بحث هذه المدونة الإلكترونية

2010/04/23

لأول مرة عمار منصور يتكلم : أدب السجون لا يكون إلا من أدب التحرّر والحرية


عمّار منصور ...

من كان ينتظر أن يتكلم عمار منصور في يوم ما عن تجربته السجنية وتجربته الشعرية وموقفه من أدب السجون في تونس بشقيه، أدب المسؤولين السياسيين، وأدب الرفاق، رفاق حركة آفاق، رفاق سجن 9 افريل ...

كنت دائما أراه متوغلا في صمته وتأمله، ولم أكن أنتظر ـ كغيري ربّما ـ أن يتحدث إليّ في أكثر من جلسة واحدة لولا إصرار أحمد حاذق العرف . فكان هذا الحوار الذي بين أيديكم .

من مساوئ الذاكرة الجمعية أنها تتجاهل أو تتناسى من يساهمون في صنع التاريخ في صمت ... أنت كنت واحدا ممن ناضل في صمت ويبدو أنك تمرّ في صمت أيضا؟

ـ نحن لا نتخاصم على "تركة" تاريخية. أنا لا أتحدث عادة عن السجن في علاقاتي الشخصية والمهنية ولذلك فالكثير من الناس يستغربون دخولي السجن. أعتقد أن التجربة أو المحنة التي مررت بها لم أخضها من باب الطموح الشخصي الضيق، وإنما من باب القناعات الفكرية والوجودية بالأساس وبدرجة أقل سياسية. لذلك أعتقد، ولا أدّعي، أن ما قمت به ليس (مزية) على هذه البلاد أو على أي شخص كان، وإنما أعتبرها محاولة بسيطة لإرضاء ضميري الحائر إلى درجة العذاب والذي لا يزال كذلك إلى الآن، معذب من عديد القضايا الوجودية سواء محلية أو قومية أو أممية وأعتقد أنها تشكل بؤرة التوتر في حياتي إلى اليوم، ولربما على هذا الأساس، فإن تجربتي السجنية، وكذلك الاشعار التي كتبتها وأنا داخل السجن لم يطّلع على بعض جوانبها ـ بل لم يسمع بها كثير من الأصدقاء والزملاء إلا فيما شذّ وندر ـ إلى درجة أن بعض الناس يستغربون تمام الاستغراب إذا ذكر بعضهم أن فلانا شاعر أو كان سجينا سابقا.

كأنني دفنت نفسي بنفسي أو كأني خرجت من سجن لأدخل إلى آخر. أمقت الافتعال والتصنّع وقد أكون مخطئا في هذا وقد يعود ذلك إلى حكم سلبي مطلق على تجربتي من ألفها إلى يائها ولكنه في الحقيقة يشكل احتراما فعليا لتلك التجربة.

ولكن كل المناضلين أو لنقل جلهم خاضوا تجاربهم أيضا انطلاقا من قناعاتهم، كما أنهم يحترمون تجاربهم فعليا دون تصنع أو تكلف؟

ـ إذا كان الأمر كذلك مع كل السجناء السياسيين السابقين دون استثناء فهذا أمر مشرف لهم ومشرف للوطن.


طيب، لنعد إلى قابس وما قبل قابس؟

ـ إنها عودة "إلى الوراء" زمانيا لأكثر من نصف قرن (1955) حينما كانت الحركة الوطنية في تونس والعالم العربي في أوج فعلها التحرري أذكر أنني (ولم أكن قد إلتحقت بعدُ بالمدرسة الابتدائية بقرية المنصورة) استمعت ذات صباح إلى ضوضاء رهيبة وعلمت فيما بعد أنها مظاهرة ضد الاستعمار الفرنسي فلم أشعر إلا وأنا أختطف من أميّ أداة حادة كانت تستخدمها في نسج الصوف وقفزت من سطح الدار وخرجت لألتحق بجموع المتظاهرين .

لقد نشأت في مناخ وطني متحرك خاصة وان أبي نفسه محمد بن منصور قد كان من أول مؤسسي شعبة الأعراض بالجنوب التونسي والتي كانت لها علاقة وثيقة بالمقاومين مثل بلقاسم البازمي والساسي الأسود والطاهر الأسود والحبيب شقرة.

أذكر أن والدي كان يعطيني سلة لأجلب له الفلفل من بستاننا لأعطيه للفلاڤة خلسة. عندما إلتحقت بالتعليم الابتدائي تشبعت بالأناشيد الوطنية التونسية والعربية، وهناك قصائد أحفظ منها الكثير الى الآن للشابي وحليم دموس وحافظ ابراهيم واحمد شوقي وجميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي ...

في مرحلة الثانوي بالمعهد المختلط بقابس (62 / 63) تعرفت على عدد كبير من التلاميذ من مختلف ولايات الجنوب أذكر منهم سجناء سياسيين فيما بعد مثل عمار الزمزمي ونور الدين بعبورة وبولبابة بوعبيد، أما محمد معالي فكان زميلي من فترة التعليم الابتدائي وتعرفت ايضا على التلميذ أحمد حاذق العرف الذي أضحكنا كثيرا على شخصية ( شلُكْة ) وهو قيّمٌ عام .

هذه الفترة كانت أخصب فترة من حيث المطالعة فقد كنا نتداول الكتب أكثر من تداول الجوعى للخبز . في ظرف ثلاث سنوات قرأنا مئات الكتب .

إلى أي الاتجاهات أخذتك الكتب؟

ـ حملتني الأفكار إلى نثر نقاط الاستفهام وطرح الأسئلة وتوليد الأسئلة من الأسئلة. في تلك الفترة اطلعت تقريبا على المدونة الأدبية والنقدية العربية بالخصوص من الجاهلية حتى مجلة آداب لسهيل إدريس ثم دخلت عالم الأدب الفرنسي.

وأيضا حملتك إلى ظلمة السجون؟

ـ يمكن أن يكون ذلك صحيحا بنسبة كبيرة، فجدتي رحمها الله سمعت أنني نشرت قصيدة في إحدى الجرائد اليومية فلم تفرح بل حزنت وتوقعت مصيرا غير سار لحفيدها عمّار، ولعل هذا ما جعل عمار يرثيها في قصيدة مطولة عندما أدركتها الموت وهو في السجن.
وكان قد بعث لها في إحدى رسائله سلاما لكنه لم يصل (بلّغتكُ السلام فلم يصل ).

في خضم عالم القراءات وفورة الحركات التحررية الوطنية في كافة أنحاء العالم وخاصة بعد هزيمة 67 اتصلنا بالفكر الماركسي عن طريق نصوص مبرمجة في كتب الفلسفة أولا ثم عن طريق مترجمات مشرقية لكلاسيكيات الماركسية، وفي تلك الفترة، وأنا بين البورقيبة والناصرية واليوسفية والماركسية انتقلت الى الجامعة التونسية والتحقت بكلية الآداب والعلوم الانسانية ( 9افريل) بعدما تحصلت على شهادة الباكالوريا في الفلسفة والآداب الأصلية .

في الكلية درست الآداب العربية، وفي شوارع العاصمة انفتحت الآفاق رحبة .
كنت أتصوّر قبل الالتحاق بالكلية أن صفة طالب تعني بالضرورة صفة ثائر، ومن البداية تعرفت على عدد كبير من الطلبة سرعان ما تجاوبنا معا لتشابه مراجعنا وقراءاتنا وخلفياتنا الفكرية وطموحاتنا .

في تلك الفترة تعرفت على "الشيخ" الهاشمي الطرودي وكان شابا ذكيا وحركيا ومن خلاله تعرفت على الرفيق محمد بن جنات الذي كان يتقد حماسا ويتمتع بنوع من الكاريزماتية والنجاعة العملية، ثم أصبحت أسكن معهما في نهج أحمد التليلي.

منذ سنتي الأولى كنت عضوا في اتحاد الطلبة وكنت أيضا في التنظيم السري (آنذاك) لحركة آفاق بعد ان حسمت أمري من اختلاط البورقيبة واليوسفية والناصرية والماركسية لصالح الأخيرة.

عشت وساهمت من بعيد في مؤتمر قربة وحركة فيفري 72 وحركة ماي 73 .
ليلة 18 نوفمبر 1973 دخلت السجن؟

ـ قُبض عليّ. لم أدخل طوعا إلى السجن. أُدخلت إلى سجن 9 افريل في الزنزانة رقم 6 ومنها إلى الزنزانة عدد 17 (قد تكون الزنزانة عدد 5 فعذرا على الذاكرة المهترئة) قبلها بقينا تقريبا ثلاثة أشهر في مكاتب ودهاليز وزارة الداخلية التي كان على رأسها الطاهر بلخوجة آنذاك .
أثناء الاستنطاق تعرضت كغيري من الرفاق إلى تعذيب شديد اكتسى مظاهر متعددة لعل أشنعها التعليق على طريقة "الهيلكوبتر" وهي طريقة بلغنا إنها مستوردة من أمريكا اللاتينية حيث تُربط يدا السجين وساقاه بإحكام شديد ويتم تعليقه على عمود ثابت وتوضع على فمه "كمامة" فتصير قدماه إلى أعلى ورأسه إلى أسفل ويتداول عليه جلاّدان بالهراوة وهي أنواع متعددة هي الأخرى (الهراوة المطاطية والهراوة الخشبية) ومن أبرز الجلادين الذين أحتفظ الآن بأسمائهم محسن ولد الصغيرة وثان ينادونه "سكابا" وثالث اسمه نور الدين ولا أذكر لقبه ولكن أذكر جيدا انتشاءه بالتعذيب بالغناء نكاية فينا.

من بين أشكال التعذيب أيضا ضرب العضو التناسلي للسجين بعصى مطاطية مما جعلني أتبوّل الدّم سبعة أيام متتالية وانتفخت رجلاي ويداي وتقيحت، وفقدت أظافري وطيلة فترة زمنية لم أعد قادرا على الذهاب الى دورة المياه الا بمساعدة شرطيين بالزي ممن كانوا يتولون حراستنا بعد الجلادين وكان بعض هؤلاء لا يخفى تعاطفه معنا خاصة وان منهم شباب تلمذي شارك في حركة فيفري 1972 واضطر للالتحاق بسلك الأمن لأسباب قاهرة .

ظللت أكثر من شهرين لم يلمس الماء جلدي حتى أن بعض الحشرات كالقمل والبق بدأت تعشش في فُرُشِنَا وأجسادنا ويوم نُقلنا الى "دوش" السجن المدني بـ 9 أفريل لم تدم حصة التطهير تلك أكثر من خمسة دقائق بحيث أن الاوساخ تحيّرت ولكنها بقيت بأجسادنا ممّا ضاعف من وسخنا وآلامنا، وكأن "الدوش" كان نوعا من أنواع التعذيب بل هو كذلك.

أشعلوا النار في شعر عانتي، عشت على "الراڤو" لمدة شهر تقريبا ومع ذلك فقد كنا صامدين أمام القمع والتعذيب داخل دهاليز وزارة الداخلية بحيث كنا نؤلف الأناشيد الثورية ونلحنها وننشدها بكل قوة ليلا نهارا مما يثير الهلع في صفوف الحراس وموظفي الداخلية الكبار ومن الأناشيد التي ألفتها وأنا في الزنزانة وأَنْشَدَهَا الكثير من الرفاق السجناء وانتشرت داخل وزارة الداخلية .

كتبتُ (إلى اللقاء، إلى اللقاء يا أيها الرفاق / سوف النضال يجمع شملا بعد الفراق / سنلتقي سنلتقي في جبهة النضال / في حزبنا حزب الملايين من العمال...) وهي معارضة لنشيد كنا حفظناه في التعليم الابتدائي يقول مطلعه "الى اللقاء، الى اللقاء يا أيها الإخوان"...
إذن كنت تكتب داخل زنزانتك؟

قبل الدخول الى السجن كانت لي تجارب شعرية ومحاولات عديدة انطلقت من التعليم الابتدائي ولكنها في بداية التعليم الثانوي بدأت تتبلور في اتجاه رومنطيقي صوفي وقد نالت بعض قصائدي جائزة الجمهورية على مستوى الشبيبة المدرسية في مناسبتين متتاليتين أذكر منهما قصيد »ثورة مجنون« ونشرت عدة قصائد في الصحف (جريدة الصباح، مجلة فكر) ثم لما إلتحقت بالجامعة وتحديدا كلية الآداب والعلوم الانسانية 9 افريل في السنة الدراسية 69 / 70 تعرفت على العديد من الشعراء الطلبة مثل المرحوم الطاهر الهمامي والمنصف الوهايبي والطيب الرياحي وبدأنا نتصل بكثير من النقاد والشعراء المعروفين الذين بدأوا يؤسسون لما يسمى بالطليعة الأدبية مثل ابراهيم بن مراد ومحمد الصالح بين عمر والحبيب الزناد وسمير العيادي وأحمد مختار الهادي فضلا عن أحمد حاذق العرف وشاعر اخر نسيت اسمه كان يشتغل في الحرس الوطني!!! (عذرا تذكرت اسمه، خالد التومي ).
وقد تزامنت هذه الموجة "الطليعة" مع انهيار نظام أو سياسة التعاضد مع أحمد بن صالح فبقدر ما كنا مستائين من سياسة احمد بن صالح التجميعية المفرطة وغير المبنية على وعي الفلاحين، كنا نتعاطف معه وحرصنا على حضور محاكمته باعتبار انه لم يكن المسؤول الاول عن تلك السياسة الفاشلة، وفي خضم تلك الأحداث كتبت أنا والمنصف الوهايبي أول قصائد جماعية بمجلة »فكر« والملاحظ هنا أن هذه المجلة تفتحت في تلك الفترة بالذات على الطليعة ونشرت الكثير من النصوص الجريئة، كما كتبنا مجموعة قصائد جماعية ايضا سنة 1970.
أذكر مقطعا من قصيدة كتبتها دفاعا عن بن صالح باعتباره مظلوما أقول فيها : ( حياتكم أفيون / وفكركم عاطل / فحكمّوا المجنون / وحاكموا العاقل ....
وأذكر مقطعا آخر يعبّر عن تبرّم الناس من الوعود التي لم تتحقق الا من خلال أبواق الدعاية: (عُوّدتُ بالخضوع / عُوّدتُ بالقناعة / عُوّدتُ أن أرتقب الموعد ألف ساعة / وكنت حينما أجوع / أقتاتُ من برامج الاذاعة).
هذا قبل السجن، ولعل هذه الأشعار والأفكار هي التي أفضت بي الى السجن.

أنا سألتك عن الكتابة داخل الزنزانة؟

ـ في البداية مُنعت عنا الاقلام والأوراق والكتب ورغم ذلك كتبت برماد السجائر على أوراق علب الدخان ومختلف أنواع الأوراق الاخرى ومن ذلك قصيدة ـ وقد ضاعت ـ عنوانها »قائمة الممنوعات« أقول فيها (ممنوع ممنوع... الحاكم يحكم والشعب قطيع... مكتوب بالحبر... مكتوب بالطين على كل جبين... يدق بناقوس الانذار... كلما التقى اثنان... وكلما تحركت شفتان) هذه القصيدة كان يقرؤها الرفيق نور الدين بن خضر رحمه الله وهو ملقى على بطنه في أوج الشتاء بصوت مرتفع وجهوري ليبلغها إلى باقي سجناء السجن المدني عبر الفجوة التحتية لباب الزنزانة (صوته إلى الآن يرن في أذني ).
كيف كانت تصلكم الكتب؟ وهل تذكر بعض العناوين التي قرأتها داخل زنزانتك؟
ـ أثناء مرحلة كاملة في السجن المدني بدأنا نناضل نضالا مريرا من اجل المطالبة بالكتب والأقلام والأوراق، خضنا إضرابات جوع من أجل الحق في المراسلة والكتابة والقراءة وبعد عدة إضرابات جوع تمكنّا من حق الكتابة لأفراد عائلاتنا لكن الكتب لم يسمح لنا بها إلا بعد إضرابات جوع عسيرة ومضنية، ولم نتحصل على الكتب إلا بعدما تم نقلنا إلى برج الرومي .

وقد زوّدنا الرفاق من خارج السجن ومن خارج البلاد أيضا بعناوين محترمة من الكتب في مجالات متعددة تتراوح بين التسلية مثل الروايات البوليسية والروايات العالمية بل أمهات الروايات العالمية من الروسية إلى الألمانية والأنڤليزية والفرنسية والعربية وروائع الشعر العالمي فضلا عن الكتب السياسية وتحديدا الماركسية منها، بما فيها رأس المال لكارل ماركس وديالكتيك الطبيعة لأنجلز .

والكتابة داخل الزنزانة؟

ـ منذ بداياتي الشعرية الأولى، وأنا فتى اقترن، الشعر عندي بالمعاناة والحياة بحيث إنني كنت ـ ومازلت ـ أعجز تمام العجز عن الفصل بين القول والفعل .
فالشعر عندي ليس مجرّد معالجة لسانية أو استهاميّة للوجود وإنما كان مغامرة أخوضها بقولي ووجداني وفعلي ولذلك فقد كنت متأثرا بالشعراء الفرسان والمتصوفين حتى البطولات الإنسانية المثالية التي كثيرا ما كان يسخر منها بعض النقاد "الموضوعيين" بل وحتى الأساطير والرموز ... كنت أتمثلها واقعا لا ينفصل عن الجسد ولعل هذا ما حدا بي الى مواصلة الكتابة في السجن باعتبارها فعل مقاومة وإيمان وصدق ...
وقصائدي التي كتبتها على أوراق السجائر ولا أقصد أوراق علبة السجائر بل لفافة السيجارة، كنت أحرم نفسي من لذة التدخين وأتلف التبغ لأغنم ورقة السيجارة وأصيرها ورقة كتابة قابلة للتهريب خارج السجن... وتمكنت بهذه الطريقة من "تهريب" مجموعتين شعريتين إحداهما بعنوان "إلى تونس" بفضل المرحوم نور الدين بن خذر وقد استرجعتها حالما خرجت من السجن أما الثانية فقد هُربت الى باريس بفضل المرحوم أحمد بن عثمان وقد استرجعتها مؤخرا بفضل زوجته سيمون للوش وانا الآن بصدد الاعداد لنشر هذه القصائد في كتاب واحد سيكون حسب اعتقادي معبرا فعلا عن عمار منصور في عمر الشابي . ببساطة لأنني لن أغير فاصلة واحدة فيما كتبته داخل السجن وعمري لم يتجاوز الخامسة والعشرين وسأنشر الكتاب بتاريخه وخطه .

لماذا كل هذا الاصرار على عدم تغيير أية فاصلة ممّا كتبت رغم أنك الآن خارج السجن وعمرك تجاوز الستين؟

ـ القضية ليست قضية عمر، وانما هي مسألة وعي. وأنا شخصيا أستنكر وأمقت الوعي المابعدي أي ذاك المبني على منطق تبريري كأن أقحم أو أفرض وعي رجل الستين أو السبعين على فورة ذاك الشباب الذي ما زال يتحسس طريقه وهو في العشرينات...
هل هو أنا أم أنا هو؟! أبدا لا أدري ولكن كل ما أحب وكل ما أغار عليه هو ذلك الكائن الذي قد يكون أنا وقد يكون الآخر، ليس من ملكي الشخصي وانما يعكس وعيا محددا في قترة تاريخية محددة لا سبيل الى تزويقها أو التلاعب بها.

أنا أغار على ذلك الشخص الذي كنته وإذا ما زوقته أو جمّلته أو خنته فمعنى ذلك أنني اعتديتُ على كرامته كذات متصلة بي ومنفصلة عني في ذات الوقت .
هل تعني بالوعي الما بعدي كتابة مذكرات ما بعد السجن؟

ـ مذكرات ما بعد السجن... لم تكتب في السجن... وان كانت لها علاقة بالسجن... ذلك أن المذكرات التي تُكتب آو تدوّن بعد مرور الاختبار أو التجربة بسنوات عديدة (قد تتجاوز عشرات السنين) وبعد انتقال صاحبها من تجربة إلى تجربة قد تكون مناقضة للأولى... وهذا يؤدي حتما إلى تلبيس وتلفيق وترقيع وتشويه التجربة الأولى... بحيث يعمد البعض إلى تطويع وعي مضى لشروط وعي حاليّ... فيُغفل أشياء ويهمل أحداث ويُجمّل ما يريد تجميله ولو كان قبيحا... إلى غير ذلك من المخاتلات النفسية كأن يخون الإنسان نفسه، أو يخون وعيه وأقول يخون لأنه عاجز عن التجاوز الحقيقي...

وهذا المسار إذا ما إنسقنا فيه سنكون في قلب العبث .

لكن إذا كان النص المكتوب في السجن ( بحشيشه وريشه ) هو المنشور الآن فلا سبيل إلى المغالطة والتحذلق أو التقبيح .

ذلك هو أنا مثلما كنت ماضيا ... فهل معنى ذلك أن ذلك الماضي هو أنا حاضرا وتلك مسألة أخرى ...

التجربة السجنية قد تكون دافعا لكتابة أدب السجون ويكون جيدا وإنساني ولكنه ينبغي أن لا يُحسب تماما من أدب السجون ...

أدب السجون أدبٌ مدّمرٌ وليس أدب بلاغة ومجاز وشعارات... وإذا أردنا التعمم... فإن الأدب هو أدب سجون أو لا يكون لأن كل أديب يبحث عن حرية ما... والكلمة دائما تريد ان تتحرّر من سجن ما... من وضع ما...

وأعتقد أن الكتابة فعل تحرّر وهي كذلك ولا ينبغي تقديس كل ما كُتب في السجن أو كل ما كُتب عن السجن خارج السجن، فليس كل من دخل السجن أديب ولا كل أديب دخل السجن ...

ولكن الهاجس التوثيقي والجانب التأريخي مهم؟

ـ طبعا التجارب السجنية بصفة عامة ليست بالضرورة تجارب إبداعية أدبية وإنما هي وثائق في تاريخ مجتمع... تعبر عن صراع سياسي ما في مرحلة ما... عن وعي حضاري معين... المهم أن يعي كلٌ دورهُ.. ولا سبيل الى الخلط بين مستويات متباعدة...

ألهذا لم تدوّن مذكراتك السجنية على غرار البعض من رفاقك؟

ـ مذكراتي السجنية هي تلك القصائد التي كتبتها في السجن فقط، أما مذكراتي ما بعد السجن فهي مسألة اخرى تهم وعيي اليوم تاريخيا وحضاريا وفلسفيا... أي أنها تشكل مقارباتي الحالية لمجمل القضايا التي نعيشها وطنيا واقليميا وعالميا...

ولكن اليوم، وعلى الأقل في تونس، أدب السجون بات يُمثل عنصرا مهما في المدونة المكتوبة؟

ـ أدب السجون، أو غيره، ينبغي أن يكون أدبا قبل أن يكون أي شيء آخر .
فإذا كان أدبا قبلناهُ وقرأناه وبجلناهُ، أما أن يكون مجرّد مذكرات ما بعديّة أو مزايداتٌ تبريرية فهذا أمرٌ يتجاوزنا ( لاحظ كثرة المذكرات وخاصة من المسؤولين السياسيين السابقين ...).

أما عن رفاقي الذين إكتووا بنفس النار التي اكتويتُ بها فمازالوا في البداية... وإن الكتب التي أصدروها مازالت تُعدُ على قيد الأصابع (جلبار نقاش، فتحي بالحاج يحي، محمد صالح فليس في انتظار آخرين كثر...) فما أنجز لدينا من آثار قليلة لم يُشكل بعد أدب سجون... فأدب السجون في نهاية الأمر لا يكون إلا من أدب التحرّر والحرية، وهذا ما نحن في أشد الحاجة إليه .

2010/04/07

الناشر التونسي ومعرض الكتاب



أيام قليلة تفصلنا عن الدورة الجديدة للمعرض السنوي للكتاب التي ستتواصل من يوم 23 أفريل الجاري إلى موفي 3 ماي القادم بقصر المعارض بالكرم. وهو حدث يوفّر مساحة محترمة من الديناميكية والحركيّة الثقافية مدّة أيامه العشرة. فبقدوم المعرض الدولي للكتاب يتذكّر التونسي أنه طلّق الكتاب والقراءة وتدحرج إلى أسفل السافلين في أقانيم البيولوجيا الزائلة، وحاصرته "كتب" السحر والشعوذة والطبخ والتجميل والتطبيب البدائي... ويسارع عدد غير قليل من الطلبة والمثقفين والكُتّاب لفكّ أسلاك الحصار المعرفي ورأْب صدْع الهجران الفكري فيلوذون بأروقة قصر المعارض بالكرم وأجنحته المحلقة بالكتب، ليُنقذوا أدمغتهم من مستنقع الجهل ويُفطرون عن إمساكهم المعرفي...

معرض الكتاب، ومثلما يشير موقعه الالكتروني الذي لم يُحين بعدُ للدورة الحالية، يهدف إلى الإسهام في النّهوض بقطاع الكتاب بوصفه أداة رئيسية لنشر المعرفة وتداولها، وإتاحة الفرصة للجمهور الواسع للتعرّف على مستجدّات الإنتاج الفكريّ والأدبيّ والعلميّ والفنّي تونسيّا وعالميّا، والعمل على إشاعة الرغبة في القراءة وممارسة المطالعة، وتنشيط الحوار حول قضايا الفكر والأدب والثقافة انطلاقا من الكتاب، كما يهدف إلى توفير الظّروف الملائمة لتنشيط الشراكة بين المهنيين في قطاع الكتاب بتونس والخارج.

هذا الهدف الأخير، أي توفير الظّروف الملائمة... هو الذي يعنيني ضمن هذه البطاقة، خاصة من ناحية الظروف المادية التي توفرها إدارة المعرض للناشرين والعارضين والمكتبيين المشاركين، وتحديدا التونسيين، وتخصيصا للناشرين التونسيين الجدد، أو الشبان إن شئتم.

فهؤلاء تعاملهم إدارة المعرض، من الناحية المادية، مثلهم مثل أي ناشر يأتي من خارج الحدود أولا، وتُعامل ـ ماديا ـ مثلا ناشر تونسي عمر دار نشره لا يتجاوز الخمس سنوات (دار المعرفة الجذلى، منشورات وليدوف، دار ورقة للنشر، دار انانا للنشر والتوزيع، دار مسكلياني، منشورات كارم الشريف...) مثله مثل دار الآداب أو دار رياض الريس أو دار الجمل أو دار المدى أو الدور الأوروبية...

فالنظام الداخلي للمعرض ينص فصله السادس على وجوبية دفع 80 بالمائة من الرسوم التقديرية المستوجبة على كل من تحصل على الموافقة المبدئية في المعرض، كما أن استمارة المشاركة في المعرض المفصلة للرسومات لا تستثني الناشر أو العارض التونسي ولا تمنحه خصما أو تخفيضا، ولا تقدم له حتى إمكانية السداد بسعر تفاضلي، بل هو مثله مثل غيره من الناشرين عليه أن يدفع 67 دولارا لاكتراء 12 متر مربع، وكرسي بـ7 دولارات ومكتب بـ 14 دولار وغيرهما من التجهيزات التي يحتاجها العارض، وهو مجبر على دفع معلوم ثلاثة دولارات عن كل متر مربع بعنوان التأمين على الحرائق والإضرار.

لن أتحدث عن ضرورة التشجيع والمساندة والدعم، ولكن أعتقد، وهذا رأي يلزمني، أن من حق الناشر التونسي (بمن فيهم من أصابتهم لوثة التجارة بالمعرفة وهم كُثرٌ) أعتقد أن من حقه أن يُعفى تماما من أية رسوم.

نعم يُعفى تماما من أي فلس قد يُثقل عليه خاصة وأننا نعلم جيد الظروف التي يعمل فيها الناشرون التونسيون، وتحديدا الجدد منهم. وأيضا لئلا ننعت النظام الداخلي لمعرض الكتاب بالتناقض عندما نطالع الهدف الأول لتنظيمه الذي يحرص على "الإسهام في النّهوض بقطاع الكتاب بوصفه أداة رئيسية لنشر المعرفة وتداولها"...

2010/03/29

الأرض الأرض...

لن تدور الأرض أبدا دورتها الطبيعية إن لم يدر العدل فوق أديمها دورته العادلة...
ستبقى على خرابها ودمارها إن بقى ماردها الأعظم يُكبر من يشاء ويصغر من يشاء...
ستظل الأرض هي الأرض غير أنها ستظل واقفة في زمنها الحربي ومعطلة في أفقها العدائي، جامدة غير متحركة إلا بكذبتها الميتافزيقية التي تنأى بأنفاس البشر بعيدا عن الطين المبلل بالعرق والمغمّس اليوم بالدم العراقي والفلسطيني واللبناني...
يوم الأرض الذي يوافق 30 من كل مارس منذ 1976، يوم مات ستة شهداء دفاعا عن الارض ويوم قرر إسحاق رابين مصادرة قرابة 20 ألف دونم من أراضي دير حنا وسخنين وعُرابة في الجليل... لم يكن يعرف أن الفلسطيني يأكل التراب ويتوسد الحجر ليعلق بأسنانه رائحة الرحم الذي أنجب جده ووالده والذي سينجب ابنه وابن ابنه ليتسامق كزهر اللوز وأبعد ويتطاول كعريش الكرمل وأجمل ويتحلى كعرجون الزيتون وأنضج فوق الأرض المخصبة بالحرية...
منذ 1948 والأرض الفلسطينية تدهسها الآلة الحربية الصهيونية وتدعكُ ترابها بلحم أبنائها من اجل إنشاء دولة مفتعلة ركيزتها المستوطنات اليهودية وترحيل الفلسطينيين وتهجيرهم إلى أصقاع الدنيا وأطراف الأرض...
الأرض الفلسطينية التي صار مركزها الصهيوني وهامشها الفلسطيني توقفت منذ زمان عن الدوران الطبيعي لأن قانون دورانها إلى اليوم مازال يتجاذبه قانون العودة لأي يهودي في العالم وقانون الغائب لكل فلسطيني مشرّد وتغذيه منذ سنوات قليلة فكرة المنظّر اليهودي «جابوتنسكي» حول الجدار الحديدي الذي عنّه ارتفع جدار الفصل العنصري منذ عام 2003 بطول 622 كلم أي ما يقابل نصف مساحة الضفة الفلسطينية وهو إلى اليوم سائر في تقدمه حيث بلغت أشغاله 300 كلم متوغلا في أراضي الضفة الغربية...
حرية حركة الأرض ودورانها إذن انتهكت بهذا الجدار الفاصل لوأد الأرض الفلسطينية وردم العدل الإنساني تحت الاسمنت العنصري المسلح الذي ترجفه الذهنية الصهيونية معززة بالآلة الإمبريالية الأمريكية العمياء... ومع ذلك مازالت الطفلة الفلسطينية والطفل الفلسطيني يغنّيان بأعلى صوتهما أن على هذه الأرض ما يستحق الحياة... وان أرضهم ستكون فلسطينية قبل ان تكون عربية لأن دوران الأرض العادل لا يعني بالضرورة أن تكون الأرض «بتتكلم عربي» بقدر ما يعني أن تكون الأرض إنسانية متوجهة بخطوات الإنسان الذي يبني لا بخطوات الإنسان الذي يدمّر ويٌُنهك التراب بالرصاص كالصهيوني والأمريكي ولا بخطوات الإنسان الذي يفقد الأرض توازنها بجوره وظلمه ولا عدله ككل حاكم طاغ ظالم متجبّر...

2010/03/23

هوية "زرزيس" في فيلم محمد الزرن:شعرية الأمكنة بعدسة النوستالجيا


السينما عند محمد الزرن هي سينما معاشرة قبل ان تكون سينما صورة



بلادي البعيدة عني... كقلبي

بلادي القريبة مني... كسجني

لماذا أغني

مكانا، ووجهي مكان؟

(م.درويش)

جذاذة فنية/شعرية:

* جرجيس/زرزيس: مدينة تخلت عن خصائصها الجغرافية والتاريخية لتتحول إلى قصيدة شعر بها فائض من الإغواء والغواية الآسرة...

* محمد الزرن: من طين القصيدة تشكل وأوهمنا بأنه يتخفى خلف عدسة السينما لئلا نكتشف فيه مجاز العين...غبطة شاعر مسكون بلذة الأمكنة...

* الممثلون/الشخوص: أيقونات من الكلام والصمت والحركات تتعانق لتزداد تألقا واخضرارا فوق معابر الذاكرة وهي ترسم إيقاعها اليومي لتعلن ميلادها الأبدي...

* الموسيقى/أمين بوحافة: بيدر فرح في ليلة صيفية يتهادي بآلاته صعودا ونزولا ليُحرر جماد المكان من عقاله ويُشرع للحلم أجنحة لا تخفق إلا سفرا متوهجا...

* الزمان/المدى: قريب وبعيد، أفقي وعمودي، ليلي ونهاري... ماض وحاضر ومستقبل... كأنه بساط أبيض تُطرزه ذوات الاختلاف والانسجام لتُفرده على مساحة أرض لا تبدأ من السيرورة ولا تنتهي عند الصيرورة...

* المعلقة الاشهارية/Affiche : كتاب مفتوح على المطلق، معبر أزرق لأرض برتقالية الشكل لا اللون...

بعد مشاهدة الفيلم الجديد الذي أخرجه السينمائي محمد الزرن والموسوم ب"زرزيس" نسبة لمدينة جرجيس، موطن ولادته، تتأكد لنا مقولة انتقال المدينة، أي مدينة، من مدينة يسكنها الناس إلى مدينة يسكنها المعنى واللغة، ذلك أن محمد الزرن ضمن هذا العمل السينمائي الذي يبدو في ظاهره توثيقيا، يمنح المكان نفوذه وسلطته الرمزية المتعددة.

ويبدو أن هذا الفيلم مثل بالنسبة لمحمد الزرن نوعا من التحدي défit لاختبار مدى قدرته وقوة متخيله في التعامل مع السطوة الرمزية لمدينته الأم، ومع غواية المكان في سياقاته الرمزية والنفسية والحضارية والثقافية... ذلك أن كل مشهد من الفيلم الذي يدوم قرابة الساعتين من الزمن، يُقدمه لنا الزرن/المخرج على أنه "شهادة" على مدى صداقة الزرن/الشخص وعشقه للمكان...

أمكنة تنسج تاريخها من المنسي والهامشي لتعلن عن أَنسَنَتهَا وألفتها وهي تنتقل، بعدسة المخرج، من ضفة "الأكثر مصداقية" إلى ضفة "الأكثر شاعرية"... حيث صير محمد الزرن المكان أهم شخصية في فيلمه، وعبر به من وظيفته التأثيثية إلى الوظيفة المنتجة والفاعلة، بل المحركة لكل ما/من حولها، ولم يدر، ربما، كيف تورط في قطع ذاك الخيط الشفيف بين التوثيقي التسجيلي والخيالي الروائي لأنه لم يضع شخصياته في موضع الملاحظة والمراقبة ومن ثمة النقد، بقدر ما اشتغل على خلق الحي من الحي وعلى تنامي الشعور من دون مؤثرات تعسفية لا تتحملها الطبيعة التلقائية لشخوصه (الإضاءة والديكورات المفتعلة، والتصوير في الاستوديو...)...

إنه لم يُعقد الأشياء، ولم يجملها أو يشوهها، بل قدمها كما هي تلقائية ومباشرة على سجيتها، وإذا كانت الكاميرا لدى مخرج السينما، كما أشار أورسن ويلز، هي العين التي يرى من خلالها، والتي يجبرنا أن نرى نحن أيضا من خلالها، فان محمد الزرن وهو يمسك كاميراته ويتجول بها في الأماكن التي اختارها هو أو اختارته هو أيضا، يفسح لنا نحن المشاهدون أن نفضح أبعاد المكان، ونفتض حرماتها بما استطعنا إلى ذلك من حلم وخيال وتوقع... لكأن الفيلم كان بارقة حلم وبطاقة زيارة إلى داخلنا لنكتشف إمكانات المكان لا المرئية فقط وإنما الشعورية أيضا... وهي الأهم في تقديري لأنني أؤمن بأننا نحن من يحمل الأمكنة بدواخلنا لا هي التي تحملنا...

إننا نتنقل بالأمكنة التي نحبها ونشتهيها ونحلم بها ولا نتنقل فوقها فقط... لأن الحدود تزول والأسيجة لا ترتفع بداخلنا كلما كنا أحرارا... (مثلا دكان شمعون في الفيلم لم تكن له حدود رغم انتصاب جدرانه وانهمار ظلمته، وحوش الطاهر وزوجته أمريكا كان مفتوحا على مداه رغم أبوابه وسوره العالي، ومنزل الهادي الرسام كان أوسع من تأويل ألوان وخطوط لوحة واحدة...) ولذلك ربما يتميز فيلم "زرزيس" بتدفق لا محدود، لأنه يقدم مكانا يتسع للجميع ولا يقصي أحدا أو يستثنيه... انه يمنح المكان بعده الوجودي... (شخصيا لم أفكر أبدا في أن شمعون مثلا هو يهودي بقدر ما شدني التصاقه الحميم بالمكان وبناسه).

فيلم "زرزيس" اثبت أن السينما عند محمد الزرن هي سينما "معاشرة" قبل أن تكون سينما "صورة"... فكل "التقنيات" التي يمكن أن نلاحظها في الفيلم تفضح تورط محمد الزرن في عشق "زرزيس" من العشوائية المتعمّدة في الانتقال من مشهد إلى آخر، ومن كسر الحكايات قبل أن تنتهي والانتقال إلى مشهد مفاجئ أو غير منتظر، والتحول من زاوية نظر إلى زاوية أخرى... وغيرها تُعري لهفة الزرن، وتجعله ككل عاشق فاقد لأية عقلانية مقيتة، ومتخلي عن أي أسلوب أو منهج للبوح واستنطاق قلبه...

لقد ألغى كل مسافة ممكنة بينه وبين "زرزيس"... وتقاطعت عدسته مع تفاصيل الناس الذين كبر معهم وأثثوا حياته... ألغى المسافة بين التصوير والموضوع... وهو يعتمد على الذاكرة الاسترجاعية لكل صوت ينطق في فيلمه، حتى الموسيقى التصويرية لأمين بوحافة، وصوت البحر والحصان... كلها تتذكر حرارة اللقاء مع المكان وترى تحققها خارج تخومه استحالة (الهادي الرسام العائد من باريس الأنوار، السائحة المتشبثة بالرقص، أمريكا المتهكمة على الشباب المهاجر سرا...)...

هوية جرجيس أيضا مثلما رسمها محمد الزرن فلتت من عقالها البسيط، باعتبارها مدينة جنوبية، تعيش على اليومي المستهلك ولا أفق لها ولسكانها إلا ما تمنحه خيوط الشمس، ذلك أن "الرسائل" المُلقاة على قارعة الصورة استعاضت عن شيفراتها "السياسية" المباشرة ببداهة سكان زرزيس وروح طرافتهم وفائض الفطنة لديهم: العولمة، علاقة الجنوب بالشمال، الرأسمالية، الاستغلال، الإرهاب... التعددية السياسية، مفهوم المثقف والثوري/المتمرد/ الرافض، التطرف الديني، جميعها وغيرها تناثرت شُهبا على ألسنة الشخصيات (خاصة الطاهر والهادي) وتقافزت منمنماتها من عمق المشاهد المقدمة في الفيلم...

زرزيس لم تكن "لقطة فنية" في فيلم "زرزيس" رغم أن المُشاهد سيحاول تأويل هذا العمل السينمائي كذلك، مستندا (مثلا) إلى مشهدي البداية والنهاية. فالبداية كانت بالظلمة المنبثقة من فضاء داخلي (دكان شمعون) والمشهد النهائي كان أيضا بالظلمة وفي نفس الفضاء الداخلي (دكان شمعون) رغم أنها تنفتح على فضاء خارجي من خلال صورة الطفل الصغير والضوء المتكسر على طول الزقاق، وكأن المخرج يوهمنا بأنه قدم لنا دائرة مغلقة ورؤية مكتملة لعالم جرجيس مثلما أرادها هو أو مثلما يريدها أن تكون... وهو ما لن يصدقه أحدا بعد مشاهدة زرزيس، لأن الفيلم يكسر كل طوق مشهدي ويُسقط كل الحواجز التي قد ترتفع مع جنيريك النهاية... ليتركك في مهب التأويلات والأحلام في مدينتك أنت أو قريتك... التي لا يعرفها محمد الزرن ومع ذلك نفض الغبار والأتربة عنها في قلبك... ودلك عليها في ذاكرتك...

هكذا أتى محمد الزرن في هذا العمل السينمائي مخرجا متأنيا ليرفع "أهل زرزيس" من الدرك الأسفل للحياة إلى الدرك الأعلى للكلام بحساسية مفرطة، وهو يُقدم لنا المكان المألوف من زوايا غير مألوفة.

2010/03/20

مهرجان أولاد أحمد



لا موعد لفعالياته يُعلن عنه مسبقا في ندوة صحفية...

لا نزلا فخما بغرف شاسعة وأسرة زائدة عن الأحلام لاستقبال المشاركين والمدعوين والضيوف...ومن بهم فائضُ نكد...

لا ملفا صحفيا ولا شارة دخول ولا بطاقات دعوة أو برنامج مضبوط الفقرات والمواقيت...

معه تدخلُ في الحكاية ولا تخرج من أتونها...

يُقيدك بلين الأفكار وبما شف من الاستعارات والمجازات وهو ينثر الشعر والحركات مثلما تنثر فراشة قزحية لونها على أعتاب الربيع...

لا يترك لك فسحة للكلام، ومع ذلك تستنفر حاسة السمع لديك لتجمع نثار المعاني والأفكار... ولا تضطر لاستيراد حكمة الإنصات البشري...

رجل يتربع على عرش الكلمات مثل أمان ترفعك لسماء اللامتوقع لتتركك على أرض زرقاوية الشكل تنوس برائحة الليل...

انه لا يكتب الشعر فقط، بل هو يحياه في أدق التفاصيل الحياتية... هو الذي وُصف بأنه صاحب الاسم الطويل والجسم النحيل، ذاك المتدثر بسلاطة قلمه دائما ولسانه دوما...

مفرط في بهجته...في سخريته وهو يُغازل الحواشي ويُراود كل إمكانات الدخول إلى المتن...يدخل من الباب... ينط من النافذة... يتسلل من الكوة... ليرسم وقع صوته دون سواه...

لامتناه في حكمته... وهو المُدجج دائما بالفطنة والبداهة، وبإخراج الحي من الحي، غير عابئ بالتأريخ وبمشتقات كنا وفعلنا وقلنا وذهبنا... ولم نعد...

رجل يمشي على لسانه وبلسانه بفائض من الجرأة والتحدي...

انه يمشي في الكلام العالي... لا تجرحه الفواصل ولا تخدشه النقاط... كأنه الأفكار...

انه مهرجان لوحده...

هكذا يبدو لي الصغير أولاد أحمد كلما قابلته أو جالسته...

................


"لكلّ طرقته في افتتاح الكلام

وطريقتي المشي

داخل نفس الحذاء أسير

فأين الأين؟"

2010/03/16

حَيَاتَان وحيتَانٌ

عندما ألمحُ واحدة منهن أو واحد منهم تتسلق جمجمتي فكرة واحدة وتتلبس بها. فكرة أن أصف الحياة برمتها، فلا أرى سوى غرفة ضيقة حُشرت بين جدرانها ملايين الأجساد البشرية.

للغرفة باب واحدٌ ومئات النوافذ. أحصي على عدد أصابعي أولئك الذين يخرجون من الباب باتجاه الحياة الأخرى، وأرى الجموع المتدافعة باتجاه النوافذ أكثر من شعر رأسي، وهي تُفلت من وضع الحشر إلى حياة أخرى أيضا...

ولكل حياة مقومات خاصة وشروط مخصوصة...

حياة الأنفار الأخرى لها مقومات وشروط، وحياة الملايين كذلك لها مقومات وشروط مخصوصة هي الأخرى، وبين الحياة الأولى والحياة الثانية يعبر خيط العمر شفيفا بين السعادة والتعاسة...

تتكاثر الحيتان بين الحياتين وتتفاوت قدرة كل حوت في التهام الحياة.

تتسع الحدائق وتضيق القبور. حدائق تبتلع كل أشعة الشمس وتتهادى أشجارها الوارفة تحت ضوء القمر فلا تترك إلا الرطوبة اللزجة تمتزج بالظلال والعتمة المبهرة فوق القبور، القبور المتكومة فوق ظهر الأرض لا في جوفها.

يتقلص عدد "الفائزين" بالحياة السعيدة، وتتناسل أعداد البشر المنذورين لشقاء الأيام المتتالية في الحياة التي حُشروا فيها وما اختاروها.

بعينين زائغتين، مُغرورقتين في "الواقعية"، يمكننا اليوم أن نرى بكل وضوح الخط الفاصل بين حياة مُترفة، بل جد مُترفة، لمجموعة صغيرة من الناس، ونرى بالمقابل الحياة الكئيبة لملايين البشر الهائمين فوق الأرض، ولا حاجة لنا للرجوع إلى المفاهيم الكبرى والمصطلحات الفلسفية التي تحدد الطبقات الاجتماعية والفروق بينها وظروف نشأتها واضمحلالها، إذ يكفي أن نلاحظ شساعة الاختلاف بين الحياتين، في الموقع الذي تشغله في النسق الاقتصادي والاختلاف في الدخل والمنزلة الاجتماعية وأسلوب الحياة وكذلك الاختلاف من حيث النصيب في ملكية وسائل الإنتاج، إضافة طبعا إلى عنصري القوة والضعف.

وحتى ما كان يسمى "طبقة وسطى" أي الحياة بين بين، فإنها اليوم تُسحق بلين لتتحلل رويدا رويدا وتذوب في الحياة السفلى، حياة ملايين البشر... لأن الحيتان الشرهة لم تشبع بعد ويبدو أنها لن تشبع أبدا من السباحة في بحيرات العرق والدموع... العرق والدموع التي لم تعد اليوم حكرا على العاملة والعامل ولا على الفلاحة والفلاح بل صارت تتصبب من جبين وعيون الموظفين وحتى الإطارات المختنقين بالقروض والديون حد الموت الذي ما بعده موت...

2010/03/09

حَيَاتَان وحيتَانٌ

عندما ألمحُ واحدة منهن أو واحد منهم تتسلق جمجمتي فكرة واحدة وتتلبس بها. فكرة أن أصف الحياة برمتها، فلا أرى سوى غرفة ضيقة حُشرت بين جدرانها ملايين الأجساد البشرية.
للغرفة باب واحدٌ ومئات النوافذ. أحصي على عدد أصابعي أولئك الذين يخرجون من الباب باتجاه الحياة الأخرى، وأرى الجموع المتدافعة باتجاه النوافذ أكثر من شعر رأسي، وهي تُفلت من وضع الحشر إلى حياة أخرى أيضا...
ولكل حياة مقومات خاصة وشروط مخصوصة...
حياة الأنفار الأخرى لها مقومات وشروط، وحياة الملايين كذلك لها مقومات وشروط مخصوصة هي الأخرى، وبين الحياة الأولى والحياة الثانية يعبر خيط العمر شفيفا بين السعادة والتعاسة...
تتكاثر الحيتان بين الحياتين وتتفاوت قدرة كل حوت في التهام الحياة.
تتسع الحدائق وتضيق القبور. حدائق تبتلع كل أشعة الشمس وتتهادى أشجارها الوارفة تحت ضوء القمر فلا تترك إلا الرطوبة اللزجة تمتزج بالظلال والعتمة المبهرة فوق القبور، القبور المتكومة فوق ظهر الأرض لا في جوفها.
يتقلص عدد "الفائزين" بالحياة السعيدة، وتتناسل أعداد البشر المنذورين لشقاء الأيام المتتالية في الحياة التي حُشروا فيها وما اختاروها.
بعينين زائغتين، مُغرورقتين في "الواقعية"، يمكننا اليوم أن نرى بكل وضوح الخط الفاصل بين حياة مُترفة، بل جد مُترفة، لمجموعة صغيرة من الناس، ونرى بالمقابل الحياة الكئيبة لملايين البشر الهائمين فوق الأرض، ولا حاجة لنا للرجوع إلى المفاهيم الكبرى والمصطلحات الفلسفية التي تحدد الطبقات الاجتماعية والفروق بينها وظروف نشأتها واضمحلالها، إذ يكفي أن نلاحظ شساعة الاختلاف بين الحياتين، في الموقع الذي تشغله في النسق الاقتصادي والاختلاف في الدخل والمنزلة الاجتماعية وأسلوب الحياة وكذلك الاختلاف من حيث النصيب في ملكية وسائل الإنتاج، إضافة طبعا إلى عنصري القوة والضعف.
وحتى ما كان يسمى "طبقة وسطى" أي الحياة بين بين، فإنها اليوم تُسحق بلين لتتحلل رويدا رويدا وتذوب في الحياة السفلى، حياة ملايين البشر... لأن الحيتان الشرهة لم تشبع بعد ويبدو أنها لن تشبع أبدا من السباحة في بحيرات العرق والدموع... العرق والدموع التي لم تعد اليوم حكرا على العاملة والعامل ولا على الفلاحة والفلاح بل صارت تتصبب من جبين وعيون الموظفين وحتى الإطارات المختنقين بالقروض والديون حد الموت الذي ما بعده موت...

2010/02/19

آلهة لم نختلف حولها



يأخذ الإله أشكالا مختلفة حسب المعتقد الديني، ففي الكثير من المعتقدات البدائية والأديان الوثنية يأخذ الإله شكل إنسان أو حيوان، لكن الكثير من الأديان المتأخرة، خاصة الأديان التوحيدية تعتبر هذا التجسيد شكلا من أشكال التجديف. وغالبا ما يكون الإله خالدا لا يموت، في الغالب تمتلك الآلهة شخصية ووعيا وإدراكا فهي التي تسير شؤون الكون والعباد، وهي من يتوجه لها الناس بطلب المعونة والمساعدة .
‬وفي الميثولوجيا الإغريقية تصبح الآلهة أشبه بالبشر حيث يمتلكون عواطف ومشاعر بشرية وخطايا وآثام، يحبون ويعشقون ويتزوجون ويولدون ويموتون ويأثمون، ويغضبون من بعضهم كما من البشر، وغالبا ما يكون الغضب مترافقا مع عقاب يكون بشكل كارثة طبيعية كالعواصف والرعد والمطر والخسوف.
قريبا من مدارات فيلسوف المطرقة المعرفية، فريديريك نيتشة، عندما تساءل "هل الإله مجرّد خطيئة إنسان، أم الإنسان مجرّد خطيئة إله؟" وبعيدا عن الاكراهات الايديولوجية والميثولوجية، يمكننا أن نصف كرة القدم اليوم بأنها آلهة البشرية التي تخترق كل التمايزات والاختلافات والحدود فلم تختلف في عبادتها شعوب العالم منذ ما يناهز الألفي عام قبل الميلاد، تاريخ بداية تشكل " آلهة الجلد المكور " مع سلاسة سو آو الصينية.
واتفقت مختلف الديانات على التشبث بعبودية آلهتها الجديدة من دون اختلاف في شعائرها وتعاليمها وطقوسها ومن دون سفك دماء، أليست هي "أشرف الحروب" مثلما نعتها الشاعر محمود درويش، وما يعزز ألوهية كرة القدم هو توفرها على مقومات الحشد، التطرف والتعصب.
كرة القدم، خلقت كتابها المقدس ورسمت تعاليمها الكونية، بعد أن "أقنعت" شعوب الأرض باعتناق مبادئها والتي يمكن إجمالها في مبدأ "الكل من أجل الفرد والفرد من أجل الكل" ومبدأ "أنا وليغرق غيري" ومبدأ "الواجب والإكراه" ومبدأ "السعادة والحزن..." حتى أصبحت كرة القدم "مملكة الوفاء البشري التي تمارس في الهواء الطلق" مثلما وصفها المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي وتحولت إلى مجازا للحياة مثلما يقرر ذلك، جان بول سارتر عندما قال إن "كرة القدم هي مجاز الحياة" لتصير بالنهاية على رأي الشاعر ت. إس. إليوت "العنصر الأساسي في الثقافة المعاصرة" ، وهي ربما لكل هذا، تفلت كرة القدم، من فكرة " قتل الإله ..."
غير أن "الأنصار" (Fans) والمفردة اختصار لكلمة (Fanatic) أي المتعصب، لا يشيدون حضارتهم الكروية، أو ثقافتهم المعاصرة، كفئات مضطهدة أو جماعات مهمشة، ولا يبدون كــ:"محرضين ثوريين" يتحركون بشكل ملحمي نشدانا لتغيير جذري لحل مشكلات الفقر والبطالة وتعاطي المخدرات والجريمة و"إجبار" السلطة على الالتزام برهاناتها السوسيو ـ سياسية، لا يتحركون بهذا الشكل، وإنما ينحشرون، بالملايين، في مجاري الصرف بعيدا عن الشأن العام، وهم خاشعين في إقامة قداسهم الكروي على المدرجات وأمام الشاشات، ومنهمكين بتسبيحهم الإيماني.
لقد اعتبر السوسيولوجي الفرنسي بيار بورديو كرة القدم، وهو يفكك بنياتها الأشد خفاء، مذهباً جديداً له دعاته وتعاليمه الجديدة؟ وشبه "الحروب الكروية"، في درجة العنف والتعصب الذي تنتجه، مثل الحروب العقائدية والدينية التي يطلب فيها المرء الشهادة في سبيل فكرة التفوق على الأعداء والخصوم ( الكفار ).
ومع نهاية الستينيات وبداية السبعينيات تعاظمت سلطة كرة القدم، وهي الفترة التي شهدت تراجعا واهتزازا على المستوى الديني، وقد أشار عالم الاجتماع "ستارك جلوك" إلى انه في الوقت الذي احتلت فيه الرياضة مكانة مرموقة شبه مقدسة، تراجع الاهتمام بالكنيسة ورعايتها، واعتبرها تعبيرا طقوسيا مسيطرا على المجتمعات .
وإذا كان لكل دين قديسين وكهنة وسدنة يتبرك بهم المتدينون، فإن لكرة القدم أيضا "كهنة وقديسين وسدنة" يتبرك بهم الأنصار ويرددون "حكمهم" مثل الأمريكي لومباردي الذي صاغ "الوصايا الرئيسية" في أمريكا :"الفوز ولا شيء سواه" كما أن لا أحد يمكنه أن ينسى تبرير اللاعب الأرجنتيني "مارادونا" عندما قال بأن " يد الله " هي التي سجلت هدفا بيده في مرمى الفريق الانقليزي في كاس العالم لسنة 1986 .
وقد ذكر الدكتور أمين أنور خولي في كتابه "الرياضة والمجتمع" الصادر ضمن سلسلة عالم المعرفة أن دراسة أجراها "بافو سابين" عن النجاح في الأولمبياد من المنظور الديني المقارن من عام 1869 إلى عام 1986 خلُصت نتائجها إلى أن "الأمم البروتستانتية قد فاقت نحو 3 إلى 4 مرات عن الأمم الكاثوليكية، كما أن الأمم الكاثوليكية قد فاقت في انجازاتها الأمم الأرثودوكسية والأمم الإسلامية، ولكن الأمم الإسلامية تفوقت على الأمم الكونفوشيوسية واليهودية."
ويمكن اعتبار كرة القدم "دين جديد وعظيم" تتأتى عظمتها من كونها جمعت حولها أكثر من ثلاث مليارات نسمة في ذات الوقت، عندما "حجوا" إلى ألمانيا وعبر الشاشات في مونديال 2006، وهذا الرقم، حسب إحصائيات "الفيفا" (الاتحاد الدولي لكرة القدم)، هو أكبر رقم يُسجله تاريخ البشرية والأرض في اجتماع الناس حول حدث ما. كما أن عدة أرقام أخرى تدلل على عظمة هذه "آلهة الهواء" ذلك أن 250 مليون لاعب كرة القدم يمارسون كرة القدم في 204 دولة ويوجد ما يقرب 305 ألاف ناد وما يقرب من مليون وخمسة وخمسين ألف فريق لكرة القدم في العالم، ويصل حجم الإنفاق على كرة القدم ما يناهز 250 مليار دولار كل عام وهناك ما يقارب ملياران مشجع لكرة القدم .
وتشكل كرة القدم فعلاً اجتماعياً شمولياً، لأنها تجمع كل شتات المجتمع لتوفرها على ثنائية الممارسة والفرجة، ولذلك يخترقها الأفق السياسي بمكر ودهاء فائقين وتشتغل آلته بمكر على تغذية الذاكرة الكروية باعتبارها جزءا مهما وأساسيا من الذاكرة الوطنية، ولئن ذكر هوميروس في "الإلياذة والأوديسة" أن ممارسة الرياضة كانت حقل للملوك والأمراء والأشراف من الشعب فقط وهي مقصورة عليهم، فإن الأمر اليوم لم يخرج بعد عن سلطتهم وعن سلطانهم، فشعبوية الرياضة هي نتاج طبيعي لمخططات "الملوك والأمراء والأشراف"، حيث اتفقت جميع السياسات خاصة بعد انهيار المعسكر الشرقي (الاشتراكي) وصعود النظام الرأسمالي على التعويل على كرة القدم كمخرج لها من" ورطة تأمين المواطنة "وهي لذلك تفرح بانتصارات فرقها وترتبك في بعض الأحيان في تطويق هزائمها، بل إننا اليوم بتنا نشاهد العديد من الأنظمة والدول التي باتت تساوي بين روح الوطنية لدى مواطنيها ومدى تعلقهم فرقهم الوطنية. فباتت كرة القدم تضاهي الوطن... وارتهنت السلطة إلى كرة القدم، ويكفي أن نتذكر مشهد الرئيس الفرنسي جاك شيراك وهو يرتدي زي منتخب فرنسا في نهائي مونديال 1998 كمثال صارخ على طبيعة العلاقة بين الاثنين. كما كان كل من تلتقط بينيتو موسوليني يلتقطان العديد من الصور مع المنتخب القومي الإيطالي لكرة القدم، أبطال العالم في عامي 1934 و1938 كما أن برلسكوني أطلق على حزبه السياسي اسم "فورزا روما" وهو شعار كروي يعني "إلى الأمام ايطاليا" كانت تطلقه جماهير فريق "ميلان" الذي اشتراه برلسكوني ...
لقد نجحت الأنظمة والحكومات والمنتظمات السياسية في تحويل وجهة أعناق الشعب إلى المربع الأخضر... إلى المدارج الإسمنتية والخشبية... إلى الجلد المدوّر... وهذا النجاح ندين به أساسا إلى الآلة الإعلامية بكل تمظهراتها، قنوات تلفزية، إذاعات، صحف، مجلات، مواقع إلكترونيّة ... كلها تظافرت من أجل إبدال عمرنا الإنساني بعمر رياضيّ بحت...
صرنا ننام على الكرة وعليها نفتتح صباحاتنا ... في البيت، في المدارس، في المعهد، في الجامعة، في مكاتب الشغل، في المقاهي، في الحافلات، في الميترو ...
نلوك أحذية اللاعبين وجواربهم ليلا نهارا ... ونُغرق أيامنا في عرقهم وندجّج ألسنتنا بألفاظهم... حتى صرنا نعيش داخل ملعب كرة قدم...
" انها عبادة يا صديقي " هكذا ردد اللاعب البرازيلي بيلي ذات حوار تلفزي ...

2010/02/16

بُحَيْرَةُ الغَلاَبَة


يُطلّونَ على مياههَا الآسنَة كل يَوم ليَتعَطّروا برَوائحهَا النَّتنَة ثم تختلف خطاهم الى كل الجهات...
يُصَادقُون ركود مياههَا المتعفًّنَة الراكدة في جَوفهَا ويلاعبٌون خَفَقَان النَّوَارس فوق سطحها وهي مُتَبَرًّجَة أمامهم كَأنهَا تُغَازل حَركتَهم الدَّؤُوبَة...
من سُطُوح «السَّيْدة» و «حَي هَلال» و «سيدي حسين» و «الحرايريَّة» و»القٌرجَاني» و»الملاَّسين» يُلَوًّحُونَ لها كل صَبَاح بأمَانيهم وأحلاَمهم فَتَلُوحُ لهم زوارق التعب راسية في مكانها لا تتحرك...
يَصنَعون زوارقا اخرى تلوح أشرعتها من بعيد لألاءة بأضْواء المَلاهي وأنوَار المقَاهي الفَخْمَة والمطعام الرَّاقية وبوَاجهَات الفيلات الفَخمَة والطرُقَات النظيفَة...
يَخَالُون زَوارقهم المٌشْتَهات قَادمة اليهم على أمواج بُحَيرتهم الرَّاسيَة أمَامهم، غَير أن الأمْوَاج تُخَالف قَانون المدّ والجَزْر وتَدفَع زَوارقَهم دَفْعا الى ضفة أخرى، الى جهَة أخرى لتَضَع أَوْزَارَها وتَفتح حَقائبها في شمال البلاد...
بين الجرْذَان والفئْرَان وجَحَافل النَّامُوس يَقْضي سُكَّان تونس الغَربية أيامَهم وليَاليهم، ومع كل صَبَاح يَثْقبُون بطَاقَات هوياتهم بأعْينهم بَحثًا عن كلمة «مُوَاطن»...
مَا الفَرق بين سبخة السَّيجُومي وسبخة «السَّانوبَا»؟ ولماذا تَتَنافَس شَركات الاستثمَار على «السانوبا» دون السيجومي؟ ومَا الذي يُغْمضٌ أعين الدولة والمستثمرين عن السبخة الغربية والتفكير الجدي والعملي في تحويلها الى منطقة صناعية ستساهم حتما في امتصاص بطالة شبان تلك المناطق ذات الكثافة الخيالية، وتسارع بادماجهم في المجتمع بدلا من تركهم عرضة للانحراف واحتراف الأذى؟
أسئلة عديدة لا أخَالها تغيب عن ذهن اي تونسي، مَسؤولا كَان أم مواطنًا، يمر بالحزام الغربي لتونس العاصمة؟
أسئلة ندفعها دفعا علَّهَا تنفض نقاط استفهامها في إحدى مجالس البرلمان أو بين أصحاب رؤوس الاموال والمستثمرين.
حتى لا يَبقَى الشمَال مستأثرًا بالحقَائب دائمًا... ويظل الجَنوب صَديقًِا وفيًا للخَرابٍ واليٌتْمِ.

2010/01/21

أحتاج مكنسة


تروي الذاكرة الشعبية أنه إذا أصيب عزيز على شخص ما بمرض خطير يُطلب منه أن يأتي له بأنفس شيء يمكن أن يُشفيه من مرضه، وكان حليب الغولة أنفس شيء. ويُحيل تركيب حليب الغولة في المخيال الجمعي أيضا على توفر كل ما تشتهييه العين وما لا يطاله الخيال في مكان ما، فنقول مثلا في هذه الأرض يتوفر كل شيء حتى حليب الغولة، وربما هذه الإحالة الثانية تنطبق على الشارع التونسي. هذا الشارع الذي ينزع إلى بلوغ الكمال في توفير كل ما تشتهيه العين وما لا يطاله الخيال، فقد أصبح يشبه منمنمة متناهية الرسم والتلوين.
سيول صباحية ومسائية من البصاق والمخاط تتناثر من الأفواه يمنة ويسرة... أكوام من أعقاب السجائر وعلبها تتطاير أمام المقاهي والمحال العمومية... أكداس من تذاكر الحافلات والميترو تتلقفها الأرجل في المحطات... نتوءات وحفر في قلب الطريق تكاد لفرط تناسلها أن تبحث عن الإسفلت المخصص للعجلات... حاويات تفيض بالأوراق والعلب وبقايا الأكل، وما تخطئه حركة الأيادي المدربة على الوسخ... أكداس من التذاكر الالكترونية أمام المركبات التجارية والموزعات الالكترونية المثبتة بالبنوك... بركٌ راكدة من المياه الوسخة في كل ركن ومنعرج فرعي... جُمل اعتراضية مرسومة بأياد مرتعشة على الجدران تحذر من مغبة إلقاء الفواضل والتبول... وأخرى تعلن بيع الخمر خلسة... بقايا ملصقات اشهارية اهترأت وتآكلت لفرط نسيانها... علامات مرورية محجوبة وأخرى مفقودة من على أعمدتها...أكياس القمامة تنتصب أمام العمارات كأنها الجبال الشاهقات...
وأنا أحصي بعضا مما تلتقطه عيناي كل يوم أتذكر اليابان واليابانيين، ذاك الشعب المعروف باستهلاكه العالي للمنتجات المغلفة والمعلبة وقصيرة العمر، مما يجعل النظافة العامة والمحافظة على البيئة أمرا عسيرا وربما مستحيلا، غير أن المستحيل ليس يابانيا، فقد أوجدوا قانونا صارما للمحافظة على نظافة شوارعهم، فأبسط حركة وسخ تعرض المواطن لغرامات مالية باهضة وعقوبات جزائية قد تحرمه الإقامة في مسكنه، والحكم عليه بالسجن، وقد أحدث اليابانيون هيكلا نشطا يُسمى "الرقابة البلدية" وفي كل حي يوجد مركز صغير للشرطة يسمى ''كيساتسو'' يعمل على ضبط السلوكيات العامة.
تعبرني كذلك ذكريات تسكعي ذات يوم في شوارع واشنطن عندما راقبت مواطنا أمام إحدى المغازات يتحرك بثبات نحو عقب سجارة ألقاه أحد العابرين يوجه إليه مكنسته الصغيرة ويرفعه من الرصيف، سألت أحدهم إن كان ذلك الرجل عون بلدية فأجابني بكل بساطة أنه يتفق كل خمس أو ست أصحاب متاجر على انتداب شخص ويوكلون إليه أمر جمع أي مهملات قد تلقى أمام محلاتهم ثم يدفعون أجرته الشهرية سويا.
أتذكر تلك الشعوب هناك، وأرى شعبي هنا بين أروقة باب الخضراء أو في ساحة برشلونة أو مرورا بالمدينة العربي وصولا إلى الشارع الرئيسي اليتيم. أفكر في الارتماء على احد المقاعد المنثورة هنا وهناك لكتابة صفحة ضد السواد المعمم.
أجلس إلى طاولتي. أجدني أتنفس سحابات ثاني أوكسيد الكربون. ألاعب تحت قدمي مناديل ورقية أزوجها لأعقاب السجائر. تهوي عليّ النادلة بكل ثقة تسألني عمّا أشرب. أفكّر قليلا وأجيبها: مكنسة.
لا أحتاج أكثر من مكنسة.

2010/01/14

كرة الثلج الحمراء



ليس للمغتال من شهادة على أحقيته بالحياة سوى موته...

يقول أرسطو طاليس في كتابة الأشهر "السياسة": "إن الطاغية يُقصي كل من يحمل نفسا عزيزة وحرة، لأنه يظن أنه الوحيد الجدير بأن تكون له هذه الخلالُ السامية..." بهذا التعريف المكثف يمكننا الاقتراب من مفهوم "الاغتيال" باعتباره مصطلحا يُستعمل لوصف عملية قتل منظمة ومتعمدة تستهدف شخصية مهمة ذات تأثير فكري أو سياسي أو عسكري أو قيادي وعادة ما تكون دوافع عملية الاغتيال عقائدية أو سياسية أو اقتصادية أو انتقامية تستهدف شخصا معينا يعتبره منظمو عملية الاغتيال عائقا في طريق انتشار أوسع لأفكارهم أو أهدافهم، غير أنه لا يوجد إجماع تام على استعمال مصطلح الاغتيال فالذي يعتبره المتعاطفون مع الضحية عملية اغتيال قد تعتبره الجهة المنظمة لها عملا بطوليا، إلا أن فعل الاغتيال، سواء كان ماديا أو رمزيا، يظل "فعلا" مؤسسا في سياق ثقافة الموت وصيغ العنف المنظم.
ومن اشتقاقات مصطلح الاغتيال الذي يقابله مصطلحAssassination بالإنقليزية أنه مشتق من جماعة "الدعوة الجديدة"، الذين يُعرفون بالحشاشينHashshashin ، وهم طائفة إسماعيلية نزارية نشيطة من القرن الثامن إلى القرن الرابع عشر وهناك الكثير من الجدل حول هذه الجماعة، ذلك أن الرحالة الإيطالي ماركو بولو1254 / 1324 هو أول من أطلق تسمية "الحشاشين" على هذه المجموعة عند زيارته لمعقلهم المشهور بقلعة الموت، حيث ذكر أن هذه الطائفة كانت تقوم بعمليات انتحارية واغتيالات تحت تأثير تعاطيهم الحشيش، بينما يرى البعض أن في هذا التأويل تلفيقاً وسوء ترجمة لاسم زعيم القلعة حسن بن صباح الملقب بشيخ الجبل، وبغض النظر عن هذه التناقضات التاريخية فإن هذه المجموعة قامت بعمليات اغتيال في غاية التنظيم والدقة ضد الصليبيين والعباسيين والسلاجقة.
وعبر التاريخ السياسي والمدون للإنسان لم يسجل السلوك العدواني وكذلك العنف أيُ تقدم على صعيد البناء والنمو سواء للفرد أو للمجتمع بصورة عامة، وخلال تطور المجتمعات البشرية ثبت أن لغة الحوار والتفاهم بين الأطراف المتنازعة والتي تدخل في إشكالات شتى هي أجدى وانفع من أية لغة أخرى مهما كانت الخلافات والتوجهات المتعددة ما بين تلك الأطراف. فما نراه الآن من أساليب مأساوية تعبر عن ذاتها من خلال لغة العنف والإبادة وإلغاء الآخر وهي لغة الاغتيالات في السياقات السياسية... أو ما يُعرف بصناعة الموت... ففعل القتل العمدي، أي الاغتيال، يقوم على فلسفة التمركز الخالص حول الذات ونفي الآخر، وهو يمثل شكلا من أشكال تهميش الأخر المختلف، سواء كان هذا الآخر كتابة دريدا أو رغبة دولوز أو جنونا فوكو ... وأينما وُجدت السلطة وجد الصراع عليها، وأينما وجد الصراع على السلطة وجدت الاغتيالات، ولذلك فإن القانون الأساسي والأزلي في لعبة الاغتيالات يتكون من مادة واحدة تُختصر في جملة واحدة تقول (اقتل عدوك قبل أن يقتلك) وهو قانون لا يستثني أحدا في أي زمان وأي مكان، ويتغذي بشكل كبير في الأنظمة الشمولية والتوتاليتارية القائمة على نظرية الإقصاء والإلغاء للآخر في اختلافه وغيريته، حيث يجد الثالوث غير المقدس "المؤامرة، التخوين، التكفير" مكانا له ليكون الاغتيال "نظيفا"...
وتحيل عدة معطيات اثنوغرافيّة وبعض النظريات الأنثروبولوجية إلى أنّ نسبة العنف تتوقف على نموذج القيم الثقافيّة الخاصة بمجتمع ما. فعندما ترفع هذه القيم من قيمة الفرديّة والتنافس والعدوانيّة، فإنّ العنف ما بين الأفراد يغدو مهماّ، ومن ناحيّة أخرى، إذا كان العنف ما بين الأفراد مرتفعا فإنّ ما يوجد داخل العلاقات بين المجموعات الفرعيّة هو أيضا عنف مرتفع، وربما لذلك يمكننا تفسير تفاوت نسب الاغتيالات في منطقة مخصوصة دون غيرها، أو ارتفاع عمليات الاغتيال في فترة زمنية دون أخرى... ويمكن أن نمثل لهذه القاعدة بالتاريخ الأمريكي خاصة في فترة الستينيات، إذ حفل تاريخ الأميركي باغتيال شخصيات حملت لواء المساواة والحقوق المدنية،، ونشطت الحركات المدنية من أجل المطالبة بإعطاء حقوق المواطنة للسود والمرأة. كان أولها، اغتيال الرئيس جون كينيدي سنة 1963 بسبب دوره في ترسيخ الحقوق المدنية للسود، فقد حاول إنهاء إدارة الفصل العنصري، وأصدرت المحكمة الدستورية خلال حكمه أحكاماً عديدة تقرّ بأن قوانين الفصل العنصري التي تطبقها بعض الولايات داخل الحافلات العمومية والمقاهي والمدارس والأماكن العامة غير دستورية، واقترح ما أصبح يعرف بقانون الحقوق المدنية 1964.
كما هز اغتيال القس مارتن لوثر كينغ التاريخ الأميركي، والذي أُغتيل سنة 1968 بعد أن رفع شعار "لديّ حلم" عبر فيه عن أمله بأن يصبح كل الأميركيين السود والبيض متساوين.
أما في المنطقة العربية فان بدايات القرن العشرين أرخت لواحدة من أهم عمليات الاغتيال السياسي، عندما لاحق الاستبداد العثماني المفكر التنويري عبد الرحمن الكواكبي إلى منفاه في القاهرة، واغتاله سنة 1904، وتكررت الاغتيالات في البلدان العربية، ومن بين ابرز الذين اغتيلوا في النصف الأول من القرن العشرين، انطون سعادة الذي أغتيل سنة 1949 والملك عبد الله بن الحسين ملك الأردن سنة 1951 وملك العراق فيصل الثاني سنة 1958، واغتيال رئيس جمهورية العراق عام 1966 عبد السلام عارف وأنور السادات سنة 1981 والرئيس الجزائري محمد بوضياف...

2010/01/04

القفز بالزانة



تمكنت العديد من الشعوب، التي ركبت قطار المدنية والحضارة والحداثة، من صنع تاريخها من خلال الاعتناء بالأمور البسيطة أو التي نراها نحن بسيطة وعابرة، وأولت التفاصيل اليومية الأهمية الكبرى في برامجها ومخططاتها بعيدا عن الشعارات الرنانة التي تنأى عن الواقع.
وتفطنت تلك الشعوب إلى أن الطريق إلى الديمقراطية وضمان الحريات الفردية والعامة وتأمين العدالة الاجتماعية هي السقف العالي الذي لا يمكن أن يرتفع في غياب تلك التفاصيل البسيطة والعابرة، تلك الممارسات الحضارية... في حين صرنا نحن محترفين في القفز بالزانة لنسوق الوهم بأننا على طريق الحداثة سائرون وفي قاطرة المدنية والحضارة راكبون...
تماما مثله، نقفز نحن بسرعة المتسابق في مضمار ألعاب الجمباز وهو يطوح بساقيه ليتجاوز الحاجز متكأ على تلك الزانة المصنوعة من الألياف الزجاجية، مثله تماما، بل أفضل منه نقفز نحن على تلك التفاصيل البسيطة ونلهث بخطبنا الرنانة وبياناتنا الفضفاضة في كل منبر يعترضنا أو نصطنعه أو حتى نسطو عليه... لتظل تلك القيم الكونية تهويمات سياسية بعيدة كل البعد عن أرض الواقع وتتسع الهوة بين ما نحياه في الشارع وما "نحياه" في الشاشة... ونمعن في التصديق بأننا نعيش فوق أرض خصبة مكنتنا من "تبيئة" الديمقراطية والحرية... وجعلها تمشي معنا فوق الأرصفة وتصعد معنا الحافلات وتدخل الإدارات والأسواق... ونجحنا في "ترويض" الحريات الفردية والعامة وجعلها أليفة بالشكل الذي باتت معه تتفسح معنا في الساحات العامة وتذهب معنا إلى البحر وتمتثل، مع البعض منا، لإشارات المرور... وحققنا اكتفائنا الذاتي من تلك القيم الكونية التي "يتشدق بها الغرب علينا" بل صار لدينا فائضا في تصريفها بيننا... وأعتقد أننا في قادم الأيام سننشئ لها صندوقا مخصوصا بها...
أعود إلى القفز بالزانة، إلى تلك الشطحات البهلوانية التي لا أعرف متى سننتهي منها، وأخشى أن نصل في يوم ما إلى الإتيان بم أتاه وصيف بطل العالم في رياضة القفز بالزانة الفرنسي رومان مينيل الذي قام بالجري عاريا في شوارع باريس منذ سنتين تقريبا للحصول على الرعاية المادية...
ربما أكون قد تورطت كثيرا في تلافيف اللغة ولم اقل شيئا ذا بال، وظللتُ أداعب الحروف والمفردات مثلما يداعب اللاعب طرف الزانة استعدادا للقفز، غير أن تورطي هذا يدخل في باب ما ننعم به من ذاك الفائض القيمي الذي بلغناه وتلك التخمة التي نحن فيها والتي تفسح لك المجال لتقول كل شيء وفي الآن نفسه لا نقول أي شيء...

2009/12/22

نواقيس قديمة لسنة جديدة



عمتم مساء أيها المدعوون إلى حفلات رأس السنة الميلادية الجديدة...

عمتم صباحا، أنتم أيها السكارى المنثورين فوق إسفلت المدن/الملاهي وأرصفتها...

مرحى لكم جميعا وأنتم تصلون ليلكم بنهاركم وسنتكم بلاحقتها... بالشمع المعطر والخمر المعتق... بنكات السنة الماضية وقبل السنة القادمة...

مرحى لكم وأنتم تخيطون النصف بالنصف بحكايات حذاء سندريلا ونواقيس الملاعق الفضية...

مرحي لكم أيها السكارى الساهرون داخل مخيمات الورد... أيها الآمنون بحسن الأمن...

مرحى لأصدقائي القدامى وهم يلفون قطع المرطبات بين أوراق صحيفة وشحت صفحتها الأخيرة بمقاطع من قصيد "ثلاث أمنيات على بوابة السنة الجديدة" لمظفر النواب...

مرحى لأصدقائي القدامى أيضا وهم يتدافعون أمام بائع البطاقات البريدية يرسلونها مضمونة الوصول إلى نيويورك... أو إلى نيو أصدقائهم...

مرحى لهم وهم يفعلون كل هذا ويتذكرون _ فقط يتذكرون _ مقطعا شريدا من أغنية «بنت الباي» للأزهر الضاوي : «... لا وسكي في الري فيون ...»

مرحى لكم بالوسكي الأمريكي...

عمتم صباحا مساء وكل رأس سنة جديدة أيها العروبيون، الوطنيون، التقدميون، الأبيقوريون حد الموت...

الموت...

صباح الموتى... مساء الموتى... كل عام وأنتم موتى...

عمتم مساء أيها الساقطون في اللهب... عمتم صباحا أيها الصاعدون من اللهب...

كل سنة وأنتم ناهضون من اللهب... قادمون من اللهب...

سائرون باللهب إلى الأمام... أعلى من اللهب...

عمتم مساء أيها الفلسطينيون المشردون في مخيمات الريح...

عمتم صباحا أيها العراقيون المذبوحون بين المشانق والزنابق...

كل عام وأنتم مقاومون... صامدون... عائدون... محتفلون بالقوارير والشمع شظايا في وجه الأمريكيين... الإسرائيليين... العروبيين... الوطنيين... التقدميين... الأبيقوريين حد الموت...

صباح المجازر... مساء الجَنَائز... كل عام وأنتم ناهضون من المَجَازر... كل عام وأنتم عائدون من الجنائز...

كل عام وأنتم مُقاومون أيها الفلسطينيون...

كل عام وأنتم مقَاومُون أيها العراقيون...

كل عام وأنتم صَامتُون أيها العروبيون...

مَرحَى لكم أيها الفلسطينيون بالقذائف، بالمدافع، بالحرائق، بالمعتقلات، بالمذابح والمجازر...

مَرحَى لكم بالسنابل والكرمل والبرتقال...

مَرحَى لكم بهويتكم توقعونها كل رأس سنة بالحجر...

مَرحَى لكم أيها العراقيون بحزن النخيل، بسجن أبو غريب، بقبضة الطوائف، بالعرق العراقي، بالحفل الأممي الذي دُعي له النفط ولم يدعَ له العراق...

مَرحَى لكم بهويتكم توقعونها كل رأس سنة جديدة بالمتفجرات...

كل عام وأنت وطن أيا عراق...

كل عام وأنت وطن أيا فلسطين...

كل عام وأنت مستعمرة أيا جغرافيا المنافي...

كل عام والفلسطيني لا يخطئ عد السنوات :1948... 1948... 1948... 1948... 1948..

كل عام والعراقي لا ينسى عد السنوات :9 أفريل 2003... 9 أفريل 2003... 9 أفريل 2003... 9 أفريل 2003...

كل عام والعروبي يتقن عد السنوات:...2003...2004...2005...2006...2459...

كل عام وأنا أكتب بالحبر الأسود...

كل عام وأنت تقرأ بالنظارة السوداء...

2009/12/14

هنا تطير الفئران



يبدو أن ذاك المثل الشعبي المغرق في السخرية من بساطة الأشياء وتفاهة الأمور الذي يقول: "حل الصرة تلقى الخيط..." بات أكبر من الفعاليات الثقافية التي تقدم هنا وهناك، ذلك أن الدوائر المشرفة على المهرجانات والمعارض والأيام والأسابيع والندوات والأمسيات والملتقيات والمنتديات والموائد... وكل الأنشطة التي تُلصق بها كلمة الثقافة باتت تتفنن في إضفاء معالم البهرج والزينة والإمعان في الاحتفالية الخارجية، لتضعنا بعد تلك الهالة الزجاجية وجها لوجه أمام الخراب المقدم باسم الإبداع الثقافي... وأمام اليباب المتسربل في جبة الفنون... حتى تماهى الفعل الثقافي المؤسس مع التنشيط الثقافي الموسمي... وصارت ثقافتنا أشبه بتلك الشجرة المهملة التي نطل عليها من شرفات النسيان والتجاهل لنرقب موتها البطيء وسط الأحراش والطفيليات...
بساط احمر أمام المسرح البلدي... أضواء ساطعة أمام ما بقي من دور للسينما... معلقات اشهارية تنافس اليافطات في الأخطاء اللغوية... نشريات ومطويات متناثرة على الأرصفة وفي محطات الحافلات... ندوات صحفية لأسئلة بلا أجوبة... طوفان من الكلام الإذاعي والصور التلفزية... فائض من الهرج والمرج في الطرقات العامة... دعوات خاصة ومراسم مغرقة في البرود... جميعها اتفقت على دق المسامير الصدئة في نعش الثقافة الحقيقة التي تؤسس لأفق أوسع ولمدى أبعد... لترفع لنا تلك "الصرة" التي لم تعد تقوى على حمل "الخيط"...
يبدو أننا لم نستوعب بعدُ أن قلب الأرض أوسع من خريطتها، وأن الشجرة التي نُهملها ستهجرها العصافير واحدا اثر واحد... ولن يتسلق أغصانها اليابسة إلا الفئران المسعورة...لتعود إلى جحورها بعد قضم اقرب ثمرة شاحبة... ومنها من يتطاول ويتجاسر على معاودة التسلق و"التشعبط الثقافي" مادامت تنط وتقفز في أروقة شركات الإشهار والتسويق التي لا تفرق بين مسرحية وشفرة حلاقة... بين رواية وعلبة سردين... بين فيلم وقارورة زيت؟؟؟
ننسحب من ظلمة قاعات السينما ونتدحرج فوق درجات المسرح البلدي أو نتدافع في رواق معرض الكرم مثقلين بطعم دانون ومايسترو ورائحة الفنواز ومتسربلين بأحمر تونزيانا وازرق تيلكوم... متخففين من الدهشة، من ارتباك الحواس، من توالد الأفكار... شاحبين من دون أحلام...غير ممسكين بطرف خيط يجعلنا نردد مع ناظم حكمت:"إذا لم احترق أنا ولم تحترق أنت ولم نحترق نحن فمن سيضيء السبيل؟"
هذا ما يحدث الآن في أروقتنا الثقافية، في المسارح وقاعات السينما و"المراكز الثقافية" ودور الثقافة والمعارض... حتى ألفنا الطريق وصادقنا شحوب الشجرة وصدقنا أن للفئران أجنحة وجموح للطيران... ويبدو أن الأمر لم يعد مجرد فعل طارئ أو محنة عابرة بقدر ما أصبح قاعدة لا استثناء بعدها...
قد نسأل ما الضرر في تقديم مسرحية أو فيلم أو افتتاح مهرجان أو معرض للكتاب بفائض جمالي ورونق احتفالي مادامت كل الشعوب الأخرى تفعل ذلك؟ فنجيب بكل بساطة بأن المشكلة لا تكمن في الاحتفالات بقدر ما تكمن في المحتوى الثقافي؟ وباتت تنخر المتن في عمقه لا حواشيه... والجواب لا نتوهمه أو نصطنعه لأننا نلمحه في انكسار الانتظارات، في انكماش الحواس، في اختناق الأفاق وخيبات الأمل المتكررة وهي تصيب المتابعين والمواكبين وجمهور "العمل الثقافي"...وهم يتنقلون من فضاء لفضاء بعضهم يتفادى الانزلاق على "قشور" المشهد المتناسلة، والبعض الأخر مثقل بالأوجاع في رحلة بحث عن أمل عساه يثقب النعش الثقافي بسهم من النور.