بحث هذه المدونة الإلكترونية

2009/08/07

"خطوة القط الأسود": سرمدية الحقيقة في مواجهة سوداوية الواقع


عبد المجيد دقنيش

العرب اللندنية


بخطوات متوثبة نحو فريسة اللحظة الابداعية القصوى ومنتصرة لسرمدية الحقيقة في الكون، أطل علينا الكاتب الصحفي والقاص ناجي الخشناوي بمجموعته القصصية الأولى الموسومة بـ"خطوة القط الأسود" والصادرة حديثا عن دار ورقة للنشر في 104 صفحات من الحجم المتوسط.

المجموعة الحاملة لهذا العنوان الجميل المستوحى من احدى معزوفات الموسيقي المعروف أنور ابراهم، ضمت 15 أقصوصة حاولت إلتقاط سلطان الكلام وفتنته والغوص في ثنايا الحياة وتعرجاتها، وجاءت قريبة من الواقع المعيش للمواطن البسيط ومنفتحة على تطلعات الكائن البشري أينما وجد ونلمس ذلك من خلال العناوين التي حملت أكثر من بعد وأكثر من دلالة فنقرأ مثلا: "وصية جان جونيه" و"معاريج السجود" و"زوجا حذاء" و"درجة أولى" و"المقالة الافتراضية" و"خطوة القط الأسود" و"موعد النرجس" و"تراتيل بحرية" و"فايس-بوك" و"رجل الكلمات المتقاطعة" و"حكمة السمكة" و"غرق حبري".

ناجي الخشناوي الذي يدعي أنه قادم من عراء الأسئلة يفشل في إقناعنا بعراء الواقع وسوداويته -رغم النفس التشاؤمي السافر المسيطر على المجموعة -من خلال نجاحه في صياغة هذه الخلطة القصصية العجيبة التي تسافر بنا بعيدا في فضاءات خيالية وواقعية سحرية من امضاء مبدع يسير على مهل ومتمكن من لغته وقاموسه وأدواته الفنية التي يتوسل بها لاقناع القارئ بأنه أمام كاتب مازال في خطوته الأولى، ومع ذلك الذي يغوص في هذه القصص الطريفة الساخرة لابد أن يكتشف أن صديقنا ناجي يحلق بجناحين من ريح وما عادت تقنعنا كناية الخطوة الأولى رغم أننا أمام باكورة أعمال هذا الكاتب ولكن التجارب تثبت لنا أن سماء الابداع لا تتسع إلا لجدية التعامل مع المتلقي والصدق في التبليغ واستكناه التجارب السابقة وهضمها وهو ما نلمسه حقيقة في مجموعة "خطوة القط الأسود" التي تكشف لنا الوجه الآخر لناجي الخشناوي الذي طالما أمتعنا بحواراته ومقالاته الجريئة. وها هو اليوم يمتعنا بهذه الأقاصيص محاولا توظيف قراءاته وتجربته الصحفية والانسانية للتوثب على اللحظة الفنية الابداعية واقتناص الحدث اليومي البسيط وتحويله إلى أقاصيص يمتزج فيها الخيال بالواقع والحلم بالحقيقة والماضي بالحاضر.

ولعلنا في كل قصة نقرأها نلاحظ هذه القدرة العجيبة على استكناه واستبطان تفاصيل الحياة اليومية الهامشية وصياغتها بعد مرورها برحى الذاكرة، صياغة قصصية فنية تسبح بنا في عالم افتراضي من صنع ناجي الخشناوي ونقرأ ذلك مثلا في قصة "المقالة الافتراضية" التي يبرز فيها بوضوح استغلال بعض التفاصيل الصغيرة التي يعيشها الكاتب الصحفي في عمله كل يوم من نقاشات ومناورات وتحديات من أجل الاصداع برأيه بكل حرية والبحث عن زورق الحقيقة الغارق بين الرقابة الذاتية ورقابة المجتمع، وهو ينجح في تغليف كل هذه الأحداث والتفاصيل بلغة السخرية المركزة والتلاعب بالمكان والزمان إمعانا في السخرية والخيال المجنح.

ومن القصص التي شدتني في هذه المجموعة القصصية المشفرة إلى أبعد الحدود، قصة "وصية جان جونيه" المهداة إلى روح محمد شكري والتي زادتها اللوحات الوصفية المتقنة بهاء وامتزج فيها الخيال بالواقع السحري وطرحت أسئلة حول الوجود والكينونة والمصير والقضاء والقدر والحب السرمدي والحقيقة الضائعة فدعونا نتعرف على بعض تفاصيلها عبر هذه الفقرة المعبرة "نتف سالم أمين حبتين من عنقود العنب وألقاهما في فمه، ظل يداعبهما بلسانه برهة من الزمن بين فكيه ثم ابتلعهما الواحدة تلو الأخرى. شرد ببصره في صورة "جان جونيه" المرسومة على غلاف روايته الأشهر "سيدتنا – سيدة الأزهار" التي حرر صفحاتها الخمسين الأولى على ورق الأكياس في زنزانة بسجن لاسانت بفرنسا، ثم نظر إلى الفقرة التي كتبها على نسخة مستعملة من جواز سفره وبدأ يقرأها بصوت مرتفع للمرة العاشرة تقريبا ثم توقف عند جملة "على أن أكون مثلك يا معلمي" كررها أكثر من مرة ثم أمسك زجاجة البيرة من عنقها وألصقها بشفته السفلى وظل السائل الأصفر منسكبا في بلعومه إلى آخر قطرة في الزجاجة وعيناه ثابتتان على المرآة المعلقة وسط الجدار المقابل تماما. كان يبحث عن انسجام ما مع ملامح وجهه المنعكس على بلورها.. على صفاء روحي يمكنه من الانسلاخ عن أية حساسية أخلاقية مقيتة تثنيه عما يجول بخاطره.. في الحقيقة كان يبحث عن أي شيء يعيد ترتيب حياته ويخرجه من حالة التشيء والعدمية التي صارت تطوقه منذ أن أنهى دراسته الجامعية.. المكتبة منتصبة بكتبها الألف على جانبه الأيسر وصك الكتبي ملقى فوق الطاولة حذو صحن العنب والقرار لا يزال معلقا في ذهنه بين الرفض والقبول هل فعلا طنجة أثمن من مكتبتي؟ هل التسكع بين أزقتها وسوقها الداخلي والبولفار والسكر في حانة "الباراد" واحتساء كأس شاي بالنعناع في مقهى "زاغورة"أمتع من السفر بين ثنايا كل هذه الكتب؟

هل فعلا سينقذني السفر إلى طنجة أو إلى أي مكان خارجي من ضيقي واختناقي هذا، أم أني بحاجة إلى سفر داخلي في روحي وتصالح مع ذاتي؟.

ما أجمل هذه الأسئلة وما أبلغها وقد كنت أتمنى أن تنغلق القصة عليها فهي تلخص مسيرة هذا الكائن البشري الحائر في مصيره والذي طالما بقي مشردا بين الأسئلة ومتسكعا بين حانات اللغة والكتب وخيانات الحياة والاصدقاء باحثا عن بعض الاجابات ولكن لا إجابات ولا وصول فلذة الرحلة في تشابه واختلاط الطرق وأجمل الأسئلة هي التي لا اجابات لها.

ههنا ناجي الخشناوي يلخص لنا عبر هذه الأقصوصة كامل المجموعة التي بدورها تختصر لنا طرق الحياة والزمان والمكان ويرجعنا سؤال البطل الأبدي وجملته التي يكررها "عليّ أن أكون مثلك يا معلمي" إلى حيرة المبدع وهو يضع رجله في ركاب الإبداع ومسيرة الذوبان من أجل الآخرين والأكيد أن صديقنا ناجي قد خطرت بباله هذه الجملة وهذه الأسئلة وهو يهدينا باكورة انتاجاته والأكيد أنه تذكر صيحة وليم بتلرييتس "يا شعراء ايرلندا أتقنوا حرفتكم" وهو يجلس في محراب الكتابة طامعا في قبس الخلود وسائرا على نهج مدارس تأثّر بها وهضمها مثل محمد شكري وحنا مينة ومحمود درويش ومظفر النواب. ولكن هذه التجارب بقدر حضورها في المجموعة القصصية "خطوة القط الأسود" جاء غيابها وذوبانها في حركة النص ككل. ولعلنا نهمس في أذن صديقنا ناجي الخشناوي بالكف عن ترديد عبارة "المعلم" والأخذ بنصيحة المعلم الأول سقراط "كن نفسك" وربما نلمس ذلك في العمل القادم لهذا الكاتب الذي فاجأنا حقيقة في هذه المجموعة الأولى المتقنة شكلا ومضمونا والتي سرّبت لنا عبر أسئلتها الساخرة بعض التململ والقلق الوجودي الذي لا يتأتى إلا عبر كتابة مستفزة ودافعة للتفكير مثلما قرأنا ذلك في ما وراء سطور "خطوة القط الأسود"



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق