لا أحد ينكر أن سمات الخوف والخضوع والاستكانة كانت من بين ألصق الصفات بالشارع التونسي خاصة طيلة العقدين الأخيرين، بعد أن أحكم النظام النوفمبري قبضته الأمنيّة، وصنع في خيال كلّ مواطنة وكل مواطن شرطيّا يلازم كلّ الحركات والأنفاس ويحصي حتى أحلام النائمين... كما لا يمكن أن ينكر أحدٌ أنّ هذا النظام الصارم خلق مناضلين ومناضلات أشاوس، تمرّسوا على اعلان مواقفهم الرافضة لسياسة صانع التغيير في الساحات الجامعيّة وفي بطحاء محمد علي وفي مقرّات الأحزاب والمنظمات والجمعيات المدنيّة والحقوقية وكان المواطن البسيط عندما يشاهد أحد المناضلين أو احدى المناضلات تنقد النظام على شاشات التلفزات الأجنبية وفي بعض الصحف الحزبيّة، كان ذاك المواطن البسيط في بيته وأمام تلفازه يخاف على مصير المتكلّم أو المتكلّمة، وهو ما عزّز منسوب الخوف لدى أغلب المواطنين، حتّى أنّ الأولياء لا يتورّعون في مفتتح السنة الجامعيّة عن تنبيه بناتهم وأبنائهم من مغبّة الانتماء إلى اتحاد الطلبة مثلا أو الحديث في السياسة! اليوم وبعد ثورة 17 ديسمبر 2010 أو 14 جانفي 2011، أطلقت كلّ الحناجر، بما فيها حناجر الأمن، كلمة السّر (Dégage) تلك التي أربكت النظام المنهار وصارت مفتاحًا سحريّا لعدّة شعوب أخرى، كنّا نخالها عربيّة فقط ولكنّها تجاوزت المحيطات وبلغت أرض العم سام... اليوم صارت كلمة السّر بحوزة مئات الآلاف، بل لنقل دون مبالغة بحوزة ملايين من الشعب التونسي، وهذا ما يعني أنّ عدد المعارضة سيتضاعف عدّة مرّات ولن تظلّ المعارضة مقصورة على بعض الأسماء أو بعض الأحزاب أو بعض المنظمات الحقوقية والنقابيّة. انّها تتوزّع اليوم بين الطرقات والأزقة، في كلّ المدن والقرى، في بيوت الفقراء والأغنياء على حدّ السواء... واليوم المعارضة صار لها فضاء اعلامي وطني مفتوح بشكل نسبيّ على كلّ الأصوات وكلّ الآراء، اليوم، وبكلّ تفاؤل يمكنني أن أقول إنّ أغنية البحث الموسيقي »لو النّدى« تلك التي تقول فيها آمال الحمروني »مليون خضراء اليوم تعيش / تحت السياط ما تنحنيش« يمكنني أن أقول بأنّها صارت حقيقة تمشي معنا فوق الأرصفة وتركب معنا الحافلة الصفراء والمترو الأخضر وتنهض مع العمّال والعاملات.. وتدخل فصول المدارس ومدارج الجامعات والكليات... بل انّها وجدت لها مكانًا في وزارة الداخليّة... اليوم، وقد فازت حركة النهضة بنسبة عالية في انتخابات المجلس التأسيسي، ولو فاز مثلا حزب آخر، من اليسار أو القوميين أو الديمقراطيين أو الحداثيين، ولو فاز مثلا المستقلون فإنّ هذا الفوز لا يعني عودة الاستبداد مجدّدًا ولا يعني أيضا أنّ الفائز سيصير هو الحاكم بأمره كما فعل النظام السابق، اليوم كلّ العيون متوثبة وكلّ الأقلام والأصوات مستعدّة لكلمة Dégage. ف مليون خضرا اليوم تعيش / تحت السياط ماتنحنيش.. / واحنا سندها لان اليوم، ليس كيوم 7 نوفمبر عندما وضع بن علي الجميع تحت معطفه باسم الميثاق الوطني.. وبقية الحكاية يذكرها التاريخ... اليوم هناك شعب كسر حاجز الخوف وطلَّق الصمت...
يستخدم المجتمع المدني عادة كمفهوم وصفي لتقييم التوازن بين سلطة الدولة من جهة، والهيئات والتجمعات الخاصة من جهة أخرى، وهو يتميز عن الدولة بوصفه مجالاً لعمل الجمعيات التطوعيةوالاتحادات مثل النوادي الرياضية وجمعيات رجال الأعمالجمعيات حقوق الانسان، واتحادات العمال وغيرها...
انه يتكون مما أطلق عليه إدموند بيرك "الأسرة الكبيرة".
ففي المدرسة اليونانية استخدم مفهوم المجتمع المدني كمرادف للمجتمع الجيد أو الرشيد، اذ رأى سقراط أن الحوار الاجتماعي عن طريق الجدل هو حاسم من أجل تأكيد التمدن في المجتمع. في حين ركز كارل ماركس على أن المجتمع المدني يشكل القاعدة التحتية لقوى الإنتاج والعلاقات الاجتماعية، وهي التي تهيمن عليها الطبقة السائدة اقتصاديا وإيديولوجيا أي الطبقة الرأسمالية. ثم نجد توماس هوبز وجون لوك مثلا، يطرحان نظريات للحكم وإدارة المجتمع انطلاقا من المنطلق الإنساني المجرد من أية تقييدات فكرية أو دينية.
وقد أدخل انطونيو غرامشي قطيعة في المضمون الدلالي لمفهوم المجتمع المدني، باعتباره فضاء للتنافس الإيديولوجي. فإذا كان المجتمع السياسي حيزا للسيطرة بواسطة سلطة الدولة، فإن المجتمع المدني فضاء للهيمنة الثقافية والإيديولوجية، ووظيفة الهيمنة هي وظيفة توجيهية للسلطة الرمزية التي تمارس بواسطة التنظيمات التي تدّعي أنها خاصة.
وبالرغم من الاختلافات، فإن نظرية العقد الاجتماعي بالنسبة لمفكري العصر التنويري ترى أن الدولة والحكم هما نتاج اختيار منطقي من قبل المجتمع لطريقة الحكم، ولا تستمد حكمها أو صلاحياتها من الآلهة أو الأديان أو شيء آخر فوق الإرادة الحرة للبشر.
غير ان هناك فرق شاسع بين النية في بناء مجتمع مدني متماسك، وبين استعمال الجمعيات والمنظمات وسيلة لبناء مجتمع نمطي، وهناك فرق بين أن نطرح شعار المجتمع المدني، تكتيكيّاً، بغية حجز مساحة سياسيّة تؤمّن لنا إمكانية ممارسة طموح معين، وبين أن يكون هذا الشعار غاية وهدفاً وتصوّراً لمرحلة تاريخية مُنتظرة...
إن السرد السابق لتطور مفهوم المجتمع المدني ليس الا مدخلا للوقوف اليوم على ما قد "يتهدد" مجتمعنا المدني التونسي من مد مدروس لعدد غير قليل من بعض الجمعيات والمنظمات التي تقدم نفسها في جبة "المدنية" و"الحقوق الكونية" والدفاع عن "المواطن" مهما كان جنسه أو دينه أو لونه، غير ان نظرة بسيطة لعناوين بعض هذه الجمعيات والمنظمات سنكتشف بكل يسر انها تدور في فلك ضيق وافقها واضح المعالم لا يقبل الاخر المختلف، ذلك اننا نطالع اليوم مثلا لجنة للدفاع عن حجاب المرأة في تونس (لا المرأة التونسية)، وهيئة عالمية لنصرة الإسلام في تونس (كأنه كان مهزوما في السابق)، وجمعية للشباب المسلم (لا الشباب التونسي) وجمعية تونسية لأئمة المساجد، وجمعية تونسية للعلوم الشرعية، وجمعية للمنبر الإسلامي، وجمعية للخطابة والعلوم الشرعية......
إن هذه المنظمات والجمعيات الدينية، المتسترة بغطاء المدنية تهدد وحدة وتنوع المجتمع التونسي باعتبارها تشتغل بمنطق تمييزي على أساس الدين، إذ يبدو أنها لا تدافع إلا عن من أعلن إسلامه!!! كما أننا لم نسمع بها تحركت ضد غلاء المعيشة مثلا أو الترفيع في الأجور أو أمضت على عرائض تدين انتهاك الحريات العامة...
قد نجد تفسيرا ما أو تبريرا لهذا البزوغ المدني/ الديني، ولكن الأكيد أن السهام المصبوبة اليوم على الأحزاب السياسية الدينية والخوف المتزايد من انقضاضها على الديمقراطية المفترضة قد تصيبها في "مقتل"، ولكن الثابت ان انتشار مثل هذه المنظمات والجمعيات وتغلغلها في المجتمع التونسي ستنسف كل بارقة امل في تفادي الدخول في استبداد جديد... خاصة أنها تشتغل على المدى البعيد...
لم ينته الزمن الافتراضي الفايسبوكي، ولكن الزمن الواقعي يبدأ اليوم، 23 أكتوبر 2011.
يتوقف الآن زمن مداعبة الأزرار الباردة لحواسيبنا المحمولة والثابتة ولهواتفنا المتطورة. يتوقف زمن الأزرار لينطلق زمن تحريك الأصابع الحية التي سيرسم بها كل واحدة وكل واحدة علامة القاطع والمقطوع أمام من سيختار أو تختار من الأحزاب أو القوائم المستقلة المترشحة للمجلس التأسيسي الوطني الثاني في تاريخ تونس الحديث.
لا يهم لمن سنمنح صوتنا، ولكن الأهم في هذا اليوم، 23 أكتوبر2011 هو أن لا نفوت على أنفسنا فرصة ممارسة فعل الانتخاب باعتباره عنوانا دالا على مواطنة كل واحد منا...
لا يهم مَن منَ الأحزاب أو المستقلين سيستأثر بالنسبة الأكبر في تمثيلية المجلس التأسيسي، لأن الأهم في تقديري اليوم، 23 أكتوبر 2011، هو أن تكون نسبة التصويت هي الأعلى والأكبر من كل النسب الحزبية أو السياسية، لان نسبة التصويت هي نسبة تونس، وتونس أكبر من كل الأحزاب مجتمعة...
مهما اختلفت الأفكار تونس ارض الأحرار.
في مثل هذا اليوم، ستفرقنا الأحزاب داخل الخلوة، ولكن الأكيد أن تونس ستجمعنا، فمن منا سيتخلف عن تونس؟
قد تبدو حركة التصويت حركة عابرة وبسيطة، ولكن الأكيد أنها ممارسة تُنحتُ في تاريخ كل فرد منا الذي هو بالأخير تاريخنا الجماعي، تاريخنا الوطني الذي سيأتي يوم ما ونروي بعضا من تفاصيله لأبنائنا وبناتنا وأحفادنا وحفيداتنا... سنقول إننا ساهمنا في كتابة تاريخ تونس سنة 2011...
مهما اختلفت الأفكار تونس ارض الأحرار.
الذهاب إلى مكتب الاقتراع، والدخول إلى الخلوة واختيار من سيمثلنا يوم 23 أكتوبر 2011 هو الجواب المثالي والحقيقي الذي سيصيّر دم شهدائنا يسري في عروق ارض تونس لتزهر الحدائق فوق جباه أمهاتهم، وهو الجواب الحقيقي والمثالي للدكتاتور، الذي حرمنا من هذا الحق طيلة 23 سنة، وهو أيضا الجواب المثالي والحقيقي للدكتاتوريات العربية الصامدة في بطشها إلى اليوم ضد شعوبها لتدلل على فشل الثورة التونسية وتأبد بذلك استبدادها، وهو كذلك الجواب المثالي والحقيقي لكل الأنظمة الغربية التي مازالت تعتبر العرب شعوبا متخلفة... فهل سنتخلف يوم الاقتراع عن كتابة هذه الأجوبة؟
مهما اختلفت الأفكار تونس ارض الأحرار.
إن ما حدث طيلة الأسابيع الفارط من إفراط في العنف وفي المصادمات سواء منها الشعبوية أو السياسوية، وما اقترفته بعض الأيادي العابثة لإرباك النسق الحياتي للشعب التونسي من ترفيع في الأسعار واحتكار لبعض المواد الاستهلاكية، كما أن ما يحدث من عمليات تشويه مُمنهجة لبعض الأحزاب أو المناضلين والمناضلات لا يمكنها إلا أن تكون حافزا ودافعا ايجابيا لكل فرد ليترجم ترفّعهُ عن مثل تلك الممارسات، التي هي بالأخير ظواهر صحية، والأكيد أنها كانت ضرورية.
والثابت أيضا انه بعد إتمام العملية الانتخابية وتشكيل المجلس التأسيسي الثاني في تاريخ تونس الحديث، سيمنح كل منتخب من موقعه البسيط وبصوته، شرعية البناء ورفع سقف بيتنا الوطني بعد أن نكنس منه بقايا الدكتاتورية وذهنية الاستبداد السلطوي...
كانوا يُعدون على الأصابع وصاروا اليوم أكثر من شعر الرأس...
كانوا أيضا بعدد رأس الشعر وصاروا اليوم يُعدون كذلك بأصابع اليد الواحدة...
فئتان من الشعب لا يلتقيان إلا في الكلام المنثور هذرا على قارعة الأيام...
فئتان من الشعب جمعتهما دولتان اتفقتا في ألوان العلم ولحن النشيد الرسمي وأخبار الساعة الثامنة وخطب الجمعة والعيدين واختلفتا في الانتماء لأفق مشترك...
بالأمس كان أغلب الشعب "متخلقا" رغم قلة شهائده الأكاديمية، واليوم صار أغلب الشعب مثقلا بالشهائد الجامعية، متخففا من القيم والأخلاق...
مفارقة عجائبية تلك التي رجحت كفة الميزان لصالح دولة المتعلم وألقت بدولة المثقف إلى الدرك الأسفل...
عندما كانت نتائج "السيزيام" تُعلن عبر موجات الإذاعة وتكتب أسماء الفائزين بتلك الشهادة على صفحات الجرائد كان المعلم رسولا... وكان التلميذ مريدا له...
وعندما كان الفائزون بشهادة الباكالوريا يعدون بالعشرات كانت الجامعات والكليات صرحا منيعا لا تينع داخل أسوارها إلا العقول المفكرة والمبدعة...
بالأمس كان الكتاب مقدسا ومهابا... وكانت الأفكار مرجعا ونبراسا لتأثيث الحياة في أدق تفاصيلها...
كان الدخول إلى قاعة السينما موعدا مقدسا... واقتناء ملحق فكري للجريدة متعة لا متناهية... وكذا الجلوس إلى الأصدقاء والرفاق والتسارر معهم... دون أقنعة أو قفازات...
واليوم تصلنا نتائج الاختبارات، التي لم تعد امتحانات، تصلنا عبر الإرساليات الهاتفية القصيرة مختلطة بإرساليات المواعيد السيارة، أو عبر مواقع الانترنت أين يلقي الممتحن نظرة عابرة على نتيجة اختباره ثم يعود ملهوفا إلى حديث افتراضي عابر على احد المواقع الاجتماعية مع شخص أثيري لا رائحة له ولا طعم...
اليوم نجلس إلى معلمنا في المقهى على طاولة "الشكبة" أو "البيلوت"، ونتقاطع مع أساتذتنا في الحانات... نلهث في كل الاتجاهات، لا بحثا عن صديق أو كرسي مريح، بل طمعا في دينار إضافي... نفشل في مصادقة آبائنا، وفي كتابة قصص حب طافحة بالشغف...
نشتري كريم الشعر وبطاقات شحن الهواتف ونلتقط الصور الرقمية مع السيارات الفارهة وننام فوق الأزرار الباردة لحواسيبنا المحمولة... نلبس اخر صيحات الدجينز ونأكل من مختلف المطابخ العالمية... ونتحدث بإطناب عن مفهوم "النسبية"... ومع ذلك... مازلنا نفكر بأن العالم إما غرب أو شرق... وأن البشر إما كفار أو مؤمنون... وان اللغة العربية "ارقى" اللغات... وأننا "خير أمة"... فلا غرابة اليوم اذا ان تصير تونس دولة بصاريتين يابستين لعلمين مختلفين، علم "للكفار" وعلم "للمؤمنين"... وهو التقسيم الجديد/القديم الذي يختلقه اصحاب المعسكرات العقائدية أولائك الذين "بفضل" تفانيهم الايماني صُلب الحلاّج وشُرّد التوحيدي ونُفي ابن رشد وقُتل السهروردي وابن باجة واغتيل مهدي عامل وحسين مروّة وناجي العليّ وغسّان كنفاني وخُصي مظفّر النواب وقتل منور صمادح...
دولتان بعلم واحد متباعدتان، متجافيتان...لا يلتقيان إلا تقاطعا على أرصفة الاختلاف والتنافر...
هكذا تبدو لي تونس اليوم، بعد أن "وَثَبَ" عليها نظامان من الحكم، أول اقترب من الجمهورية وثان نسف كل مقوماتها... ليتركنا اليوم نسأل هل نحن مواطنون في دولة ام رعايا في ولاية من ولايات الخلافة الدينية.
يبقى السجن سجنا مثلما يبقى المجرم مجرما مهما كانت صفته، ومهما علا مركزه الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي أو الفكري، ولا فرق بين اسكافي فقير ووزير ارستقراطي في العقاب، مادامت أركان الجريمة متوفرة، ومادام كل الناس متساوين في الحقوق كما في الواجبات، غير أن هذه المسلمة يبدو أنها لا تنطبق إلا في السينما أو في الروايات، أما في الواقع فالأمثلة تعد على أصابع اليد الواحدة...
ولعل الذاكرة تسعفنا بفيلم "ضد الحكومة" الذي تنبأ فيه مخرجه عاطف الطيب منذ سنة 1992 بما يدور اليوم في أروقة المحاكم المصرية والتونسية، فهذا الفيلم الذي جسد فيه أحمد زكي شخصية مصطفى خلف المحاميالذي اعتاد التحايل على القانون باستغلال ضحايا حوادث الطرقات، ليحصل من أسرهم على توكيلات تطلب تعويضات يحصل عليها لنفسه محققا بذلك أرباحا طائلة. ومن تشابك تفاصيل الفيلم نصل مع البطل إلى درجة رفع دعاوى ضد وزير التعليم ووزير النقل ورئيس هيئة السكك الحديدية يتهمهم فيها بالإهمال، فيساومه لسان دفاع السلطة للعدول عن القضايا التي رفعها ضد الحكومة ثم يزج به في قضية تنظيم إرهابي ليلقى جميع أنواع التعذيب دون أن يتخلى عن موقفه، فأصبحت القضية قضية رأى عام وفي الأخير وافق القاضي على استجواب كبار المسؤولين.
كما يمكن للذاكرة أن تحيلنا على رواية عبد الجبار العش "محاكمة كلب" تلك التي تضعنا "منذ البداية في قاعة المحكمة، وإزاء شخصية ملتبسة وقضية لا تقل عنها التباسا، فالمتهم له مواصفات إنسان ولكنه يحمل في ظاهره ملامح من الكلب وفي باطنه شعورا عميقا بالتكلب" والكلب المتحدث عنه في الرواية "ليس قناعا للشخصية وإنما هو جزء من حقيقتها الاجتماعية والأنطولوجية وحتى الجسدية." وربما لذلك استعصت محاكمة عروب الفالت، بطل الرواية، رغم ترافع عميد المحامين العرب في قضيته والذي قال في ختام الرواية "نحن هنا نظرا لكون المواطن عروب الفالت ليس متهما عاديا في قضية عادية، بل انه في تقديرنا، يمثل بل يختزل نسغ روح هذه الأمة. انه التكثيف المأساوي للمواطن العربي في هذه اللحظة الجليلة من الألفية الثالثة... إن محاكمته هي محاكمة تاريخنا، فمن في مقدوره محاكمة التاريخ؟."
ولا يفوت من شاهد الفيلم أو اطلع على الرواية أن يمسك بذاك الخيط الشفيف الرابط بينهما والمتمثل في انزياح الأزمة الوجودية لشخصية "مصطفي خلف" في الفيلم وشخصية "عروب الفالت" في الرواية، وتحولها إلى أزمة اجتماعية بالأساس وسياسية بشكل معلن في الفيلم ومتستر في الرواية...
إن هذين المثالين يرفعان جسرا متينا ينقلنا من المتخيل إلى الواقع، أو من خطاب النص إلى خطاب السلطة على الطريقة الفوكاوية، فها نحن اليوم نبلغ آخر سيناريو فيلم عاطف الطيب وخاتمة رواية عبد الجبار العش، ونكاد نصدق نبوءتهما، وان تباينت، ونحن نتابع تتالي أسماء كبار المسؤولين سابقا يقفون أمام القضاء من أجل تهم الفساد بالخصوص وتورطهم في منظومة مافيوزية نخرت كل إمكانات النهوض بهذا البلد... من رئيس هارب بما ملك جبن مع أفراد من عائلته إلى وزراء ومديرين عامين ورجال أعمال وإداريين... يتم استنطاقهم بشكل يومي... منهم من تحصن بالفرار ومنهم من يقف خلف قضبان "ناعمة" بشكل تحفظي ومنهم من حجر عنه السفر... ملفات مفتوحة وأبحاث جارية أما الأحكام النهائية فمازالت قيد الغيب... الغيب!!! هل يوجد هذا المصطلح في نظام السلطة؟؟؟
يعلمنا ميشال فوكو أن السلطة تتفاني في ترويض أجسادنا دون أن تستعمل وسائل الإكراه والقمع بل "بالنظرة واللغة"، وها نحن نقف اليوم على انصع مثال في الترويض السلطوي من خلال إقامة ندوة دولية حول الفساد والرشوة والدعوة لإقامة هيكل مؤسساتي لمقاومة الفساد والرشوة واستغلال النفوذ!!! فمتى ينتهي موسم فتح الأبواب المفتوحة؟؟؟
هنا تتراص الأجساد المتعبة في زنزانات السجون التونسية (العمومية) ... يتقاسم المسجونون "القميلة"... أم ملتاعة تأتي من أقصى الجنوب لتعود ابنها المسجون في أقصى الشمال وفي يدها قفة بسيطة... كلمات محمومة تدور بينهما داخل "البارلوار" (غرفة الزيارة) تحت أعين الحارس... تقول له كل شيء إلا عن بيعها قطعة الأرض الوحيدة لديهم لتدفع أجرة المحامي...
وهناك يطلع علينا المتهمون في بهو المحاكم بربطات عنق قزحية وبدلات أنيقة وشعر مصفف بعناية... ابتسامات في وجوه القضاة وطوابير لا نهاية لها من المحامين... قنوات تلفزية ترصد المحاكمات وصحف تتابع الأخبار... سيارات فاخرة تزورهم أمام "سجنهم الخاص"...
الأكيد أن للقضاء مبرراته حول التأخير في التصريح بالأحكام حول من ثبتت التهم الموجهة إليهم، والأكيد أيضا أن تأسيس منظومة قضائية مستقلة وعادلة تستوجب وقتا طويلا وإرادة حقيقية... ولكن بالنسبة لي يبدو أن السجن لا يليق بغير الفقراء مادام حكرا عليهم كالأسواق الشعبية والمستشفيات العمومية وحانات الشوارع الخلفية...
سأستعير من الصديق فتحي بالحاج يحي فكرة ساقها في كتابه "الحبس كذاب والحي يروح" تلك التي تحدث فيها عن أغنية المطرب الفكاهي صالح الخميسي "يا بودفة شبحتنا" "تلك الأغنية الشهيرة التي تفاعل معها كل التونسيين وحفظوها عن ظهر قلب، وكأن فيهم توجسا بأنهم زائروه يوما لا محالة."
في كتابه "دفاتر السجن" كتب الفيلسوف والمناضل الايطالي انطونيو غرامشي:"ادرسْ لأننا سنحتاج إلى ذكائك، حرّض لأننا سنحتاج إلى حماسك ـ نظّم لأننا سنحتاج إلى كل قوتك، فالأمير الحديث لا يستطيع أن يكون فردًا أسطورة إنما هو فقط يمكن أن يكون تنظيمًا".
أستحضر هذه المقولة المشحونة والمتقدة ونحن في مفتتح السنة الجامعيّة، نتابع عودة آلاف الطلبة إلى الجامعات والكليات التونسية،نستحضرها لأن الجامعة ليست فضاء محايدًا أو عابرًا بقدر ما هي نقطة تحوّل جذرية في حياة كل طالبة وطالب، فهي منارة علم وساحة نضال وبوابة نحو عالم أرحب، هو عالم الشغل، وأعتقد أن الجامعة هي التي تنحت الجزء المهم في شخصية الفرد الوافد عليها لما توفّره من علاقات مختلفة ومهمة في آن واحد، ولما تقدمه من زاد معرفي أكاديمي وثقافي، الفضاء الجامعي الذي يختلط فيه ابن العامل وابنة الفلاح بأبناء الطبقة البرجوازيّة، الفضاء الذي تتقاطع فيه خطى الآفاقيّين، أبناء الأرياف والمدن الداخلية بأبناء العاصمة والمدن الساحلية هي التي تؤججّ الشعور الايجابي لدى كل فرد ليقتلع مكانه الطبيعي والشرعي باعتباره طليعة المجتمع.الجامعة هي فضاء الإمكان والمبالغة... الفضاء الذي نٌعلن فيه حالة السعادة الدائمة...
إن الأفكار لا تنبت في السماء ولا تمطرها السحب، وإنما تختمر في العقول وتنعقد عبر الصّلة مع الآخر المختلف، والطالب الذي يراهن على ذكاءه وزاده النضالي وتماسكه الأخلاقي بين مقاعد الجامعة ومدارج الكليات هو الأقدر على تأثيث الجامعة التونسية "الَمحلٌوم بها"، الجامعة التي وهبت هذا الشعب كوادره الفكرية والعلميّة وساهمت، باعتبارها جزءًا من الحركة الشعبيّة، في بناء دولة حديثة وعقلانيّة...
الجامعة اليوم، يخفت بريقها بفعل نظام همّش أفقها وقلّص من دورها وحولها إلى مؤسّسة ميّتة... فشلت حتى في إخراج جيل قادر علىالمشي باعتداد في الشارع... جيل لم يتخلّص من "فكر" الانسجام واليقين والثّابت... ولم يتجرّأ على فكر الاختلاف الذي يمر حتما بفكر الصراع... جيل توغَّلَ بعيدا في الفراغ المعرفي واليباب الاخلاقي...
اليوم، وفي انتظار تثوير الطاقات الأكاديمية، وأن تلعب النخب الجامعية دورها الحقيقي قد يعود الأمل إلى هذا الفضاء ليرسخ في ذهن كل طالب انه لا وجود لغير الواعي بوجوده، وأن الدرس الحقيقي هو التدرب على فن العيش والتعايش، التعوّد على الصراع والمقاومة لكل أشكال التّشيُّؤِ، وان الدرس الحقيقي هو نزع الأقنعة عن الأساطير الزائفة وإنتاج البدائل المجتمعيّة الأمثل، فليسبالخبز وحده يحيا الإنسان بل إن الحرية والخبز ينبتان على ساق واحدة...
أعتقد أن الطالبة والطالب اليوم على مرمى إصرار من إعادة الوهج إلى الجامعة التونسية حتى تكون فعلا جامعة شعبية بشروط تعليم ديمقراطي ومَقاييس ثقافة وطنيّة نقديّة، وحتى تصبح الحركة الطلابيّة جزء لا يتجزء من الحركة الشعبيّة الناهضة اليوم من جلباب الدكتاتورية رغم بقاياها الناتئة هنا وهناك...
"ادرسْ لأننا نحتاج إلى ذكائك" هكذا قالها غرامشي الذي كان مثلكم طالبا في الجامعة، ناضل بحماس، درس بنجاح ومات لأجل الحرية...
لا تكن مثل غرامشي أيها الطالب... كن فقط كما أنت، ذكيّا، ومناضلاً تتقد حماسًا وتتنفس حريّة...
وكن مواطنا عنيدا في فكرك، متسلّحا بالتَّحدي وفي تشكك مستمر... ولتزرع القلق أيْنما وليت وجهك في الثقافة المطمئنّة والمستكينة...
لا يختلف تونسيان في أن التجربة السياسيّة في تونس كانت مشوّهة ومشلولة لأسباب يعلمها القاصي والداني ويمكن أن نُجملها في دكتاتورية الحكم في "جمهورية" ما بعد الاستقلال بنسختيها البورقيبيّة والنوفمبريّة...
والتجربةالسياسية موصولة حتمًا بالوعي السياسي، هذا الذي انحسر طيلة نصف قرن فيما يُعرف بالطبقة السياسية في مختلف تلويناتها وخطوطها، بمعارضتها وموالاتها، وهو ما ساهم في غلق قنوات التواصل بين "الطبقة السياسيّة" والقواعد الجماهيرية المعنية بالشأن العام فظلت تلك الجماهير طيلة حكم بورقيبة وبن علي "بضاعة مٌعلَّبة" تُباع وتُشترى زمن "المسرحيات الانتخابية" السابقة...
أمّا اليوم، ورغم عدم التخلّي عن سياسة القطيعة بين ما اصطلح عليه بالنخبة وبين الشعب، ورغم تعدّد المؤشرات السلبيّة والسالبة لمواطنة المواطن، فإنّ التجربة السياسية التي سيُقدم عليها الشعب التونسي من خلال المشاركة في انتخاب أعضاء المجلس التأسيسي الوطني تحمل في عمقها عديد المؤشرات الممكنة للقطع مع سياسة الوصاية والاستحواذ على إدارة الشأن العام... ويكفي اليوم أن يجلس كل مواطن إلى نفسه ويسأل كيف سأختار من يمثلني ولماذا؟ هذا طبعًا بعد ان يكون قد آمن بأن صوتًا واحدًا من شأنه أن يحدّد وجهة هذا المجلس والكف عن الاستخفاف بقيمة الصوت الواحد... وبالتالي بقيمته إنسانا أولا ومواطنا ثانيا.... وهي الدرجة الأولى للدخول في التجربة السياسيّة... بوعي بسيط، ولكنَّه عملي في مرحلتنا الراهنة...
نعم أنا مواطن، نعم أنا مواطنة... نعم من حقنا ومن واجبنا أن نقول "لا"... ولكن لمن سنقول "لا" ولماذا؟
أمّي، أبي، أخي، أختي، جارتنا، بائع الدجاج، سائق التاكسي، عامل البلديّة، الطالب، المعلم، الممرضة، الفلاح، الميكانيكي، الخبّاز... كل الفئات الشعبيّة وكل القطاعات وكل الجهات وكل مواطن تونسي قادرٌ ـمن موقعه ـ أن يُنجح الانتخابات لو فكّر بطريقة عكسيّة، أي قبل أن يقول "نعم" لهذا المرشّح عليه أن يعرف لماذا سيقول "لا" للمترشح الآخر... وأعتقد أن القرائن المعزّزة لقول "لا" ملقاة على قارعة الطريق بفضل ما راكمته السياسة السابقة من غباء مفرط من جهة وبما يأتيه اليوم بعض السياسيين من تكالب وتهافت غبي على السلطة من جهة ثانية ليكونوا بذلك أوفياء للذهنية التجمعية... وهذا ما سيسهل عمليّة الفرز بين القوائم التي قد تبدو كثيرة ـ بعد أن هوَّلَتها وسائل الإعلام والحيوانات السياسيّة المٌصابة بإسهال كلامي لتعسير المهمة على المواطن ...
إذ يكفي مثلاً أنّ "أمّي" لا تعرف حزب العمال الشيوعي التونسي ولا حركة الوطنيين الديمقراطيين ولا حركة التجديد ولا الاتحاد الوطني الحرّ ولا حزب الوطن ولا حزب الوحدة الشعبية ولا حزب التنمية والعدالة ولا الجبهة الشعبية التقدمية ولا الحزب الدستوري الجديد ولا حزب التكتل ولا التحالف الوطني للسلم والنماء ولا حركة النهضة ولا حزب الإصلاح والتنمية...
لا تعرف هذه الأحزاب وغيرها، ولا رؤساء القوائم، ولا المناضلين التاريخيين أو القادمين اليوم على بساط الدولار والأورو... لا تعرفهم رغم المعلقات الاشهارية الضخمة ورغم الومضات اليومية في التلفزات والإذاعات والصحف....
"أمّي" لا تعرف هذه الأحزاب ولا باقي قائمة المائة ولكنها تعرف بالاسم والفعل في مدينتها أن من كان مع "التجمع" سابقًا يحرم الفقراء والمحتاجين من علب الطماطم والزيت والأقلام والكراسات ويأتي اليوم في جبّة جديدة وتحت يافطة حزبيّة مفضوحة ستقول له "لا"... "لا" أيها التجمّعي لن أمنحك صوتي.. ولن أمنحك فرصة جديدة لمواصلة ما جٌبلتَ عليه من زيف وسرقة وكذب وبهتان...
"أمّي" ليست مُتعلّمة ولم تدخل مدارس أو جامعات ولكنها تبكي كل يوم من غلاء أسعار الخضر واللحم والغلال ومواد التنظيف...(وفي لاوعيها تسأل لماذا لا يساعدها والدي في الطبخ والتنظيف)... وبوعيها المحدود تعرف أمي أن حٌفَرَ الطريق أمام دارها تسبب فيها بدرجة أولىالمسؤولالبلدي التجمعي الذي يعتني بما أمام بيته فقط، وأن فوانيس الشارع الأمامي مٌعطبة بفعله هو... وأن المدينة تفتقر إلى محطة سيارات الأجرة وأن مياه الرَّي لا تٌوَزّعٌ بالعدل بين الفلاحين، وأن الطلبة يٌحرمونَ من المنح الجامعية لأنهم لا ينتمون الى طلبة التجمع؟؟؟ وتعرف أيضا أن المسؤولين السابقين أقاموا "شكلا حجريَّا" في مدخل المدينة بمئات الملايين وقالوا إنّه تمثال وأن المستشفى والمدارس والمعاهد والمؤسسات الثقافية والأراضي والبنية التحتية كلها تخلّفت بفعلهم هم... ولذلك ستقول لكل النسخ التجمعيه "لا" ثم "لا"...
"أمّي" أيضًا تُصلي وتصوم وتقيم فرائضها الدينية وتتمنّى ان تزور البيت الحرام ومع ذلك لم تُلزم أختي يومًا ما بارتداء الحجاب عنوة وهي لذلك ستقول "لا" لأصحاب المشاريع الظلاميّة المتسترين بواجهة بلوريّة سيهشمونها بعد قليل... ستقول "لا" وهي التي لا تستطيع أن تلفظ تركيب "مشروع ظلامي".. ولكنها تعرف ان ابنتها من حقها أن تشتغل ولا تبقى في البيت تنتظر رجلاً... وتعرف أنها هي وحدها المسؤولة عن اختيار الحجاب من رفضه...
"أمّي" سَتٌكَوّنٌ وعيّا سياسيًّا بسيطًا يشبهها، وستساهم من موقعها في انتخابات المجلس التأسيسي وسأساعدها على فرز صوت الحداثة والعقلانية والعدالة الاجتماعية والديمقراطيّة... وهي التي لا تعرف هذه المصطلحات والمفاهيم، ولا تدري ما معنى الانتقال الديمقراطي والتداول السلمي على السلطة والتوزيع العادل للثروات بين الجهات والقطاعات... وسأقنعها بأنّه حتّى لو لم يُثمر صوتها وصوتي ما نحلم به فإنه تكفينا المساهمة الإيجابية أولاً من موقعنا البسيط وسأقنعها أيضًا، وهي تعرف ذلك، أننا كثرٌ جدًا في البلاد... وأن ما ستفعله هي ستقوم به امرأة أيضا من بنزرت وأخرى من جربة وثالثة من بن عروس لأنهن يلتقين في الألم والفقر.. وفي الحلم...
وأمي أيضا لا تعرف أن مدينتها وكل المدن التونسية والوضع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في وطننا لن يتَحَسَّن "تَوْ تَوْ" على الطريقة "الرَّيَاحيَّة"، تعرف ذلك وهي التي سألتني لماذا كل تلك الاشهارات لحزب "تَوْ تَوْ"المرسومة على اللوحات الكبيرة وعلى الحافلات وفي التلفزات؟ سألتني لماذا لمْ يَشْتَرِ هذا الحزب مثلا حاويات فضلات ويوزعها على الأحياء والشوارع في المدن ويكتب عليها شعاره الانتخابي، وقالت لي بالحرف الواحد "على الأقل نربحوا حويجة مفيدة"...
نعم سَنَقٌولَ "لا" أنا وأمي وأختي وزوجتي وأخي... للمشروع الاستبدادي القادم من بقايا التجمّع وللمشروع الاستبدادي المتسترّ بكلام اللّه زورًا وبهتانًا... لأن "تشبيك الأصوات الانتخابية" ممكن ومتاح لكل مواطن بسيط يعلم أن انتخاب المجلس التأسيسي ليست عملية إيديولوجية بقدر ما هي عملية سياسية تخضع للمعادلات الحسابية المضبوطة...
سنقول "نعم" يوم 23 أكتوبر للقائمة التي تٌشبهٌنَا والتي لن تتردَّدَ في كتابة دستور مَدَني سيضمن حتما لأمي أن تؤدي فريضة الحج دون أن يسرقها صاحب وكالة أسفار حفر على جبينه علامة الصلاة وهي براء منه ومن أفعاله... دستور يؤكّد أن الإسلام جزء من الهوية التونسية وليس كلها، وأن السرقة جريمة في حق الوطن قبل أن تكون في حق مواطنة بسيطة مثل أمي "فضيلة"...
هل يمكن أن نجري مقارنة بين مخرج محترف يجيد ملاعبة الكاميرا والوقوف خلف عدستها باعتداد وتوثب، وبين منشط تلفزي يقدم برنامجا تلقينيا يقف أمام عدسة الكاميرا وينتظر توجيهات المخرج لحركاته وسكناته؟
هل تجوز مقارنة المخرج رؤوف كوكة بالمحامي عبد الفتاح مورو الذي نشط برنامجا تلفزيا؟
قد تجوز مقارنة من هذا القبيل بعد أن انتهت أيام رمضان وانتهت معها العادات التي يتدثر بها التونسيات والتونسيون في هذا الشهر دون سواه لتعود ألسنتهم إلى ما التصق بها من سقط الكلام وأياديهم إلى ما استطاعت إليه سبيلا من الحركات المشبوهة، وبالمثل تعود أرجلهم إلى سالف أمكنتها وفضاءاتها بعد أن أنهوا واجبا لا مفر منه...
المقارنة تبدو ممكنة بعد أن انتهت البرامج التلفزية التي تتكدس في هذا الشهر دون سواه، ورغم البعد السياسي الذي ميز برمجة هذا "الموسم الرمضاني" فان مآل البرامج التلفزية، كالعادة، منذور إلى النسيان وفي أقصى الحالات إلى "تيمة" إعادة البث بعد شهر أو شهرين...
ومن بين برامج هذه السنة التي "منت" بها الثورة على المشاهد التونسي، برنامج "الكاميرا الانتقالية" الذي قدمه رؤوف كوكة وبرنامج مستحدث على قناة حنبعل بعنوان "صحة شريبتكم" لعبد الفتاح مورو، وان جازت المقارنة بينهما فان النتيجة التي يمكن أن نظفر بها هي هزيمة مورو أمام كاميرا كوكة، والهزيمة هنا رمزية من جهة التنافس الطبيعي بين القنوات التلفزية على استقطاب أكبر عدد من المشاهدين خاصة أن البرنامجان يبثان في نفس التوقيت تقريبا، وهو ما يفترض "صراعا" خفيا بين القناتين على نسبة المشاهدة وبالتالي قيمة الاستشهار التلفزي.
هزيمة رؤوف كوكة لمورو يمكن أن نقرأها من عدة مداخل، مشهدية وسيميولوجية وايتيقية، وحتى السياسية، فبرنامج الكاميرا الانتقالية اعتمد على الحركة والتنوع وتعدد الفضاءات في حين ظل برنامج صحة شريبتكم ساكنا يدور في نفس السياق اللغوي وفي ذات الفضاء والديكور الفاخر جدا كملابس مقدمه... وكان البرنامج الأول ذا طبيعة تفاعلية تشاركية لعب فيه المواطن دور "البطل" (ولو لدقائق) في حين أن البرنامج الثاني كانت فيه العلاقة بين الباث والمتقبل علاقة عمودية فوقية اعتمدت الأسلوب التلقيني الوعظي التي تحول معها المشاهد إلى تلميذ منضبط لتعاليم المدرس في الفصل... يستمع ولا يناقش...
هزيمة كوكة لعبد الفتاح مورو تتجلى أيضا من خلال ردود أفعال المواطنين الواقعين في كمائن مخرج الكاميرا الانتقالية، فهذا المواطن الذي التصقت به شتى النعوت والصفات السلبية باعتباره إفرازا من افرازات المجتمعات المعلبة "المابعد عولمية" برهن بطريقة عفوية وتلقائية عن طينة أخرى للمواطن الايجابي فعلا من خلال تصرفات وسلوكات اتسمت مجملها، إن لم نقل كلها، فيما تعرفه فلسفة حقوق الانسان بالأخلاق المواطنية، في حين أن البرنامج الإرشادي لعبد الفتاح مورو ظل متعاليا في برج التنظير الفضفاض حيث اللغة تعلو أكثر إلى سماء أخرى تنأى عن أوجاع هذه الأرض السفلية...
إن النتيجة التي يمكن أن نخرج بها هي أن برنامج رؤوف كوكة قدم لنا صورة عن المواطن الموجود بالفعل في ثنايا الأزقة والشوارع والمؤسسات الإدارية في تونس، في حين ظل البرنامج الثاني يرسم صورة "منتظرة" أو محلوم بها للمواطن الموجود بالقوة من خلال تكريس خطاب الأخلاق أو ما يُعرف بخطاب "ما يجب أن يكون"...
ستنظم وزارة التنمية الجهوية في الأيام القادمة ملتقى وطنيا لتقديم نتائج أعمالها للأشهر السبعة المنقضية. أعمال تركزت في محاضر جلسات أجراها ممثلو الوزارة في مختلف الجهات وتم خلالها تدارس الوضع التنموي في كل المناطق وجمعها وتوثيقها في كتاب اختارت له الوزارة عنوان "الكتاب الأبيض" تهدف من خلاله إرساء استراتيجيا تنموية هدفها تغيير واقع الجهات على مستوى التهيئة العمرانية والبنية الأساسية والحَوْكَمَة والحكم الرشيد ودور المسؤول الجهوي والمحلي... ومن ابرز المقترحات إعادة تقسيم الجهات اقتصاديا من خلال تقسيم الشريط الساحلي إلى خمسة جهات أو ما يشبه الأقاليم الاقتصادية من أجل ربط الجهات الداخلية بالساحلية.
ودون التقليل من جهد الوزارة في هذا المنحى إلا أنه من الضروري أن نبدي بعض الملاحظات التي نراها ضرورية، فأول الملاحظات التي يمكن استنتاجها هو استفراد الطرف الحكومي ـ كالعادة ـ بوضع الخطط الإستراتيجية والتفكير نيابة عن باقي الهياكل وعن المواطن في حد ذاته، فمن خلال هذا التمشي نتبين أن وزارة التنمية المؤقتة عولت على هياكلها دون غيرها، و"أقصت" أو لنقل "تجاهلت" الأطراف الأخرى من أحزاب وجمعيات ومنظمات، وخاصة منها الاتحاد العام التونسي للشغل في صياغة مشروع "الكتاب الأبيض"، وما ستقوم به في الملتقى المزمع تنظيمة لا يعدو أن يكون ذرا للرماد في العيون وإيهام بالحوار وتشريك جميع الأطراف المعنية، وهي ذات السياسة وعينها التي كان ينتهجها النظام السابق ولم تعد على هذا البلد إلا بالوبال...
الاستنتاج الثاني الذي يمكن أن نقف عليه هو أن وزارة التنمية الجهوية، ومن ورائها الحكومة، تستبطن عن غير قصد (أو عن قصد) الإقامة الدائمة في مواقع القرار والحكم، ذلك أن خططها واستراتيجياتها لا يمكنها بأي مقياس أن تكون لمدة وجيزة لا تتجاوز المدة التي تفصل الشعب التونسي عن أول استحقاق انتخابي نتمنى أن يكون حقيقيا... فالمنطق يقتضي أن تنتهي مهام الحكومة المؤقتة ليتم تشكيل حكومة جديدة سيرسم معالمها أعضاء المجلس التأسيسي المنتخبون، وحتى إن سلّمنا أن بعضالأسماء ستواصل مهامها الوزارية المناطة بعهدتها الآن لإجماع حولها أو ثقة حازتها، فإن المرحلة الراهنة لا تٌلزم أحدا بوضع الخطط والاستراتيجيات طويلة الأمد بقدر ما تتطلَّب حنكة في تسيير الأمور الإدارية وعَقْلنة المطالب الشعبية فقط.
الاستنتاج الثالث أيضا الذي يمكن أن نستشفه من "حركة" وزارة التنمية، هو إهدار المال العام والجهد البشري في تنظيم مثل هذه الأعمال والبحوث والدراسات، خاصة إذا علمنا أن النظام السابق كانت جل دراساته وخططه التنموية "رائدة" نظريا وعلى الورق فوق مكاتب الوزراء والمديرين والولاة والمعتمدين، غير أن تطبيقها على أرض الواقع كان مشلولا بقصد وبوعي كبيرين غذاهما الفرز الجهوي والطبقي الذين انتهجتهما العائلة الحاكمة سابقا بمعية أعوانها ومباركة الرأسماليين المنتفعين من هذا الفرز... دراسات تنموية أوهمت بالعدالة الاجتماعية والتوازن الجهوي ودولة الرفاه والرخاء، مثلها مثل الدراسات "الحقوقية" التي كانت تدبجها الأقلام المتمعشة من النظام النوفمبري والتي حولت تونس إلى أيقونة للحريات العامة والفردية وللديمقراطية واحترام حقوق الإنسان... دراسات جعلت المنتظماتالدولية تعتبر تونس "معجزة" على وجه الأرض...
الاستنتاج الأهم أيضا في تقديري، هو التجاهل التام للدراسات الميدانية التي أنتجتها كفاءات علمية وأكاديمية في صلب الاتحاد العام التونسي للشغل الذي آل على نفسه أن يضرب المثال العملي في بناء تونس لكل التونسيات والتونسيين، فالاتحاد العام التونسي للشغل يشبه خلية نحل لا تكل ولا تمل من إنتاج المعرفة ومراكمة التصورات والاقتراحات العملية الرصينة ذات المنطلق الواقعي والأفق الاستشرافي، والصبغة التنويرية التي تُشع على كامل البلاد أرضا وشعبا، ومن ينكر قيمة هذا المشروع لا يتوانى في الاستئناس بنتاجاته المعرفية ومعطياته العلمية وخاصة تصوراته ومقترحاته في السر وفي العلن، ولعل خير مثال على كلامي آخر الدراسات المنجزة في هذا السياق وأعني به كتاب "التنمية الجهوية بولاية سيدي بوزيد: بين الواقع المكبل والإمكانات الواعدة"، كتاب لم يكن ابيضا ولكنه برهن على الاقتناع التام بأن بناء الدولة التونسية ليست مسألة شخصية تهم هذا الشخص دون غيره أو هذه الوزارة دون سواها أو هذا الحزب دون شبيهه أو تلك الفئة دون بقية الفئات... كتاب أعد مثله الاتحاد كتبا أخرى عن الكاف والقصرين وجندوبة وقفصة... وكان أولى بوزارة التنمية الجهوية أن تعتمد هذه المنشورات كمرجع أو أرضية لعمل مشترك وبناء وطني تتعانق فيه الأفكار وتتشابك فيه الأيادي بعيدا عن منطق الوصاية والاستفراد بالرأي، فالبيت بيتنا جميعا والبناء يعنينا معا ونجاح الكتاب لا يكون إلا بتقاسم متنه بين الكاتب والقارئ.
طالعت في إحدى الأسبوعيات الجديدة حوارا مع السيد أحمد بالنور المديرالعام الأسبق للأمن أتى فيه على علاقته بالمنظومة الأمنية في عهد الحبيب بورقيبة وخصوصا حادثة قصف الإسرائيليين لمدينة حمام الشط في غرة أكتوبر1985 كما تحدث في الحوار عن بن علي الجاسوس للنظام الليبي والموساد، واختتمت الصحيفة حوارها مع أحمد بالنور بالحديث عن إمكانية تزوير انتخابات المجلس التأسيسي المزمع انجازها يوم 23 أكتوبر,2011 خاصة أن قائمة الناخبين لا تزال في أدراج مكاتب وزارة الداخلية وفي أيدي المتنفذين في هذا الجهاز.
مدير الأمن الأسبق، السيد أحمد بالنور، قرن عملية تزوير الانتخابات في العهد السابق بما أسماه "كلمة السر"، تلك التي "تخرج من وزير الداخلية إلى الوالي بسرية تامة ودون علم أي كان".
السيد بالنور قال أيضا في ذات السياق:"لسنا في حاجة إلى اللجنة العليا المستقلة للانتخابات... ولا أرى أي موجب لوجودها".
إن مثل هذا التصريح يجعلنا نستنتج بكل يسر أن السيد أحمد بالنور قد "تَفَّهَ" ثاني أهم مرتكزات النظام السابق، بعد الأمن، وأعني به تزييف العملية الانتخابية والإصرار على نسبة 99 بالمائة.
فالتزوير الذي ورثه نظام السابع من نوفمبر عن نظام المجاهد الأكبر (بشهادة الباجي قائد السبسي أحد وزراء بورقيبة) لا يقتصر على وزير الداخلية والولاة فحسب بل إن أطرافا عديدة تساهم في العملية، وأول هذه الأطراف هي الأحزاب الكرطونية التي كان يستخدمها النظام السابق شمَّاعة برَّاقة للإيهام بالتعددية السياسية وبالتنافس على مقاعد الحكومة.
كما أن وسائل الإعلام البنفسجية كانت تلعب دورا مفصليا في عملية التزييف، فقبل الانتخابات تنهال التلفزة الرسمية والإذاعات والصحف على المواطن ببرامج التمجيد ومقالات التفاخر بانجازات التحول وبأن حامي حمى الدين هو الوحيد الأوحد القادر على مواصلة مسيرة البناء والانجاز، أما بعد الانتخابات فان أبواق الدعاية التي تكون قد أخذت نصيبها من الوليمة من خلال الاشهارات والعطايا والهبات، فان مهمتها الأساسية هي شن حملات تشويه وتخوين ضد كل من يشكك في شفافية وديمقراطية صندوق الاقتراع، وخاصة ضد بعض المناضلات والمناضلين والجمعيات والمنظمات المستقلة.
الطرف الثالث المساهم في تزييف الانتخابات هي الدوائر الخارجية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا بالخصوص، فرغم علمها بزيف العملية الانتخابية فإنها تسارع لمباركة نتائجها وتفوق تلميذها النجيب الذي سيواصل رعاية مصالحها الاقتصادية والعسكرية والجيوسياسية بكل تفان وإخلاص، كما أن هذه الدوائر "تطوع" بعض وسائل اعلامها لتقديم النموذج التونسي مثالا يحتذى به في النمو الاقتصادي والرفاه الاجتماعي والمناخ السياسي الديمقراطي...
الجزء الأول من تصريحات السيد أحمد بالنور يجعلنا أيضا نستنتج أن كل وزراء الداخلية في عهد بن علي على الأقل وكل الولاة متهمون بتزوير الانتخابات، الرئاسية والتشريعية والبلدية، وبالتالي انتهاك دستور البلاد وهو ما يترتب عليه اليوم أن يقفوا جميعا أمام القضاء.
أما الجزء الثاني من كلام المدير الأسبق للأمن، والمتعلق بنفيه لجدوى دور اللجنة العليا المستقلة للانتخابات فهو أيضا فيه نظر ومنه استنتاجات كثيرة، فمن حق هذا الشعب أن يتشبث بأية بارقة أمل صادقة، أو شبه صادقة، لتأمين عملية الانتقال الديمقراطي المرجوة والتي لا ينتظرها الشعب التونسي فقط، بل كل العالم، والتشبث بهذه البارقة مأتاه أن عدة مؤشرات لا تٌنبىء بمحو "كلمة السر" من ذهن السياسيين الجدد والقدامى، ومن وزارة الداخلية في حد ذاتها التي لن تتحول بقدرة قادر وفي ظرف نصف سنة إلى مؤسسة محايدة، هذا فضلا عن سلك الولاة الحالي الذي تتم عملية تعيينه وفقا للأهواء والمصالح والرغبات والولاءات، كما أن مسألة المال السياسي والتلاعب بالأصوات الانتخابية تزداد حدة اليوم بين من تربى على شراء ذمم الناس بالترهيب والترغيب وبين طامع جديد في كرسي القصر... ولا ننسى طبعا تعويم المشهد السياسي بعد الثورة بأكثر من مائة حزب وهو مدخل منهجي إلى التّزييف والتّدليس.
كما أن الجزء الأكبر من المؤسسات الإعلامية، وبعد تغيير جلدتها لأيام معدودات، عادت إلى طريقتها ونهجها واستكثرت على أقلامها ومصادحها ما وفره لها شهداء الثورة من هامش للتحرر والحرية من قيود الرقيب والخوف، ووسائل الإعلام كما نعلم، ومثلما نلاحظ اليوم، لها دور مهم في تحويل وجهة الناخبين إلى هذا الحزب أو ذاك... بل إنها اليوم تمعن في التحريض الغبي للفئات الشعبية ضد القوى الديمقراطية والحداثية مستغلة في ذلك طبيعة انتخابات المجلس التأسيسي التي هي بالضرورة "كمية" تقوم أساسا على عدد أصوات الناخبين "المجهَّلين" الذين لا يملكون حدا أدنى للتفريق بين التوجه اليميني المتطرف الذي سيكرر منظومة الاستبداد في أشكال أخرى وبمعايير مغايرة، وبين الأفق الديمقراطي الحداثي الذي يؤمن إلى حد كبير بإمكانية بناء تونس أخرى لكل التونسيين دون تمييز أو ظلم أو استبداد...
في الأخير أقول للسيد أحمد بالنور المدير الأسبق للأمن بأن تزوير الانتخابات لا يمكن أن نختزلها في "كلمة سر" بل هي كتاب دهاء ومكر ونذكره بأن الطوباوية المفرطة لا يصدقها إلا المراهقون السياسيون...