه اليوم أن يقفوا جميعا أمام القضاء.

أما الجزء الثاني من كلام المدير الأسبق للأمن، والمتعلق بنفيه لجدوى دور اللجنة العليا المستقلة للانتخابات فهو أيضا فيه نظر ومنه استنتاجات كثيرة، فمن حق هذا الشعب أن يتشبث بأية بارقة أمل صادقة، أو شبه صادقة، لتأمين عملية الانتقال الديمقراطي المرجوة والتي لا ينتظرها الشعب التونسي فقط، بل كل العالم، والتشبث بهذه البارقة مأتاه أن عدة مؤشرات لا تٌنبىء بمحو "كلمة السر" من ذهن السياسيين الجدد والقدامى، ومن وزارة الداخلية في حد ذاتها التي لن تتحول بقدرة قادر وفي ظرف نصف سنة إلى مؤسسة محايدة، هذا فضلا عن سلك الولاة الحالي الذي تتم عملية تعيينه وفقا للأهواء والمصالح والرغبات والولاءات، كما أن مسألة المال السياسي والتلاعب بالأصوات الانتخابية تزداد حدة اليوم بين من تربى على شراء ذمم الناس بالترهيب والترغيب وبين طامع جديد في كرسي القصر... ولا ننسى طبعا تعويم المشهد السياسي بعد الثورة بأكثر من مائة حزب وهو مدخل منهجي إلى التّزييف والتّدليس.

كما أن الجزء الأكبر من المؤسسات الإعلامية، وبعد تغيير جلدتها لأيام معدودات، عادت إلى طريقتها ونهجها واستكثرت على أقلامها ومصادحها ما وفره لها شهداء الثورة من هامش للتحرر والحرية من قيود الرقيب والخوف، ووسائل الإعلام كما نعلم، ومثلما نلاحظ اليوم، لها دور مهم في تحويل وجهة الناخبين إلى هذا الحزب أو ذاك... بل إنها اليوم تمعن في التحريض الغبي للفئات الشعبية ضد القوى الديمقراطية والحداثية مستغلة في ذلك طبيعة انتخابات المجلس التأسيسي التي هي بالضرورة "كمية" تقوم أساسا على عدد أصوات الناخبين "المجهَّلين" الذين لا يملكون حدا أدنى للتفريق بين التوجه اليميني المتطرف الذي سيكرر منظومة الاستبداد في أشكال أخرى وبمعايير مغايرة، وبين الأفق الديمقراطي الحداثي الذي يؤمن إلى حد كبير بإمكانية بناء تونس أخرى لكل التونسيين دون تمييز أو ظلم أو استبداد...

في الأخير أقول للسيد أحمد بالنور المدير الأسبق للأمن بأن تزوير الانتخابات لا يمكن أن نختزلها في "كلمة سر" بل هي كتاب دهاء ومكر ونذكره بأن الطوباوية المفرطة لا يصدقها إلا المراهقون السياسيون...

2011/08/25

الموت لا يعرف النوايا الحسنة




ربما الطريقة المثلى لإيقاف تدحرج كرة النار المشتعلة بين تصريحات المقدم سمير الطرهوني والوزير السابق للداخلية أحمد فريعة بشأن إصدار الأوامر لإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين بشارع الحبيب بورقيبة والشوارع المتفرقة عنه يوم 14 جانفي وقبله وبعده أيضا، تتمثل حسب رأيي في ترتيب برنامج تلفزي يستضيف الشخصين حتى يتبين الشارع التونسي الخيط الأبيض من الأسود، وتكون بينهما "مكافحة" على الهواء مباشرة قد تساهم ربما في إخماد النار الملتهبة في صدور أمهات الشهداء ولدى الرأي العام، ولما لا تكون طريقة جديدة في تقصي الحقائق والكشف عنها...

فالثابت أن الشهداء الذين سقطوا برصاص "الحاكم" هم الدليل القاطع على أن هناك من أصدر أمرا جللا لإخماد الأنفاس الثائرة بطريقة إجرامية ووحشية، ولأن الاتهام واضح ولا لبس عليه لوزير الداخلية السابق والأمين العام المستقيل من حزب سياسي جديد منحه إياه زميله في وزارة الداخلية، فما على السيد أحمد فريعة إلا أن يمثل للقانون أو يثبت بطلان التهمة الموجهة إليه علنا ويرفع قضية في الادعاء بالباطل في حقه ضد السيد سمير الطرهوني.

وإذا كانت الحكومة الانتقالية قد منحت هذا الوزير رخصة حزب سياسي، ونفس الحكومة رتبت تفاصيل الندوة الصحفية للمقدم سمير الطرهوني ببهو الوزارة الأولى بعد سبعة أشهر وأمنت "سبقا" صحفيا لقناة "نسمة" (لا ندري لماذا قناة نسمة بالذات ؟؟؟) لاستضافة المقدم أو "بطل المطار الذي رفض الرئاسة" على حد وصف أحد الصحف السيارة، إذا كانت الحكومة الانتقالية غير بعيدة عن هذه التفاصيل فالأكيد أن جل الحقائق، إن لم نقل كلها، بحوزتها.

ثم إن "الكرطوش الحي" الذي أمر المخلوع في خطابه الأخير بالكف عن إطلاقه، كان يحصد أرواح المتظاهرين قبل أحمد فريعة، وكان بحوزة المؤسسة الأمنية والمؤسسة العسكرية، ولدى بعض العصابات المتنفذة التي تتاجر بالسلاح والذخيرة ومازالت إلى اليوم طليقة... مما يعني أن الذين يتبادلون اليوم التهم فيما بينهم هم كلهم في سلة واحدة، وان اختلفت النوايا، لأن الموت لا يعرف النوايا الحسنة؟؟؟

إذن مسالة الرصاص الحي تشبه حقل الألغام الموقوت المعدل بعقارب ساعة خبيثة تتقن اختيار التوقيت المناسب والاسم المناسب لحياكة سيناريو مشوق يأخذ الألباب ويسيل حبر الأقلام ويسرق عدسات الكاميرا من نبض الشارع وهموم المواطن، فكل رواية جديدة تمحي ما سبقها، وكل اسم جديد يتوارى خلفه الاسم القديم وهكذا دواليك تستمر الأطراف المتنفذة في حياكة كمامة ملائمة للمطالبين بالعدالة الحقيقية وبإنجاح أهداف الثورة...

أطراف تقاسمت الأدوار، وجندت بعض وسائل الإعلام (التي لم ولن تتخلى عن جبتها القديمة) لإلقاء الطعم في كل مرة للمواطن التونسي وتلميع صورة "بطل وطني" جديد حتى أني قرأت "تحليلا صحفيا" بعنوان "معجزة الواحد الأحد" فأهلا بزمن الأنبياء الجدد أصحاب الرصاص الحي الملثمون بالدهاء، ومرحى لنا بالوطن الزريبة الذي تتناطح فيه أكباش الفداء وتتناسل فيه الذئاب...

إن هيبة الدولة المزعومة لن تجد مكانا لها وسط حقل ألغام من المتفرقعات الكلامية الذي يُنثرُ هنا وهناك، كما أن هذه الهيبة لن تتحقق بسياسة الاستغباء التي تتبعها الأجهزة المتكلسة لدولة ما قبل الثورة، وحيل الالتفاف على أمل الفقراء والمعطلين والمهمشين لن تنطلي عبر أجهزة إعلام لم يستوعب أصحابها أنهم يمثلون سلطة في حد ذاتها وليسوا بيادق يتكلمون بأمر ويصمتون بأخر...

2011/08/03

الدولة الصفر


يعرف أهل القانون الدولة بما هي وحدة لثلاث عناصر هي الأرض أو الإقليم والشعب والسيادة، ولسائل اليوم أن يسأل عن ما آلت إليه هذه الأركان الثلاثة.

فأما الأرض، ففي بلداننا لم يبق لها من وجود حقيقي وقد فقد حدود ملكيته الوطنية. تتقلص مساحات السيادة على كل شبر منه بالتفويت فيه إلى رأس المال الأجنبي وتتعالى الأصوات منادية برفع الحدود بين الدول بينما قوارب الموت تشهد على أمرين أولهما الهروب من هذا الإقليم الذي سُلبنا الإحساس بالانتماء إليه ثم ارتفاع صرح جدران بلدان ترفع شعار رفع الحدود وتضع في ذات الحين لأقاليمها حراسا يمنعون اختلاط الأجناس.

وأما الشعب فقد عرف مفهومه انزياحا نحو مفهوم السكان وأقصد بذلك أن الشعب هو الذي يصبو إلى تغيير أوضاعه طامحا إلى التحرر والتقدم والرقي ويمارس في سبيل ذلك كل الوسائل السلمية وحتى غير السلمية في اتجاه إقامة مثلى تحقق له الاستقرار والكرامة والنمو على أرضه، أما السكان وهو المفهوم الذي حل محل مفهوم الشعب فأولئك الذين يئسوا من التغيير وانغمسوا في الآني يلاحقون ما تجود به السوق من منتوجات استهلاكية وهم ملعونون على الدوام بأقساط البنوك وفوائد الدائنين.

وأما السيادة، المكون الثالث للدولة، فقد أزف عهد فاعليتها الخارجية. انتهت السيادة بانتهاء الاحتكام لقوة القوانين واللجوء لقوانين القوة. والسيادة اليوم تعود أولا للقوى المتحكمة في العالم بأسره تحدد سياساته وتسطر استراتيجياته وثانيا لصناديق النهب الدولي ولرؤوس الأموال متعددة الجنسيات. أما السيادة الداخلية فهي كل ما تبقى لدولنا حتى أن سكان دولنا لفرط ما يشعرون بهذه السيادة يلخصون الدولة فيها ويجعلون السلطة مرادفا للدولة.

و في ذات الوقت، وقد أصبحت الدولة مرادفا للسلطة أي للمؤسسات والأجهزة التي تنظم إقامة المواطنين على الإقليم وحتى بهذا المفهوم الضيق فإن الدولة تشهد تدهورها وتراجع دورها إلى درجة الصفر فتنتهي إلى شبه هيكل فارغ لا يدل عليه غير جدران المؤسسات التابعة لهياكلها..

الدولة، كما عرفناها، تلك الهياكل والمؤسسات المتماسكة بهرميتها التنظيمية التقليدية، بأدواتها ومهامها التسييرية تصل اليوم إلى درجة الإهمال واللامبالاة، وتتخلى تدريجيا وبنسق تصاعدي عن أسباب وجودها. تسحب ذمتها وترفع يديها عن كل ما يؤمّن استمراريتها وفاعليتها ويضمن هيبتها… إنها تتخلى عن رأس مالها الرمزي: المواطن لتتركه في مهب دولة جديدة أكبر من الجغرافيا واصغر من التاريخ لأن لا تاريخ لها إلا تاريخ تقنين النهب الدولي. تفتح الباب على مصراعيه لتدخل الأشخاص فيتماهوا معها إلى أن تغيب الفواصل ويعلو صوت لويس الرابع عشر من كل الجهات. دولة تحالف السلعة العابرة للقيم لا دولة القوانين والمبادئ العامة…

إن المؤشرات المحيلة على بلوغ الدولة إلى مرحلة الصفر أكثر من أن تعد وتحصى، وقد طالت جميع المجالات، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والمعرفية والقيمية، مما جعل معها طبيعة العلاقات الاجتماعية تطفو عليها الاضطرابات الدائمة فتتصاعد مشاهد العنف وتطول اللحي وتمتد تلابيب الأقمشة وتشتد الرقابة ويرتفع الضغط في رغبة تراجيدية إلى استعادة الوقار الحديدي. اليوم، وفي ظل تعطل جزء كبير من قوة العمل المتاحة، وفي ظل انخرام خارطة التوازن الاجتماعي بشكل حاد ومستفز وتعميق اللاتوازن بين الشمال والجنوب، وبين المركز والهامش، وبين الداخل ودواخل الداخل تتسلعن القيم، كل القيم: الحب، الجمال، الأدب، العلم، العمل… وما تبقّى من الدولة أو ما اختاروا أن يحتفظوا به منها إنما هو مرجل ساخن يغلي بما يعتمل في نفوس المواطنين المنضوين تحت هياكلها…

كل هذه المؤشرات سارعت في نسق تدهور الدولة مفهوما ووجودا إلى درجة الصفر والانتهاء بها إلى شبه هيكل فارغ لا ينبئ شيئا بحيويته سوى جدران المؤسسات التابعة لهياكلها…

*******

… وقف طفل صغير أمام والدته يسألها ببراءة:لماذا لا تدفئين المنزل يا أمي؟ فأجابته: لأنه لا يوجد لدينا فحم بالمنزل يا ولدي. فسألها: ولماذا لا يوجد فحم بالمنزل؟ فأجابت الأم: لأن والدك معطل عن العمل. فسألها الابن مجددا: ولماذا يتعطل أبي عن العمل؟ قالت الأم: لأنه يوجد فحم كثير بالأسواق يا ولدي…

2011/07/20

قبيلة صخر

عندما يكبر الطفل الصغير يترك لُعبه لأخيه أو أخته، وغالبًا ما تكون تلك اللُّعب مهترئة أو متهالكة، و"فاقدة لصلوحيتها" ومع ذلك ينخرط الطفل الصغير في اللعب ويجتهد في إبراز ذكائه وفطنته في إدارة اللعبة حتى يُصدّقها ويسعى إلى أن يحمل من هو أكبر منه على التصديق... رغم أن اللعبة مكشوفة !!

وربما من أجمل اللعب، لعبة الأقنعة التي تلبسنا ونلبسها فنتماهى مع ملامحها وتفاصيلها ونصدّق أن القناع هو أنا وأنا هو اللعبة...

القناع المهترئ والمتهالك والفاقد للصلوحية هو ذاك الذي لبسه "صخر"، قناع التّديّن والوقار والخير، فانطلت الحيلة على عدد كبير من التونسيين والتونسيات خاصة منهم الواحلون في الفقر الغارقون في الجهل والمقيدون بالقروض...

أنشأ لهم إذاعة الزيتونة للقرآن الكريم ليسبّح المستمعون بحمد نعمته ونعمة صهره وزوجة صهره... وفتح لهم بنك الزيتونة الإسلامي بقيود من الحوافز التي تعمي البصيرة قبل البصر، ثم تفضل عليهم بشركة تأمين إسلامية فتدافعت سيارات "النقل" تجوب الشوارع حتّى صدّق المساكين أن لهُم حاميًا ونصيرًا وربًّا على أرض تونس لا يتخلف عنهم في موائد الإفطار وليلة القدر بلحيته المرتبة وجبته الأنيقة ومسبحته المضيئة...

"سيدكم" صخر كان يفتك بيمناه ما تمنحه اليسرى، وكان يبتز ويكشر أنيابه على كل من يحاول أن يهتك حجابه / قناعه...

"سيدكم صخر" الذي لعب بقناع الإسلام وهو براءٌ منه ـ كان أوّل الفارّين إلى قطر.. يوم زلزت الأفواه الجائعة والأصوات المكبوتة قيامة هذه الأرض.. . فرّ إلى قطر وترك قناعه هنا...
القناع، لعبة الذئاب، انقض عليها أفراد قبيلة صخر، الذي كانوا في جحورهم مختبئين، انقضوا على القناع وطفقوا يصولون ويجولون باسم الإسلام وحماية الأخلاق...

وعلى خطى سيد القبيلة المقنّعة، صخر، يحثّ اليوم أفراد وجماعات القبيلة الخطى لتدجين المواطنين باسم الإسلام وابتزاز أصواتهم الانتخابية باسم الدين ويشوّهون تاريخ من قال "لا" لسيدهم وسيد سيدهم، في العلن، ويرمون بالنار من أخرجهم من جحورهم ومغاورهم وكهوفهم لأنه يؤمن باطلاقية حقوق الإنسان ولا يعتبر الديمقراطية بدعة...

بقناع الإسلام تسعى اليوم قبيلة صخر إلى تقسيم الشعب التونسي إلى مسلم أو كافر، وطبعًا من كان مسلمًا فهو آمن ومن لم يكن مسلمًا فدمه مٌبَاح!!! وهو ذات شعار صخرهم، من "ناشد" فهو معنا ومن عارض واعترض فهو مقموع...

لن أقول بان القناع مكشوف اليوم واللعبة معلومة والإسلام براء من قبيلة صخر وان الشعب التونسي لن يُلدغ مرّتين من ذات القناع ولكن أقول لقبيلة صخر تمسكوا بقناعكم وزيفكم فلنا من الطائرات ما يكفي لتقلكم إلى قطر.