بحث هذه المدونة الإلكترونية

2012/03/03

بيتنا من الزجاج

عندما انتفضت الفئات المفقرة والمهمشة في المناطق المنسية وجدوا دور الاتحاد مفتوحة لهم، تحميهم من آلة البوليس وتشحنهم بالأغاني والأناشيد، وتمنحهم ما تيسر من حليب وماء وخبز... عندما ارتبك النظام السابق وحاول أن "يُقحم" الاتحاد في كرة النار التي أشعلها في البلاد، كان موقف النقابيين واضحا لا لبس فيه: ارحل أنت وعصابتك... فما عاد لك مكان بيننا... وعندما اخرج ذات النظام جوقته لحياكة مسرحية بائسة ليلة رقصته الأخيرة كانت دور الاتحاد تتأهب للإضراب العام الذي حول دماء الشهداء حبلا طويلا يلف رقبة رؤوس الفساد ليفروا فرادى وجماعات إلى وجهات متفرقة... دخلنا في انفلات امني، وتناسل المجرمون من السجون ومن الشوارع الخلفية لينهبوا ويحرقوا ويجعلوا الرعب خبزنا اليومي، فكانت دور الاتحاد فضاء للجان حماية الثورة وتجند أبناء الحامي وحشاد لدفع الخوف بعيدا عنا وتأجيج الأمل في الصغير قبل الكبير... قفزت الحكومة الأولى من جبة النظام الفاسد فوقف الاتحاد على الضفة الأخرى وقال أن لا مكان لمن تورط في قتل الأبرياء وتأبيد الظلم والاستبداد، ولم يقف الاتحاد صامتا أمام هذه الحكومة بل أشعل جذوة النضال لإسقاطها وإنهاء حلقة جديدة من المنظومة السابقة... جاءت حكومة الباجي قائد السبسي، بقرار فردي من فؤاد المبزع، ولم تكن هيبة الدولة إلا الحمار القصير الذي سيواصل مسيرة قطع الأفق الثوري الذي حلم به الشعب، فكانت مرة أخرى دور الاتحاد أرضا خصبة لمواصلة المد الثوري فكان الإعلان عن انتخاب المجلس التأسيسي وحل الحزب الحاكم سابقا وحل البرلمان ومجلس المستشرين... وكان أيضا للاتحاد الدور الايجابي في إمضاء اتفاقيات قطاعية هامة لفائدة العمال والموظفين... دخلت الأحزاب السياسية والقوائم المستقلة في سباق الانتخابات وتأججت حمى الوعود الطوباوية، فقرر الاتحاد أن يكون بمنأى عن هذا السباق، لإيمانه العميق بان دوره الحقيقي في هذه البلاد هو البعد الاجتماعي والاقتصادي، ولم يتأخر في ذات الوقت عن دعم كل نفس ديمقراطي... لإيمانه بان العدالة الاجتماعية لا تتحقق إلا في مناخ ديمقراطي مبني على الحوار لا على الإقصاء والاستحواذ بالرأي... انتصرت الأحزاب التي استباحت كل الوسائل، لتنقض على عنق البلد وتشرع في نسف ارث حضاري ومدني باسم الأغلبية، فاحترم الاتحاد هذا "الوهم" وواصل نضاله الميداني إلى جانب العمال والمهمشين والمحرومين، ديدنه في ذلك مبادئ رواده ومؤسسيه وما أتاحته الثورة من إمكانات جديدة لمراكمة المكاسب الاجتماعية والمادية لمنظوريه... ساهم بدستور اجمع الخبراء والجامعيون على عمقه وجدته وطرح مشروع مجتمعي مبني على العدالة الاجتماعية والتقسيم العادل لثروات البلد والفصل بين السلطات... واحترام الحريات الفردية والعامة... هكذا ظل الاتحاد العام التونسي للشغل يتحرك في بيت من الزجاج الناصع، لم يحترف لا المواربة ولا الإيهام، ولم يلق حجرا على أي طرف كان... غير أن الأوصياء الجدد على الشعب التونسي لم يتقنوا سوى إلقاء الحجر تماما مثلما يلقي الفاشلون أخطائهم على الغير... لن أقول بأن من يسعى لتهشيم زجاج بيت النقابيين ستدمى أقدامه، ولكن أقول بأن هذا البلد لا يحتاج إلا إلى بيوت من زجاج...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق