بحث هذه المدونة الإلكترونية

2008/06/19

وصية جان جونيه


مهداة إلى روح محمد شكري


قالت وأبدت صفحة
كالشمس من تحت القناع:
بعت الدفاتر وهي
آخر ما يباع من المتاع
فأجبتها ويدي على
كبدي وهمت بانصداع:
لا تعجبي مما رأيت
فنحن في زمن الضياع
علي بن محمد الخولاني



"ما عادت أصابعه ترتعش, وزالت تلك الرّجفة العنيدة الّتي كانت تتملّكه في السّابق. صار يتحرّك بخفّة ومن دون توتّر ولا ارتباك, رشيق الخطوات كالبهلوان المحترف. يتنقّل بين الأروقة باطمئنان كبير وبصره يقلّب الرّفوف الخشبيّة المملوءة كتبا, بدراية جيّدة كمن ألف المكان بعد أن أصبح يستأنس بالمكتبي... عين على أكداس الكتب وعين على صاحب المكتبة.
بمرور الوقت أصبح مثل رجل أعمال كبير يضبط برنامج عمل يومي بشكل رسمي ويرتّب التّفاصيل والجزئيّات الحافّة بكلّ عمليّة: الكتاب الّذي سيحتفظ به, الكتب الّتي سيبيعها, ثمّ الحانة الّتي سيسكر فيها. لم يعد يعوّل على الحظّ أو المصادفة.
هكذا العمل أفضل يا معلّمي, فالأمر لم يعد يحتمل التردّد. إمّا أن أكون لصّا ناجحا أو لصّا فاشلا. إمّا أن أسكر وأملأ بطني الخاوية وأقرأ كتابا جديدا, وإمّا أن أنام جائعا كالكلب. عليّ أن أكون مثلك يا معلّمي جان جونيه أو أظلّ مشرّدا بائسا لا يهتمّ بي كاتب ولا يذكرني التّاريخ, وأغوص في لُجّة النّسيان مثل آلاف المشرّدين والبوهيميّين.".
نتف سالم أمين حبّتين من عنقود العنب وألقاهما في فمه, ظلّ يداعبهما بلسانه برهة من الزّمن بين فكّيه ثمّ ابتلعهما الواحدة تلو الأخرى. شرد ببصره في صورة "جان جونيه" المرسومة على غلاف روايته الأشهر "سيّدتنا – سيّدة الأزهار" الّتي حرّر صفحاتها الخمسين الأولى على ورق الأكياس, في زنزانة بسجن لاسانت بفرنسا، ثمّ نظر إلى الفقرة الّتي كتبها على نسخة مستعملة من جواز سفره وبدأ يقرأها بصوت مرتفع للمرّة العاشرة تقريبا. توقّف عند جملة " عليّ أن أكون مثلك يا معلّمي جان جونيه" كرّرها أكثر من مرّة ثمّ أمسك زجاجة البيرّة من عنقها وألصقها بشفته السّفلى وظلّ السائل الأصفر ينسكب في بلعومه إلى آخر قطرة في الزّجاجة وعيناه ثابتتان على المرآة المعلّقة وسط الجدار المقابل تماما...
كان يبحث عن انسجام ما مع ملامح وجهه المنعكسة على بلّور المرآة... على صفاء روحي يمكّنه من الانسلاخ عن أيّة حساسيّة أخلاقيّة مقيتة تثنيه عمّا يجول بخاطره... في الحقيقة كان يبحث عن أيّ شيء يعيد ترتيب حياته ويخرجه من حالة التشيء والعدميّة الّتي صارت تطوّقه منذ أن أنهى دراسته الجامعيّة...
المكتبة منتصبة بكتبها الألف على جانبه الأيسر وصكّ الكتبيّ ملقي فوق الطّاولة حذو صحن العنب والقرار لا يزال معلّقا في ذهنه بين الرّفض والقبول.
هل فعلا طنجة أثمن من مكتبتي؟ هل التسكّع بين أزقّتها وسوقها الداّخلي و"البولفار" والسّكر في حانة "الباراد" واحتساء كأس شاي بالنّعناع في مقهى "زاغورة" أمتع من السّفر بين ثنايا كلّ هذه الكتب؟؟
هل فعلا سينقذني السّفر إلى طنجة أو إلى أيّ مكان خارجي من ضيقي واختناقي هذا أم أنّي بحاجة إلى سفر داخلي في روحي وتصالح مع ذاتي؟؟...
يا إلهي رأسي ستنفجر عمّا قريب. طنجة والبيرّة والكتب هذا كثير على رأسي المسكين. ملعونة هذه البيرّة. لا. لا. لست ملعونة أيّتها الزّجاجة الطيّبة لقد أسعفتني بالقرار العظيم. جيّد. جيّد جدّا سأهدي كتبي الألف الّتي سرقتها على امتداد ثماني سنوات إلى المكتبة العموميّة بالقرية. هذا أفضل, لعلّ أولئك الجهلة التّعساء ينتفعون بما تحمله, ثمّ سأسافر إلى "طنجة الخيانة" دون أن اقتطع تذكرة سفر كما فعلها ذلك اللصّ الأصلع جان جونيه لمّا سافر من مدينة " مو" إلى باريس. هذا جيّد جدّا, أنا لست سكرانا ولا مجنونا. سأسافر هكذا بعد أن أصرف صكّ الكتبيّ قبل موعدي معه مساء الغد, حتما سأحتاج هناك إلى بعض الأموال في البداية لأبعد عن نفسي رائحة التّسوّل الّتي خنقتني في هذه المدينة المزبلة...
الأموال ضروريّة قبل أن أكسب بعض الصّداقات الحقيقيّة الّتي فشلت في إقامتها هنا مع هؤلاء البشر القذرين الّذين يحيطون بي كالقطط السّائبة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق