بحث هذه المدونة الإلكترونية

2008/05/30

المخرج الفلسطيني نصري حجاج



حق العودة هو حق جينيٌّ وليس سياسيا ولا جغرافيّا...

بعد مشاهدتي للفلم التوثيقي «ظل الغياب» وفي انتظار مخرجه الفلسطيني نصري حجاج الذي حصلتٌ على لقاء معه أثناء مروره بتونس من مهرجان سينمائي في تطوان بالمغرب ليعبر إلى مهرجان سينمائي في ايطاليا أين سيعرض «ظل الغياب» تذكّرت مقولتين، الأولى للفيلسوف بوسويه تقول «إن اهتمام الناس بدفن أفكارهم عن الموت قد لا يقل شأنا عن اهتمامهم بدفن موتاهم» والثانية لم أذكر قائلها وهي تقول « ثمة شيئين لا يمكن أن يحدّق فيهما المرء: الشمس والموت» تذكّرت المقولتين لان نصري حجاج من القلائل ـ إن لم اقل انه الوحيد ـ الذي عالج عودة الجثث الفلسطينيّة من أصقاع العالم إلى مثواها الطبيعي، المقبرة الأعظم فلسطين ولان أيضا نصري حجاج استطاع أن ينظر إلى الموت بعدسة دقيقة جدا ومن خلالها يرنو إلى النظر في الشمس التي قد تُشرق يوما ما على الظلال الفلسطينية المتناثرة في الجغرافيا الكونية... عن فيلم «ظل الغياب» كان هذا الحوار مع نصري حجاج
* نبدأ بفكرة الفيلم، حديث المقابر المشتتة، كيف خامرتك أول مرّة؟ـ موضوع المقابر والحالات الغريبة من الدفن خامرتني تقريبا منذ سنة1958 في مخيم عين الحلوة حيث دفن ثلاثة أعضاء من الحزب السوري القومي الاجتماعي هذا الحزب الذي اتخذ آنذاك موقفا داعما للرئيس اللبناني كاميل شمعون لأنه كان ضد الناصرية ولان الأب كان في صراع وتصادم مع عدة أطراف قام الرئيس اللبناني بالاستنجاد بالأمريكان لحمايته!!!
وفي تلك الفترة لم يكن للفلسطينيين أحزاب وحركات منظمة فكانوا ينضمون للأحزاب القومية السورية والعراقية والمصرية وغيرها.. لذلك توفي الأعضاء الثلاثة ولم يتم دفنهم في صيدا ومنعوا نقلهم لأنهم اعتبروا خونة للحزب القومي السوري الاجتماعي وقد تم دفنهم في فناء بيت!!!
هذه الحادثة ظلت راسخة في ذاكرتي، ثم خرجت في أفريل 1969 مظاهرة في كل المدن اللبنانية تُطالب بحريّة العمل الفدائي وقد كنت ضمن المتظاهرين وكان عمري آنذاك 18 سنة وأمامي قُتل أربعة شبان منهم صديقان حميمان ـ بالرصاص اللبناني وتم دفنهم مع بعضهم في ساحة بمدرسة ابتدائية وتحديدا أمام الصفّ الذي درستُ به أنا!!! وأذكر أني في لندن سنة 1979 رغبتُ أن ادرس السينما لأنجز فيلما عن الحادثتين. وسنة 1999 ـ أي بعد ثلاثين سنة تقريبا ـ ذهبت إلى فلسطين لأوّل مرة في حياتي وشعرتُ حينها بضرورة الموت في الأرض الفلسطينية وتحديدا في قريتي «النّاعمة» التي ولدت فيها... والى الآن وأنا أفكّر في مكان جثتي ومثواي الأخير... أفكّر في قبري أين سيكون..
*يعني أن ذاكرتك صارت لها أعمدة فلسفية في علاقة بضرورة دفن الفلسطيني في قلب الأرض الفلسطينيّة؟
ـ طبيعي أن زخم الذاكرة والأحداث التي مرّت وتمرُّ بمخيّلتي وتداخل الأحلام معها كلها تتبلور وتصير فلسفة مثلما أسميتها أنت وأنا اعتقد أن الفلسطيني حالة استثنائية في العالم لأنه الشعب الوحيد الذي ليست له دولة، يحبها أو يكرهها هذا لا يهم ولكن المهم أن يعيش تحت لوائها، إن الفلسطيني ليس مشرّدا فقط أو لاجئا بل هو منبوذ هذا في الحياة فما بالك في مماته!!!
*إذن حق العودة هو حق للأحياء والأموات على حدّ السواء؟
ـ حق العودة هو حق جينيّ وليس حقا سياسيا أو جغرافيا فقط لذلك شعرت باحتمالات الموت... جورج عدة مثلا هو تونسي ولا يمكن أن يكون له حق العودة إلى «إسرائيل» على الأقل بتحليلي الجيني الذي آمنت به وصدّقته... الإنسان الذي يولد في تربة ما يحمل جينات خاصة بتلك التربة وبهوائها وفضائها..
*كيف كان وقع الفيلم لدى المشاهد الفلسطيني؟ـ عرضت الفيلم برام الله أوّل مرّة وقد أعجب به كل من شاهده ولكن البعض من الشعراء لم يحبّوا صوت درويش في الفيلم... وبشكل عام لاقى الفيلم صدّى واسعا في رام الله وفي لبنان وقد شاهده زكي عبّاس ممثل منظمة فتح وأعجبه خاصة من الناحية التوثيقية، الفيلم ايضا شاهده فلسطينيو صيدا وعين الحلوة وقد تم تكريمي بدرع مدينة صيدا.
*ولدى الطرف الإسرائيلي كيف تقبلوا الفيلم؟ـ عندما كنت أصوّر قبر ياسر عرفات أثناء جنازته كنا نصوّر في الليل والنهار، وقد جاءتني صحفية «إسرائيلية» متعاطفة مع الفلسطينيين اسمها عميرة هاس وهي تكتب في صحيفة «يديعوت» ولها كتب مترجمة فسألتني ماذا افعل؟ فأجبتها باني بصدد تصوير فيلم وثائقي عن المقابر فانفعلت بشدة وقالت لي أنها لا تهتم بقبرها أين سيكون فأجبتها بالحرف الواحد بأنها لا تملك موقفا وإحساسا بمكان دفنها لأنها أساسا لا تملك الأرض التي ستضمها يوم مماتها؟ قلت لها أنت قادرة على الموت في أي مكان أما أنا فأدفن في تراب فلسطين فقط.. وإذا ما طلب مني التلفزيون «الإسرائيلي» بث فيلم «ظل الغياب» فلن أمانع ولكن بشروط ثلاثة و هي، أولا ترجمة الفيلم ترجمة دقيقة إلى العبرية ولا ينقص منها فاصلة ولا من الفيلم مشهد واحد ثانيا وثالثا أن يدفعوا المبلغ الذي احدده أنا وشركة الإنتاج.
*كيف كانت ظروف تصوير الفيلم في الدول الأجنبية؟ـ لم يمنحوني تأشيرة الدخول إلى الولايات المتحدة الأمريكية والى الآن لم احصل عليها وقد تم تصوير الجزء الأمريكي من طرف شاب مصري يقيم في نيويورك ويشتغل بالسينما وقد صوّر هناك مع ابنة ادوارد سعيد الجزء المتعلق بموته...
في بلغاريا أيضا لم أحصل على التأشيرة وبنفس الطريقة نسقتها مع خالد بلخيرية فصوّر لنا الجزء المتعلق ببلغاريا حول ظروف دفن الشاب الشهيد نضال خليل.
أما بلندن فانا ممنوع من دخولها منذ سنة 1986 ولذلك انتقل مدير شركة الإنتاج الصديق الحبيب بالهادي والصديق خالد بلخيرية وقاما بالتصوير مع زوجة الرسام الشهيد ناجي العلي (أم خالد)...
عموما ظروف التصوير كانت صعبة للغاية خاصة من الناحية المادية ولولا وقوف شركة فاميليا للإنتاج وبالخصوص مديرها الصديق الحبيب بالهادي الذي آمن بالفيلم لما تم إنجازه، وللإشارة فنحن انطلقنا في التصوير منذ سنة 2003 ولم ننه تركيب الفيلم إلا في نوفمبر 2007.
*هل تعتقد أن الفيلم سيعرض في هذه الدول التي منعت من دخولها؟
ـ لم لا ولكن اعتقد أن هذه المسألة تعتمد بالأساس على التوزيع والتسويق والآن هناك إمكانية عرض الفيلم في صربيا وقد تم عرض الفيلم يوم 10 افريل الحالي في مدينة ميلانو الإيطالية ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان الفيلم الإفريقي الآسيوي الأمريكي اللاتيني في دورته 18 كما سيعرض الفيلم يوم 25 ماي في القاهرة في جمعية نقاد السينما، وسيعرض مجددا في صيدا بلبنان بمناسبة مرور ستين سنة على احتلال فلسطين..
*كيف تصنّف «ظل الغياب» بغض النظر عن جانبه التوثيقي؟ـ اعتقد أن السياسيين والمسؤولين الفلسطينيين لا يفكّرون بموضوع عودة الموتى إلى فلسطين، لان المفاوضات تعنى بما و أهم ـ في تقديرهم ـ مثل عودة اللاجئين والمستوطنات وجدار الفصل و... وفي الحقيقة المسألة جدّ معقدة لان هناك العديد من الأموات الذين يصعب إيجادهم فتصوّر مئات الآلاف من الأموات في شتات العالم، هناك فلسطينيون ماتوا في الحرب العالمية الأولى في يوغسلافيا عندما ناضلوا مع الأنصار ضد تيتو وآخرون ناضلوا ضد فرنكو... وغيرهم كثيرون... الفيلم بغض النظر ن جانبه التوثيقي أردت من خلاله أن أقول أن في كل مكان شخصية مهمة وحكاية مخصوصة.. ناجي العلي، غسان كنفاني، ادوارد سعيد، ياسر عرفات، معين بسيسو، أحمد الشقيري، أبو إياد، أبو جهاد.. كما أن الفيلم بغض النظر عن جانبه التوثيقي هو يدين القوانين «الإسرائيلية» التي تمنع دفن غير اليهودي في «أرض إسرائيل» بما في ذلك القدس إذا مات خارجها... «ظل الغياب» يفضح جبن دولة «إسرائيل» التي تخاف حتى من الموتى!!
*لماذا اخترت الشكل التوثيقي دون سواه ولم تختر مثلا فيلما تمثيليا؟ـ أنا لم أفكر أبدا في إنجاز فيلم روائي بل أفكّر في كتابة رواية وأنا الآن لديّ ثلاثة مواضيع سأحاول أن أنجزها في شكل توثيقي، لدي حلم وهاجس بضرورة كتابة رواية تكون في شكل سيرة ذاتية عن عين الحلوة وعني أنا.
أما لماذا اخترت الشكل التوثيقي فأنا أحببت أن أقدم هذا الفيلم كوثيقة للعالم الذي لا يعرف تلك الحقائق التي قدّمها الفيلم... الفيلم الخيالي قابل للدحض وتكذيب أحداثه، وبالعكس الفيلم التوثيقي يقدم الحقائق كما هي، فعندما أقول أن «الشاباك» أو «الموساد» منعا عدّة جثث من العودة إلى فلسطين فهذه حقيقة ولا يمكن أن تدحضها «إسرائيل»، كذلك العديد من الفلسطينيين لا يعرفون عدة حقائق.. عندما أقول أن مصر ترددت في إعادة جثمان معين بسيسو بسبب خلافاتها آنذاك مع أبو عمار فهذه حقيقة وهذا تاريخ لا يمكن نكرانه..
*لماذا اخترت صوت كاميليا جبران بالذات لإنهاء الفيلم؟ـ أولا كلام الأغنية كان مطابقا لموضوع الفيلم وكأنما القصيدة كتبت أساسا للفيلم مع أن كاتبها شاعر يوناني وقد ترجمها للعربية الشاعر ادونيس، ثانيا أنا أحب كاميليا جبران وأعتقد أن الموسيقى لم تكن شاذة عن الفيلم، ثم لا تنسى أن كاميليا جبران هي فلسطينية.
*هل تنوي إنجاز أفلام أخرى في هذا السياق؟
ـ سأنجز فيلما وثائقيا عن تاريخ اليأس الفلسطيني وآخر عن الإرهاب الفلسطيني وسأقارن فيه بين الستينيات والآن من خلال شخصيات معيّنة اعتبروا إرهابيين من المنظور لأمريكي والصهيوني وكذلك العربي أحيانا!!
* لك أن تنهي هذا اللقاء العابر؟ـ أنا أؤمن إيمانا مطلقا أني كنصري حجّاج قضيتُ عمري ـ ولا أزال ـ كجزء من حركة المقاومة الفلسطينية وأظـل بالأخير جزءا منها وبالتالي فإن السينما أو الكتابة القصصية أو الصحفية كلها تصب في النهاية في القضية وأنا كنصري حجّاج نموذج للقضية ككل فلسطيني.. أنا لم أحصل إلى الآن على جواز سفر... أنا حكاية الشعب الفلسطيني وكل ما أقوم به يصب في خدمة هذا الشعب المأساوي.. أحاول أن أرسم خطوة إلى الأمام لأجل أن يحيا شعبي الذي يستحق الحياة بكل مباهجها ولا أتخيل نفسي أني قمت ـ أو سأقوم ـ بأي فعل لا علاقة له بفلسطين...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق