بحث هذه المدونة الإلكترونية

2009/08/21

قَهْرَجَانَاتْ 2009 !

تَهبُنا اللغة ما لا يَطاله الخيال في بعض الأحيان، وتمنحنا فسحة أرحب لامتلاك ناصية بعض الأفكار التي يزفها لنا حدث ما عشناه أو عاشه غيرنا وروى لنا تفاصيله.

مجرد حرف واحد يحوّل مفردة مهرجانات الى مفردة "قَهْرَجَانَات" فيفتح لي باب التأويل على مصراعيه من خلال «القهر» ذاك الاحساس البغيض الذي يسعى كل فرد الى تفاديه...

مهرجاناتنا الصيفية الدولية منها والوطنية، الجهوية والمحلية تحولت في أكثر من مناسبة الى ما أسميته «قَهْرَجَانَات» من خلال بعض الممارسات التي يأتيها البعض في حق البعض الآخر فلا تترك الا الاحساس بالقهر والحسرة والتألم... ممارسات لم يسلم منها لا مسؤولو المهرجانات ولا فنانوها ولا الاعلاميون ولا حتى الجمهور العريض، ففي كل مرة نندهش بل نُصدم أمام فعل لا ثقافي وممارسة قهرية تُؤتَى فوق مدرج هذا المسرح الأثري أو داخل كواليس ذاك الفضاء الثقافي أو بأحد نقاط بيع تذاكر الحفلات أو... أو... أو...
مهرجانات صائفة 2009 لم تخل، ككل سنة، من تواتر أكثر من «قهرة»، وإن رغبنا في تعداد أو التذكير «بقهرجانات» 2009، وفي غير ترتيب زمني أو أفضلية مهرجان على آخر، يمككنا أن نعود الى «قهرة» سمير بالحاج يحيى مدير ما قبل أيام معدودة للدورة 45 لمهرجان قرطاج الدولي... فقهرة الشاعر حاتم القيزاني في حقوق تأليف فكرة «الصباح الجديد» التي افتتح بها مهرجان قرطاج من دونه، فقهرة الفنانة أمينة الصرارفي وفرقة العازفات بعد إلغاء عرضها بقرطاج دون مبرر... فقهرة المسرحي توفيق الجبالي من جمهور «ملحم الراس» حسب وصفه، لم يفهم «مانيفستو السرور» وهو يفتتح بها الدورة 45 لمهرجان الحمامات الدولي تكريما لعلي الدوعاجي، وعنها ايضا «قهرة» جمهور «المانيفستو» عن تلاشي مائتي مليون بين طلبة وأضواء التياترو... وفي نفس المكان، أي الحمامات، لا ننسى «قهرة» الأسعد بن عبد الله مدير المهرجان اثر إلغاء العرض المسرحي «تكتيك» بعد الضجة الاعلامية التي سبقته... وغير بعيد عن الحمامات وتحديدا على ركح مسرح رادس، وفي اطار حفله الافتتاحي أصيب الفنان محمد الجبالي بقهرة بائع الشاي ينط فوق الركح ويفسد عليه تجلياته الفنية...

نعود مرة أخرى الى مهرجان قرطاج، والى «قهرات» الزميلة هالة الذوادي من قناة حنبعل في كل ليلة أمام الكواليس الموصدة في وجهها وهي المستميتة من أجل حقها في المعلومة...

أما في استديوهات حنبعل فإن «القهرات» تتناسل، فواحدة للزميل وليد الزراع بعد أن أفسد القرع الأرعن لطبول عرس بأحد نزل بنزرت أين كان يتم تسجيل أحد حلقات برنامج «بدون مجاملة» و»قهرة» للزميل لطفي العماري من الفنانين الذين ضربوا نقابة المهن الموسيقية يوم تشكلت... فقهرة الفنان مقداد السهيلي يعلنها بكل حرقة بعد أن حُرم من المهرجانات الصيفية هو وعدنان الشواشي وغيرهما من الفنانين...

في بنزرت أيضا أصيب جمهورالمهرجان الدولي بقهرة جماعية بعد أن انسحب فضل شاكر من الركح بعد ساعة والنصف فقط ليلتحق بأحد الحفلات الخاصة بمدينة الحمامات... قريبا من بنزرت وتحديدا في طبرقة أصيبت ادارة مهرجان طبرقة الدولي للجاز بقهرة كبيرة بعد أن تركهم نبيل خمير في نصف الطريق.

أما «قهرة» «قهرجانات» هذه السنة فكانت بثلاثة رؤوس، استأثر بها الفنان الفرنسي شارل آزنفور، الأولى «قهرة» صحفية اشتعلت قُبَيل أن يحل بيننا ويبدو أنها لن تهدأ، والثانية «قهرة» مائية كادت تلحق آزنفور بأمينة فاخت فينبطح على ركح قرطاج انزلاقا لا رغبة وجنونا، و»القهرة» الثالثة شارة دخول الصحافيين الخاصة بحفله، اذ ارتأت ادارة المهرجان أن تمنح شارة دخول يتيمة لكل مؤسسة صحفية فهل يُعقل أن يحضر مثلا صحفي بجريدة دون مصور، أو يحضر «كاميرامان» دون صحفي تلفزي للحفل!!!

هذه بعض القهرات التي عشت بعضا منها أو سمعت عنها من بعض الزملاء وَسَمَت بعض حفلات مهرجانات صائفة 2009 والأكيد ان الكثير من القهرات الاخرى مرت في الخفاء ولن تختفي في قادم السنوات مادام الالتباس لا يزال يخلط أوراق التسيير الاداري بالأفق الثقافي.

2009/08/16

كرسي قرطاج


للكرسي حكمته الأزلية وسحره الأبدي، فأما حكمته فهي تقتضي أن من يصله أولا يستأثر به ولا تهم الوسيلة التي أوصلته، وأما سحره فيتمثل في أسر من يجلس عليه ويمنحه صفة الالتصاق النهائية فوق جلده الأثير وسيقانه البرنزية...

وقلة قليلة من الكراسي التي لا نلهث وراءها للفوز بامتيازاتها، لعل أقربها إلى أذهاننا ومخيلتنا الجمعية، كراسي الصف الأول بالمدارس والمعاهد والجامعات، فهذا الصنف من الكراسي لا يتطلب قوة مال ولا قوة عضلات ولا حتى قوة دهاء ومكر، بقدر ما تتطلب قوة علم وحب للمعرفة، وهي قوة نادرة وباتت غير متوفرة اليوم بشكل كبير...

وللجلوس على كرسي ما والاستئثار به طقوس معلومة وسياسة كاملة في فن الجلوس لا اعرف كيف سها الجاحظ عن ذكرها في رسائله...

المهم، ما يعنيني في هذه المساحة، من أصناف الكراسي وأنواعها ما وصفته بكرسي قرطاج، واعني تحديدا تلك الكراسي المصففة في نصف الدائرة المخصصة لما يناهز ثلاث مائة شخص يشاركون كل ليلة الآلاف المؤلفة من جماهير مهرجان قرطاج، أولئك الذين تكاد تلتصق مؤخراتهم كل ليلة، بالحجر الأملس للمسرح الأثري الروماني الذي تنتظم على ركحه منذ 45 سنة حفلات مهرجان قرطاج الدولي، ومنهم نحن الصحفيون المجبورون كل ليلة، في إطار عملنا، على مواكبة سهرات المهرجان وحفلاته...

أصحاب وصاحبات كراسي مهرجان قرطاج، لا تعنيني صفاتهم ولا مراتبهم الوظيفية أو الاجتماعية ولا ثرواتهم، بقدر ما تعنيني تلك الممارسات التي لا تليق بهيبة الكرسي الذي يجلسون عليه ولا بحكمته أو سحره...

أصحاب الكراسي يتعمدون دخول المسرح متأخرين، ففي كل حفل أحضره ألاحظ حلول معاليهم المكان عند اعتلاء الفرقة الموسيقية خشبة المسرح أو تماما بعد موسيقى استقبال النجم وفي أحيان كثيرة بعد استقبال الجماهير الغفيرة لهذا الأخير وتقديمه لشيء من أعماله... حينها يتناسلون بين الكراسي البيضاء، ينتشرون ببدلاتهم الأنيقة وفساتينهن الناعمة يوشحون المكان بعطورهم الثمينة غير عابئين بالمغنى والمُغنّي ولا المغنّى لهم، مع أنهم في الغالب يملكون سيارات تودعهم بأمان في الوقت المناسب بالمسرح ولا يمنعهم عن احترام الفنان وفنه تأخر وسائل النقل العمومي ولا اكتظاظها ولا رائحة العرق المعتق داخلها.

ثم أراهم كل ليلة يرفعون الكراسي فوق رؤوس الجالسين وكما لو أنهم على رقعة شطرنج يوزعونها مستسمحين الموجودين أو غير مستسمحين.. وفي أحيان كثيرة أراقب أياديهم ترتفع غضبا على أعوان التنظيم محتجين على التوزيع الغير العادل للكراسي متحججين بتذاكرهم حاجبين عنا رؤية المطرب، شاغلين إياه بحركاتهم المستعلية.

هم نفسهم الذين يأتون متأخرين كأنما يختبرون نجوميتهم الاجتماعية، يغادرون المسرح قبل انتهاء السهرة. يحبذّون الخروج في الظلام، فنراهم ينسحبون واحدا خلف الواحد أمام أنظارنا وأنظار المطربين والعازفين فلا يفلحون إلا في إحباط المبدع الساهر لأجلهم وإقلاق الجمهور العريض...

هذه بالفعل ظاهرة اجتماعية جديرة بالدراسة من طرف علماء الاجتماع وعلماء النفس وأهل الاختصاص، وهي تتكرر أيضا بالمسارح البلدية مثلا وفي قاعات السينما بشكل متواتر ومستفز خاصة للمبدع الذي يشعر لا محالة بنوع من الإهانة أو الاحتقار من خلال تلك الممارسات التي يأتيها أصحاب الكراسي.

بالأخير لا يمكنني إلا أن أقول بان الغاية تبرر الوسيلة وبأن أصحاب الكراسي ليسوا هم دائما أصحاب الكراسي...



2009/08/10

في انتظار أولى حلقاتها





هل تتخلص الدراما التونسية من جلباب الجهويات وتطال المسكوت عنه؟

أيام معدودة تفصلنا عن شهر رمضان لهذه السنة، الشهر الذي تقترن معه الانتاجات الدرامية على قنواتنا التلفزية العمومية منها والخاصة، وحتى لا نحكم منذ البداية على استمرار السياق العام للاعمال الدرامية التونسية التي لم تخرج منذ أولى أعمالها عن جلباب الجهويات وعقد اللهجات المحلية ولم تتطرق بعد بشكل مباشر للقضايا الحارقة كالبطالة والعولمة وهشاشة العمل والحركة الوطنية التونسية والمسائل القومية التي باتت حكرا على السوريين والمصريين، حتى لا نتجنى على انتاجات رمضان 2009 نتمنى ان تكسر هذه الاعمال النسق الروتيني لمضامينها المتشابهة وتطال المسكوت عنه وتحقق حدا أدنى من الجمالية... وفي انتظار أولى حلقات هذه الاعمال نقدم للقارئ أهم المسلسلات والاعمال الدرامية التي ستنطلق بعد اسبوع تقريبا حيث سيتابع على قناة تونس7 الجزء الثاني من مسلسل "مكتوب" لسامي الفهري من إنتاج شركة "كاكتيس" الذي سيسجّل مشاركة هند صبري، والفنانة اللبنانية باسكال مشعلاني والمسرحي محمد ادريس في أول تجربة تلفزية والممثلة دليلة المفتاحي والمنشطة الإذاعية والتلفزية بية الزردي.

كما سيتابع المشاهد على نفس القناة الجزء السادس والاخير ربما من سيتكوم "شوفلي حل" في 15 حلقة خلال النصف الأول من شهر رمضان، وسيشهد هذا الجزء مشاركة هشام رستم وجعفر القاسمي.

أما قناة21 الفضائية فستقدم عملين دراميين تونسيين هما "عاشق السراب" في الجزء الاول من رمضان وهو من تأليف علي اللواتي واخراج الحبيب المسلماني وتمثيل يونس الفارحي وليلى الشابي وعلي الخميري و"أقفاص بلا طيور" الذي سيعرض في النصف الثاني من شهر رمضان وهو من تأليف جمال شمس الدين وإخراج عز الدين الحرباوي وإنتاج سلمى بكار ويتقمص دور البطولة أحمد الحفيان اضافة الى مجموعة من الفنانين على غرار رؤوف بن عمر وجيهة الجندوبي وهشام رستم.

أما قناة حنبعل فستعرض مسلسل"نجوم الليل" للمخرج التونسي المقيم بفرنسا مديح بلعيد وسيقوم بأدوار البطولة كل من محمد كوكة وهشام رستم وسامية رحيم، كما ستقدّم سيتكوم "برا هكاكة" للمخرج برهان بن مسعود.

أما قناة نسمةTV فقد تستأثر بأكبر نسبة من المشاهدين بعد ان تحصلت على حقوق البث الحصري لمسلسل "هدوء نسبي" للمخرج التونسي شوقي الماجري.

2009/08/07

"خطوة القط الأسود": سرمدية الحقيقة في مواجهة سوداوية الواقع


عبد المجيد دقنيش

العرب اللندنية


بخطوات متوثبة نحو فريسة اللحظة الابداعية القصوى ومنتصرة لسرمدية الحقيقة في الكون، أطل علينا الكاتب الصحفي والقاص ناجي الخشناوي بمجموعته القصصية الأولى الموسومة بـ"خطوة القط الأسود" والصادرة حديثا عن دار ورقة للنشر في 104 صفحات من الحجم المتوسط.

المجموعة الحاملة لهذا العنوان الجميل المستوحى من احدى معزوفات الموسيقي المعروف أنور ابراهم، ضمت 15 أقصوصة حاولت إلتقاط سلطان الكلام وفتنته والغوص في ثنايا الحياة وتعرجاتها، وجاءت قريبة من الواقع المعيش للمواطن البسيط ومنفتحة على تطلعات الكائن البشري أينما وجد ونلمس ذلك من خلال العناوين التي حملت أكثر من بعد وأكثر من دلالة فنقرأ مثلا: "وصية جان جونيه" و"معاريج السجود" و"زوجا حذاء" و"درجة أولى" و"المقالة الافتراضية" و"خطوة القط الأسود" و"موعد النرجس" و"تراتيل بحرية" و"فايس-بوك" و"رجل الكلمات المتقاطعة" و"حكمة السمكة" و"غرق حبري".

ناجي الخشناوي الذي يدعي أنه قادم من عراء الأسئلة يفشل في إقناعنا بعراء الواقع وسوداويته -رغم النفس التشاؤمي السافر المسيطر على المجموعة -من خلال نجاحه في صياغة هذه الخلطة القصصية العجيبة التي تسافر بنا بعيدا في فضاءات خيالية وواقعية سحرية من امضاء مبدع يسير على مهل ومتمكن من لغته وقاموسه وأدواته الفنية التي يتوسل بها لاقناع القارئ بأنه أمام كاتب مازال في خطوته الأولى، ومع ذلك الذي يغوص في هذه القصص الطريفة الساخرة لابد أن يكتشف أن صديقنا ناجي يحلق بجناحين من ريح وما عادت تقنعنا كناية الخطوة الأولى رغم أننا أمام باكورة أعمال هذا الكاتب ولكن التجارب تثبت لنا أن سماء الابداع لا تتسع إلا لجدية التعامل مع المتلقي والصدق في التبليغ واستكناه التجارب السابقة وهضمها وهو ما نلمسه حقيقة في مجموعة "خطوة القط الأسود" التي تكشف لنا الوجه الآخر لناجي الخشناوي الذي طالما أمتعنا بحواراته ومقالاته الجريئة. وها هو اليوم يمتعنا بهذه الأقاصيص محاولا توظيف قراءاته وتجربته الصحفية والانسانية للتوثب على اللحظة الفنية الابداعية واقتناص الحدث اليومي البسيط وتحويله إلى أقاصيص يمتزج فيها الخيال بالواقع والحلم بالحقيقة والماضي بالحاضر.

ولعلنا في كل قصة نقرأها نلاحظ هذه القدرة العجيبة على استكناه واستبطان تفاصيل الحياة اليومية الهامشية وصياغتها بعد مرورها برحى الذاكرة، صياغة قصصية فنية تسبح بنا في عالم افتراضي من صنع ناجي الخشناوي ونقرأ ذلك مثلا في قصة "المقالة الافتراضية" التي يبرز فيها بوضوح استغلال بعض التفاصيل الصغيرة التي يعيشها الكاتب الصحفي في عمله كل يوم من نقاشات ومناورات وتحديات من أجل الاصداع برأيه بكل حرية والبحث عن زورق الحقيقة الغارق بين الرقابة الذاتية ورقابة المجتمع، وهو ينجح في تغليف كل هذه الأحداث والتفاصيل بلغة السخرية المركزة والتلاعب بالمكان والزمان إمعانا في السخرية والخيال المجنح.

ومن القصص التي شدتني في هذه المجموعة القصصية المشفرة إلى أبعد الحدود، قصة "وصية جان جونيه" المهداة إلى روح محمد شكري والتي زادتها اللوحات الوصفية المتقنة بهاء وامتزج فيها الخيال بالواقع السحري وطرحت أسئلة حول الوجود والكينونة والمصير والقضاء والقدر والحب السرمدي والحقيقة الضائعة فدعونا نتعرف على بعض تفاصيلها عبر هذه الفقرة المعبرة "نتف سالم أمين حبتين من عنقود العنب وألقاهما في فمه، ظل يداعبهما بلسانه برهة من الزمن بين فكيه ثم ابتلعهما الواحدة تلو الأخرى. شرد ببصره في صورة "جان جونيه" المرسومة على غلاف روايته الأشهر "سيدتنا – سيدة الأزهار" التي حرر صفحاتها الخمسين الأولى على ورق الأكياس في زنزانة بسجن لاسانت بفرنسا، ثم نظر إلى الفقرة التي كتبها على نسخة مستعملة من جواز سفره وبدأ يقرأها بصوت مرتفع للمرة العاشرة تقريبا ثم توقف عند جملة "على أن أكون مثلك يا معلمي" كررها أكثر من مرة ثم أمسك زجاجة البيرة من عنقها وألصقها بشفته السفلى وظل السائل الأصفر منسكبا في بلعومه إلى آخر قطرة في الزجاجة وعيناه ثابتتان على المرآة المعلقة وسط الجدار المقابل تماما. كان يبحث عن انسجام ما مع ملامح وجهه المنعكس على بلورها.. على صفاء روحي يمكنه من الانسلاخ عن أية حساسية أخلاقية مقيتة تثنيه عما يجول بخاطره.. في الحقيقة كان يبحث عن أي شيء يعيد ترتيب حياته ويخرجه من حالة التشيء والعدمية التي صارت تطوقه منذ أن أنهى دراسته الجامعية.. المكتبة منتصبة بكتبها الألف على جانبه الأيسر وصك الكتبي ملقى فوق الطاولة حذو صحن العنب والقرار لا يزال معلقا في ذهنه بين الرفض والقبول هل فعلا طنجة أثمن من مكتبتي؟ هل التسكع بين أزقتها وسوقها الداخلي والبولفار والسكر في حانة "الباراد" واحتساء كأس شاي بالنعناع في مقهى "زاغورة"أمتع من السفر بين ثنايا كل هذه الكتب؟

هل فعلا سينقذني السفر إلى طنجة أو إلى أي مكان خارجي من ضيقي واختناقي هذا، أم أني بحاجة إلى سفر داخلي في روحي وتصالح مع ذاتي؟.

ما أجمل هذه الأسئلة وما أبلغها وقد كنت أتمنى أن تنغلق القصة عليها فهي تلخص مسيرة هذا الكائن البشري الحائر في مصيره والذي طالما بقي مشردا بين الأسئلة ومتسكعا بين حانات اللغة والكتب وخيانات الحياة والاصدقاء باحثا عن بعض الاجابات ولكن لا إجابات ولا وصول فلذة الرحلة في تشابه واختلاط الطرق وأجمل الأسئلة هي التي لا اجابات لها.

ههنا ناجي الخشناوي يلخص لنا عبر هذه الأقصوصة كامل المجموعة التي بدورها تختصر لنا طرق الحياة والزمان والمكان ويرجعنا سؤال البطل الأبدي وجملته التي يكررها "عليّ أن أكون مثلك يا معلمي" إلى حيرة المبدع وهو يضع رجله في ركاب الإبداع ومسيرة الذوبان من أجل الآخرين والأكيد أن صديقنا ناجي قد خطرت بباله هذه الجملة وهذه الأسئلة وهو يهدينا باكورة انتاجاته والأكيد أنه تذكر صيحة وليم بتلرييتس "يا شعراء ايرلندا أتقنوا حرفتكم" وهو يجلس في محراب الكتابة طامعا في قبس الخلود وسائرا على نهج مدارس تأثّر بها وهضمها مثل محمد شكري وحنا مينة ومحمود درويش ومظفر النواب. ولكن هذه التجارب بقدر حضورها في المجموعة القصصية "خطوة القط الأسود" جاء غيابها وذوبانها في حركة النص ككل. ولعلنا نهمس في أذن صديقنا ناجي الخشناوي بالكف عن ترديد عبارة "المعلم" والأخذ بنصيحة المعلم الأول سقراط "كن نفسك" وربما نلمس ذلك في العمل القادم لهذا الكاتب الذي فاجأنا حقيقة في هذه المجموعة الأولى المتقنة شكلا ومضمونا والتي سرّبت لنا عبر أسئلتها الساخرة بعض التململ والقلق الوجودي الذي لا يتأتى إلا عبر كتابة مستفزة ودافعة للتفكير مثلما قرأنا ذلك في ما وراء سطور "خطوة القط الأسود"