بحث هذه المدونة الإلكترونية

2009/01/05

نموت، نموت لتصدح الأغاني



مع انطلاق العدوان العدوان الصهيوني الهمجي على الأراضي الفلسطينية وتحديدا على قطاع غزة، جنت أغلب الإذاعات العربية، وأعلنت ثورات صوتية من داخل استوديوهات البث التابعة لها، حتى أن أحدهم – وهو أنا – فكر في وضع صخرة عظيمة فوق الراديو لإخماد الأصوات الهادرة داخل العلبة الالكترونية، خوفا من اندلاع ثورة ما فعلا في إحدى البلدان من جغرافيتنا العربية، أليست مقرات الإذاعات هي أول ما يتم اقتحامه إبان حدوث ثورة ما في هذا البلد أو في ذاك؟

طيلة أيام هدا العدوان الغاشم أفرغت الإذاعات الدولية والوطنية والجهوية والخاصة... كل ما في ذاكرتها من أغان ثورية وخطب حماسية وشعارات تعبوية، تضامنا ومساندة للشعب الفلسطيني في نكبته المتجددة مع العدو القديم (وكأنهم اكتشفوا نكبة فلسطين اليوم فقط)، وكل الأطفال الدين كبروا مع مختلف ألوان الموسيقى الغربية/التغريبية مثل الهيب هوب والهارد روك والتكنو... وكل الألوان الأخرى التي أجهلها ولا أستحضرها الآن صاروا – في ظرف أيام معدودات - موسوعيون في أغاني فيروز وأميمة خليل وجوليا بطرس ومرسال خليفة وأمال الحمروني وسميح شقير وخالد الهبر والشيخ إمام عيسى وجمال قلة ومجمد بحر ومجموعة الميادين والبحث الموسيقي والعاشقين والحمائم البيض وأولاد المناجم وجيل جيلالة وناس الغيوان... وكل الأصوات المتسامقة في قلوبنا والمغمسة مع حليب أمهاتنا منذ أول الحجر... حتى أن أحد هؤلاء المذيعين عندما ارتبك وهو يسال عن غير قصد (أو عن جهل وهذا هو المؤكد) من هي "حماس"؟‼‼ تدارك أمره وجهله فعاجل المستمعين بأوتار الموسيقى، وربما أيضا ليرد عن مصدحه الصدأ تلك الصخرة المعلقة بقبضة أصابعي‼

... أن نتعاطف مع قضية تحررية في العالم، حتمية لابد منها، على الأقل لضمان الشرط الإنساني الأول: الحرية. وأن تكون تلك القضية التحررية هي قضيتنا نحن بالدرجة الأولى، فان الأمر يتجاوز منطق التعاطف، أو على الأقل علينا أن نعي بأن التعاطف هو الخطوة الأولى والحلقة المؤسسة للمشاركة في النضال الفعلي والحقيقي والدائم بالأساس – لا الموسمي – من أجل القضية، قضيتنا، قضية لبنان وفلسطين والعراق، قضية الأنا العربي أمام الآخر الغربي طبعا الغربي المستعمر الهمجي.

ولكن تعاطف الإذاعات العربية مع الشعب الفلسطيني – وقبله اللبناني والعراقي - إبان اغتصاب أراضيه بجنوبها وشمالها، بدا كالحمل الثقيل الذي سارعت كل المحطات الإذاعية للتخلص منه، أو كالواجب الذي لا مفر من إسقاطه بأي شكل...

ولعل الشكل الأنسب لوصف الحالة الثورية التي تملكت المذيعين والمذيعات (مع الاستثناءات المتناثرة هنا وهناك)، يشبه شكل راقصة كباريهات صرت فساتين رقصها داخل حقيبتها اليدوية ووقفت ساعة أو نصفها في جنازة والدتها لتقبل العزاء فيها فتمضي بعدها نحو مرقصها في كامل زينتها وأناقتها لتواصل هز أردافها على خوان من اللامبالاة وعدم الاكتراث لما حصل ولما سيحصل عما غد وبعده؟؟؟

إن هذا التعاطف المتملق – وان كانت بعض نواياه حسنة إن لم نقل ساذجة – ليس بالأمر الغريب على هؤلاء المذيعين والمذيعات الدين يعبثون بآذاننا كل يوم، وهم يجتهدون قدر المستطاع للظهور بمظهر التلميذ النجيب أمام أمريكا المعلم الحازم الذي يتقن جيدا ترويج السموم الثقافية المعبرة عن انخرام القيم الاجتماعية داخل نسيجها الاجتماعي وعن تفككها الأخلاقي والجمالي (الايتيقي والاستيتيقي) ...

هي في الحقيقة لا تتقن ذلك وإنما نحن الذين نتقن جيدا جدا الابتلاع والهضم والقبول... فصنعنا نحن بأيدينا تلك الأسطورة المسماة أمريكا... أليس القوي بالنهاية هو من يستمد قوته من ضعف الضعفاء وجبن الجبناء؟.

هل قُدّرَ علينا نحن العرب، منذ أن جُبلنا على تناسل الهزائم والانكسارات فوق جسدنا الجغرافي المنهك بأيدينا نحن ولا أحد سوانا، وداخل ذهنيتنا الحضارية بشتى أبعادها، هل قدر علينا أن ننتظر كل عقد أو عقدين من الزمن انتهاكا ما أو عدوانا غادرا لنقيم على نخب الضحايا الأبرياء ثورات صوتية مجعجعة كدق الطبول مثل التي تابعنا ونتابعها هذه الأيام.

مات عبد الناصر واغتيل المهدي بن بركة والدغباجي وفرحات حشاد واغتيل عمر المختار والفاضل ساسي ومحمد بوضياف وياسر عرفات فغنينا وأذعنا الأهازيج والأغاني...

اغتيل غسان كنفاني وحسين مروة ومهدي عامل وسعد الله ونوس... ومات منور صمادح وعبد الرحمان منيف ومحمد شكري وفدوى طوقان وادوارد سعيد وعبد الحميد خريف ومحمود المسعدي ورحل محمود درويش... فغنيناهم وشيعناهم بالأشعار التأبينية...

وحتما سيموت هشام جعيط ومحمد أركون وسميح القاسم وأدونيس... وستموت فيروز ونوال السعداوي وحنان عشراوي... وطبعا ستغنيهم كل الإذاعات العربية وتؤدي واجب العزاء فيهم وفي الآتين من بغدهم...

اغتصبت صبرا وشتيلا ودير ياسين وقانا وصيدا ونابلس وسامراء وبغداد والفلوجة وبعقوبة... ولا نزال نثقب أذاننا بالأغاني والألحان الموسيقية...

إنها لمفارقة عجيبة وسريالية عندما تًلقم الإذاعات العربية الأغاني الهادفة والأشعار الملتزمة للأموات منا وتخدر الأحياء منا بالضجيج المؤدلج وبالأدران الحبرية المتواطئة...

أليس الشعر هو محرك الثورات؟ أليست الأغاني الملتزمة هي جذوة المقاومة ومنها تستمد نسغ استمراريتها وقوة صمودها؟ أم أننا شغلنا بترتيب الأغاني القيصرية التي تتساقط على أذاننا كل دقيقة بحجم جثث المقاومة الأبية في فلسطين والعراق ولبنان؟؟؟ ونرفع جسورا للصمت واللامبالاة بين أذاننا وقلوبنا لنمعن في الرقص فوق أشلاء الجثث المحترقة، جثث الأموات منا والأحياء على حد السواء، ونقدم بالمقابل ظهورنا قبل صدورنا لنيسر للعدو الطعن والهتك ونحن نبتسم ووجهتنا نحو القبر الذي نحن فيه نتنفس منذ قرون؟؟؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق