بحث هذه المدونة الإلكترونية

2008/02/19

جورج حبش... جورج وسوف...


قد يتبادر إلى ذهنك أيها القارئ أنني سأخطّ رسالة إلى صديق ما اسمه جورج فالعنوان الذي تخيّرته لهذه الأسطر يحيل بالفعل على كتابة الرسائل، وسوف أشاطرك التخمين الذي ذهبت إليه وأعتبر ـ معك ـ هذه البطاقة رسالة، غير أنني لن أكتبه لشخص ما اسمه جورج ولكن سأكتبها لك أنت ولكل شاب وشابة تونسية غرّبتهم «الثقافة المترديّة» وسطّحت عقولهم فصاروا يخلطون بين جورج حبش وجورج وسوف!!!
«جورج» هو اسم يتردد كثيرا في المجتمعات الانقلوسكسونية لإحالته على الملوكية وشائع في تلك المجتمعات ان من كان اسمه جورج وكلّلت حياته بنجاح ما فإنه يسمّي ابنه «جورج» أيضا ليستمر في النجاح. وبالفعل كثيرون هم الذين تركوا بصماتهم في التاريخ الإنساني وكان اسم جورج ولكن للأسف الشديد أن اغلب جيل اليوم لا يعرفونهم ولم يسمعوا عنهم قطّ وقد اكتشفت ذلك مؤخرا فبمجرّد أن سمعت بوفاة مؤسس حركة القوميين العرب الحكيم جورج حبش منشئ الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين سنة 1968 التي تبنت مبدأ العنف الثوري من أجل نشر الوعي العالمي بالنضال الفلسطيني وبقضية الوطن المغتصب من الكيان الصهيوني، بمجرّد أن سمعت بوفاته طفقت أرسل رسائل هاتفية والكترونية ـ كالمعتوه ـ إلى الكثير من أصدقائي وصديقاتي، وما لبثت أن أصبت بصدمة اعتبرتها اكبر من صدمة موت الحكيم... فواحدٌ يجيبني من هو جورج حبش وأخرى تقول لي هل هو حيٌّ وثالث هاتفني بصوته وقال لي بالحرف الواحد: «يا رجل لقد أفزعتني واعتقدت أن جورج وسوف هو الذي مات!!!».
هو ذات الجيل الصاعد... الجيل الذي سيبني ويعلي... الجيل الذي لا يلبس إلا الماركة الشهيرة «جورج آرمني» وينتظر آخر تقليعات مصمّم الأزياء جورج شقرا ويتابع لمسات اللاّعب جورج وياه ويشاهد أعمال النجم الامريكي جورج كولوني ويرتعب خوفا على صحة جورج وسوف ويفضّله هو وجورج الرّاسي في الغناء... الجيل الذي لا يفوّت حلقة واحدة من برنامج جورج قرداحي... انّه الجيل الذي يثق تمام الوثوق في مشروع جورج بوش لتحرير العراق وفلسطين وكامل المنطقة... هو ذا الجيل العظيم الذي يسمونه «شباب تونس» و»شباب القرن الحادي والعشرين»!!!إنّه عينه وذاته الشباب الذي لا يعرف جورج حبش ولاجورج حاوي ولا جورج باطاي ولا جورج قالووي ولا جورج طرابيشي ولا جورج عدّة ولا جورج لوكاتش ولا جورج برناردشو ولا جورج بيزيه ولا جورج أوريل أو حتى جورج مايكل...
عزيزي جورج... عزيزي القارئ... ليست هذه رسالة مضمونة الوصول لشخص بعينه وإنما هي زفرةٌ عابرة على ورق عابر في يوم عابر من أسبوع عابر في حياة عابرة هي حياة شباب تونس وشباب القرن الحادي والعشرين... ولست أغالي أبدا فالمعرفة هي المحرار الوحيد لمعرفة صدق الرهان على جيل ما...

2008/02/05

حوار مع باعث قناة حنبعل التونسية العربي نصرة:


التعددية الإعلامية هي محكّ الشفافية والنزاهة الإعلامية
لن نضيف جديدا للقارئ إذا قلنا أن القناة التونسية حنبعل أحدثت رجّة هائلة ـ وفق عبارة بول ريكور ـ في المشهد الإعلامي الوطني والإقليمي، ذلك أن القناة منذ انبعاثها سنة 2005 اخترقت الأفق الأحادي الذي كان جاثما على المشاهد التونسي من جهة، ومن جهة ثانية كسبت ثقة نفس المشاهد من خلال تغلغلها اليومي بصفة مباشرة في تلافيف المعيش التونسي وصميم الحراك الاجتماعي والاقتصادي والثقافي.
يمكن الإقرار، بعد ثلاث سنوات، بأن حنبعل صنعت لنفسها شخصية مستقلة بذاتها ذات خصوصية ومميزات اجتهدت أسرتها الإعلامية والإدارية وعلى رأسها باعثها التونسي العربي نصرة، في تطويرها والحفاظ عليها، بل وجعلها مرجعا لغيرها من الفضائيات التي صارت تستنسخ من قناة حنبعل بعض طرائقها وأساليبها في التنشيط وإدارة البرامج وحتى في الاختيارات والضيوف.
ورغم ما تعيشه قناة حنبعل من ضغوطات وعراقيل غير مبررة ـ مثلما صرّح صاحبها ـ فان القناة لا تزال قائمة الذات، تسير بنفس النسق والإصرار في نهج الاختلاف والإضافة الذي اختارته منذ بدايتها، بل هي وصلت إلى مرحلة الرشد والنضج ولا أدل على ذلك من المولود الجديد الذي سيرى النور يوم 13 فيفري 2008 المتمثل في قناة جديدة ستكون بمثابة فاتحة لباقة كاملة من القنوات، كشف لنا السيد العربي نصرة تفاصيلها ضمن هذا الحوار الذي خصّنا به:
* تطفئون يوم 13 فيفري 2008 الشمعة الثالثة لقناة حنبعل، فهل أنتم راضون عمّا حققتموه؟
ـ كان من المفترض أن نطفئ الشمعة الرابعة لان ترخيص القناة تأخر مدة سنة كاملة، ولكن اعتقد أن ذلك كان في صالحنا، (رب نافعة ضارة) فقد انطلقنا بشحنة كبيرة من الحماس والاتقاد لم تخب إلى الآن وهو ما يجعلني أقول بكل ثقة في النفس إن نجاح القناة التونسية حنبعل فاق حتى توقعاتي الشخصية. ونجاحنا تحقق بفضل إيماني بالمشروع و «هوسي» لخدمة تونس وشعبها وكذلك بالألفة الأسرية وشفافية التعامل بين أفراد الأسرة من تقنيين وإعلاميين وإداريين، وأيضا من الدعم الذي لقيته شخصيا من رئيس الدولة ومن المشاهد التونسي في كل شبر من البلاد الذي برهن على وفائه الدائم لقناة حنبعل وصار يتغنّى باسمها في الملاعب ويستقبلها في الأرياف والمداشر والقرى النائية بالحب والتبجيل.
في عيد ميلادنا هذا أقول أن الرأس المال الرمزي الذي كسبناه أنسانا كل ما صرفته من رأس مال مادي زائل بطبعه.
* ولكن نجاحكم هذا كان محفوفا بالمخاطر فيما أعتقد؟
ـ بالفعل، نجاحنا كان محفوفا بعدة مخاطر وعراقيل وصعوبات ويمكنني أن أصنّفها إلى نوعين:
أولا، صعوبات ومخاطر فرضتها علينا طبيعة المرحلة التي أنشأنا فيها القناة، فالبلاد عاشت 40 سنة على صوت واحد وصورة واحدة انفردت بها قناة تونس 7، فكان من العسير علينا كسر هذا المشهد الأحادي واختراق الحدود، ومع ذلك جازفت وغامرت وزرعت فكرتي في الأرض وللحقيقة أقول أني لم أفاجأ عندما أثرنا القلق لدى الخاملين وأربكنا سُباتهم الطويل رغم محاولات تثبيط عزائمنا، رغم أننا لم نقم بثورة، فقط جسّدنا مفهوم الاختلاف والمغايرة، حيث خلقنا مناخا مغايرا حرّكنا به المشهد الجامد.
وثانيا، صعوبات وعراقيل خارجية تمثلت بالأساس في قلة التعاون الخارجي وفي عدم المساندة من اغلب الأطراف مثل مكاتب الدراسات التي لم تعطنا فرصة لنكبر ونتماسك، وها نحن نكبر ويصلب عودنا يوما بعد يوم وهذا بشهادة الجميع، وأود أن أقول من هذا المنبر إننا برهنا على التزامنا مع طموحنا المشروع أولا وثانيا برهنا على التزامنا بالثقة والدعم اللذيْن منحنا إياهما سيادة رئيس الجمهورية.
إن كانت الصعوبات المالية التي تجاوزناها في البداية ومازلنا نحاول إلى اليوم تجاوز المحدث منها فان الأخطر من المالي هو الذهنيات «الـمُعقدة» والعقول الجامدة والسلبية التي لا تؤمن بالاختلاف والتعددية وهي ذهنية منتشرة بشكل كبير ـ للأسف ـ لدى العديد من المسؤولين في بلادنا، ولا أدل على كلامي من الإحصاء المضحك الذي قامت به مؤخرا إحدى مؤسسات الإحصاء غير الموضوعية وهي حكاية علم بها القاصي والداني.
* اعتقد أيضا سيد العربي نصرة أن هناك عدة مشاكل أخرى تواجهكم في علاقة مثلا بالتقنيين وبالإرسال وانقطاع البث وغيرها؟
ـ بالفعل مازلنا نواجه العديد من المشاكل غير المبررة بالمرة وهي كما قلت لك نابعة كلها من عقلية الحسد وتثبيط العزائم، ولكن أقول للجميع انني اكبر من عراقيلكم وان أسرة حنبعل بلُحمتها وتآلفها لا تنـظر إلا إلى مستقبلها الذي هو جزء من مستقبل تونس الإعلامي، ومن دون تفصيل تلك العراقيل سأذكرها لك وللقراء مُجملة، وأهمها أن قناة تونس 7 لم تتعاون معنا عندما التجأت لها لتمكيننا ببعض التقنيين، وكذلك تهديدنا من قبل ديوان الإرسال التلفزيوني بقطع البث إذا لم ندفع المبالغ الخيالية لتأمين البث، وبالفعل قطع علينا الديوان البث أكثر من مرة لعل اخرها تلك التي دامت سبع ساعات متواصلة في حين لم ينقطع الإرسال عن تونس 7 إلا ساعة واحدة فقط فهل يُعقل هذا !!!
كما أن قناة حنبعل غير معفاة من الضرائب وهو ما يناقض قوانين البلاد وأغرب من ذلك مطالبتنا بأتاوة أو جزية للدولة وهي بدعة لم نسمع عنها في آي بلد في العالم بقاراته الخمس!!!
* كيف عملتم لتجاوز هذه الصعوبات؟
ـ تجاوزنا لهذه العراقيل لم ينته وإنما هو عمل مستمر ودؤوب وميزة هذه الصعوبات أنها غذّت حماسنا أكثر لنضمن رأسمال رمزيا بالأساس تمثل في تكوين 250 إطارا تقنيا شابا متمكنا من آليات العمل المتطورة، العراقيل تجاوزناها بدفع مستحقات شركة عربسات لكامل سنة 2008 ... تجاوزناها أيضا بصرف زهاء 20 مليارا من جيبي الخاص، ونتجاوزها يوميا بآلاف رسائل الشكر التي تصلنا من المشاهدين وببرقيات التشجيع والمؤازرة العفوية من البسطاء الذين لا تنخر عقولهم سوسة الحسد...
* ماذا عن مشروعكم الإعلامي الجديد؟
ـ نعم، بعد أيام قليلة وتحديدا يوم 13 فيفري 2008، يوم عيد ميلاد قناة حنبعل، سنطلق قناة جديدة أسميناها «حنبعل الشرق» وهي قناة مختصة في بث المسلسلات موجهة لجمهور الشرق والخليج، وسنبث أعمالا من عدة دول عربية وأجنبية تمت دبلجتها وقد كان اختيار الاسم مقصودا لأن اكتساح بعض القنوات فضاءنا المغاربي مثل الجزيرة المغاربية و «MBC» المغاربية دفعنا لاكتساح الفضاء المشرقي فنكون بذلك سباقين في هذا الميدان وهذا الاختيار. وستكون قناة «حنبعل الشرق» اللبنة الأولى من مشروع مستقبلي يتمثل في فتح مجموعة من القنوات المختصة في الثقافة والموسيقى والرياضة وهي كلها تستظل بمظلة القناة الأم حنبعل.
* هل سيتابع جمهور الشرق أعمالا تونسية على القناة الجديدة؟
ـ هذا سؤال يمكن أن تجيبك عنه الدوائر المسؤولة أما أنا فأرجو من كل قلبي أن أروّج أعمالنا الدرامية في منطقة الشرق بالشكل الأنسب. وبالفعل فقد طلبت من بعض المسؤولين تمكيني من عدة أعمال تونسية لاقت نجاحا هنا، وقد طلبت تلك الأعمال بمقابل مادي، تصور أنني سأدفع مالا من جيبي الخاص لترويج أعمالنا الدرامية ومع ذلك مازال المطلب معلقا إلى اجل غير مسمى وأقول لكل مسؤول سيطالع هذا الحوار أني إلى الآن انتظر إجابتكم فان كانت بالموافقة فاني سأبذل قصارى جهدي لبرمجة مسلسلاتنا في أوقات الذروة لدى المشاهدين وبشكل يومي ومدروس وان كانت الإجابة بالنفي فإني أيضا أقول بكل أسف إن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها.

2008/01/08

رواية أجمل الذنوب لعبد الرزاق المسعودي


تداعياتُ رجل أنهكه المكان



عندما يصل القارئ الى الصفحة 123 من رواية الشاعر والروائيّ التونسيّ عبد الرزاق المسعودي «أجمل الذنوب»التي صدرت منذ أسابيع قليلة عن مطبعة فن الطباعة بتونس، سيقف على محنة الكاتب والكتابة والمكتوب معا، ذلك ان هذا الثالوث الماديّ والرمزيّ شكّل بُؤرة السّرد وأفق الحكي في آن واحد... يقول البطل / الرّاوي / الكاتب في الصفحة المذكورة: «... وإذا كانت الكتابة عملية ابداع للواقع وإعادة تشكيل له وصياغة له على نحو ثان منفتح على الخيالي والخارق... فماذا يمكن للكتابة ان تضيفه حين تكون بصدد تناول واقع منسوج، بطبيعته، من حلم وخيال؟!... ماذا يمكن للكتابة ان تفعله او تقدّمه عن مكان استعاري ومجاز للمجاز، مكان تشعر فيه ان الارض والسماء قد اتّحدتا، وان كل العناصر فيه تعود الى نبعها البدائي الغامض؟!».
هذا «البيان الحبري» الذي انتهى اليه الروائي عبد الرزاق المسعودي بعد ان انهكته رحلة الحج لحقول منوبة الموبوءة بالفجر والرقص على جثث مريديها... يؤكد ان المكان لا يمكن ان يكون محايدا ابدا... وأن منوبة مثّلت فعلا فضاء عالم النص وحركة زمن السرد.... وفق نظرية تودوروف بخصوص المكان...منوبة الرواية ورواية منوبة المكان جعل منها مؤلف «أجمل الذنوب» مدخلا لغويا لمدلولات مجرّدة وقيميّة رصدت انساقا دلالية محلية على طبيعة مرحلة معينة من تاريخ مكان جزئي اسمه منوبة ومكان كلّي اسمه تونس لنقف على ما يسميّه الناقد عبد الجليل مرتاض «الصراع الفضائي».«أجمل الذنوب» مثلما أورد كاتبها على الغلاف هي سيرة مكان وهو تنصيص منهجيّ أكد من خلاله عبد الرزاق المسعودي أن المتن السردي الذي دفعه للقارئ ليس من جنس الرواية تحديدا بقدر ماهو متن مسنود بفسيفساء أجناسيّة تقاطعت في تفاصيله لغة الشعر بطول الرواية وألوان الرسم بأوتار الموسيقى وحبكة القصة القصيرة بإسهابات التداعي الحرّ... فلم يخضع مجمل المتن لبنية تقليدية بعينها... أو لضوابط تقنية واسلوبية... منوبة لم تكن مكانا بعينه كانت حالة وطقسا من الحياة... منوبة ذاك المكان الذي منه استلهم هذا النص الادبي ولاجله أُجتُرح... منوبة الكلية والاصدقاء... دروس لطفي اليوسفي وفناجين الصباح... العُشب الاخضر ورائحة الخيانات... نضارة البرتقال وحامض الاحلام...منوبة الكليلة والمدينة تلك التي وصفها ابنها الضال عبد الرزاق المسعودي فكتب «منوبة غزالة راقصت صيادها... زهرة نبتت من خطى الانبياء... لعنة قدسيّة وقصيدة متوحّشة فاضت على ايقاعها... عاهرة بريئة، فاتنة عذبت عشاقها ثم أعطت مفاتنها للغزاة... رصاصة عفوية وألمٌ مُشتهى».هي ذي منوبة التي كتبها / عاشها عبد الرزاق المسعودي طالبا فعاطلا فكاتبا... ومازال يئنّ بوجعها وتبرّجها... في «أجمل الذنوب» ينفك عقد المكان والسيرة الجغرافية في صفحات الوداع فتنكشف للقارئ المفاتيح اللغوية الاساسية لهذا المتن حيث «هديل» تلك الحبيبة التي تركت قلب حبيبها تتلاطمه أجنحة الحمام ونسائم الياسمين.و»الربيع» ذاك الوليمة التي يتعثر فيها ابن جلمة وهو يلتقط روحه المبعثرة في سنوات القحط العاطفي والمعرفي والايديولوجيّ... أما المفتاح الثالث فهو «الموت» الموت الذي كان هاجس الرجل ومحنته الاعسر التي كابدها مجازيا وماديا من أجل كتابة منوبة...هل يمكن ان نُحصي خيبات محبّ وعثرات متوحّد؟! وهل يمكن ان نعاتب شاعرا طوّق قلبه الصّدأ؟!...وحده الحب يُعمينا عن المراتيج التي ظلت مُقفلة وسط أقانيم السرد وتفاصيله، ووحده الرقص الزّرباويّ يُثنينا عن ملاحقة تعرّجات الحكي ومكامن سقوطه...

حوار مع المسرحي حمادي المزي


الفاضل الجعايبي يري نفسه صُرّة الابداع المسرحي


منذ ثمانينيات القرن الماضي بدأ المسرحي حمادي المزي يساهم في تأثيث واثراء المشهد المسرحي التونسي بالعديد من الاعمال المسرحية من كتابة النصوص والاخراج والسينوغرافيا، وقد تنقل كثيرا بين فضاءات الفن الرابع في ربوع البلاد ليستقر به المقام منذ سنوات في ادارة فضاء بئر الحجار بالمدينة العتيقة بتونس العاصمة.ومنذ سنة 1989 تاريخ أول مسرحية نصا واخراجا لحمادي المزي والتي كانت بعنوان «الناعورة» انخرط الرجل في مراكمة تجربته الخاصة حيث تتالت مسرحياته بمعدل عمل كل موسم... حدّث أبو حيّان التوحيدي قال (1990) دع عنك لومي (1991) التوبة (1992) ويستمر التحقيق (1993) كتاب النساء (1994) شهر زاد (1995) حفلة الباكالوريا (1996) البروف (1998) كواليس (1999) حكاية طويلة (2000) العاصفة (2003) الكرنفال (2005) موّال (2006) وأنتج هذه السنة مسرحية «سينما» التي لاقت رواجا كبيرا ضمن ايام قرطاج المسرحية في دورتها الاخيرة.
انتقلنا الى فضاء بئر الحجار فالتقينا هناك المسرحي حمادي المزي ولم نرتّب لحوار صحفي بالمعنى التقليدي للحوار وانما جلسنا جلسة بوح صادقة بث من خلالها السيد حمادي المزي جملة من آلامه وآماله حول المشهد المسرحي الوطني واخر تطوراته كتأسيس نقابة المهن الدرامية وتقييم الدورة 13 لأيام قرطاج المسرحية

هل نبدأ هذا الحوار بالحديث عن تأسيس نقابة المهن الدرامية؟

ـ عندما تأسست النقابة في فترة الثمانينيات من القرن الماضي، وكان ضمنها آنذاك الفاضل الجعايبي وفتحي العكاري ونور الدين الورغي وغيرهم لم تجد آذانا صاغية ودعما حقيقيا لتماسك ذاك الهيكل وقد كانت هناك قطيعة حقيقية بين سلطة الاشراف والهيكل النقابي।بعض عناصر المكتب الحالي لم تكن متحمسة آنذاك لمشروع النقابة. وأقول اليوم صار هناك خلط كبير في المفاهيم وفي الممارسة، وخلط اكبر بين القطاع العام والقطاع الخاص... وخلط أخطر بين الممثل الامّي والممثل الأكاديمي.هناك تغيّر كبير في الخريطة الثقافية... في مستوى الهياكل والتشريعات. هل تقصد أسماءمحددة؟ـ أنا بكل بساطة اعتقد وأؤمن ان من يدافع عن المهنة هو الممثل بذاته وليست الاسماء هي التي سترفد المشروع بل الطاقات الحية والصادقة مع ذاتها ومع اطارها وخصوصية مهنتها.اعتقد ان الكثيرين لم يعد لهم ما يضيفونه للمهنة. الفاضل الجعايبي في مرحلة ما تجاهل الممارسة المسرحية برمتها وكان لا يؤمن الا بنفسه وكأنه الخصم والحكم في ذات الوقت. كان يرى نفسه صُرّة الابداع المسرحي في تونس.أما المنصف السويسي فقد كان في اتحاد الممثلين وهو الهيكل الذي ينافس النقابة، والذي أوجده آنذاك البشير بن سلامة وقد أوعزَ له السويسي بإجهاض مشروع النقابة.أقول ان الكثير من الاسماء لم يعد لها ما تقدمه لا جماليا ولا فكريا ولست أدري لماذا يركبون الموجة الآن!!!

ولكن المكتب الحالي أغلبه من الممثلين وهم ايضا من جيل ما بعد الثمانينيات؟

ـ ريم الحمروني ـ صالح حمودة ـ الصادق حلواس ـ جمال ساسي وجمال المداني كلهم ممثلون ويهمونني ووجودهم شرعي في المكتب النقابي للدفاع عن حقوقهم وحقوق زملائهم في ميدان تهيمن عليه اسماء لا تُقدّر حق الممثل।أنا مع نقابة للممثلين فقط ولست مع نقابة لمديري الهياكل ووكلاء الشركات وأصحاب المؤسسات والمنتجين.

انتهت ايام قرطاج المسرحية منذ شهر تقريبا، فما الذي تبقى لدى حمادي المزي كمشارك ومتابع من هذه الدورة؟

ـ أنا كنت عضوا مؤسسا لهذه الايام منذ سنة 1983 حيث التحقت بالمسرح الوطني بصفتي اطارا في وزارة الثقافة، وكنا آنذاك مجموعة من المسرحيين।الايام صنعتها مجموعة من الطاقات والكفاءات في بدايتها وقد لاقت الدورتان الاوليان نجاحا وتميزا ولكن فيما بعد واثر توالي الانسحابات والانشقاقات خاصة مع المنصف السويسي بدأت بوادر الفشل تطوق هذه التظاهرة.أعتقد ان التظاهرات الوطنية وذات الاشعاع الاقليمي والدولي يجب ان لا تبني على اهواء فرد واحد. وأرى الان ان ايام قرطاج المسرحية التي بلغت دورتها 13 صارت مهددة في تميزها واشعاعها من قبل التظاهرات المحيطة بنا مثل فرنسا وايطاليا واليونان ولبنان والبرتغال ومراكش وغيرها من التظاهرات التي صارت تستقطب نجوم المسرح في العالم.اعتقد انه من الضروري ان تكون هناك لجنة قارة يديرها مسرحي لتشتغل باستمرار وانتظام على انجاز وضمان تميز كل دورة جديدة من حيث اختيار الاعمال الجيدة ومن حيث التنظيم والاعلام والتوثيق.في هذه الدورة 13 لم أشاهد سوى عملين محترمين هما جدارية للمسرح الفلسطيني والمسرحية البلجيكية وبعض الاعمال الوطنية. فأغلب مشاركات هذه الدورة لم ترتق حتى الى المسرح المدرسي.هناك خلل واخلال في هذه الدورة، فمثلا هل يعقل ان نفتتح الدورة ونختتمها بأعمال أجنبية، انا مع العرض التونسي في الافتتاح والاختتام.شخصيا كنت حاضرا في اغلب الدورات ودائما بأعمال جديدة في كل مرة، وهذه السنة شاركت بمسرحية جديدة هي «سينما» وهي حسب من تابعها من مسرحيين ونقاد واعلاميين كانت نقطة مضيئة في هذه الدورة، بل هناك من تساءل لماذا لم تبرمج مسرحيتي ضمن الافتتاح.

ما رأيك في إلغاء المسابقات والجوائز والندوات الفكرية في هذه الايام؟

ـ المسابقات من أول التاريخ كانت موجودة وبغض النظر عن القيمة المادية للجوائز، فان الاهم هو عنصر التحفيز الحقيقي للمبدع ليواصل تقدمه ويطوّر تجربته ومشروعه، ثم ان الجائزة هي التي تُموقع وتموضع الفنان، هل هو في الدرجة الصفر او في الدرجة العشرين।عيبٌ ان تُلغى الجائزة وهي التي تخلق ديناميكية بين المبدعين تضمن تنافسا ابداعيا بين المشاركين، ثم انه صار معروفا عنا في تونس ان لدينا تجربة مسرحية متفردة وتوازيها حركة نقدية وفكرية في الميدان المسرحي، فماذا طرأ هذه السنة؟ لماذا لم تتواز الندوات الفكرية مع العروض المسرحية؟ كل الورشات والنقاشات لم تسد الفراغ الذي تركه غياب ندوة فكرية معمقة؟اعتقد ان محمد ادريس اشتغل بمفرده ومبدؤه هو ان الدورة ستمر وكفى ولكن السؤال الحقيقي هو ماذا خلّفت هذه الدورة؟ وأي أثر تركته؟ اعتقد كذلك ان على ايام قرطاج المسرحية ان لا تقع في منطق ترضية الاشخاص او البلدان. الفن يجب ان يكون مفصولا عن الاعتبارات السياسية.

هل لديكم رؤية ما أو مبدأ مخصوص في انتاج أعمالكم المسرحية؟

ـ المسرح الذي أقدمه هو ضمن مشروع ورؤية متكاملة، أنا أشتغل مع مجموعة نوعية من المثقفين والاكاديميين سواء كانوا ممثلين او تقنيين، في مسرحية «سينما» اشتغلنا مدة نصف سنة، وعلى نفس وتيرة ومبدأ عملنا نسير وننتج الجديد، وهو ببساطة احترام عملنا وجمهورنا।

وفي ادارة فضاء بئر الحجار؟

ـ فضاء بئر الحجار له مكانة كبيرة في المشهد الثقافي التونسي، ونحن لدينا فلسفة في ادارة الفضاء تتمثل أساسا في الألفة بين المسرحي والتشكيلي والشاعر والأديب والموسيقار.لدينا ألفه ثقافية بين جميع من يعمل في هذا الفضاء ويقدم فيه أعماله وانتاجاته ولعل تظاهرة ربيع المدينة ببئر الحجار خير دليل على الألفة التي نسعى الى تدريسها كل يوم حيث الندوات الفكرية والمعارض التشكيلية والعروض الموسيقية ثم ان لدينا مبدأ ثابتا هو فتح الفضاء دائما وأبدا أمام الطاقات الابداعية الشابة والجديدة، وهو ما نجسده من خلال اعمال خريجي معهد الموسيقى او معهد الفنون الجميلة او معهد الفنون الركحية... وهو ايمان عميق منا بضرورة تكريس فعل التواصل بين الاجيال.

2008/01/04

اشاعة المونديال


ربما ننفرد بنشر هذا الخبر الذي لا يزال الى حد الان في طور الاشاعة، والذي نتمنى ان يظل اشاعة ولا يتحول الى حقيقة ماثلة... ونحن الذين صرنا مخبرا للاشاعات التي تتحول ـ بعد جسّ نبضنا ـ الى حقيقة واقعة ننخرط في ممارستها كالقطيع برضا تام...يُشاع منذ اسابيع قليلة ان قاعة المونديال للسينما سيتم التفريط فيها الى مستثمر أوروبي وسيحولها هي وقاعة «ABC» وما جاورهما الى مركب تجاري ضخم!!! وهذه الاشاعة يتداولها عمال القاعة وأهل الاختصاص من ممثلين ومخرجين وايضا من المواظبين على متابعة السينما والتظاهرات التي تحتضنها قاعة سينما المونديال...
المونديال تلك التي كانت تابعة للشركة التونسية للانتاج والتوزيع السينمائي (SATPEC) والتي اعتنى بها فيما بعد مجموعة من اهل السينما لعل اهمهم المرحوم احمد بهاء الدين عطية وجون بوجناح في أوائل الثمانينيات، كما ان هذه القاعة تعتبر من اهم الفضاءات التونسية ذلك انها تهتم بالسينما الثقافية والمؤسسة اكثر من اندحارها الى السينما التجارية الرخيصة، والمونديال هي القاعة التي أسست واحتضنت ايام السينما التونسية وتظاهرة سهرة الفيلم القصير التونسي وفيها أيضا تلتئم تظاهرة ايام السينما الاوروبية وغيرها من الانشطة السينمائية...قاعة المونديال التي عرض فيها جل مخرجينا اعمالهم مثل النوري بوزيد وابراهيم لطيف وسلمى بكار وخالد البرصاوي ومعز كمون وغيرهم ستصير مركبا تجاريا يبيع عُلب الطماطم والجبن والملاعق والصحون!!!لم أكن أعرف سابقا انه منذ اربعة عقود فقط كان هناك قانون يمنع منعا باتا بيع قاعات السينما او تحويلها الى اي نشاط غير ثقافي، قانون يؤمن / يلزم بالسينما مدى الحياة... قانون يحمي الثقافة مدى الحياة... قانون يجعلنا في مأمن من التعليب والتشيّؤ والتنميط... قانون لم يطبق ـ وحده ـ مدى الحياة، لانه تم تحويره فصار مباحا بيع قاعة سينما وتحويلها الى محل لقلي الفريكاسي او لبيع الملابس المستهلكة...لا تهتموا لارتباكي المنهجي واللغوي، لا تهتموا لان الاشاعة كافية لخلخلة تماسكنا الموهوم بأن الشأن الثقافي لا يزال ـ افتراضا ـ محصنا من الاندثار... ولا تهتموا ايضا لاني ـ ككل التونسيين ـ صرت مؤهلا للانتقال آليا وميكانيكيا وقطيعيا من طور الاشاعات إلى حقيقة الواقع المعايش...فلا اشاعة بيع قاعة المونديال هي الاولى ولن تكون هي الاخيرة التي ستصير حقيقة، ولن أسأل اين هم المخرجون والممثلون والمشاهدون والمثقفون امام هذا الطوفان الهاتك...

2007/12/18

لولا خمسون والجدارية


«أيام قرطاج المسرحية ليست مركضا للخيل».
بمثل هذه الجملة برّر ـ أو علّل ـ السيد محمد إدريس مدير الدورة الثالثة عشرة لأيام قرطاج المسرحية، إلغاءه للجوائز والمسابقات ولعدّة امتيازات أخرى كانت ترتقي بهذه الأيام من يوم لآخر ومن دورة لأخرى…
هذه التظاهرة التي اختتمت فعالياتها يوم السبت الفارط الموافق للثامن من ديسمبر 2007 أجّجتْ في صدور المهتمين نارا، وتركت ـ إلى الآن ـ ألْسُن المسرحيين تتدلّى بنقاط الاستفهام والتعجّب والاستغراب....
كتب الصحافيون وأذاع الإعلاميون وصرّح أهل الاختصاص فأجمعوا كلهم على أن الدورة 13 لأيام قرطاج المسرحية حققت فشلا ناجحا ومتميزا... لولا...
المشهد العام لم يختلف عن السابق: مسارح عجّت بالمتفرجين... دعوات وشارات دخول... معلقات ويافطات... ومضات اشهارية ومتابعات... عروض في الشوارع وأعمال فوق الخشبات... افتتاح واختتام وضيف مبجّل اسمه محمود درويش... مراسلون أجانب ومتابعات فوريّة بالصوت والصورة.. نشرية يومية وأخطاء مطبعيّة،، تزاحم أمام الأبواب وكراس شاغرة... الديكور والتزويق والألوان والأضواء والبهرج لم يتغير ووحده الوفاض جاء خاويا باهتا شاحبا كعادتنا التي جُبلنا عليها في أكثر من تظاهرة ومهرجان...
قد يكون لغياب الجوائز والمسابقات دور كبير في ما آلت إليه هذه الدورة صاحبة شعار إرادة الحياة...وقد يكون لغياب الندوة الفكرية واللقاءات المنظّمة دور كذلك في الإجماع الذي خرج به الجميع من مختلف فضاءات العروض... ولولا عرض «خمسون» التونسية و "جدرايّة"الفلسطينية و "قبلة الموت"البلجيكية، وهي الأعمال المسرحية التي أجمع كل من تابعها على نوعيتها وقيمتها العاليّة التي خففت من وطأة الشعور بالإحباط الذي كان يصاحب المشاهدين كلما شاهدوا عملا آخر، لولا هذه الأعمال الثلاث لحققت الدورة 13 لأيام قرطاج المسرحية فشلا تاريخيا لن ينساه الشارع التونسي بسهولة..غابـــت إذن حوافـــــــز الإبداع والتشجيــــع وغــــاب حتّــى تقييم الأعمال (L'évaluation) وكأن المسألة اعتباطيّة، عُروض لمجرّد العرض فمرّت الدورة مرور الكرام.. ولم يبق بذهن كل من تابع الفعاليات إلاّ التصديق بأن الإيهام بالنجاح لا يعني النجاح وأن الفشل مهما حاولنا أن نخفيه أو نداريه ونحجبه سيبقى دائما فشلا.

2007/12/10

اليوم 10 ديسمبر


يظل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يوافق تاريخه 10 ديسمبر، رغم نواياه الحسنة، واقعا ضمن رؤية إيديولوجية أفرزتها طبيعة المرحلة التاريخية التي صدر فيها، إذ ليس لحقوق الإنسان من معنى سوى حق رجل الأعمال الغربي في التسرب إلى كل ركن من أركان العالم للسيطرة على الأسواق والاستحواذ على الثروات واستثمار مواده الأولية وتحقيق الأرباح، وهذا هو جوهر كونية حقوق الإنسان بالمفهوم البرجوازي الإمبريالي، ظاهره إنساني أممي، وباطنه طبقي استعماري.
أما إعلان حقوق المواطن في الدول العربية والذي أُقرّْ بقرار مجلس الجامعة عدد 668 بتاريخ 15 ديسمبر 1970 فقد ظل هو الآخر تنظيرا متعاليا ـ ولا يزال ـ عن الممارسة الواقعية، والعوائق تتعدد وتختلف، ويمكن حصرها في أربعة نقاط رئيسية، أولها الحلقات الاستعمارية الضاغطة، بمعنى التبعية العمياء للقوى الاستعمارية الأجنبية، ولا أقصد بهذا ضرورة الاستقواء بالأجنبي، لأن التبعية دائما ما تكون للدوائر الرأسمالية وللكمبرادورات الاقتصادية واللوبيات الاستعمارية في حين أن الاستقواء بالأجنبي هو الالتقاء الحر والواعي بالقوى الديمقراطية والتحررية في العالم من أجل ضمانة أكثر لإنسانية الإنسان.
ثاني العوائق، فقدان التجارب الميدانية، بمعنى فقدان الصيغ التي تُطرح كبدائل أو أصول للنظم الديمقراطية، وسببه أن الشرائح التي تصل إلى سدة السلطة في أي قطر من البلاد العربية ، عبر كفاحها التحريري، هي الشرائح الوسطى أو الشرائح البرجوازية الصغيرة وهي بطبيعتها متذبذبة وغير مستقرة إيديولوجيا وسياسيا، ولهذا أسقطت ـ بمجرد نيلها استقلالا صوريا ـ برامجها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية «الإصلاحية» لحساب مصالحها الطبقية وزجت بشعوبها نحو مطبات الفقر والجهل والقمع.
ثالث العوائق هو ما يمكن أن نصطلح عليه بضياع العقل العربي بين جاذبية الأصالة/التراث من ناحية وجاذبية الحداثة/العولمة من ناحية ثانية، خاصة على مستوى التأويل الديني وتحليل العلاقات الاجتماعية وإنتاج الرؤى الاستشرافية.
وآخر العوائق، وهو أهمها وأخطرها يتمثّل في الكيان الصهيوني وما استنزفه ويستنزفه من طاقات حيوية في مجالي التخطيط والعلاقات الدولية المُحتمل إقامتها بندية مع الطرف الآخر غير العربي.
هذا على مستوى ما هو نظري، أما على المستوي التطبيقي الواقعي، فان الأسباب تختلف أيضا وتتعدد، فالبنية الانثروبولوجية للدولة تتسم عموما بطابعها الحصري القائم على الإقصاء، إذ السلطة تحتكرها جماعة محددة بشكل ضيق وهي أسرية، وفي الأعم اقتصادية ( نفطية، تجارية، صناعية، خدماتية...) وهي عموما تُغَيِّبُ دور المؤسسات وتوجه برامجها إن أوجدتها لالتزامات خارجية بطبيعة الحال مثل المنظمات الحقوقية غير الحكومية بصورة خاصة. وهذا الطابع الحصري يمنع أية عملية «ارتقاء» يطرحها من هو خارج إطارها ومنظومتها ولا تقبل به إلا إذا دخل منظومتها ( مثلها مثل نظام الموالي) مما يفضي عمليا إلى دفع هذا الآخر إلى المعارضة القصــوى ( التيارات المتطرفة). أما الحقوق والحريات الغائبة بشكل مفزع، فأهمها حرية الرأي والتعبير عنه شفاهة أو كتابة أو طباعة، وما حرية الرأي المزعومة إلا حرية الموافقة والإجماع المطلقين، وما تطور أجهزة الرقابة لدى مؤسسات الدول العربية أو تحديدا لدى الأحزاب الحاكمة إلا دليل قاطع على الانتهاك الصارخ لهذا الحق الرئيسي.
أيضا الحق في التجمع السلمي سواء أكان ذلك في أماكن مغلقة أو في فضاءات مفتوحة، إلا إذا أوحت به أو نظمته السلطات الرسمية، كذلك حق تشكيل النقابات أو الأحزاب السياسية أو الجمعيات غير الحكومية، ولا يخفى على عربي واحد التباين الفاضح بين مقرات الأحزاب المعارضة التي تشبه المحلات التجارية أو المساكن الشعبية وبين مقرات الأحزاب الحاكمة والتي تشبه النزل الفاخرة وهي المشيدة بأموال الشعب المنهوبة عنوة .
ومن أهم الحقوق الغائبة أو المغيبة كليا في المجتمعات العربية هو حق المشاركة في إدارة الحياة العامة، إما مباشرة أو عن طريق ممثلين يختارهم بحرية الرفض والقبول فقط. أما أخطر الحقوق المغيبة فعلا خاصة منذ استفحال النظام الرأسمالي وتنامي آفة الخوصصة فهو حق الشغل ــ حق الحياة، ولا داعي للتذكير بجحافل المعطلين عن الشغل وآلاف المتعاقدين مع الموت والذل في كل المؤسسات والشركات.
أعتقد أنّ هناك نقطتان مهمّتان يجب أن نضعهما في الاعتبار دائما وأبدا، الأولى تتمثّل في أنّ الدّفاع عن الحريات يعني القيام بهذا الدفاع في وجه المعتدي الحقيقي وهو لن يكون في معظم الأحيان سوى سلطة الحكم المنصبة من طرف القوى الإمبريالية، والراعية لمصالحها الاقتصادية والحضارية داخل أوطانها، والثانية هي أن نؤمن بأن كفالة الحريات وضمانتها مهمة نضالية مستمرة سواء أكان الحكم ديمقراطيا أو غير ديمقراطي، فمادامت الديمقراطية ليبرالية في عمقها فإننا لن نضمن حقوقا متساوية لكل البشر.

2007/12/01

حوار مع الناقد السينمائي الناصر الصردي

ليست لدينا سينما تونسية... لدينا فقط أفلام تونسية؟!!

هو ابن النوادي الهاوية قبل ان يكون ابن القاعات॥ ملمٌ بأدق تفاصيل القطاع السينمائي ببلادنا وفي العالم من خلال مهامه الكثيرة التي يقوم بها في صلب الهياكل التي وُجد ضمنها وهو الان يشغل خطة كاتب عام الجمعية السينمائية للنهوض بالنقد السينمائي كما انه منسق عام لأيام السينما التونسية। الناقد الناصر الصردي كان عضوا سابقا بالجامعة السينمائية للسينمائيين الهواة وعضوا بجامعة نوادي السينما وقد شارك في لجنة تحكيم النقاد بالقاهرة سنة 2005، وهو يكتب السيناريو منذ الثمانينات من القرن الماضي ويجرّب أيضا كتابة القصة القصيرة ويكتب النقد السينمائي في الدوريات والمجلات المختصة وهو ايضا ناشط في مهرجان قليبية للسينمائيين الهواة॥السيد الناصر الصردي أجاب عن اسئلتنا حول التظاهرات السينمائية ببلادنا وعن واقع هذا القطاع وآفاقه المستقبلية ضمن هذا الحوار।

تضعون هذه الايام اللمسات الاخيرة حول ايام سينما امريكا اللاتينية الشابة التي ستنطلق يوم 12 ديسمبر ماهي الخطوط العريضة لهذه التظاهرة؟ـ
هي تظاهرة تندرج في نطاق العمل المشترك مع المركز الثقافي الاسباني «سرفنتس» الذي دأبت عليه الجمعية التونسية للنقد السينمائي منذ سنوات وتخص هذه التظاهرة عرض افلام من امريكا اللاتينية خاصة الارجنتين والاوروغواي لمخرجين شبان بحضور احد هؤلاء المخرجين وستقام فعاليات هذه التظاهرة من يوم 12ديسمبر 2007 الى يوم 15 من نفس السهر بدار الثقافة ابن رشيق। لماذا اخترتم تحديدا سينما امريكا اللاتينية؟ـ منذ خمس سنوات أرست الجمعية العمل مع المركز الثقافي سرفنتس بتنظيم تظاهرة سينمائية تخص الثقافة الناطقة باللغة الاسبانية ونظرا لجدية هذا العمل اقترح المركز الثقافي الاسباني تكثيف هذه التظاهرات حتى تصبح ثلاثة لقاءات دورية। وبعد تخصيص دورة للمخرج الاسباني بيدروم ألمودوفار التي تلتها دورات تخص سينما امريكا اللاتينية والسينما الاسبانية السنوية والفيلم الوثائقي الاسباني سنتطرق هذه السنة الى السينما الشابة لامريكا اللاتينية وذلك بما اصحت تتمتع به هذه السينماءات من تألق ومن جودة على الصعيد العالمي وخاصة منها السينما الارجنتينية।
باعتبار هذه التظاهرة وغيرها تنتظم في اطار للتبادل الثقافي فهل تنظم للسينما التونسية تظاهرات مماثلة خارج الحدود؟
ـ لنضع الامور في نصابها تندرج هذه التظاهرة في نطاق التعاون بين الجمعية التونسية للنهوض بالنقد السينمائي والمركز الثقافي الاسباني مثلما ذكرت ولكن يبقى ان هذه التظاهرة هي اساسا نتاجا لسياسة ثقافية تنتهجها عدة دول اوروبية للتعريف بثقافاتها وبمخزونها الفني। اذن هي تنبع من توجه هذه الدول نحو انفتاح ثقافاتها والتعريف بها خارج حدودها وذلك محافظة على اشعاعها وحتى على وجودها। هذه السياسة تضعها وزارات الثقافة بالتعاون مع وزارات الخارجية ونحن ان اردنا ان يكون هذا التعاون تبادلا حقيقيا يجب علينا ـ وأقصد بذلك كل المكونات الثقافية التونسية وخاصة وزارة الثقافة والمحافظة على التراث ـ ان تتوخى مثل ذاك التوجه والرؤية باكثر فاعلية وتكثيف الانشطة خارج الحدود.لقد نظمت عدة تظاهرات تعرّف بالسينما التونسية بالخارج (النمسا ـ مالي ـ فرنسا...) ولكن يجب ان يكون العمل متواصلا ولا يخضع للظرفية الضيقة.نحن داخل الجمعية نرجو ان نتعامل بالمثل مع اسبانيا وغيرها بتنظيم ايام سينمائية تونسية مع كل بلد نتعامل معه. بعد ايام سينما امريكا اللاتينيةباسبوع تقريبا ستنظم الجمعية ليلة الفيلم القصير التونسي، وهي حسب المتابعين تظاهرة ذات قيمة فماذا اعددتم لهذه الليلة؟ـ انطلقت سهرة الفيلم القصير منذ ثلاث سنوات بالتعاون مع قاعة المونديال بتونس العاصمة وقد لاقت نجاحا جماهيريا ملحوظا ورغم «اختفائها» السنة الماضية فقد عزمنا هذه السنة على احيائها وتنظيمها لذا تمت برمجة سهرتين للفيلم القصير التونسي الاولى ستكون يوم 27 ديسمبر بقاعة المونديال والثانية يوم 28 بقاعة افريكا واستغل هذه الفرصة لتوجيه نداء الى مخرجي الافلام القصيرة او منتجيها للاتصال بنا أو بقاعة المونديال لاقتراح اعمالهم لهذه التظاهرة.
على ذكر قاعة الافريكا التي فتحت ابوابها من جديد بفضل اصرار مجموعة من المثقفين فهل تعتبر ان هذا دليل على وجود ديناميكية في المشهد السينمائي؟
ـ في ظل تقلص عدد القاعات السينمائية بتونس حتى أصبح لا يتعدى 12 قاعة في كامل الجمهورية يعتبر اعادة فتح قاعة افريكا مغامرة مادية وفنية تعتبر لاصحابها، واللاّفت للنظر ان اصحاب هذه الفكرة هم من المبدعين الثقافيين فمنهم المخرج والمنتج والممثل والتساؤل هنا يطرح نفسه هل هذا هو دورهم؟ اليس دورهم الحقيقي هو الابداع في حد ذاته؟ ولكن أمام الواقع الضبابي لقطاع السينما فيما يخص انتاجه وتوزيعه وعرضه وفي غياب توضيح مهام كل طرف صلب القطاع وحتى غياب واندثار بعض هذه الاطراف (الموزعين) أصبح المبدع مجبرا على القيام بمثل هذه المغامرة حتى يوفر لنفسه الاطار الادنى للتعريف بالانتاج السينمائي خاصة والثقافي عامة والشيء الايجابي في هذه التجربة انها تدخل في اطار رؤية شاملة للعمل الثقافي بما في ذلك التعريف بالاعمال الجيدة والتعريف بانماط لا نجدها في السوق التجارية السينمائية مثل ـ الافلام الوثائقية والافلام القصيرة وأفلام الذاكرة السينمائية بما في ذلك النقد السينمائي। ولكن الكل يعلم ان وزارة الثقافة تدعم هذا القطاع سواء من خلال دعم المخرجين السينمائيين او دعم اصحاب القاعات؟ـ الشيء الذي يجب تأكيده أنّه الى حدّ اليوم لا يمكن ان نتحدّث عن وجود سينما تونسية او بالاصح افلام تونسية خارج دعم وزارة الثقافة والمحافظة على التراث، فالمجهود الذي تبذله وزارة الاشراف من منح انتاج ومنح استغلال القاعات ودعم الجمعيات السينمائية ومختلف التظاهرات ذات الصلة يبقى ذا قيمة وهو أساسي لاستمرار هذا القطاع ولكن وللمكانة التي اصبحت تحظى بها الصورة على المستوى العالمي، يجب التفكير والعمل على اثراء هذه الجهود برؤى اخرى।وان تكلمنا عن عدم وجود سينما تونسية بل أفلام فذلك يرجع الى ان مفهوم السينما مرتبط بوجود صناعة متكاملة وبنية تحتية غير متوفرة في تونس الى حد الان، اصبح الان ضروري للنهوض بهذا القطاع وبتخلف صورة تمثلنا على الوجه الذي نريده والتعريف بثقافتنا وحتى بهويتنا ان توفر الاطار الملائم لصنع هذه الصورة.
هل تقصد المراكز السينمائية المتكاملة على غرار ماهو موجود بالمغرب او مصر مثلا؟
ـ وجود مركز سينمائي وطني يبقى من اهم الحلول الجذرية للنهوض بهذا القطاع فهو الذي يضع السياسة العامة للانتاج ويوفر اليات التصوير وما بعد التصوير وذلك باقل كلفة، مما يساهم في تقليص كلفة الانتاج وتوفير العملة الصعبة।يجب كذلك العمل على الارتقاء بمردودية مؤسسات التعليم السينمائية وتوفير الفضاءات العامة لعرض الاعمال التونسية في ظروف طيبة تحترم العمل الابداعي ومتلقيه।في إطار اخر يجب تطوير عدد مشاهدي الافلام في القاعات حتى تطوّر مردوديتها الاقتصادية مما يجعلها تتكاثر ولعل خلق المجمعات السينمائية التي تحتوى على عدّة قاعات متوسطة الحجم يبقى من الحلول الممكنة.فيما يخص استرجاع الجمهور السينمائي الى قاعات العرض لابد من البداية من اول السلّم وذلك ببعث منظومة تربوية سينمائية داخل المدارس والمعاهد والكليات والجامعات وداخل المجتمع المدني بصفة عامة والعمل في اتجاه اخر ضد القرصنة والمحافظة الفعلية على حقوق المؤلف حتى يتمكن من مواصلة ابداعه في ظروف مادية ومعنوية مقبولة.
يبدو انك تحلم كثيرا فالجمهور الذي تتحدث عنه صار مشتتا بين ثلاثة اتجاهات هناك من لجأ الى الفضائيات وهناك من صار مدمنا على الافلام المقرصنة والاتجاه الثالث هو الذي مازال يعتبر ان السينما التونسية هي سينما العراء
।ـ دون ان ننكر هذا الواقع بالنسبة للملاحظتين الاوليين فهذه المؤثرات موجودة كذلك في دول اخرى ولعلها أكثر حدّة دون ان تمنع الجمهور من متابعة الافلام داخل القاعات، فبلدان مثلك كوريا الجنوبية ومصر والمغرب ورغم وجود القرصنة والفضائيات فان هذه الدول وغيرها تتمتع بتزايد سنوي لعدد المتفرجين। اذن يجب البحث عن حلول تأخذ بعين الاعتبار هذا الواقع فمثلا فيما يخص القرصنة التي اصبح لها بعد اقتصادي اجتماعي يتحدى السينما ذاتها يمكن استغلالها لدعم السينما بطريقة غير مباشرة مثلا ارساء ضريبة على الاقراص المضغوطة تعود الى صندوق يدعم السينما.تخيل لو نضيف خمسة مليمات على كل قرص يباع في السوق وعددها يفوق عشرات الالوف يوميا كم نوفر لهذا الصندوق. اما فيما يخص الفضائيات فيمكن «محاربتها» بعرض افلام ذات قيمة فنية وابداعية للناشئة حتى نخلق لهم مضادا لما يبث في القنوات الفضائية، اما فيما يخص نعت السينما التونسية بسينما العراء او سينما الحمام فهذا لا يمت بصلة الى محتوى السينما التونسية الا عبر قراءات انطباعية لبعض الصحافيين فلو اخذنا مثلا مشاهد «للحمّام» فقد لا نجد إلاّ القليل منها في الانتاج التونسي اما العراء بصفة عامة فلعله يوجد باقل حدّة في الافلام التونسية مقارنة بسينماءات عربية اخرى كالمصرية او المغربية وتبقى مشكلة العراء في السينما عامة مرتبطة ارتباطا عضويا بالثقافة السائدة في كل بلد مع التأكيد ان المشاهد الاباحية تظل مباحية فيما عدا توظيفها للموضوع، وهنا أعرّج على وجود الحانة والحمام في بعض الافلام التونسية إذ هما المكانان الوحيدان اللذان يمكن للتونسي ان يتعرّى فيهما رمزيا وماديا دون ان يمثل ذلك عورة او استنقاصا॥
هل تعتقدون ان مخابر قمرت التي انشأها المنتج طارق بن عمار ستساهم في ايجاد بعض الحلول للانتاج السينمائي مستقبلا؟
ـ استبشر كل المهتمين بالسينما التونسية بهذا المشروع الذي ساهمت فيه الدولة التوسنية مساهمة معتبرة باسنادها جزءا مهما من مركب الساتباك القديم لهذا المستثمر وهذا مقابل كراس شروط تدعم كامل مراحل ما بعد التصوير للافلام التونسية بما في ذلك التحميض والتحويل من الرقمي الى عيار 35 وطبع النسخ وكل هذه الاشياء تمثل حلولا فعلية لتقليص كلفة الانتاج غير انه ولحد الان لم ينجز الا الجزء الاول الخاص بالتحميض رغم تجاوز المدة الزمنية المحددة لانهائه وهذا يضع عائقا।
لو ننهي هذا الحوار بدور الجمعية التونسية للنهوض بالنقد السينمائي
ـ هذه الجمعية لها دور اساسي وهو التوثيق النقدي للافلام التونسية فالنقد بمفهوم قراءة الافلام هو الذي يضفي على الاثر الفني اشعاعا يبقى متواصلا على مدى السنين لكن للجمعية كذلك نشاطات اخرى لا تقل اهمية مثل اللقاءات الدورية التي تجمع فيها مختلف ممثلي قطاع السينما من مخرجين وتقنيين وممثلين كما تنظم عدة تظاهرات تعرف فيها بالسينما الوطنية وبالسينماءات المهمة وذات القيمة الاضافية فنيا وجماليا ومضمونا على المستوى العالمي ولعل اهم ايام السينما التونسية التي نظمتها بالاشتراك مع بقية الجمعيات السينمائية في سنتي 2006 و2007 والتي ستصبح مهرجانا سنة 2008 يقام في النصف الثاني من شهر افريل كل سنة وهو مهرجان مدعوم من وزارة الثقافة كما يعرف اعضاء الجمعية بالسينما التونسية على الصعيد الدولي وذلك من خلال مشاركتهم في المهرجانات السينمائية العالمية.

2007/11/30

الفلاسفة الجدد



بات واضحا وجليّا أن العلوم الإنسانية أصبحت اليوم، وفقا لشروط العالم الجديد، لا تساوي شيئا، بل انها اصبحت عبئا ثقيلا وغير مرغوب فيه من قبل الحكومات والانظمة المتطلعة لركوب صهوة الجواد الارعن المسمّى عولمة أو رأسمالية أو تقدّما... ذلك ان العلوم الصحيحة وحدها هي التي باتت تستأثر بالاهتمام والمتابعة والحظوة الكبيرة..
عن هذه الازدواجية اقصي الفيلسوف وعالم الاجتماع والانتروبولوجي والاديب والشاعر وتقدم الفيزيائي وعالم الرياضيات والكيميائي وخبير الاسلحة... فغار العالم بأسره في النفق المظلم خلف الالات الحربية المدمّرة وخلف ادوات التجميل المخربة والالات الملوّثة للطبيعة وغيرها، وظل صراخ الفلاسفة والمفكرين خافتا تحت الازيز والضجيج...هذا التمشّي الذّاهب بالعالم نحو حتفه يمكن لاي عاقل ان يقف على إرهاصاته البعيدة والقريبة، وعلى مظاهره المباشرة او غير المباشرة فإلى جانب النمطية والنمذجة وتشيؤ الانسان وتعطيل كل ملكات التفكير لديه بإنابة من يفكر عوضا عنه الى جانب هذه المظاهر العامة يمكن لنا ان نكتشف «الحملة العالمية لمناهضة الفلسفة والفلاسفة» ضمن البرامج التعليمية التي صارت تقدّم للاجيال الناشئة والمفتقدة لادنى شروط ضبطها.ولنا في برامجنا التعليمية ما يبرهن على انخراطنا في منظومة نهاية الفلسفة والفلاسفة ويكفي ان يلقي واحد منا نظرة عابرة على كتاب الفلسفة المبرمج لتلاميذ وتلميذات السنة السادسة ثانوي والباكالوريا آداب وعلوم على حدّ السواء فالى جانب تخفيض ساعات التدريس من سبع ساعات الى خمس فقط، فقد أصبحت كتب الفلسفة تشبه مقررات بعض دول المشرق من ذلك انها صارت تعتمد على «المختصرات» الى جانب ايراد عدة نصوص من دون اسئلة وادراج نصوص اخرى مترجمة لم يتم التنصيص على مترجميها هذا فضلا عن الاخطاء المطبعية الفادحة وحشد الصوّر وادراج نصوص مستغلقة تتجاوز المستوى المعرفي للتلاميذ مثل الاكسيوم... وكذلك اعتماد «منهج» النوافذ المفضية الواحدة الى الاخرى تماما كالنظام الجامد للحواسيب الذي لا يتطلب جهدا في التفكير بقدر ما يتطلب حدا ادنى من الحفظ والتلقين..ان مقولة انا افكر إذن انا موجود، تتداح وتتراجع لحساب المقولة الجديدة للفلاسفة الجدد أنا أحفظ إذن انا موجود... أو بالاحرى أنا احفظ إذن أنا أنجح..يظل سؤال الفلسفة والتفلسف سؤالا انطولوجيا بالاساس ولا يمكن ان يكون خُطة مرحلية تضبطها شروط تاريخية وهو ايضا لا يخضع لإملاءات او ضغوط بقدر ما ينبعث من اعماق الذات الانسانية المعنية بالدرجة الاولى...

قبل انطلاق ايام قرطاج المسرحية

الممثّل والمخرج المسرحي كمال العلاوي:
المسرح التونسي اليوم يفتقد لسمة الاختلاف...


بدأت رحلته منذ ربع قرن تقريبا، إذ انضمّ إلى فرقة الكاف كممثّل سنة 1973 عندما كان يدير الفرقة آنذاك المنصف السويسي، وقد ترك الممثل كمال العلاوي بصماته في تلك الفترة من خلال مسرحيات «الحلاّج» و «الأخيار» و «ثورة الزنج» و «عطشان يا صبايا» ليصير سنة 1976 مديرا لذات الفرقة كمخرج مسرحي فتناسلت أعماله مثل «هذا فاوست آخر»، «إلكترا الجديدة»، «المحارب البربري»، «سياسات الفضلات»، «حديقة الحيوان»، «أبو الأمين الخليع» ثمّ فاز بستّ جوائز سنة 1982 مع فرقة سوسة لمّا أخرج مسرحيّة «قمرية» وبعدها انتقل إلى صفاقس مديرا لفرقتها المسرحية سنة 1983 فأخرج مسرحية «امرؤ القيس في باريس» ونال أربع جوائز عن مسرحية «أم كوارج في الحروب الصليبية».
سنة 1985 أخرج «المنفي» بالمسرح الوطني وسنة 1986 أخرج «عرس الذيب» مع فرقة الكاف مجدّدا ثمّ انتقل إلى إدارة فرقة المهدية سنة 1987 وأخرج آنذاك «الحصّالة» و «المعصرة» و «أرصفة» ليعود مديرا للمركز الثقافي بسوسة، كما أخرج عدّة مسرحيات بجمعيات الهواية في صفاقس والجم وأكودة وحمام سوسة والقلعة الكبرى وتونس وفوشانة وعمل بعدّة شركات انتاج خاصّة।له مشاركات عديدة كممثل في التلفزيون وفي رصيده الفنّي بعض الأشرطة التلفزية كما كتب عدّة سيناريوهات سينمائية.عمل كمال العلاوي في عدّة برامج بإذاعة المنستير وهو الآن صاحب برنامج «حديث الرّكح» بإذاعة تونس الثقافية، ومازال مستمرًّا في كتابة نصوصه النقدية في مجالي المسرح والسينما على أعمدة الصحف والدوريات المختصة.مؤخّرا، وبعد مسيرة الترحال والترحّل من ركح لآخر ومن فرقة لأخرى، وبعد ربع قرن من التمثيل والاخراج والنّقد والكتابة وجد كمال العلاوي نفسه أمام إرثٍ كبير ومسيرة طويلة من الغُبن أن تأكلها الرفوف والأغبرة فقام بإخراج مسرحية «حرف الياجور» ليقف من خلالها على تجربته واسهاماتها ويطرح من خلالها سؤاله الوجودي ماذا قدّمت؟ وهل مازال في جرابي ما أضيف؟عن هذه المسرحية وعن مسيرته... عن المسرح التونسي وأعلامه... عن جمهور الرّكح والاعلام... كان لنا هذا الحوار مع الأستاذ كمال العلاوي الذي نخصّ به قرّاء «الشعب». أستاذ كمال، هل نبدأ حوارنا هذا من حلق الوادي وتحديدا من أوّل عرض لآخر عمل مسرحي أنجزته مع شركة «تعابير» للانتاج والتوزيع؟ـ مسرحية «حرف الياجور» أعتبرها تمثّل منعرجا حاسما في مسيرتي المسرحية، مسيرتي فيها ما يقارب السبعين عملا مسرحيا كمخرج إلى جانب الكتابات والأداء التمثيلي. بعد هذه التجربة الطويلة، وجدت أنّه من واجبي أن أطرح السؤال الوجودي على نفسي، هل بإمكاني أن أتجدّد وأضيف أو أبقى حيث وصلت. كان عليّ أن أتموقع في الرّآهن ومع الأجيال القادمة باعتباري جزءا من المشهد المسرحي عموما من حيث متابعتي لِـمَا يُنتج باستمرار أو من حيث برنامجي الإذاعي «حديث الرّكح».نص «حرف الياجور» أخذه المنصف بن نصر عن كاتب صيني محرز على جائزة نوبل سنة 2000 فأوحى لي بدراماتورجيا تتناول جانبا كبيرا من حياتي الخاصّة من حيث علاقتي بالمسرح والمسرحيين ومن خلال مواجهتي الدائمة لكل متطفّل على الميدان المسرحي وكذلك موقفي من الجمهور المسرحي وكذلك انعكاسات المسرح على حياتي الخاصّة واستنتاج نهائي هل الفنّان يبقى دائما وأبدا رهين اعتراف النّاس أو عدمه؟ هل أموت بعد هذه السن المتقدّمة ويكون مصيري النّسيان... تساؤلات عديدة تفاعلت في داخلي، فجرّتني فحاولت بدوري أن أفجّرها فوق الرّكح... الرّكح الذي لم أقف فوقه منذ 22 سنة كاملة. إذن يمكن لنا أن نقول أنّ مسرحيّة «حرف الياجور» بمثابة سيرة ذاتية ووصيّة في ذات الوقت؟ ـ أعتبر هذا العمل تكريمًا حارا للمسرحيين الذين تناسوهم أو هم الآن أحياء أموات، فيكفي أن نرى صور عبد اللطيف الحمروني ونورالدين عزيزة وعمر الخلفي وغيرهم لنتأكّد من قوّة تأثيرهم على كل من عرفهم. وقد حاولت أن أركّز على موت ودفن موزار في لقطة من شريط «أميديوس» ويعلم الجميع أنّ موزار دُفن في مقبرة جماعية وفي سن مبكّرة، وهذا المصير المأساوي لم يَحُلْ دون خلوده، لأنّ الغربيين يتقنون جيّدا تمجيد أمواتهم وتخليدهم. ويكفي أنّ آريان موسكين في القرن العشرين أنجزت شريطا سينمائيا حول حياة موليار وجعلت منه شخصيّة نصف إلهيّة.نيّتي الرئيسية في «حرف الياجور» أنّه من خلال حياتي المضطربة المشاهد يفهم ما هي همومي العميقة. صراحة هل تقصد تحديدا اضطراب حياتك الشخصية أم اضطراب المشهد المسرحي التونسي الذي جَايَلْتَهُ؟ـ اختيار المسرح في حدّ ذاته مجازفة يعيشها الفنّان دون أن يعلم ما يُخفي له المجهول، لأنّه في غمرة النجاحات الأولى يتوه الفنان أمام المحافظة على تلك النجاحات ومن هنا تبدأ رحلة المتاعب مع الوسط العائلي، فالمسرح استهلك منّي وقتي الذي هو بشكل أو آخر هو أيضا ملك لأسرتي. في الواقع عائلتي يمكن أن ترحمني ولكن الجمهور لا يغفر لك أبدا. لذلك أقول أنّ المشكل الأساسي هو ارضاء الجمهور الذي ينتظر أعمالك. الصحّة والمال والوقت كلّها في كفّة والجمهور في الكفّة الثانية ومع ذلك فهذا الجمهور صار أكثر عزوفا عن متابعة الأعمال الجادّة وهو يجري خلف العروض التّافهة والسّخيفة. صار لدينا جمهور نمطي يتابع فقط ما يُضحكه. أذكر في مسرحيتي «حرف الياجور» موقفي من هذا النمط من الجمهور الذي يصطاد العناوين المثيرة ويُصدم عندما يكتشف أنّ المسرحيّة لا علاقة لها بالعنوان!!! قُلتَ أنّه صار لدينا جمهور نمطي يتابع فقط الأعمال التي تُضحكه، ولكن أستاذ كمال لا يمكن للجمهور المسرحي أن يصير نمطيّا هكذا من دون فعل فاعل ان صحّت العبارة... أنا مثلا أعتقد أنّ الفاعلين في المشهد المسرحي هم الذين يصنعون جمهورهم. أليست طبيعة المسرح التونسي «المُضحكة» هي التي صنعت هذا الجمهور؟! ـ أوّلا أودّ أن أعود إلى التاريخ، فالكل يعلم أنّ فترة ازدهار المسرح التونسي جماهيريّا كانت بين نهاية الستّينات وحتّى نهاية الثمانينات، فالمسرحيون في تلك الفترة كانوا مختلفي النزعات أوّلا لأنّهم يبحثون عن ذواتهم بعد مخاض الاستقلال وثانيا أنّ المناخ العالمي كان يتميّز باختلاف المذاهب السياسيّة والبحث عن تعايش الاختلافات المذهبية. تونس مثلا عرفت فترات عديدة أوّلها التعاضد أو الرّؤية الاشتراكية وما خلّفته من انتهازية وبورجوازية صغيرة، بعدها نكسة التعاضد ودخول الرأسمالية وكل هذا على إيقاع نكسة 67 العربية وانتفاضة ماي 68 الفرنسية وهو ما كان لهما عظيم الأثر على الإنتليجتسيا التونسية، وبما أنّ المسرح قريب من الجمهور فالتطرّق لمثل هذه المواضيع كان الشغل الشاغل لأغلبية الشباب المتعطّش آنذاك للثقافة فبرز المسرح المدرسي وبصفة خاصّة المسرح الجامعي الذي كان صوتا صادقا لمشاغل هولاء وولّد هذا مسارح متنوّعة مثل مسرح الكاف مع علي بن عيّاد على سبيل الذّكر لا الحصر.المسرح التونسي اليوم يفتقد أو بالأصح افتقد سمة الاختلاف والتنوّع ممّا جعل المسرحيين يبحثون عن صورة أخرى لمجتمع لم يعد يعيش الاختلافات والنّزاعات.السّؤال أين اتّجه مسرحيّونا الذين ابتعدوا عن الواقعية السياسية والاجتماعية على غرار المسرح الملحمي البريشتي الذي كان في تلك الفترة له تأثير مباشر على المتفرّج؟ سأجيبك بكل بساطة فأقول أنّهم انتقلوا إمّا إلى الأعمال العالمية آرضاء لرغبة ذاتية في التعامل مع عباقرة الكتابة وبعضهم أصبح يبحث عن الأمور الجمالية أكثر من المضامين وبعضهم تطرّق إلى المنحى السيكولوجي ومن فهم أنّ هناك فراغًا تعاطى الاضحاك أو التهريج فتعوّد الجمهور على هذا وصار ينتظر هذا والدليل أنّ الانتاجات التليفزيونية الأنجح هي التي تقدّم السكاتشات والمشاهد الهزليّة وللتّذكير لم يكن للتلفزة في نهاية الستّينات وبداية السبعينات هذا التأثير على جمهور تلك الفترة. كان المسرح سيّد الموقف. لست أدري إلى متى سنظلّ نقول ونكتب كان لدينا مسرح وكان لدينا سينما وأغنية ونضال وكُتّاب وشعراء... لست أدري؟! ـ أنا من طبعي أكره الوقوف على الأطلال والدليل أنّي مثلا لم أقم بإعادة أي عمل مسرحي لي ناجح رغم الحاح العديد من المسرحيين ولست أدّعي في الظرف الرّاهن أنّ جيل اليوم لا يقدّم أعمالا جيّدة. بالعكس هناك عديد من الشبّان الذين يعيشون حيرة ابداعية صادقة ويحاولون تقديم البدائل وهم مُصيبون في كثير من الأحيان في رسم الكثير من ملامح المسرح القادم. طبعا يخطئون أحيانا ككل الناس لكن كل المؤشرات تدل على أنّ هناك فئة تكتسح شيئا فشيئا فئات معيّنة من الجمهور ولكن ما ينقص ترويج هذه الأعمال الجادّة هو ضعف الإعلام والتّحسيس لمثل هذه الأعمال حتّى تجد موقعها الحقيقي في المشهد المسرحي الحالي ـ من المؤلم أنّ هناك أعمالا تستحق أن تُعرض في عديد المساحات ولكن حظّها من الترويج ضئيل وأنا بحكم معايشتي للشباب ومعرفة مشاغلهم الفنية وحيرتهم الابداعية أحاول قدر المستطاع مساندتهم حتّى لا يتملّكهم اليأس لأنّ المثابرة ليست أمرًا هيّنا.هناك أعمال عديدة تُترجم طبيعة المرحلة الراهنة من حيث المضمون وكذلك من حيث الشّكل. هذا الكلام جيّد ومشجّع يا أستاذ ولكن الواقع عكس ذلك تماما، فالمشهد المسرحي تتحكّم فيه أسماء معلومة وتستأثر بكل شيء، الدّعم المالي والإشهار والترويج حتّى لو كانت أعمالهم مُعادة أو بسيطة؟ ـ أنا شخصيّا آليت على نفسي أن أتحاور مع الشباب ولكن الاعلاميين دائما مشكلتهم أنّهم يبحثون عن الأسماء المعروفة ونحن لدينا مثلٌ شعبي يقول «إللّي سمّاك غناك»، هناك بعض شبّان حظّهم أوفر وهم الذين ظهروا تلفزيا ولكن ظهورهم يقتصر على ما هو تلفزي وبالتالي فإنّ حقيقتهم المسرحية ظلّت غير معلومة وهنا المأساة، فالمشاهد الذي تابع ممثلا ما على شاشة التلفزيون يهرول بمجرّد أن يجد معلقة اشهارية لنفس الممثل تعلن عملا مسرحيا له، وعندما يكتشف المسرحية يُصاب بخيبة المسعى والأمل. أنا قصدت يا أستاذ العلاوي أنّ مشهدنا المسرحي يستأثر به جملة من الأسماء مثل الجعايبي والجبالي والتواتي وبن عبد الله وبن يغلان والسويسي وادريس... ومثلا خرّيجو المعهد العالي للفنون الرّكحيّة يعانون الأمرّين؟ـ ما أعلمه شخصيا أنّ وزارة الثقافة تدعم سنويا ما لا يقل عن 60 أو 70 عملا مسرحيا تتوفّر فيها شروط الجودة من خلال النصوص المسرحية والتصوّرات الفنية. وعندما نقول 70 عملا مسرحيا نحسب عدد المشاركين في هذه الأعمال، المعدّل طبعا ثلاثة ممثّلين على الأقل واثنان من التقنيين وهذا يرفع عدد المنتفعين إلى ما لا يقل عن 400 شخص. هذه حقيقة أولى. وهناك من المسرحيين من يرفضون أصلاً المساعدة على الانتاج والعروض المدعومة ولا فائدة في ذكر الأسماء. الذين يصرخون كثيرا هم الذين يصنعون «الحدث» بمغالطات اعلامية وبالكثير من الافتعال والتمويه والشارع التونسي عن طريق هذا الحدث يتفاعل. بينما المتخرّجون الجدد ونظرا لافتقادهم لمثل هذه الأدوات والحيل فإنّهم يجدون أنفسهم نوعا ما على الهامش ممّا يضطرّهم للاكتفاء بالحد الأدنى للعيش. إذن أنت تشرّع لاستعمال مثل تلك المغالطات الاعلامية؟ـ أنا بالعكس أشرّع للصّدق ولتحرّي الاعلام ومواجهة كل أنواع التمويه حتّى يأخذ كل واحد حقّه. مازال يفصلنا أسبوع واحد عن دورة أيّام قرطاج المسرحية، ما الذي يمكن أن تتميّز به هذه الدورة عن سابقاتها؟ـ هو سؤال سابق لأوانه لكن الحق يقال أنّ مثل هذه الأيّام كان لها مردود إيجابي في المستوى العربي خصوصا أنّ الحركة المسرحية من خلال أيّام قرطاج تطوّرت تطوّرا واضحا ويعلم الجميع أنّ عديد المسرحيين قدتعثّروا بالتوجّه المسرحي في تونس رغم نقدنا له ويعتبرون الحركة المسرحية التونسية رائدة ومتطوّرة خاصّة في مستوى التقنيات العصرية والبحث الجمالي والآداء التمثيلي الحداثي الذي أخرجنا نوعا ما عن السّائد والممجوج وأعتقد أنّ هذه الدورة ستشهد اضافات عديدة خاصّة ونحن نعرف توجّهات محمد ادريس في مجال استقطاب التيّارات التي نعرف عنها القليل والتي ستكون فيها اضافات بالنسبة للمسرحيين العرب والأفارقة والتونسيين. ولكن الجمهور المتتبّع لهذه الأيّام أجمع في الدورات القليلة الأخيرة عن تراجع المسرح التونسي أمام نظيره المغربي واللبناني خاصّة؟ـ هذا النوع من التقييم لا معنى له ـ فأحيانا نرى مبادرات مازالت سابقة لأوانها على غرار ما شاهدناه في مسرحية «عشّاق الشمس» لرضا دريرة ولكن بعد الجدل والأخذ والرّد يهتدي الناس إلى حقيقة وهي أنّ فهم الجديد أو البديل يأتي متأخّرا. حاليا المسرحيون التونسيون يقومون بتجارب ستُفهم فيما بعد وكالعادة سيقول العرب إن كانوا لبنانيين أو سوريين أو مغاربة أنّ التونسيين يظلّون رائدين في المسرح. وأنا شخصيا شاهدت أعمالا لو شُوهدت في أماكن أخرى خارج البلاد لوضعت عديد التساؤلات والفن الحقيقي هو الذي يصنع التساؤلات. سأترك لك هذا البياض لتختم به كما تشاء هذا الحوار.ـ أقول أنّه من الضروري أن يفكّر المسرحيون في الخروج من مأزق العلبة الإيطالية لأنّها استنفدت كل طاقاتها وحتّى بعد تكسير بعض الجدران الوهمية فإنّ المبدعين لم يجدوا الحلول الكفيلة بتقريبهم من الجمهور لا بالمفهوم الشعبي البسيط بل بمفهوم جمالي يستحق الإمعان. هذا مطلوب في الظرف الرّاهن وما على المسرحيين إلاّ أن يبتعدوا عن المعارك الضارية والخلافات العشوائية والكلام الهدّام ليتفرّغوا لمثل هذه البحوث «أمّا الزّبد فيذهب جُفاءً وما ينفع النّاس فيمكث في الأرض».

2007/10/28

رواية باب الحيرة ليحي القيسي



عندما تُصبح قراءَة النَّص مثلَ المَشي على الرَّصيف


«يُخطئ المرء حين يَعْتَقدُ أن المَكان مُحَايدٌ عبد الرحمان منيف)
«المكان أحَالَني دَومًا إلى الصَّمْت جول فاليه)


وصف «تيزفتان تودورف» المكان في أحد كتبه بأنه «فضاء عالم النص، وهو ليس لغويا وان كانت أداته اللغة। انه تقنية، حركة زمن السرد» (1) ولا نبالغ ان قلنا ان المكان هو الاكثر التصاقا بحياة الانسان، ذلك ان ادراكه له حسّي مباشر وهو يستمر مع الانسان طوال سنين حياته، بل اننا لا نغالي ان قلنا ان وجود الانسان لا يتحقق الا من خلال علاقته بالمكان وانه على قدر إحساسه بأنه مرتبط بالمكان، يكون احساسه بذاته، وبقدر ما يحتاج الى رقعة فيزيقية يثبت فيها امتداده الجسماني فانه يميل كذلك الى البحث لنفسه عن رقعة من الارض / المكان يضرب فيها بجذوره ليؤصل هويته وكينونته، وما شكل عيشنا في مكان ما او امكنة متعددة بنظام مخصوص الا تعبير عن شكل سكننا داخل ذواتنا। إن المكان هو طوبوغرافية وجودنا الحميم... هو اثراء لخصوبة الحياة... نوع من المناقشة بيننا وبين صنوف الدهشة وأنواع المساءلة... المكان هو بؤرة الحيرة التي تدفعنا من حال الى اخر... المكان هو الباب المفتوح على اللامتوقع واللامنتظر... «كلما سألت، تنفتح أمامي الابواب واحدا واحدا وكل باب يسلمني للآخر» (2) هذا هو المكان الذي سنحاول تقصي أثره والوقوف على ملامحه ودلالاته ودوره في دفع السرد وخيوط حكاية ابن الهزائم والانكسارات «قيس الحوران» و «هاديا الزاهري» وحكايتهما مع المخطوط الغريب في رواية «باب الحيرة» للكاتب الأردني يحي القيسي، ومردّ اشتغالنا على المكان في هذه الرواية هو استئثار هذا المكوّن الفني بنصيب وافر من السرد لدى يحي القيسي من ناحية، وبقدرته الفائقة على تحميل أمكنة روايته شحنة عاطفية وفائضا دلاليا يجعل قارئ هذا النص يؤمن بمقولة غاستون باشلار «ان قراءة المكان في الادب تجعلنا نعاود تذكّر بيت الطفولة» (3)، فخلافا لما صرح به الكاتب في جزء «مدارات الحيرة» من روايته بقوله «كيف يعوّل المرء على ذاكرة مهترئة لروح هائمة»، خلافا لذلك بدت ذاكرة المؤلف مكتنزة بأدق تفاصيل شوارع تونس وأبوابها وأزقتها وساحاتها العمومية ومقاهيها وقصورها التاريخية ومقامات أوليائها وحاناتها... رغم انه لم يُقم بتونس الا ثلاث سنوات فقط في بداية التسعينيات من القرن الماضي। «باب الحيرة»... باب الكتابةمثلما قدّم لنا يحي القيسي شخصية روايته تدور كالمجذوب وهي تذرع تونس الحاضرة، مدينة الحفصيين «من باب البحر الى باب الجزيرة ومن باب العسل حتى باب الخضراء ووصلت حتى باب الجديد وباب سويقة... وقد أكملت التسعة والتسعين بابا، وأُعطيت من المعارف ما لم يعط أحد»، مثلما فعل الراوي مع المرويّ عنهم، كان لزاما على الكاتب ان يفعل مع قارئه ما يشاكل خيوط نصه او ما يجمعها كلها ضمن عتبة الدخول، العنوان الرئيسي للرواية... «باب الحيرة» هو المكان المجازي، المكان اللفظي المتخيَّل، منه يخترق القارئ المتن السردي، انه الفضاء الروائي الافتراضي... او هو ابواب الرواية كلها الواقعية منها والخيالية، واذا كانت اسماء الامكنة داخل الرواية تحيل على أمكنة بعينها يعرفها كل التونسيين وكل من زار تونس، أمكنة واقعية ذات هندسة ومعمار متعارف عليهما... وقدمها يحي القيسي في أغلبها وفق مبدأي الاستقصاء والانتقاء في نفس الجملة الوصفية، إذ يقول «كنت أسير في شارع الحبيب بورقيبة باتجاه المدينة العتيقة متجاوزا زحمة المشاة، وأبواق السيارات، ورنين الميترو، وصليل عجلاته على قضبان الحديد، ورفرفة العصافير على الاشجار الكثيفة، التي تتوسط الشارع، وثرثرة الجالسين في المقاهي والحانات، وأدخل في ضيق السوق العربي المظلل بالسقوف... صعودا باتجاه مقام سيدي بن عروس وجامع الزيتونة، تتضوّع قربهما روائح الاكل الشهي من مطعم الزاوية...» (ص 9) ليحقق بذلك سمة الواقعية من خلال الوصف البلزاكي الاستقصائي من جهة، ويغذي سمة التخييل لدى القارئ من خلال الخطوط العريضة للوصف الانتقائي الذي يعوّل عليه ستندال في رواياته।واذا كانت أمكنة المتن محيلة على فضاءات امتدادية فيزيقية، فان مكان عتبة الدخول «باب الحيرة» هو فضاء معنوي مجازي اختاره الكاتب من طبيعة العلاقات بين شخصيات حكايته وعلاقتهم بما اتصل بهم من احداث ومؤثرات واقعية (مثل حكاية حسن بن عثمان في فضاء 20 أوت للابداع) وخيالية (مثل حكاية قيس حوران مع أبواب الهلوسة والتخيلات) فمكان العنوان اللغوي هو القادح للحركة المادية والنفسية في أمكنة النص بإطلاقيته ورمزيّته، ذلك أن تركيب لفظتي «باب» و «حيرة» من شأنه ان يضمن الغاية التأطيرية او التوجيهية للكاتب في علاقة بنصه، ذلك ان «إضفاء صفات مكانية على الافكار المجردة يساعد على تجسيدها، وتستخدم التعبيرات المكانية بالتبادل مع المجرد مما يقربه الى الافهام» (4) فالحيرة هي التي انطلقت منها اغلب الانساق والسياقات والدلائل في الفضاء الروائي، وهو يتنقل من المغلق الى المفتوح ومن العالي الى الواطئ ومن المقبب الى المسطح ومن الواقعي الى الافتراضي من خلال «الباب»...واذا ما حاولنا الايغال بعيدا في تأويل «الحيرة» فإننا سنذهب الى تقنية كتابة التجربة الحضرية الحديثة، تلك التي تكون فيها المدينة سلسلة متواصلة من الاحتكاكات مع الناس الذين يعرفون عن بعضهم البعض القليل، حيث يلتقون بالصدفة ويفترقون بسرعة، هذه الكتابة التي برزت خاصة حول باريس في القرن التاسع عشر مع شارل بودلير وإيميل زولا وغوستاف فلوبير، ثم مع مارسيل بروست وجيمس جويس وفيرجينيا وولف، وهي أيضا ما يسمى «بكتابة المتجوّل» حيث «تصبح قراءة النص مثل المشي على الرصيف نفسه... ويتجاوز العمل كونه نصا عن المدينة الى كونه اندماجا للتجربة الحضرية والنص نفسه، وينتهي كرواية وحيدة ليشمل تعددية التجارب في المدينة» (5) وهذا عين ما نقف عليه في ثنايا نص يحي القيسي وابواب تونس الحاضرة، فالبطل «قيس حوران» تَعَرَّفَ بمحض الصُّدفة على «سعيدة القابسي» لمّا كان جالسا على «الدكة المرمرية، قاعدة تمثال ابن خلدون المنتصب اخر الشارع»، حيث يكتب «بَدَا أمر تعرّفي عليها وليد الصدفة। صبية حنطية الملامح اقرب الى السمرة منها الى البياض» (ص 34 ـ 35) وجرى بينهما حوار عفوي ومستعجل كأغلب حوارات ولقاءات المدن المُزدحمة بالمشي... في مكان اخر من الرواية يكتب يحي القيسي على لسان قيس الحوران:»... وذات مرة لم يكن مناص غير الولوج في نهج سيدي عبد الله قش من كثرة ما سمعت عنه من الحكايات والتشويق»، فالصدفة أو الفضول أو الايعاز تتوفر كل مرة لتقوم بتحويل وجهة البطل وبالتالي تحويل وجهة الأحداث، كما أن الأفضية والأطر المكانية لم تُقَدَّم كمعطيات جغرافية معزولة عن خيوط السرد وحبكة الحكايات، فنهج زرقون أفضى إلى الحديث عن الاقتصاد العشوائي ونهج سيدي عبد الله قش كان قادحا للحديث عن تاريخ الجنس، وفي هذا الاطار المكاني قَدَّمَ يحي القيسي وجهة نظره التقدمية، ذات البعد المادي الجدلي عندما يصف النساء اللواتي قَادَتْهُنَّ الظروف البائسة الى مثل هذه المهنة التي تسحق انسانيتهن، ونفس النهج أحال «قيس حوران» لقراءة مخطوط شهاب الدين التيفاشي القفصي قاضي مصر وتونس، والمقاهي مثلت قادحًا لشرح ذكورية المجتمع التونسي وجَنْسَنَته للمكان مثله مثل أي مجتمع عربي ، فالمقهى حكرٌ على الرجل ومُحَرَّمٌ على النساء، كما أن دكة تمثال ابن خلدون وما حوى الشِّريَان الإسفلتيُّ الأكبر بتونس العاصمة، شارع الحبيب بورقيبة، كانت (دكة التمثال) قادحًا لطرح قضية الغُرْبَة اللُّغوية التي يعيشها التونسي والتونسية، «غربة قسريّة وطوعيّة في ذات الوقت، حتى تَمَشْرَقْنَا من جهة، وتَفَرْنَسْنَا من جهة أخرى، وثمة أيضا من يريد أن يُتَوْنسَنَا تماما والشاطر فينا من يختار وجهته» (ص 37) كما كانت دار الكتب بالمدينة العتيقة مكانا حاضنًا للحبّ والمعرفة، وبالمثل أحالت مقامات الأولياء على أحاديث الشفاعة وحتى حزب النهضة وجماعة الاخوان المسلمين... وأيضا مثلت الأماكن التونسية المُحيلة على الفعل الثقافي مثل فضاء 20 أوت للابداع قادحا لتشريح واقع الثقافة التونسية في فترة التسعينات من القرن الماضي أورد محتواه يحي القيسي على لسان الروائي حسن بن عثمان بسخريته اللاذعة عندما قال «مُش معقول الواحد ياربي يتدمّر من أجل كتابة قصة، ويأتي أنصاف القرَّاء والكَتَبَة ليقوده بنقاشهم الى النَّدم على فعل الكتابة كله... هذه آخر مرة أشارك فيها أمسيات من هذا القبيل...» (ص 62)। عندما تفيض الأمكنة بأرواحهاهكذا يستأثر المكان في رواية باب الحيرة بنصيب وافر من الاشتغال عليه من حيث هو مكوّن فني مستقل بذاته، ومن حيث هو مكوّن فني جزئي ينصهر مع باقي مكونات الكتابة الروائية، وهذا الاهتمام بالمكان وتحديدا بالتجربة الحضرية لم تُسقط الروائي يحي القيسي الى درجة الجغرافيين ـ على علمهم ـ ولم يكن رحالة، بقدر ما تمكن من مسك «روح المكان» بل إنه وصف النَّبْعَ الصافي في الوادي الراكد (نهج سيدي عبد الله قش) وحرّك الماء الآسن في قلب الحدائق المصطنعة (شارع الحبيب بورقيبة) فأمسك بذلك الروائي ناصية الابداع ذلك أن «كلٌ من المغزى الأدبي لتجربة المكان والتجربة الادبية لذلك المغزى المرتبطة بالمكان يشكلان جزءا من عملية فعالة للابداع والهدم الثقافيين» (6) فالكاتب يستغرق في عناصر الامكنة وتفاصيلها ويتعاطف معها ويفرّ من أبوابها تماما مثلما يجعل القارئ يستغرق خلف شخوص روايته في الفقرات المنتقاة من تراث السَّرد المغضُوب عليه والمُصَادر... سرد «ذلك المتمرد الاكبر، ربيب إبليس الراوندي، وأستاذه أبي عيسى الوراق المانوي» (ص 30)... سرد السيوطي وابن عبد ربه والاصفهاني والمحاسبي والنفزاوي والتيفاشي والحلاّج وحمدان القرمطي والتيجاني والانطاكي... باب الحيرة»... بحثا عن الزمن الضائع«بحثا عن الزمن الضائع» هو عنوان الرواية الأشهر لمارسيل بروست وهي التي معها تطور شكل الرواية الكلاسيكية، رواية القصة السردية، ذلك ان سرعة ايقاع الحياة الحضرية انسحب على نمط الكتابة الروائية فظهرت اشكال جديدة على هذا الجنس الادبي مثل الشكل الحر للتذكر حيث تتقدم القصص والاحداث توازيا مع الاستطرادات ويجري تفجيرها عن طريق التجارب السريعة والذكريات المنبثقة من تلك التجارب فلا يتعاقب الزمن وفق تسلسل كرونولوجي سليم، وتختلف الامكنة والفضاءات، ويتم توظيف المنتجات التكنولوجية في علاقة بأحداث السرد فضلا عن التوزيع المدروس للهامشي والمركزي من حيث الشخصيات والاماكن وعلاقتهما ببعضهما البعض حتى يتمَّ «قطع رأس الزمن» على حد تعبير جون بول سارتر...و قولنا في العنوان بأن قراءة النص السردي صارت تشبه المشي على الأرصفة لم يكن اعتباطيا بل هو مقصود، ذلك ان التوزيع البصري الذي اعتمده يحي القيسي في روايته «باب الحيرة» يحيلنا على فضاء جغرافي ممتد تتناثر فيه الاشارات الضوئية وتحكمه مداخل وأبواب تكون بارزة وظاهرة للسائرين، فمع مطلع كل حدث او ذكرى في الرواية يكون تركيبها اللغوي الاول مكتوبا بالبنط العريض (َّفْا) «ثم توقفت فجأة»، «تحت زقزقة العصافير»، «نهج عبد الله قش»، «قادني الطيب اليه»، «أدخلني في التجربة»، «درت كالمجذوب»، «ثم أوقفتني أول العتبات»، «ثم دخلت باب الخلق» و «فانفتح امامي»... وهي كلها تراكيب تحيل في مجملها على المكان وطبيعة الحركة التي يستوجبها، وكأن بالقيسي يأخذ بيد القارئ مثل دليل سياحي ليتجول به في سرد باب الحيرة ليتركه بالأخير معلق المصير مثل «قيس حوران» و»سعيدة القابسي» و»هاديا الزاهري» و»الطيب بن محمود» وطلبة الزيتونة الشوام ومثل الكاتب ذاته... أليست المصائر المعلقة للقارئ والكاتب والشخصيات هي شكل من أشكال الضياع في الفضاء والزمن، فالجميع ما عادوا يدرون «ما حدث معهم أصلا في هذا الزمان، في بلاد تونس وحوران» (ص 10). فالقارئ لنص يحي القيسي «باب الحيرة» لم يعد قارئًا من ورق، مستهلكًا سلبيًا للغة بل جعل القيسي من قارئه كاتبًا... يكتب تفاصيل مدينته ويطارد أشباح ذكرياته المطمورة تحت الأقبية أو المركونة داخل المقاهي والحانات، وكأن يحي القيسي أوجد حلا لمشكل رولان بارث المتمثلة في كيفية جعل القارئ كاتبا، حسب تحليل عمر أوان (7). كما ان مَوْلدَ هذا «القارئ / الكاتب» لم يدفع ثمنه المؤلف بموته، وبالمثل لم تعد الشخصيات ورقية من صنع خيال الكاتب، فحسن بن عثمان مثلا لم يعد فعلا يُسْتَدْعَى للأمسيات الثقافية إلا فيما ندر والطيب بن محمود يعيش فعلا في دبيّ أين يعمل في مجال الاعلام... مثلما هي الأماكن التونسية برائحتها ورطوبتها وبموسيقاها وصمتهاوبمهمّشيها... بانفتاحها وانغلاقها... بغرابتها عنا وحيرتنا فيها...إن هذه التأويلات الاخيرة لا تعني سقوطنا في البساطة والتبسيط بقدر ما هي تمثل شكلا من أشكال الانزياح أو العُدُول عن القواعد «المنطقية» المألوفة احتراما لاختلاف الأجناس الأدبية وخصوصياتها، فرواية «باب الحيرة» ليست من جنس المذكرات ولا هي من جنس اليوميات وليست من فنون الرحلة ولا هي أيضا من التيار الواقعي الصرف أو الخيالي البحت، وإنما هي جميع هذه الاجناس مرفودة بذاكرة ثاقبة وتخييل موظّف واقتباس مدروس... كيف نسكن أوراحنا؟مثل الفضاء أو المكان في رواية «باب الحيرة» ليحي القيسي قادحا لأغلب الأحداث وكان الحامل الأول والحاضن الرئيسي لمنعرجات السَّرد وتطور خط القص، كما مثّل مادة حية لإثراء السَّرد والحوار من خلال المقاطع الوصفيَّة المطولة والاحالات التاريخيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والثقافيَّة والسياسيَّة على الأماكن المرصُودة في هذه الرواية، مما أكد لا حيَاديَّة هذا المكوّن فسمح للقارئ أن يقف على المدلولات المجرَّدة والقيميَّة التي أدخلها المؤلف في «عالم اللاَّمحسوس بواسطة نظام لغوي ذي دلالات... ليحولها الى أنساق دلالية تشير إلى أي مُتَلَق بأنها انتاجات ثقافية في المقام الأول، ودور المُرْسل يكمن في محاولة تخلصه من وطأة الأنساق التقليدية السائدة في أحياز طلبا للبديل الذي لا بديل منه، ومن هنا ينشأ الصراع الفضائي» (8). هكذا المكان يتسم بلا حياديَّته على عكس ما نظنُّه و»المسألة ليست حجارة صمّاء أو خشبًا ينخره السُّوسُ أو حديدًا صدئا، بقدر ما هو طافح بالإحساس، بالدلالات والرموز... إن المكان يعلّمنا كيف نسكُن أرواحنا بالشكل الأمثل، بالشَّكل الذي

يليق بنا كذوات بشرية» (9)

المراجع

1) تودورف تيزفتان: ما البنيوية. دار سوي .1968(2) القيسي يحي: باب الحيرة. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. .2006(3) باشلار غاستون: جماليات المكان. ترجمة غالب هلسا. المؤسسة الجامعية للنشر. بيروت .1984(4) قاسم سيزا أحمد: بناء الرواية. دار التنوير. بيروت .1985(5) مايك كرانغ: الجغرافيا الثقافية. سلسلة عالم المعرفة. جويلية .2005 ترجمة سعيد منتاق.(6) مايك كرانغ: نفس المرجع السابق.(7) أوان عمر: مدخل لدراسة النص والسلطة. دار افريقيا الشرق. .1994(8) مرتاض. عبد الجليل: دراسة سيميائية ودلالية في الرواية والتراث. منشورات ثالة. .2005(9) الخشناوي ناجي: صفحة جديدة (كتاب جماعي) دار شرقيات للنشر والتوزيع. القاهرة .2005



2007/10/23

هل يجمع العالم على حق الحياة؟


بعد المصادقة على مشروع وقف تنفيذ حكم الاعدام عالميا من قبل الأمم المتحدة

أول وأهم حق في العالم، هو الحق في الحياة ثم تأتي بعده جميع الحقوق الانسانية. والحق في الحياة تلازمت معه منذ أول التاريخ عقوبة الاعدام رغم اعتراف عديد حكومات العالم بأن عقوبة الاعدام لا يمكن ان تنسجم مع احترام حقوق الانسان.وقد اعتمد المجتمع الدولي أربع معاهدات دولية تنص على الغاء عقوبة الاعدام وهي البروتوكول الاختياري الثاني للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الهادف الى إلغاء عقوبة الاعدام والذي اعتمدته الجمعية العامة سنة 1989، والبروتوكولان 6 و 13 الملحقان بالاتفاقية الاوروبية لحماية حقوق الانسان والحريات الاساسية اللذان اعتمدهما مجلس أوروبا سنتي 1982 و 2002 ثم البروتوكول الملحق باتفاقية الدول الامريكية لحقوق الانسان الهادف الى إلغاء عقوبة الاعدام والذي اعتمدته الجمعية العامة لمنظمة الدول الامريكية سنة 1990.
كما ان قانون روما الاساسي للمحكمة الجنائية الذي صادقت عليه 150 دولة يستثني عقوبة الاعدام من العقوبات التي خوّلت المحكمة بفرضها وقد اعترفت عديد الحكومات بأن عقوبة الاعدام لا يمكن ان تنسجم مع احترام حقوق الانسان ونتيجة لذلك ألغى عدد متزايد من البلدان في شتى أنحاء العالم عقوبة الاعدام في تشريعاتهم الوطنية بل ان العديد من الدول تجاوزت الالغاء وقامت بقيادة ودعم مبادرات دولية تهدف الى الغاء العقوبة تماما من العالم بأسره।

الأمم المتحدة وعقوبة الاعدام

رغم ان قرارات الامم المتحدة، منذ ان أنشئت ـ لا تزال خاضعة لسيطرة الدول العظمى ولارادتها في توجيه القرارات، الا انها تسعى دائما الى تأكيد استقلاليتها وصبغ قراراتها بصبغة عالمية وانسانية، مثل قرارها بشأن وقف تنفيذ عقوبات الاعدام، ففي سنة 2005 اعتمدت لجنة الامم المتحدة لحقوق الانسان قرارا بشأن قضية عقوبة الاعدام دعا جميع الدول التي لا تزال تطبق عقوبة الاعدام الى إلغائها كليا، وقد وقعت 95 دولة في 19 ديسمبر 2006 على بيان مشترك قدم في الدورة 61 للجمعية العامة للأمم المتحدة يؤكد دعوة الغاء عقوبة الاعدام نهائيا।ومؤخرا قدم يوم 18 سبتمبر 2007 مشروع قرار يدعو الى وقف تنفيذ الاعدام على المستوى العالمي، قدم للأمين العام يان كي مون الذي قال بشأن هذه العقوبة «أعتقد ان الحياة ثمينة للغاية وينبغي حمايتها واحترامها... وانني أرى الاتجاه المتنامي في القانون الدولي وفي الممارسات الوطنية نحو الالغاء التدريجي لعقوبة الاعدام» ومنذ ان اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار 32/61 قبل 30 سنة ما انفك العالم يتحرك بثبات نحو الغاء عقوبة الاعدام مع التزام في قرارات الهيئات الحكومية الدولية بتطبيق القرار.

نداء منظمة العفو الدولية

تعتبر منظمة العفو الدولية من اهم المنظمات الدولية المعنية بحماية حق الانسان في حياة كريمة بدفاعها المستميت ضد كل اشكال انتهاك الحرمات الاساسية للانسان، وهي تبرهن دائما على تدخلها الفوري ومساندتها للمساجين والمعتقلين المحكوم عليهم بالاعدام، ومنظمة العفو الدولية هي حركة عالمية تضم 2।2 مليوني شخص ممن ينشطون في حملات بشأن حقوق الانسان ولها نشطاء في اكثر من 80 بلدا في جميع انحاء العالم ورؤيتها العامة هي ان يتمتع كل شخص بجميع الحقوق المكرسة في الاعلان العالمي لحقوق الانسان وغيره من اتفاقيات حقوق الانسان.وقد رفعت مؤخرا منظمة العفو الدولية نداء عاجلا ومناشدة عالمية لتبني قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الداعي الى إعلان وقف عمليات الاعدام في العالم بأسره والتصويت لصالحه، مؤكدة ـ منظمة العفو الدولية ـ الحق في الحياة والنص على ان الغاء عقوبة الاعدام يعتبر أمرا أساسيا لحماية حقوق الانسان وتدعو الدول التي لا تزال تطبق عقوبة الاعدام الى اعلان وقفها كخطوة أولى نحو الغاء العقوبة ودعوة الدول التي لا تزال تطبق العقوبة الى احترام المعايير الدولية التي تكفل حماية حقوق الاشخاص الذين يواجهون الاعدام.وترى منظمة العفو الدولية ان القرار بحد ذاته يمنع دولة ما من اصدار احكام بالاعدام او تنفيذها لكن السلطة التي ينطوي عليها مثل هذا القرار المنبثق عن هيئة تمثل جميع الدول الاعضاء في الامم المتحدة سيزيد من صعوبة استمرار الدول في اعدام الاشخاص وسيمهد الطريق للالغاء العالمي.

عقوبة الاعدام بالأرقام

خلال سنة 2006 أعدم ما لا يقل عن مليون ونصف المليون شخص في 25 بلدا، وحكم بالاعدام على ما لا يقل عن 861،3 شخصا في 55 بلدا وفي نفس السنة نفذت 91 من جميع عمليات الاعدام في ستة بلدان هي الصين وايران وباكستان والعراق والسودان والولايات المتحدة الامريكية، وقد سجلت الكويت أعلى عدد من عمليات الاعدام مقارنة بعدد السكان، وقد قدرت منظمة العفو الدولية عدد المعدمين في الصين سنة 2006 بمليون وعشرة اشخاص، كما يبلغ العدد التقديري للأشخاص المحكوم عليهم بالاعدام في نهاية 2006 بين 185،19 و 646،24 شخصا وهي احصائيات مستقاة من جمعيات حقوق الانسان وتقارير وسائل الاعلام والارقام الرسمية للدول।

معايير الحكم بالاعدام

غالبا ما يتم فرض عقوبة الاعدام وتنفيذها اثر محاكمات جائرة حيث تنتهك الحقوق الاساسية للمتهمين بما فيها الحق في افتراض البراءة والحق في التمثيل القانوني والحق في المحاكمة امام محكمة مستقلة ومحايدة والحق في تقديم استئناف الى محكمة أعلى، والحق في التماس الرأفة او تخفيف حكم الاعدام وغالبا ما تعرض قضايا عقوبة الاعدام امام محاكم خاصة او عسكرية تستخدم فيها اجراءات موجزة، وتنتزع اعترافات المحكوم عليهم تحت التعذيب، ولذلك اعربت المفوضة السامية للأمم المتحدة عن الاسف لاعدام كل من عواد حمد البندر وبرزان ابراهيم الحسن في بغداد، كما أطلق سراح 124 شخصا سنة 1973 في الولايات المتحدة الامريكية من المحكومين بالاعدام لبراءتهم، مثلما أطلق سراح شخص حكم عليه بالاعدام بعد ان قضى 18 سنة في السجن بعد ان تبين ان الشخص الذي

قتله لا يزال حيّا!!!

عقوبة الاعدام ليست رادعة

سنة 1996 قال رئيس جنوب افريقيا نيلسون مانديلا «لم تصل الجريمة الى مثل هذا المستوى غير المقبول بسبب الغاء عقوبة الاعدام فحتى لو أعيد العمل بالعقوبة فان مستوى الجريمة سيظل على حاله»। ولا يوجد دليل علمي صحيح يدعم الرأي القائل بأن عقوبة الاعدام تردع الجريمة بشكل اكثر فعالية من العقوبات الاخرى.ان الرادع الأقوى للجريمة العنيفة يكمن في ضمان زيادة فرص القبض على المجرمين وادانتهم لأن عقوبة الاعدام تصرف الانتباه عن معالجة اسباب الجريمة وتوفير الحلول الناجعة والفعالة لتفاديها.

الاعدام والأفق المسدود
ان كل عملية اعدام تعتبر فعلا وحشيا ينزع الروح الانسانية عن الذين ينفذونها ويلغي القيمة التي يضفيها المجتمع على الحياة البشرية، ذلك انها تضفي شرعية على فعل عنيف تقترفه الدولة ولا يمكن الرجوع عنه ولا تكرس الا تغذية روح العنصرية لأنها تستخدم بشكل جائر وغير شرعي ضد الفقراء والاقليات وأفراد المجتمعات العنصرية والعرقية والدينية المستضعفة وضد الابرياء وستظل عقوبة الاعدام تحصد أرواح ضحايا بريئة ولن تؤدي الا الى انسداد أفق انساني سلمي ما دامت هناك دول لا تزال تواصل توقيع عقوبة الاعدام وتطبيقها سرا وجهرا، ولذلك يعتبر القرار الذي صوت عليه مؤخرا في الجمعية العامة للأمم المتحدة قوة دفع جبارة وجيدة التوقيت نحو الالغاء النهائي لعقوبة الاعدام وتكريس الحق في حياة انسانية كريمة.

أفكار متقاطعة 36

حـبــل الـحــيـــاة

يظل مشهد الرأس الآدمي وهو يتدلى مثل حبة الرمان الناضجة وسط عقدة الحبل المحكمة الربط من اكثر المشاهد ايلاما ذلك ان اعدام حياة نفس بشرية تظل أقصى عقوبة تسلط باسم القانون، ولئن كانت عمليات الاعدام البشعة تنفد في السابق بشكل سري ومباغت، سواء كانت اعدامات فردية او جماعية، فاننا اليوم بتنا نتابع مشاهد الاعدامات على القنوات التلفزية بتلذذ خفي وصر الكثير من الناس يسجلون تلك الاعدامات لإعادة مشاهدتها!!! مثلما فعلت السلطات العراقية المنصّبة من قبل الادارة الامريكية بعد ان «أفرجت» عن شريط صامت يصور بدقة عملية اعدام الرئيس السابق صدام حسين حتى ما قبل لحظة شنقه!!!
وقد صارت الحكومات تتفنن في تنفيذ أحكام الاعدام، ففي ايران مازال الاعدام رجما على الزاني، وقد رجم مؤخرا في جويلية 2007 جعفر كياني حتى الموت في قرية بالقرب من طاكستان في اقليم قازوين، اما في الصومال فقد نفذ حكم الاعدام على عمر حسين على الملأ بعد ان وضع قناع على رأسه ووجهه وربط بعمود ثم طعن حدّ الموت على يدي صبي في السادسة عشرة من العمر!!!وتبقى كعادتها الولايات المتحدة الامريكية، المبشرة بالديمقراطية وحقوق الانسان، يبقى الاعدام فيها الاكثر تميّزا وحرفية، ذلك ان الامريكيين حليمون بطبعهم لذلك استنفدوا أغلب الاشكال «رحمة» بالمعدمين ومختلف الأساليب لقطع حبل الحياة، من الشنق، الى اطلاق النار على أيدي فرق الاعدام، الى غرفة الغاز والصعق الكهربائي والاعدام بالحقنة المميتة وهذه طبعا اشكال لا تطال المعدمين الامريكيين وحدهم بل ان لأمريكا الحق في اعدام الملل والنحل والشعوب والحكماء والرؤساء وكل من تسوّل له نفسه الخروج عن طاعتها...ومنذ عشرة أيام تقريبا احتفل العالم بأسره باليوم العالمي ضد عقوبة الاعدام والذي وافق يوم 10 اكتوبر، وشاهدنا المظاهرات والمسيرات الاحتجاجية المنادية بوقف تنفيذ احكام الاعدام، وكانت منظمة العفو الدولية كعادتها سباقة في تنظيم التظاهرات وتوقيع المناشدات الدولية لفرض وقف عالمي على تنفيذ عقوبة الاعدام وهي التي توصلت بمعية جمعيات ومنظمات مدنية دولية ـ الى ترفيع عدد الدول التي ألغت حكم الاعدام قانونا وممارسة الي 130 دولة...واذا كان يوم 10 اكتوبر من كل سنة مناسبة للتذكير بشناعة وفظاعة عقوبة الاعدام المادية في جميع دول العالم فاننا في أوطاننا العربية المتخلفة مطالبون كل يوم من كل سنة بإدانة عقوبة الاعدام المادية أولا (في العراق 270 معدما منذ ثلاث سنوات فقط!!!) وثانيا بوقف عقوبة الاعدام الرمزية التي يمارسها الحكام والرؤساء العرب من دون استثناء على الشعوب العربية، من ذلك اعدام التداول السلمي على السلطة، اعدام استقلالية القضاء والمحاكم، اعدام علوية الدساتير والقوانين، اعدام حرية التعبير والتفكير، اعدام العمل النقابي، اعدام الاختلاف السياسي، اعدام الدور الطلائعي للمثقف، اعدام التعليم والتنوير، اعدام الأمل في الحياة...إن حبل الحياة ـ على طوله ـ قصير في بلداننا، لا، لا... انهم يصرون على جعله قصيرا ليكون خانقا أكثر... نافذا في قطع الانفاس والأرزاق والاحلام والآمال... حبل الحياة عندنا هو تماما كقطعة الحبل التي نعرفها جميعا، تلك التي أتى بها واد ساكن غائر تماما مثلما تأتينا الانقلابات السياسية والعسكرية ساكنة غادرة فتلطمنا بأمواجها المستبّدة حتى تجعلنا نحتفل بها كل سنة طول الحياة!!!

2007/10/16

أفكار متقاطعة 35

هديّــة العيــد

عندما تعلو ضحكة صبي صغير على أخته الصغيرة فتتهاوى على الأرض مُضرّجة في جدائلها المُزدانة بفرحة العيد وألعابه يصير مشهد سقوط صبية وصبايا فلسطين والعراق برصاص الامبريالية والصهيونية مشهدًا عابرًا...تعلو ضحكات الصبي وأخته وهما يلعبان بمسدسين بلاستيكيين، أو بدبّابة أو رشاش معدني اقتناهما لهما والدهما أو والدتهما من إحدى مغازات لعب الأطفال أو من أحد الباعة المتناثرين يمنة ويسرة على أرصفة نهج بومنديل أو الكومسيون أوشارل ديغول أو نهج اسبانيا...
بذهنية الاستهلاك العشوائي يتهافت الأولياء على الألعاب الحربية بأبخس الأثمان وأغلاها كذلك.. وببراءة الأطفال وعفويتهم تضجُّ المنازل والبيوت يوم العيد بأزيز الدّبابات وهدير الطائرات والطلقات الناريّة البلاستيكية... وبين العشوائية والبراءة يتسرّب المشروع المُخرّب والمُدمّر لبصيص أمل وحيد في تكوين ذات انسانية سويّة ومتكاملة.. في تنشئة جيل قادر على العيش فوق هذه الأرض من دون تقتيل أو تشريد.. من دون حروب أو دماء...جولة قصيرة ومتأنيّة داخل أسواق المنصف باي ونهج بومنديل والكومسيون وشارل ديغول وكل الأسواق الشعبية منها والمنظمة والفضاءات الكبرى المزدحمة في هذه الأيّام تكفينا لنتأكد من أنّ ذهنية اللاّمبالاة ومواقف الصمت والتخاذل لا يختارها العربي وإنّما يتربّى عليها وبها يكبُر معه التواطؤ الداخلي ويتضاعف التدخّل والاستهزاء الخارجي وتحديدا الأمريكي والصهيوني ومن يعضدهما من أبناء جلدتنا الملتصقين بكراسيهم إلى حدّ الإهتراء...هذا التدخل هو بالتأكيد الحلقة الأبشع والأفظع من حلقات مشروع تمتد ارهاصاته الأولى وبذوره الجنينية الى برامج مدروسة بدقة فائقة قد لا ننتبه لها أو نعتبرها مسائل عابرة نُحمّلها ما لا تحتمل...لُعب العيد هو ما يشغلني في هذه السطور، تشغلني وتعنيني بالقدر الذي تعنيني الهويّة، هويتي أنا، هويّة الطفل الذي سيصير شابا يحمل على عاتقه مشروع وطنه وأمته ويحمل رؤيته الانسانية لهذا العالم الذي يجمعنا...إنّ اللعب الحربية والعسكرية التي تُروّج في أسواقنا ومغازاتنا منذ سنوات قد لا تزيد عن سنوات الحصار العراقي أو عن سنوات الانتفاضة الثانية هي التي جعلت الشاب التونسي وبالمثل العربي عديم الموقف ممّا يجري في وطنه من تفقير له وتهيمش لآفاقه وتعطيل لطاقاته، مثلما تجعله عديم الموقف ممّا يدور في العالم من تخريب وتدمير وإفناء...إنّ الايديولوجيا الامبريالية التي تُمرّر في المعاهدات الجائرة والمواثيق المفروضة والاتفاقات المشروطة هي ذاتها التي تتسرّب عبر أكداس اللعب التي تخترق الحدود بفضل العصابات الاقتصادية والمافيات التجاربة.قد يتبادر الى أكثر من ذهن أنّي مُوغلٌ في التفكيك، مُسرف في التأويل.. وقد يعتبرني البعض أنّي أقمع الطفولة وأحرمها من اللعب، غير أني لا أُسرف ولا أقمع وإنّما يأسرني مشهد واحد وموقف واحد وخطاب واحد كنت أتمنّى أن أسمعه أو أتابعه عن كثب خلسة خلف أب (كان طفلا) يقنع ابنته (ستصير امرأة) بأنّ هذه العروسة/الدمية ذات الشعر الأصفر والثوب الأبيض قد تؤنسها في غرفة نومها ويمكنها أن تبوح لها بكل أسرارها من دون خجل أو عُقدٍ ويمكنها أن تتحاور معها كلّما خلت بها.. وتؤثّث بها سريرها...إنّ التواصل الذي تحققه دمية العروسة لطفل أو طفلة مُخالفٌ للموت الذي تُعلنه طلقات الدبابات والرشاشات والمدافع البلاستيكية وهو ذاته (التواصل) الذي سيتطوّر وينمو في الذات لينعكس تواصلاً مع الآخر بنديّة ومن دون إملاءات أو شروط.. والموت هو ذاته الذي يكبر وينمو مع الطفل ليصير شابا جبانا ميّتًا في البيت والمدرسة والجامعة وفي عمله وفي الشارع وأمام المدّ الصهيوني والامبريالي.

2007/09/29

أفكار متقاطعة 33

نَشَازُ الكَمَنْجَة

مثلَ المرآة المشرُوخَة التي تَفشَل في عكس الملاَمح الحقيقيَّة للوَاقف أمامَها، تفشَل أوتار الكمنجة المُقطَّعة الأوصال في تأثيث حلم مستمع واحد فما بالك لو كان المستمعون يفوقون العشرة ملايين... مستمعون لا تجمعهم كمنجة عازف وسط المسرح البلدي مثلا أو في المسرح الأثري بقرطاج أو في الجمّ، وإنّما هم مستمعون متناثرون فوق ركح ترابي مساحته 164 ألف كيلو متر، حيث الأحياء الشعبية والأرياف والقرى والمداشر...
ما يجمعهم هو كمنجة الكاتب علي اللواتي والمخرج حمادي عرافة كل ليلة على مدى 15 يوما ضمن البرمجة الرمضانية لصندوق العجب المسمّى تونس سبعة...
كمنجة سلاّمة هو عنوان المسلسل التونسي الذي ألّفه الاستاذ علي اللواتي وأخرجه حمادي عرافة وضم نخبة من وجوه الدراما التونسية مثل يونس الفارحي وعلي بالنور ومحمد علي بن جمعة ولطفي العبدلي ودليلة المفتاحي...
وهو يعالج فيما يعالج مظاهر تحلّل وتفككّ البرجوازية في تاريخ المجتمع التونسي الحديث، وهو مبحثٌ مهم جدّا وشديد الحساسية والخطورة باعتباره يتطلب قراءة تاريخية وتحديدا جغرافيا ومرجعيّة ايديولوجيّة ووجهة نظر فنيّة وجمالية مخصوصة، والأهم من ذلك الأفق النَّظري الذي سيُحدّد مستقبل فئة / طبقة البرجوازية إن انهيارا أو صعودا مثلما فعل بلزاك في رواياته مع الطبقة الأرستقراطية عندما كانت في طور الضُّمُور حيث تنبأ بحتمية انهيارها واتخذ منها موقفا نقديا كالذي اتخذه من المجتمع الرأسمالي عموما...وما من شك أن الفن عموما لا يمثل بديلا للايديولوجيا بقدر ما يعكس الواقع من خلال التعبيرات الفنية المُعْتَمَدَة، والتي لا محالة تُصنّف ضمن الواقعية النقدية التي تَتَطَلَّبُ حرصًا شديدًا في انتقاء المادة الحياتية وحرصًا أشدّ في كيفيَّة حَبْكهَا وتقديمها وتمرير الموقف التَّقَدمي المَنُوط بالفنان صانع ذاك الفن... واعتقد أنّ الكاتب علي اللواتي مع ممثلي مسلسل كمنجة سلاّمة ومُخْرجُهُ قد نجحوا الى حدّ بعيد في تجسيد «محنة» البرجوازية وتمكنوا من كسب تعاطف وجداني من قبل المشاهدين والمستمعين لعزفهم ونشيد انهيارهم.
ولكن «كمنجة سلاّمة» لم يَنْجُ عزفها من نشاز طال عدة جوانب مهمة في اعتقادي، فالمسلسل إجمالا يصوّر تحلّل البرجوازية ومظاهر تفككها ولكنه أغفل تحديد طبيعة هذه الطبقة التي تظهر لنا في المسلسل على انها فئة، فعائلة «للاَّ عقيلة عبد المقصود» لا تمتلك وسائل إنتاج وابنها موظّف سام مثلما هو الشأن لزوجته وكذلك الحال لدى المهندسة المعمارية أو لدى موظفة البنك، كما أن الصّراع القائم في المسلسل هو صراع نفسي وأخلاقي بالدرجة الأولى وليس صراعا اجتماعيا واقتصاديا رغم عديد الاشارات المحيلة على ذلك، ثم إن تشخيص أي تغير في بنية المجتمع يتطلب ضرورة الإشارة إلى إرهاصاته وأسبابه الجذريّة التي مهَّدت لذلك التغيّر...
وأعتقد أن تحميل أحداث المسلسل خطابا ايديولوجيا أعمق ممّا نستمع له في كل حلقة وبلغة أكثر رقيّا مثلما نشاهد في المسلسلات العربية الجادة كان يمكنه أن يدفع أكثر بالعمل نحو شُرْفَة درامية نَفْتَقدُهَا كثيرا في تلفزتنا ومن كُتَّابنَا ومُخْرجينَا وممثلينا... ولكنّ...

2007/09/24

حوار مع الشاعر كمال بوعجيلة

الشعر فعل مستقبلي تزداد لذّته كلّما توغّل الشاعر في تفاصيل الحياة

استعمال بعض مصطلحات التكنولوجيا في القصيدة لا يعني حداثتها

ترك البلاد ذات صباح ممطر أواخر الخريف لبائع الجرائد وهو يؤثث منضدته لتوزيع الاخبار المتشابهة في منحى رصيف بليل... وترك الناس يلهثون سعيا الى الرغيف ليعلق قنديلا كالأيقونة في خطواته المتموجة وسط شوارع باريس وحاناتها وداخل فضاءاتها الثقافية متصفحا كتاب العمر وسط الوحشة والعذابات... فظل طيلة عشر سنوات يهذي تحت سماء باردة لعله يتمكن من تفسير دهشته وكتابة أغنية من حرير الكلام...
الشاعر كمال بوعجيلة، المولود بتطاوين سنة 1957 والمقيم منذ 1998 بعاصمة النور باريس، صاحب المجموعة الشعرية «ترى ما رأيت» (1994) و «حبيبتي تتركني لليل» (1996) و «هذيان تحت سماء باردة» (2006) و «كيف أفسر دهشتي» (2006)... لا يزال يبحث عن نص العمر رغم تمنّع اللغة وجحودها... كعادته التي تربى عليها لا يزال يمر على رصيف الاشتهاء كالندى فيبلل الازهار اليانعة دون ان يخدش عطرها، ويعبر كالفراشات الواحات الوارفة دون ان يترك اثرا لخطاه...كمال بوعجيلة، ذاك الطفل الوحيد، المستوحد في سنواته الخمسين، لا يزال متوغلا في الصباحات القديمة وهو يتكئ على لغة الشعر ليعيد الاغنيات ويرتب الاحلام فوق أرض تهرع للذيول...
منذ ثلث قرن تقريبا وأنت تكتب الشعر، فهل وصل كمال بوعجيلة الى القصيدة من أجلها وُلِدَت؟
ـ هل مرّ كل هذا الزمن!!!لعل فعل الكتابة يقتل الوقت كما يقال...وأنا أقرأ سؤالك أدركت انه يمكننا ـ فعلا ـ ان نتذكر المستقبل... بل لعله الزمن الوحيد الذي يمكن ان نتذكره بكل تفاصيله وجزئياته... نتذكره كمؤشرّ أساسي للكتابة الادبية بكل اجناسها شعرا ونثرا، الكتابة كشرط من شروط بقاء اللغة حية متجددة ونابضة بآلام وآمال الانسان...وقد يبدو السؤال من الوهلة الاولى بسيطا، ولكن لنسأل معا:هل هناك للكاتب نص متميز بشكل فاضح وواضح عن نصوصه الاخرى بحيث يمكننا ان نسميه، «نص العمر»... من وجهة نظري لا أتصور ذلك مطلقا... فحين تتصفح وتدقق في اعمال الكُتاب والشعراء الذين بقوا في ذاكرة التاريخ (وهذا لدى كل الشعوب) ستلاحظ خيطا شفافا يربط كل نصوصهم بحيث يمكن ان نتحدث عن مشروع متكامل قد تحدث خلال تبلوره «اشراقات» متميزة ومُبهرة، وقد يصيبه في لحظات اخرى بعض الوهن والسقوط.ولكن ان نقول قد وصل كاتب او شاعر ما الى القصيدة التي من أجلها وُلد فمعناه ان يغلق الكتاب ويصمت الى الابد... الكتابة حسب رأيي فعلٌ مستقبلي، تزداد لذتها الساخرة وأتعابها غير المحتملة كلما تقدمت السنوات، وكلما توغل الشاعر في تفاصيل الحياة واصطدم بتمنع اللغة الرهيب وحتى جحودها احيانا. ولا اتصور ـ وهذا يهمني شخصيا ـ أنني بلغت الى مرحلة الرضا عن النفس والاطمئنان الى ما كتبت... أنا بعيد كل البعد عن هذا، وواع تمام الوعي بجسامة وخطورة الامر.حين تمر بما كتب لدى كل الحضارات والشعوب تصيبك رجفة وتسأل: ألا يمكن ان يكون ما أفعله وقاحة وعدم اكتراث بالمسؤولية؟! انظر معي جيدا الى الأفق وتعال نسأل معا ما الذي سوف يبقى امام هدير الحياة؟!!...
من يقف على مجموعتك الشعرية «هل أفسّر دهشتي» يلمس شدة تشاؤمك ويأسك، كيف تفسر هذه الحالة، أهي حالة الشعر أم حالة الشاعر أم الاثنين معا؟
ـ قد يكون الحزن في احيان كثيرة مشابها او مقاربا للتشاؤم... واذا اعتبرنا الحزن حالة نفسية يمر بها الانسان قد تتصاعد وتيرته أحيانا وقد تخفت احيانا اخرى، واذا كان التشاؤم موقفا من الحياة تحدده رؤية الشخص الى الحياة والكون، فان ما يصح قوله ـ حسب رأيي ـ هو الحزن المبثوث في القصائد، والحزن يقارب في لحظات ما الفرح والزهو الحزين يمكن ان يطرب ويغني ويرقص... وهي علامات فرح... ولكن الامر يتجاوز هذه الوقفة السريعة والتلميح الخاطف للمسألة... لنعد الآن الى السؤال: هل التشاؤم حالة الشعر ام الشاعر؟! ام حالة الانسان عموما وخاصة انسان هذا العصر؟ ألا ترى معي ما يحدث، إن الصورة التي وحدت العالم وجعلته يعيش في نفس الوتيرة تقريبا... فالاحداث التي نعيشها جميعا في نفس اللحظة تقريبا جعلت المشهد المأسوي (حروب، مجاعات، كوارث طبيعية...) يسيطر على ذاكرة الانسان ومخيلته، وبالتالي اصبحنا نعيش حالة إحباط وقنوط ويأس من كل المشاريع... انها الحالة التي تحدثت عنها في سؤالك... فهل يُعاب على النص ان يحمل بعض خلجات الواقع وان كان في مرارة العلقم؟!!...
تعوّل كثيرا في مجاميعك الشعرية على معجم الطبيعة بمكوناتها وحالاتها وتحولاتها في حين ان الكثير من الشعراء يتجهون اليوم الى معجم التكنولوجيا وصرنا نتحدث عن القصيدة الافتراضية؟
ـ سؤالك هذا يذكرني بسطحية القائلين بضرورة نقل الواقع كما يبدو للعين المجردة. هذا التبسيط لعلاقة الواقع بالنص يضر بالنص ويجعل منه في احسن الاحوال «ريبورتاجا» او مقالا صحفيا سمجا... حسب رأيي الامر اكثر تعقيدا وعمقا... فلا يعني استعمال بعض أدوات التكنولوجيا الحديثة التي دخلت حياة الانسان في السنوات الاخيرة ان النص حديث ومعاصر... والحداثة شيء اخر لا يسمح مجال حديثنا هنا التورّط في تفاصيله، ولكن لا بأس ان أوضح أمرين هامين:1 ـ ان التكنولوجيا بكل أدواتها وبرامجها جُعلت بالاساس لخدمة الانسان، ولم تنف الطبيعة ولم تُخرج الانسان من محيطه البيئي وان تدخلت وضيقت كثيرا مجالات عديدة، ولكن هذا حدث عبر مرور الزمن السريع واستوعب الانسان خطورة الامر. ألا ترى معي هذا المشروع الكبير الداعي الى حماية البيئة والمناخ والمحيط عموما، انظر الى الجمعيات والاحزاب التي تُولد يوميا في كل أرجاء الارض والتي جعلت همها الاساسي ترشيد الانسان وتوعيته الى مخاطر انهاك الطبيعة واستنزاف مواردها وثرواتها، من هنا يمكن للنص ان يكون حديثا وبطريقته الخاصة في الدفاع عن الحياة وعن الانسان والطبيعة طبعا... دون الاسفاف والافتعال في استعمال كلمات تسقط اسقاطا سمجا... فتكون نصوصا مفبركة لا علاقة لها بالحياة ولا بالحداثة.2 ـ إن النص يكون حديثا باشتغاله العميق والجاد في اللغة أولا احتكاكا ومناقشة للنصوص الاخرى، وثانيا بانغماسه الواعي والمدروس لقضايا الانسان وهمومه سواء في قضايا وجودية كالموت والحب... او في برامجه الآنية ـ الآن وهنا ـ ومخططاته للمستقبل ضمانا للحياة... طبعا لا يمكن للنص ان يُفلت من شروطه التاريخية... رغم إلحاح بعض المنفلتين من كهوف التاريخ على قدسية بعض النصوص... النص هو تفكير باللغة ولذلك هو تاريخي، وليأت من حيث شاء.
في قصيدتك «مرثية لغزالة الضوء» من مجموعتك «هل أفسر دهشتي» قلت ان اللغة انتهت، فهل يعني هذا انك مؤمن بمقولة موت اللغة والشاعر والشعر استتباعا لموت الايديولوجيا والمثقف والكاتب؟
ـ أنا لست مؤمنا بشيء ما... ثابت ومقدس... الاشياء متحركة لانها حية، والحياة هي الحركة، قد تكون لولبية، أفقية، صاعدة، او نازلة ولكنها تتحرك، وحين اقول ان اللغة انتهت، يجب ان يؤخذ هذا السطر او البيت الشعري في سياق النص. فأنا لست معنيا بتفسير شعري، ولكن دعني أصارحك بأن هذا السطر يرمز الى المعاناة التي يعيشها الشاعر وهو يزود ويُنازل اللغة... طبعا العلاقة ليست حداثية ولكنها في احيان كثيرة نزالية، اي ان الشاعر يفتك ما يريده من براثن اللغة المترهلة والمتكلسة والممزقة. إن النص هو ثمرة مجهود انساني شاق ومضن ولذلك حاولت ان أرسم بعض الصعوبات التي تعترض سبيل الشاعر ومنها تمزّق اللغة...أما ما ذهبت اليه في سؤالك من ميتات فهو موضوع فلسفي واجتماعي بالاساس ويمكن مناقشته ولكن دون تعجل وانبهار بالمقولات الرنانة والفاضحة لنفسها في حقيقة الامر... ما فائدة البكاء على الموت اذا كان سيأتي فانه لم يحن وقته بعد... أليست الحياة هي المنبعثة دوما من رماد الموت؟!
هل يصنّف كمال بوعجيلة مجاميعه الشعرية كتجارب منفصلة أم ان كل نتاجك الشعري هو تجربتك الوجودية التي لا تزال تنحت ملامحها؟
ـ لقد أجبت عن سؤالك بنفسك في شطره الثاني، واجمالا أنا لا أتصور الكتابة الا كمشروع متكامل، وما النصوص الا محطات داخل ذاك المشروع. سأعطيك مثالا: أحيانا تتداخل بدايات النصوص بشكل مربك ولا تدري اي نص سيكتمل وأيها سيبقى مشرعا الى مالا نهاية... إن الكتابة بالاساس ـ مثلما ألمحت في بداية حديثنا ـ هي عمل مفتوح ومشرع على المستقبل.
هل كمال بوعجيلة موغل في وهم من سبقوه الى الماء... مثلما كتبت في احدى قصائد مجموعتك الموسومة بهذيان سماء باردة؟
ـ الماء هو احد تغييرات الحياة، من منا يمكن ان يفهم هذا السطر؟ لا أحبذ كما قلت لك سابقا تفسير شعري واعترف انها مهمة شاقة وصعبة، وسأجوز القول ان التوغل في هموم ومشاغل الانسان واحلامه وآماله وطموحاته هي احد مكونات الشعر واحدى مهام الشاعر.
عندما تقرأ اليوم ـ بعد عشرين سنة ـ قصيدتك المهداة الى أبي القاسم الشابي «مرثية الارض السراب» هل تصنّف نفسك بمرتبة الشاعر النبيّ؟
ـ إذا كان الشاعر كما ألمحت هو المتذكر للمستقبل والسابح في تفاصيله، واذا كان النبي هو الحامل لأسراره فلا يمكن للشاعر الا ان يكون نبيّا... ولعل النبي يكون شاعرا... من يدري.
هل يعتقد كمال بوعجيلة ان تجربته الشعرية لم تحظ بما تستحق من النقد والقراءة؟
ـ لابد من توضيح الامر التالي: أنا لا أكتب لأجل النقد ـ أرجو ان يُفهم كلامي هذا ـ اي ان الحادث الذي جرّني الى فعل الكتابة لا يسمح لي بمغازلة مقاعد الدرس... والتصنيفات... ولا أشتكي عادة من غياب النقاد وعزوفهم عن دورهم الاساسي...التجربة تستفيد جدا من النقد، اي نص يستفز الناقد ويحرّك فيه رغبة الكتابة هو نص يحمل بالضرورة ما يستحق القراءة... ولكن اين نحن من هذا؟! لقد اصبحت الكتابة النقدية عندنا نوعين بعيدين عن النقد: فإما المصافحة الاخوانية المجاملة والمتزلفة لغاية في النفس او الكتابة الحاقدة والشامتة المتلصفة لعلة في نفس الكاتب والناقد وليست لعلّة في النص...بودي ان يرتقي النقد بشكل عام الى مصاف الابداع والعلم... وان لا يظل حبيس الاخوانيات والمجاملات او الاحقاد والكراهية...
ألا تظن ان كمال بوعجيلة كاسم أكبر من كمال بوعجيلة كنص شعري؟
ـ هذا السؤال لا يوجّه إليّ... هناك مختصون في مثل هذه المسائل يمكن ان تجد لديهم الجواب. هل ساهم
وجودك في باريس منذ 1998 في تأثيث تجربتك الشعرية وإثرائها؟
ـ وجودي في فرنسا منذ عشر سنوات ساعدني في فهم الكثير من الامور، اضافة الى الافادة الكبرى من الاطلاع على تجارب حديثة جدا في كل مجالات الفن والادب، علاوة على ما يمنحه السفر من انفتاح على العالم ومتعة استنشاق روائح القرى والمدن والنساء وسماع الاصوات المختلفة والتجوال عبر الامكنة وكأنك تسافر في الزمن... ان للرحيل مزايا على الكاتب لا تحصى ولا تعد.
وأنت البعيد في فرنسا كيف تقيم المشهد الشعري في تونس نتاجا وحركة؟
ـ احدى سلبيات هجرتي الى فرنسا ابتعادي عن الساحة الشعرية والادبية عموما في تونس... أكاد لا أعرف الا ما عرفته قبل سفري... الان العودة ممكنة... سأحاول الاطلاع على كل ما نُشر اثناء مدة غيابي للاستفادة منه ومواكبة الحركة الادبية في تونس وأرجو ان يساعدني الاصدقاء على ذلك.
في السنة القادمة سنحتفل بمائوية ابي القاسم الشابي، فهل لك ـ باعتبارك شاعرا ـ ما تقترحه بشأن هذا الحدث الشعري؟
ـ المنشطون والمختصون في شؤون الاحتفالات والمهرجانات يمكن ان تكون لهم مقترحات واراء صائبة ومفيدة، اما انا فلي نصّي ويسعدني ان احضر هذا الاحتفال بشاعر تونس الكبير.
في زمن الحروب وعودة الاستعمار بمختلف اشكاله هل يمكن للشعر ان يعود لجماهيريته مثلما كان في أربعينات وخمسينات القرن الماضي؟
ـ الجماهيرية. جماهيرية الشعر والفن عموما هي قضية مطروحة على وجه الخطأ... لست أدري متى كان الشعر جماهيريا ومتى كفّ عن ذلك، ولكن الذي أعرفه هو ان الشعر ظل موجودا ومبثوثا في كل أرجاء الدنيا، هذا ما ألاحظه من خلال تجوالي عبر قارات العالم ومدنه، لم أجد مكانا خاليا من الشعر، إطلاقا لم يحدث معي هذا.اما قضايا الشعوب المستعمرة والمضطهدة فقد يخدمها الشعر في حدود امكانياته دون ان نبالغ في ضرورة هذا الاستعمار والظلم لانتشار الشعر.أقول ختاما أننا لسنا في حاجة الى كل هذا الدمار والخراب كي يظل الشعر حاضرا.