بحث هذه المدونة الإلكترونية

2008/05/24

حوار مع المفكر محمد أركون


العرب و المسلمون ابتعدوا عن الفتلرة الذهبية للفكر العربي و الاسلامي

يعد المفكر العربي، جزائري الأصل محمد أركون من بين المفكرين القلائل الذين يحملون مشروعا فكريا تنويريا يحاول من خلاله أن يساهم في إثراء الفكر العربي والمعرفة الإنسانية عموما، وهو مشروع انطلقت إرهاصاته الأولى منذ نهاية سبعينات القرن الماضي ولا يزال متواصلا الى الآن تنظيرا وممارسة. ويُعتبر المفكر الجزائري محمد أركون، الى جانب المفكر التونسي هشام جعيط، أهم مفكرين عربيين فتحوا المجال أمام «العلماء المعاصرين» للخوض في مسألة الدين أو الإيمان أو الروحانيات من دون الشعور بالنفور أو الخوف، ولن نغالي إن قلنا إن نقد العقل الإسلامي أصبح يختلف، بفضلهما، عما كان عليه الحال لدى المؤمنين التقليديين المسجونين داخل «السياج الدوغمائي المغلق» كما وصفهم محمد أركون ذاته.
وكما يذكر مترجم أغلب نتاجات أركون الفكرية، هاشم صالح في تقديمه لكتاب أركون «من الاجتهاد الى نقد العقل الإسلامي» أن «الدراسة المقارنة للتجارب الروحية والتاريخية للأديان التوحيدية الثلاثة الكبرى تثبت لنا ضرورة تجاوز المفهوم التيولوجي السكولاستيكي الذي سيطر طيلة قرون وقرون».وبخوض محمد أركون لتاريخ الروحانيات تقدم أشواطا مهمة في سحب بساط الامتياز الذي كانت تحتكره فئة الفقهاء والمتدينين المتزمتين في النظر العقلي والتطبيق المنهجي وفقا لأرضية ابستيمية محض للنصوص المؤسسة للأديان السماوية ليقف في أكثر من عمل فكري على شروط ومحدودية ممارسة الاجتهاد في الفكر الإسلامي الكلاسيكي خاصة، من أجل مواجهة تحديات الحداثة العقلية والثقافية والمادية المفروضة على العقل العربي من قبل العقل الغربي منذ القرن التاسع عشر. فمن خلال استضافة الاتحاد العام التونسي للشغل وتحديدا قسم العلاقات الدولية والعربية والهجرة المفكر العربي محمد أركون لإلقاء محاضرة تبحث إشكالية العلاقة بين الفضاء الأوروبي والفضاء العربي ، سنحت لنا فرصة محاورته بشكل خاطف حيث قدم بعض الخطوط العريضة، لقراء الشعب، حول تاريخية الفكر العربي وتاريخية الفكر الأوروبي وحول صراع العقل الفلسفي والعقل التقني وحول مفهوم العنف السياسي والإرهاب والتطور...فيما يلي نص الحديث
تقدمون على منبر الاتحاد محاضرة حول العلاقة بين العالم العربي والاسلامي وأوروبا فكيف تقيمون دكتور محمد أركون مسيرة البناء التاريخي والفكري الخاصة بأوروبا؟
ـ عندما نقول العالم اليوم نشير الى أمم مختلفة في تطورها وفي ارتباطها بما يسمى الغرب، لأن تاريخ ما يسمى الغرب، والأصح بما يسمى أوروبا، هو تاريخ استثنائي بالنسبة الى جميع الثقافات المتعثرة اليوم على مستوى العالم. هذه الملاحظة التاريخية ضرورية لنفهم مثلا أن ما يعنينا كمجتمعات مرتبطة بالتعاليم الإسلامية لها خصوصيات تميزها من المسيرة التاريخية الخاصة بأوروبا. أوروبا تختص بالاعتماد على مصادر تاريخية ثلاثة، أولا الفكر اليوناني الذي يمكننا أن نختصره في مفهومي الصراع الفكري بين اللغوس والميتوس، وثانيا هو المصدر الروماني، إذ الرومان أنشؤوا مفهوم «الشيء العمومي» الذي يهم العموم ويهتم به العموم (La Républice ) وهو مفهوم أساسي ومؤسس، ثم إن الرومان أسسوا منظومة شرعية انتشرت في الفضاء التاريخي الروماني الذي يشمل الشمال والجنوب للبحر المتوسط، وشمال المغرب وشمال ما نسميه اليوم الشرق . والمصدر الثالث هو المسيحية وتحديدا المسيحية الكاثوليكية لأن الكنيسة الكاثوليكية ورثت هي الأخرى واعتمدت في تاريخها على المصادر الثلاثة، وقد أشار البابا بانوا 16 في محاضرته الأخيرة التي أثارت غضب العرب والمسلمين، أشار الى هذه النقطة العقائدية والفكرية التي تختص بالروابط المتواصلة بين ما سماه اللغوس اليوناني والإيمان الكاثوليكي. وما نسميه اليوم أوروبا، الأمم الأوروبية بنت تاريخها على هذه الأسس الثلاثة وطورت هذه الأسس تطويرا فكريا وشرعيا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا بصفة متواصلة وبصفة ثورية، والثورة المؤسسة لاستعمال العقل الجديد هي الثورات الثلاث الأنقليزية أو البريطانية في 1648 والفرنسية 1789 والأمريكية الآن. هذا هو المصدر التاريخي لما نسميه الحداثة.
وإذا ما حاولنا الوقوف على المسيرة التاريخية للفكر الإسلامي
ـ إذا ما قارنا المسيرة التاريخية للفكر الإسلامي وللثقافات المرتبطة بالإسلام بالمسيرة الأوروبية سنكتشف أن الفكر الإسلامي الذي انطلق مع الفتوحات بعد 632 ازدهر أثناء مدة طويلة الى 1258 حيث سقط النظام، نظام الخلافة وحلت محله إمارات في مناطق مختلفة حتى جاءت الإمبراطورية العثمانية بعد فتح قسطنطينية التي أصبحت اسطنبول مع الإمبراطورية المعروفة، ولكن هذه الإمبراطورية نهضت نهضة ملحوظة في الميدان السياسي والعسكري والمعمار الرسمي بينما شاهدنا في نفس النهضة الإعراض عن الثقافات والتراث الفكري باللغة العربية الذي أنتجه جماعة من الأدباء والمفكرين والباحثين فيما نسميه الحضارة الإسلامية الكلاسيكية، وعلى عكس ما أشرنا إليه بالنسبة الى المسيرة الأوروبية، بدأت الحضارة الإسلامية تبتعد وتنسى المنجزات الفكرية الأساسية الخاصة بالفترة الكلاسيكية للفكر العربي الإسلامي وتقلصت المعاجم العربية التي كانت متوفرة سابقا بسبب نسيان المؤلفات الفلسفية والعلمية وحتى المذاهب العديدة التي كانت تتناظر في جو فكري تسوده التعددية الفكرية حتى غاب كذلك عن الفكر الإسلامي ما كان يسمى علم الكلام وغابت كذلك العلوم وما تبعها من المناظرات العلمية فيما يتعلق بما يسميه الفقهاء استنباط الأحكام من النصوص.
وتواصلت أزمة الفكر العربي والإسلامي ووقفت الحضارة العربية والإسلامية عن البناء الى الآن؟
ـ نعم، هذه القطيعة الفكرية والثقافية والعلمية في تاريخ الفكر الإسلامي والتي استمرت وتعمقت في نفس القرون التي استغلتها أوروبا لبناء الفكر الحديث والمنظمات العلمية الحديثة والأنظمة السياسية الحديثة التي جعلت أوروبا تسير أمام جميع الثقافاثُ الأخرى في العالم وجميع المنظمات الأخرى، وهذا التفوق في تطوير العقل النقدي البَحّاث بفضل ما استفاده من التمرين الفلسفي في الاجتهادات الفكرية وفي الاعتماد على المنهاج العلمي التجريبي حتى تمكنت أوروبا من احتلال المناطق العالمية خارج أوروبا حيث شاهدنا بلدا مثل هولندا، ذي المجتمع المتواضع يستولي على القارة الأندونيسية، وهذه النقطة التاريخية لم نتعرض لها تعرضا تساؤليا ونقديا في المجتمعات العربية الإسلامية الى يومنا هذا، وهذا ما دفعني الى إصدار موسوعة تاريخية بعنوان «تاريخ الإسلام والمسلمين بفرنسا من القرون الوسطى الى يومنا هذا» وألححت في مقدمتي للموسوعة على الاتجاه التاريخي المعاكس بين تاريخ الفكر الإسلامي وتاريخ الفكر المسيحي وإنتاجه للحداثة وتطورات الحداثة بصفة متواصلة ومتزايدة في الانقلابات المعرفية والقفزات الثورية العلمية الى يومنا هذا، وللفجوة العميقة التي شاهدناها فيما يتعلق بانعزال الفكر الإسلامي ، منذ نشوئها دخلنا بعد ظهور الدول بعد التحرر من الاستعمار في فجوة أعظم وأشد خطرا ـ وهي الفجوة التي تفرضها علينا العولمة ـ بين المجتمعات الداعية الى النموذج الحضاري الإسلامي وبين ما نسميه دول الغرب دون أن نكون على علم بما يشار إليه من قطيعات معرفية عندما نقول الغرب من جهة والإسلام من جهة أخرى، إذ أصبح هذان المفهومان الجغرافيان السياسيان قطبين إيديولوجيان ميثولوجيان، والتصور الإيديولوجي والميثولوجي متبادل بين ما نسميه في كتب يعدمها الفكر النقدي تصدر في الساحة الإسلامية وفي الساحة الغربية.
كيف تقيمون دكتور محمد أركون انحسار العقل الفلسفي اليوم أمام الاكتساح الرهيب للعقل التقني أو لعقل الدمار الشامل ؟
ـ فيما يتعلق بدور الفلسفة اليوم، فالعقل الفلسفي قد حل محله اليوم ما يسمى télé - techno - scientifique ولهذا العقل أهمية سياسية كبرى لأن الدول الغربية تعتمد عليه لتمويل البحوث المتعلقة بالتكنولوجيا ووسائل الإعلام لتزداد قوتها هيمنة على سائر العالم، ونتيجة ذلك هو اضمحلال وتهميش دور الفكر الفلسفي في المجتمعات الغربية.
ولكن ماذا حدث للأديان وهيمنتها في هذا التطور الذي يسود العالم كله جعل المجتمعات غير الغربية تتخبط في مآزق تاريخية أمام هيمنة شاملة متزايدة من الأمم الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية ؟
ـ يجب علينا أن لا نكتفي بترديد هذا الوصف السياسي الإيديولوجي لهيمنة الغرب من جهة وضعف معظم المجتمعات المهمشة في العالم. لقد أصبح من أعجل الضرورات التاريخية على المجتمعات العربية والإسلامية أن تقوم بتاريخ ذاتي نقدي وأن تفتح المجال الى ما أسميه سوسيولوجية الإخفاق لجميع النشاطات الفكرية التحليلية النقدية في السياقات الإسلامية المعاصرة الى حد أن الخطاب الإيديولوجي طغى على سائر الخطابات ومنها الخطاب التاريخي والخطاب السوسيولوجي والخطاب الأنثروبولوجي والخطاب الالسني إذ هذه الخطابات كلها مفروضة على كل مجتمع معاصر للنصف الثاني من القرن العشرين وبالأحرى للقرن الجديد الذي دخلناه منذ قليل، وإذا بالخطاب العربي يبقى منعزلا عن هذه الخطابات ولم يتمكن من الخروج من المآزق التاريخية التي تتخبط فيها منذ استقلال جميع المستعمرات الى يومنا هذا. هناك إخفاقات سياسية، اقتصادية، اجتماعية وناهيكم عن الإخفاقات الفكرية والعلمية التي تفرضها علينا جميع القوى العاملة في تطوير العولمة وفرضها على جميع المجتمعات التقليدية المحافظة على عقائد دوغمائية والمعتمدة على شعارات إيديولوجية للكفاح ضد العدو الكبير وإبليس وإخوانه المناحيس.
كيف تفسرون دكتور محمد أركون ظاهرة العنف المنظم الممارس على الدول الضعيفة من قبل الدوائر الامبريالية باسم مكافحة الإرهاب والتطرف الديني؟
ـ نشاهد أن ظاهرة الإرهاب قد ازدادت خطورة داخل المجتمعات الإسلامية نفسها ولم توجه فقط على الغرب كعدو كبير كما يوجه الغرب حربه ضد عمود الشر والإسلام الفاشستي كما سماه الرئيس الأمريكي وهذا يدل أننا بلغنا في الجهتين قمة العنف السياسي ما بلغته الأمم في تاريخها الماضي إذ العنف اليوم في ممارسته على سطح الأرض مع الحروب الأهلية التي تشتعل في مجتمعات عديدة، هذا العنف ينبهنا الى فشل الأديان وفشل الثقافات وفشل الحداثة أيضا في التعرف الى أسباب العنف وجذوره الحضارية في تاريخ المجتمعات البشرية والمهم والعاجل بالفكر المعاصر هو أن يأخذ بعين الاعتبار ظاهرة العنف كظاهرة أنثروبولوجية لا تنحصر على دين من الأديان ولا على مجتمع من المجتمعات ولا على فكر قديم ولا على فكر عصري من المنظمات الفكرية، بل تشمل الوضع البشري برمته.أقول وكتبت الكثير عن العنف كقوة عاملة مع قوتين أخريين هما الحرام والحقيقة. فالعنف والحرام والحقيقة تشكل مثلثا أنثروبولوجيا، والمجتمعات البشرية كلها من دون استثناء، أقدمها وأحدثها، أقواها وأضعفها... خاضعة لإنتاج تاريخها داخل المثلث الأنثروبولوجي المتكون من العنف والحرام والحقيقة. صحيح أن الأديان سعت في تحديد الاعتماد على العنف في إنتاج وجود البشر ولكنها في نفس الوقت لم تمكن الانسان من الخروج النهائي من إطار «نحن /هم» حتى يصبح الانسان يعتمد على «نحن» الشامل لجميع الناس مهما كان دينهم وعقائدهم ومذاهبهم، وكذلك الحداثة لم تنجح في هذا التطوير للفكر من الأنا القومي الذي يرفض ويعادي الآخرين إلا إذا فرض عليهم هيمنته السياسية والثقافية. هذا هو التحليل الفكري والثقافي لظاهرة العنف ونرى أن هذه المقاربة تفرض علينا مراجعة الأديان ومراجعة مقدمات الحداثة اعتمادا على مقاربات انثروبولوجية لجميع المنظومات الفكرية الموروثة وهذا داخل في اجتهادات الانسان لإنتاج مشروع ونموذج موجه الى إنتاج تاريخ أنسني (Humaniste) بعيدا كل البعد عن الفكر الطوائفي والفكر القومي والفكر الداعي الى الدين الحق والأديان الخاطئة، هذا هو ما يسميه محمد أركون منذ خمسين سنة ويدعو إليه في كتبه وفي تعليمه ويختصر هذا كله في مفهوم المساهمة لنشاطات ومساعي «العقل المنبعث» أي الذي ينبعث في سياقات الصين والهند وإفريقيا وسائر القارات في أرضنا المحدودة والضيقة للأحلام التي يدعو إليها العقل المنبعث.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق