بحث هذه المدونة الإلكترونية

2009/07/22

الشاعر آدم فتحي يكتب عن خطوة القط الأسود

حديقة بلا سياج:
خطوة القط الأسود
* آدم فتحي

تُؤتَى النُصوص من عتباتها مثلما تُؤتى البيوت من أبوابها، إلاّ أنّ هذا النصّ جعل من عتبته الأولى رَحِمًا للبيت كلّه، فإذا نحن أمام عنوان لا يكتفي بلعب دوره كمدخل إلى العمل، بل يحتضنه من الغلاف إلى الغلاف، ويجعل منه نصًّا واحدًا على الرغم من كونه مجموعة متعدّدة العناوين والأصوات. تلك في نظري إحدى عتبات نجاح «خطوة القطّ الأسود»، مجموعة ناجي الخشناوي القصصيّة الصادرة أخيرًا عن دار ورقة للنشر.
يعيد ناجي الخشناوي الاعتبار إلى الحديث في مواجهة الحدث وإلى الحكْي في مواجهة الحكاية من خلال ثالوث «الراوي» و»المحكيّ عنه» و»المؤلّف» الذي يرتدي قناع «المحكيّ له» حينًا و»المحكيّ عنه» أحيانًا...وهي السمة نفسها الغالبة على عمل أنور براهم الذي يحمل الاسم نفسه: فرانسوا كوتورييه على البيانو وجان لوي ماتينييه على الأكورديون وأنور على العود، إضافة إلى كونه «المؤلّف» أيضًا وأحد أقنعة «المتلقّي».
في «خطوة القطّ الأسود» لأنور براهم انحياز إلى البساطة والتأمّل الباطنيّ وتغليب للإيحاء القريب من المدرسة التعبيريّة في الرسم. تتكلّم الآلات بما يقترب من الارتجال لولا أنّ أغلب كلامها مكتوب، وبما يقترب من الحوار لولا أنّ كلاّ منها منقطع إلى نفسه، وبما يشبه المونولوغات المتقاطعة لولا ما يصل بينها من روح المؤلّف: لازمة هنا وأخرى هناك تحمل الشرق إلى الغرب وتعود بشمال المتوسّط إلى جنوبه.
ينطبق الأمر نفسه على قصص ناجي الخشناوي. لغة حيّة تأخذ من البساطة عمقها، وتصوير يأخذ من السينما مشهديّته ومن الانطباعيّة كثافتها، وتعبير يأخذ من الشعر إيحاءه. كلّ ذلك إلى بناء مؤسّس على التداعي الحرّ القريب من الارتجال لولا أنّه محسوب، القريب من الملحمة لولا أنّ الصراع دائر بين أبطال مضاديّن، يواجهون انكساراتهم في سياق مواجهتهم لرداءة العالم، ويتحاورون في مونولوغات متقطّعة، وكأنّهم يتكلّمون إلى داخلهم وقد انتشروا شظايا، بينما امتدّت بينهم خيوط من روح المؤلّف: صوت فيروز هنا، وصدى الصمت هناك.
أبطال الخشناوي في معظمهم صامتون أو يعانون الصمت أو تجري على ألسنتهم كلمة الصمت. ولعلّ الأمر لا يتعلّق بتيمة بل بمادّة بناء. فهي قصص مكتوبة بالصمت من أجل التنويه بالكلام. محتفية بما يدور في الدواخل من أجل الحثّ على التصريح. مترعة بهواجس تخرج أحيانًا من بين الشفاه فلا تجد غير استجابة باهتة، في كناية عن ضرورة الجدل. وقد وُفّق المؤلّف كلّ التوفيق في الانتصار جماليًّا إلى الحريّة، بعيدًا عن الخطابة والاستعراض، عن طريق إدارة شخوصه في سياق استحالة الحوار، استنكارًا لانعدامه وإعدامه.
للقطّ قصّة مع المخيّلة البشريّة (خاصّة القطّ الأسود) فهو سليل الأساطير منذ ما قبل التاريخ وهو كناية عن الهرطقة في العصور الوسطى رديف الشرّ والشيطان حين اختُزلت الشيطنة والشرور في المرأة والمجنون أي في المنشقّ والمختلف. ثمّ تفتّحت العقول وبادر المبدعون (ليس أوّلهم إدغار بو وليس آخرهم بودلير) فأعادوا الاعتبار إلى القطّ في سياق إعادتهم الاعتبار إلى الانشقاق والاختلاف. واستبطن ناجي الخشناوي كلّ ذلك بعيدًا عن الخطابة والاستعراض فانتصر في مجموعته إلى كلّ ما هو «قطّ أسود»، أي إلى المرأة المتمرّدة والفقير الكادح والحالم المحروم والكاتب المنشقّ وناسك الأرصفة والعاشق المستحيل والغريب في الزحام وطالب الحريّة المتمنّعة.
كلّ ذلك بشعريّة حكائيّة وبسرديّة شعريّة يشدّان القارئ ويجعلانه يتمعّن في ما يقرأ ليكتشف شيئًا فشيئًا أنّ «خطوة القطّ الأسود» ليس عنوان قصّة من الأقاصيص أُطلق على كامل المجموعة تحيّةً لمبدع موسيقيّ، بل هو المجموعة نفسها وقد تجلّت باعتبارها خطوة «قطّ أسود» من جنس جديد، هو المؤلّف نفسه. مؤلّف يتقمّص ما للقطّ من حسيّة وعناد ونعومة وشراسة وحدّة بصر وحرص على الاختلاف والمقاومة والحريّة.
لا أعرف إن كان المؤلّف قد ذهب إلى كلّ هذا عن قصد وتخطيط، ولا أعرف إن كان قد ذهب إليه أصلاً، ولا يهمّني أن أعرف. فمن علامات التجارب الإبداعيّة الناجحة والمتميّزة أن تأخذ أصحابها إلى غير ما يخطّطون وإلى أبعد ممّا يظنّون، وأن تولد من جديد عند كلّ قراءة مشرعة آفاقها للتأويل. وليس من شكّ في أنّنا مع ناجي الخشناوي في مجموعته القصصيّة هذه، أمام تجربة إبداعيّة ناجحة ومتميّزة، تنضاف إلى قائمة التجارب الشابّة الجادّة التي سعدنا بها في السنوات الأخيرة، بما يجعلنا نطمئنّ على حاضر القصّة التونسيّة ومستقبلها.

الشروق

الثلاثاء 21 جويلية 2009

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق