بحث هذه المدونة الإلكترونية

2007/06/12

أفكار متقاطعة 8

بهتة النّوري بوزيد

هل كان يعلم المخرج التونسي النوري بوزيد تلك الحكمة التي قدّمها الرّوائي اليونانيّ نيكوس كازنتزاكي على لسان بطله الأسطوري «زوربا»، والتي يُحرّض من خلالها على «انسحاب» البطل لحظة قوّته وعنفوانه؟أعتقد ذلك جازما، فبعد مشاهدة أحداث «آخر فيلم» تتأكّد أنّ النوري بوزيد مخرج من طينة استثنائية، لم تُعجن الاّ بماءٍ آسنٍ لا يعرف إلاّ الإنسياب بين مفاصل الوجع التونسي والألم الشعبي الرّافل بين ضلوع كل تونسي وتونسيّة ترتسم ملامحه أو ملامحها مثلما غمرتنا شاشة السينما بملامح «بهتة» كنية لطفي العبدلي بطل «آخر فيلم»...
وغير بعيدا عن فيلم «بزناس» و»ريح السد» و»صفائح من ذهب» وفيلم «عرائس الطين»، يُوهمنا النوري بوزيد، هذا الزّورباويّ التونسي، من داخل متنه السينمائي بأنّ «آخر فيلم» هو فعلا فيلمه الأخير... فلا يترك لنا مجالا إلاّ لنذهب سويّة بنقطتي استفهام واضحتين: هل أنّ «آخر فيلم» هو لعبة سينمائية وبروباقندا دعائية اعتمدها النوري لترويج عمله، وهذه نقطة مُستبعدة جدّا جدّا؟ أو أنّ النوري بوزيد «تعب» فعلا من تشريح المجتمع وتفكيك مستغلقاته، وأصابه اليأس بعد أفلام خالها ستُحدث تغييرا ما في ذهنية من بيده التغيير، مسؤولا كان أو مواطنا... مثلما صار اليأس يجتاح مئات المفكرين والمثقفين والمسرحيين والسينمائيين والموسيقيين... وهي الحقيقة التي لم أعد أقبل تصديق سواها رغم النضال اليومي ورغم الأمل الوقّاد في عيون الأحرار في مختلف مجالاتهم الإبداعية والنضاليّة...ولكن، وبعيدا عن تلبيس الفنّي بالإديولوجي بصورة فجّة وميكانيكيّة، وأمام الهذيان المحموم الذي يُحمّل النوري بوزيد تهمة أنّ خطاب «آخر فيلم» هو الخطاب الذي يُراد ترويجه عن «الإرهاب» وعن الشعوب التي تُنتجه، فإنّي أعتقد أنّ هذا الفيلم كان وفيّا بشكل كبير للطرح الموضوعي والعقلاني لمسألة «العنف»، إذ أنّ المخرج النوري بوزيد، وكما عوّدنا ، لم يطرح المسألة من فوق ، وإنّما غار بعيدا في صلصال التفاصيل الشعبية، عرّى المفقّرين والمهمشين بطريقة ساخرة لم تسلم من تمرير إشارات طافحة عن أنّ الفقراء هم في الأصل مفقرون وأنّ الهامشيين هم أيضا مهمشون.. خاتل النوري بوزيد ولطفي العبدلي مشاهديه بصور مُربكة وبخطاب صريح، غير مباشر، ليأكّد أنّ مشاريع الإرهاب المؤدلج والعنف الفوضوي تُصنع بالإرهاب الإيديولوجي وبالعنف المنظم المُسَوّر بالقَوانين والدسَاتير.النوري بوزيد، في «آخر فيلم» كان جينيالوجيّا متمكّنا ، وبنيويّا متمرّسا بفكره وايديولوجيّته وبآلة تصويره.. فزرع حقلا من الألغام الدلالية والسيميائية الفاقعة، ويكفي أن نتذكّر أنّ البطل لطفي العبدلي، «بهتة»، فجّر نفسه داخل حاوية كُتبَ عليها capital... فجّر كل رأسماله الرمزي أمام سطوة الرأسمال المالي... أليس عالمنا اليوم هو عالم تفجير الرمزي والقيمي أمام اكتساح التسليع والتسليح والتشييئ والتبضيع...«آخر فيلم» وثيقة صادقة عن أوضاع متفجّرة وشعبوب مأزومة وخيوط تُحاك في السر والعلن.. قدّمها المخرج النوري بوزيد بأمانة فكريّة وحيطة إيديولوجيّة وثقة فنيّة عالية، أكّدت أنّ هذا المخرج منذور للإبداع والخلق في مجاله، وأن لا منفذ له للإنسحاب أو التوقف عن التنقيب والنبش الدّائم في الدوائر المسكوت عنها والمُغيّبة عن الأبصار المتعالية والبصائر المتواطئة.. خاصة بعد أن تواشجت العلاقة وتمتّنت أكثر بين «مثقف عضويّ» منغرس في هموم شعبه وغير قادر على خيانة أطره ومرجعياته وأفقه المستقبلي من جهة و جمهور يُراكم يوميّا ما يتجرّعه من شطحات الفوضويين وتهويمات الطوباويين من جهة ثانية...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق