بحث هذه المدونة الإلكترونية

2010/01/04

القفز بالزانة



تمكنت العديد من الشعوب، التي ركبت قطار المدنية والحضارة والحداثة، من صنع تاريخها من خلال الاعتناء بالأمور البسيطة أو التي نراها نحن بسيطة وعابرة، وأولت التفاصيل اليومية الأهمية الكبرى في برامجها ومخططاتها بعيدا عن الشعارات الرنانة التي تنأى عن الواقع.
وتفطنت تلك الشعوب إلى أن الطريق إلى الديمقراطية وضمان الحريات الفردية والعامة وتأمين العدالة الاجتماعية هي السقف العالي الذي لا يمكن أن يرتفع في غياب تلك التفاصيل البسيطة والعابرة، تلك الممارسات الحضارية... في حين صرنا نحن محترفين في القفز بالزانة لنسوق الوهم بأننا على طريق الحداثة سائرون وفي قاطرة المدنية والحضارة راكبون...
تماما مثله، نقفز نحن بسرعة المتسابق في مضمار ألعاب الجمباز وهو يطوح بساقيه ليتجاوز الحاجز متكأ على تلك الزانة المصنوعة من الألياف الزجاجية، مثله تماما، بل أفضل منه نقفز نحن على تلك التفاصيل البسيطة ونلهث بخطبنا الرنانة وبياناتنا الفضفاضة في كل منبر يعترضنا أو نصطنعه أو حتى نسطو عليه... لتظل تلك القيم الكونية تهويمات سياسية بعيدة كل البعد عن أرض الواقع وتتسع الهوة بين ما نحياه في الشارع وما "نحياه" في الشاشة... ونمعن في التصديق بأننا نعيش فوق أرض خصبة مكنتنا من "تبيئة" الديمقراطية والحرية... وجعلها تمشي معنا فوق الأرصفة وتصعد معنا الحافلات وتدخل الإدارات والأسواق... ونجحنا في "ترويض" الحريات الفردية والعامة وجعلها أليفة بالشكل الذي باتت معه تتفسح معنا في الساحات العامة وتذهب معنا إلى البحر وتمتثل، مع البعض منا، لإشارات المرور... وحققنا اكتفائنا الذاتي من تلك القيم الكونية التي "يتشدق بها الغرب علينا" بل صار لدينا فائضا في تصريفها بيننا... وأعتقد أننا في قادم الأيام سننشئ لها صندوقا مخصوصا بها...
أعود إلى القفز بالزانة، إلى تلك الشطحات البهلوانية التي لا أعرف متى سننتهي منها، وأخشى أن نصل في يوم ما إلى الإتيان بم أتاه وصيف بطل العالم في رياضة القفز بالزانة الفرنسي رومان مينيل الذي قام بالجري عاريا في شوارع باريس منذ سنتين تقريبا للحصول على الرعاية المادية...
ربما أكون قد تورطت كثيرا في تلافيف اللغة ولم اقل شيئا ذا بال، وظللتُ أداعب الحروف والمفردات مثلما يداعب اللاعب طرف الزانة استعدادا للقفز، غير أن تورطي هذا يدخل في باب ما ننعم به من ذاك الفائض القيمي الذي بلغناه وتلك التخمة التي نحن فيها والتي تفسح لك المجال لتقول كل شيء وفي الآن نفسه لا نقول أي شيء...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق