بحث هذه المدونة الإلكترونية

2007/06/12

أفكار متقاطعة 13

فن الموت مع سقراط العراق

إن آخر ما يفكر فيه الرجل الحر هو الموت سبينوزا
عجبي من أحياء في موتهم يأسفون ويحزنون ويبكون ميتا مات بعدهم ولم يمت ككل الذين ماتوا قبله... عجبي من عرب وعاربة وعربان ومستعربة قرؤوا الدراما الإغريقية ووقفوا أمام محاورة دفاع سقراط الأثيني وهو شامخ يواجه مٌعدميه الجهلة ثم بكوا وحزنوا لما شاهدو سقراط العراقي يبتسم في كبرياء يقهر مٌعدميه الجهلة أيضا... ونسوا أن ابتسامة صدام حسين، سقراط العراق، هي تماما حكمة سقراط أثينا، فابتسامته تعزية لنفسه على موت وشيك وتعزية لنا نحن على موت متوقع، مثلها مثل براهين الخلود التي عزى بها سقراطٌ أثينا تلامذته لما رأى الأسى في عيونهم... كان لابد له أن يموت تلك الموتة الشنيعة/الكريمة لنأخذ الدرس ونشاهد بأم أعيننا كيف يكون فن الموت راقيا وكيف يكون فن الإماتة مبتذلا... مثلما كان لابد لذينك البرجين الشامخين أن ينهارا بتلك الطريقة السينمائية الذاهبة في التشويق والإثارة حدا بعيدا...وكان لابد لنا، نحن القابعين كالجرذان، أمام الشاشات الملونة والمسطحة أن نقف شاهدين على عتبتي تاريخ الألفية الثالثة... 11 سبتمبر 2001 و30 ديسمبر 2006... لتنأى بنا - الشاشات - بعيدا عن رواية «أكزينوفون» بشأن الحجة الأخيرة لسقراط التي أعدمَ بها سدنته في قلب أثينا لما ألقى وسط أحشائهم مقصلته الفلسفية وسألهم بسخرية لاذعة قائلا :»ألم تعلموا جميعا أن الطبيعة حكمت علي بالموت منذ لحظة ميلادي؟» مثلما ألقى سقراط العراق، صدام حسين، مقصلته الفلسفية أيضا لما قال لمعدميه وابتسامة المتحدي تغمر حبلهم ولوحتهم: «ألا تعلمون بأني أرفض الإقرار بأن أي إنسان قد عاش حياة خيرا من تلك التي عشتها حتى الآن؟ ذلك أني قد أدركتٌ أن حياتي قد أنفقت في تحديكم وفي محاربتكم ومقاومة وحشيتكم ولا إنسانيتكم... وهي حقيقة تمنحني أعظم الرضا، ولذا فاني أشعر باحترام عميق لذاتي وباحتقار أعمق لذواتكم أيها الأمريكيون الجبناء والعراقيون العملاء...».سطوة المشهدين وهما يغزوان بصرنا وبصيرتنا لم يفلحا في تعميتنا عن الهول والفزع اللذين أصابا الأمريكيين إبان تتالي انهيار رمزي «حضارتهم» الحجريين، ولا عن بوارق الفرح ولواعج الانتشاء يتناسلان من أحداق كل إنسان ترفرف بين ضلوعه روح سٌقراطية، لما سلم الرئيس العراقي صدام حسين رقبته وهو يبتسم بين الأيادي القذرة والوجوه المٌلتحفة بسواد خزيها، جاعلا المشهد لا يٌقرأ إلا عكسيا ووفقا لإشارات سيميولوجية ساطعة : حاكم متخف ومحكوم عليه مبتسم... تماما مثلما قرأنا المشهد اليوناني: حاكم جاهل ومحكوم عليه حكيم؟انهار البرجان... شٌنق صدام حسين... انتصرت الصورة، شانقة كل الجفون ومدمرة كل القلوب بسطوتها الساذجة... ومازالت النفوس المنخورة تنتحب وتولول وتبكي لأنها لم تعرف بعد كيف تحدق في الشمس والموت... شمس الحرية وموت سقراطي/ صَدامي... ولن تعرف ذلك أبدا ما دامت تٌتقن دفن أفكارها قبل دفن جثثها...بين موته الرمزي يوم أٌسر وموته العضوي يوم شٌنق، متنا نحن مليون ألف ميتة وميتة... ولم نتعلم أنه يهبنا آخر ما تبقى لديه: التحريض على الحياة وفقا لشرطها الرئيس، شامخة كالنخلة وهادرة كدجلة...بين السم الحلو المذاق الذي جرعوه عنوة لسقراط أثينا والحبل الناعم الذي لفوا به عنق سقراط العراق، ما يزال تاريخ الإنسانية يٌرسم تارة بأيدي جهلة القرن التاسع قبل الميلاد وطورا بأيدي جهلة القرن الحادي والعشرين ويبدو أن الإنسانية ما يزال لها متسع من الوقت والتاريخ لتتهجى نبضات الحكمة المٌحرضة على امتلاك إرادة الموت قبل إرادة الحياة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق