بحث هذه المدونة الإلكترونية

2008/08/15

مسرحية "خمسون" للجعايبي على مسرح قرطاج بتونس :


استنزاف الذاكرة لتوطين الجراح

* التاريخ: خمسون سنة على استقلال البلاد أو ما يشبه...
* المكان : على مرمى خطوات من أقبية وزنازين، وحانات ومقاه عجت ـ ولا تزال ـ بأحلام وآمال وأفكار وأجساد وبقايا أجساد...
* الحدث : أول عرض لمسرحية «خمسون» عن نص لجليلة بكار وإخراج للفاضل الجعايبي.
* الممثلون : جليلة بكار، فاطمة بن سعيدان، بسمة العشي، وفاء الطبوبي، لبنى مليكة، دنيا الدغماني، جمال مداني، معز المرابط، رياض الحمدي، خالد بوزيد، حسني العكريمي مع صوت فتحي العكاري.
* المشاهدون: خمسونيون، أربعينيون، ثلاثينيون، عشرينيون... مثقفون وأشباه، سياسيون ومتملقون، جيل مكرم وجيل مستهدف وما بينهما سوط وأعقاب سجائر... حقد وذغائن وتشف وندم وإصرار...متناقضات لا عد لها ولا حصر.
* إشارات بعيدة وقريبة:ـ استاذة شابة ومتحجبة تفجر نفسها وسط ساحة معهدها.
ـ طالبة عائدة من باريس حيث انتقلت من القناعات العلمانية الى اكتشاف الفكر الإسلامي تتورط مع شبان آخرين في عملية تفجير صديقتها.
ـ شرطة سياسية أخطبوطية تحقق
ـ أب مناضل يساري ينهار وأم حقوقية تحتار تبحث عن أسباب تحجب ابنتها وابتعادها عن قيم والديها.
ـ شباب تائه مرتمي في أحضان صناع حلم بائس.
ـ خمسون سنة تمضي.
ـ ماذا تأسس وماذا تقلص؟
ـ ماذا تحرر وماذا تفجر؟
ـ أفق مسدود أم رجة مرتقبة تنبئ بأمل جديد؟
يتفق الفيلسوف الألماني»ولتر بن يامين» والمنظر الفرنسي «لويس ألتوسير» على أن العمل الإبداعي يظل ناقصا ولا يكتمل إنتاجه إلا في عملية استهلاكه، وما تفضي إليه هذه العملية من علاقة جدلية (dialectique) بين البنيتين التحتية والفوقية في الإبداع ذاته، أي العلاقة بين الإبداع من حيث هو نتاج، ومن حيث هو إيديولوجيا. هذا الاتفاق يتجاوز نظرية «تيوفيل غوتييه» القائمة على مقولة «الفن للفن» (lصart pour lصart) ويقوضها تماما، ليؤكد على أنه لا وجود لفن خارج دائرة الايدولوجيا، وأن الايدولوجيا تتسرب وتنفذ الى المتقبل /المرسل إليه عبر التعبيرة الفنية ذاتها، وللإشارة فإن الايدولوجيا حسب تعريف «لوسيان غولد مان»«هي رؤية مشوهة لا جدلية ولا تاريخية لأنها تنبع من أوهام مركزية الأنا الأنانية» فلا تعيش الايدولوجيا إلا في ظل الصراعات مما يكسبها بعدا سوسيولوجيا ثقافيا عائما (flottant).
هذه العلاقة الملتبسة والمعقدة بين الرؤيتين الفنية والإيديولوجية، يمكن لأي عقل يشتغل على موضوعاته بفطنه وحدس نسبيين، ويمارس أسلوبه وفق قاعدة عقلانية وأرضية ابستيمية محض تخول له نقد/نقر المعنى في وجهه الأصيل وفق قراءة كاشفة (lecture décapante) لذاك الركام الهائل من الأسئلة ونقاط الاستفهام والاستنكار والتعجب التي تناثرت كالشظايا المنفلتة من الأحزمة الناسفة وسط المسرح البلدي، لتغور عميقا في ذاكرة الجيل المكرم في مسرحية «خمسون» للجعايبي وبكار من جهة، وراهن ومستقبل الجيل المستهدف من خلال الخطاب المسرحي الذي قدمته مسرحية خمسون من جهة ثانية.
* نص غير بريء...أسئلة وأسئلة وأسئلة لا توصل إلا الى هذيان محموم، وإرباك معرفي، ولا تماسك أنطولوجي... أسئلة مدوية بحجم الانفجار المدمر، والمقوض لكل بناء مهزوز من الداخل... أعواد ثقاب حارقة تلقى هنا وهناك، لتشعل حرائق قادمة من رماد خمسين سنة مثخنة بخسارات، وخيبات، وانكسارات، واحباطات، توسدها جيل وأكثر: يوسفيون، جماعة العامل التونسي، ترتسكيون، ماويون، وطنيون، شعلة، أحزاب سرية وأخرى علنية، نقابيون شرعيون وآخرون منشقون، أصوليون ومتطرفون... إخوان ورفاق...
ديمقراطيون وليبراليون وشيوعيون ومسلمون... في تغييب لحركة فيفري وحركة آفاق... وأحداث الخبز... وغيرها من الاحداث الفارقة في تاريخ البلاد...
ذاكرة أجساد وبقايا أجساد: ذاكرة شاعر وسياسي وقواد ونادل وحقوقي وتقدمية وعاهرة وروائي وطالب وطالبة وبوليس ومرشد... حركات وحلقات ونقاشات وخلايا ومناشير ومؤامرات وذكْرٌ وصلوات ومجالس وعظ وارشاد... تكتيك وإستراتيجية وتحالف الضد بالضد... آمال وأحلام.... جميعها انفرطت مثل حبات عقد أميرة من الزمن الغابر، فأججت وأضرمت لدى ذاك الجمهور «النوعي» الذي حضر أول عرض لآخر انتاجات «فاميليا « مسرحية «خمسون» أو «أجساد رهينة»، والذي ألفى نفسه مورطا من حيث يعلم ولا يعلم في أحداث صنعتها خطاه هو وجسده هو وفكره هو طيلة ما يربو عن نصف قرن كامل من تاريخ تونس الحديثة... تاريخ بلد الحبيب والغريب...
«خمسون» الفاضل الجعايبي وجليلة بكار أكدت، بشكل أو بآخر، ما سبق أن حدده الفيلسوف ميشال فوكو ضمن كتابه»المعرفة والسلطة» من أن «التاريخية التي تجرفنا وتحددنا، هي تاريخية حربية لا لغوية، والعلاقة علاقة سلطة لا معنى»، فصراع الأضداد، أو صراع الهويات، الهويات الرسمية المصلوبة في أزيائها الرسمية والهويات المتمردة المارقة عن الأطر والأسيجة الحديدية والدوغمائية، هو العمود الذي تراكمت فوقه خمسون سنة من تاريخ النضال والقمع، من تاريخ السياسة والثقافة من جهة، وتاريخ الاستبداد والجهل من جهة مقابلة وفق عملية تبادل رمزية (La valeur dصéchange symbolique) تارة تأخذ شكل المهادنة والمخاتلة أو المسايرة، وطورا آخر تشتد حدة القمع والردع والنضال والاستبسال من كلا القوتين، ليظل، حسب الجعايبي وبكار، الجلاد هو الراقص فوق الجثث المشلولة أو المعطوبة الأحلام والقوى دائما وأبدا حتى فوق خشبة المسرح، انه «قدّور» القادر والمقتدر في كل آن وأوان وفي كل ركن وزاوية، والقامع هو المنتصر... فحتى لعبة الضوء المعتمدة فوق الركح، ذاك الركح الخالي من أي ديكور أو تزويق في إشارة راشحة الى الخلاء المعمم، تعلن عن طبيعة العلاقة أو النظرة القائمة بين القامع والمقموع من جهة، وبين المكرم والمستهدف من جهة ثانية، فالضوء في مسرحية «خمسون» دائما ما يٌرسل بطريقة عمودية (ثلاثية أو ثنائية أو أحادية) ونادرا جدا ما يٌستخدم بطريقة أفقية.
* هل نتحمّل وزر هزائمكم ؟«خمسون» اجترحت بما فيه الكفاية وأكثر، أسئلة ونقاط استفهام وتعجب واستنكار، لم تترك المجال لجيل ما بعد نصف قرن من «الاستقلال»، إلا أن يرفع شعارا واضحا وقاطعا وصارما :» أيها الأساتذة إن شيخوختكم توازي شيخوخة ثقافتكم....» شعار لا أخال أن الجعايبي وبكار ورفاق درب الخمسين سنة الماضية، لم يسمعوا به أبدا، لأنهم رفعوه هم أيضا إبان اشتعال جذوة التمرد داخل أسوار جامعة السربون في ماي 1968 .
الجيل القابل للتحول من ضفة لأخرى... والانتقال من فكر الجدل والمادة (بطلة المسرحية التي فجرت نفسها أستاذة فيزياء) الى تهويم اللاهوت والميتافيزيقا بمجرد أن تطأ قدما شارون عتبة مسجد الأقصى، هو ذاته وعينه الذي أنجز مسرحية «خمسون»: بسمة، لبنى، دنيا، جمال، معز، رياض، خالد، حسني... وهو الذي ملأ نصف المسرح البلدي ولا يزال... كيف يمكن لتاريخ من تمرس بآليات التحليل المادي الجدلي والذي آمن بالديالكتيك وبأن الصراع أبو الأشياء، أن يقدم طرحا ميكانيكيا بسيطا يفتقد لأي مبرر منهجي أو مسوغ منطقي؟ كيف تتحول أستاذة فيزياء ماركسية ابنة ماركسي وحقوقية في ظرف أربعين يوما الى كائن متطرف في التفكير والفعل...أهي أيام العدة والإنقلاب الإيديولوجي في عرف «الكبار»؟!!!
أي أفق كان ؟ وأي مستقبل سيأتي ؟ من هي الجماعات الضاغطة ومن هي الجماعات المضغوط عليها ؟ هل الانفجار لا يكون إلا باسم الإسلام تحديدا وليس باسم الدين عمومـا ؟ هل يمكن أن تتراجع الروح الرفاقية أمام المد الاخواني وتسقط أمام بعض الأشعار الصوفية ؟ هل الثقافة لا تقدم إلا في الجبة الفلكلورية ؟ هل الخطاب الأصولي هو شجرة المنتهى ومصير من فاتهم أن يكونوا خمسينيون ؟
إن متواليات العبث والعبثية، والسواد والسوداوية التي صارت تطوقنا من كل المنافذ والجهات، في المعاهد والجامعات... في المقاهي والحانات... في مكاتب العمل وعلى أرصفة الشوارع... أمام شاشات التلفزات الملونة والمسطحة... على أعمدة الصحف والمجلات... كلها وغيرها كافية لأن تجعل الكائنات المترنحة تتورط في خطابها والانجراف في تيارها... ولكنها غير مبررة لأن تجعل البديل الفني والفكري يسقط في براثينها ويكرر مقولاتها من حيث يعلم ولا يعلم، حتى وان كان الخطاب خطاب تذكر لا خطاب استشراف...
هي ذي اضمامة أسئلة ونقاط استفهام وتعجّب أولى تقفز عشوائيا ودون ترتيب منهجي، بعد أوّل مشاهدة لـ»خمسون»، وحتما ستتناسل عنها أسئلة ونقاط أخرى، كتلك التي تجول الآن لدى كل من شاهد العرض، سواء من «شيوخ» الجيل السابق أو من «شباب» الجيل الراهن...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق