بحث هذه المدونة الإلكترونية

2007/10/28

رواية باب الحيرة ليحي القيسي



عندما تُصبح قراءَة النَّص مثلَ المَشي على الرَّصيف


«يُخطئ المرء حين يَعْتَقدُ أن المَكان مُحَايدٌ عبد الرحمان منيف)
«المكان أحَالَني دَومًا إلى الصَّمْت جول فاليه)


وصف «تيزفتان تودورف» المكان في أحد كتبه بأنه «فضاء عالم النص، وهو ليس لغويا وان كانت أداته اللغة। انه تقنية، حركة زمن السرد» (1) ولا نبالغ ان قلنا ان المكان هو الاكثر التصاقا بحياة الانسان، ذلك ان ادراكه له حسّي مباشر وهو يستمر مع الانسان طوال سنين حياته، بل اننا لا نغالي ان قلنا ان وجود الانسان لا يتحقق الا من خلال علاقته بالمكان وانه على قدر إحساسه بأنه مرتبط بالمكان، يكون احساسه بذاته، وبقدر ما يحتاج الى رقعة فيزيقية يثبت فيها امتداده الجسماني فانه يميل كذلك الى البحث لنفسه عن رقعة من الارض / المكان يضرب فيها بجذوره ليؤصل هويته وكينونته، وما شكل عيشنا في مكان ما او امكنة متعددة بنظام مخصوص الا تعبير عن شكل سكننا داخل ذواتنا। إن المكان هو طوبوغرافية وجودنا الحميم... هو اثراء لخصوبة الحياة... نوع من المناقشة بيننا وبين صنوف الدهشة وأنواع المساءلة... المكان هو بؤرة الحيرة التي تدفعنا من حال الى اخر... المكان هو الباب المفتوح على اللامتوقع واللامنتظر... «كلما سألت، تنفتح أمامي الابواب واحدا واحدا وكل باب يسلمني للآخر» (2) هذا هو المكان الذي سنحاول تقصي أثره والوقوف على ملامحه ودلالاته ودوره في دفع السرد وخيوط حكاية ابن الهزائم والانكسارات «قيس الحوران» و «هاديا الزاهري» وحكايتهما مع المخطوط الغريب في رواية «باب الحيرة» للكاتب الأردني يحي القيسي، ومردّ اشتغالنا على المكان في هذه الرواية هو استئثار هذا المكوّن الفني بنصيب وافر من السرد لدى يحي القيسي من ناحية، وبقدرته الفائقة على تحميل أمكنة روايته شحنة عاطفية وفائضا دلاليا يجعل قارئ هذا النص يؤمن بمقولة غاستون باشلار «ان قراءة المكان في الادب تجعلنا نعاود تذكّر بيت الطفولة» (3)، فخلافا لما صرح به الكاتب في جزء «مدارات الحيرة» من روايته بقوله «كيف يعوّل المرء على ذاكرة مهترئة لروح هائمة»، خلافا لذلك بدت ذاكرة المؤلف مكتنزة بأدق تفاصيل شوارع تونس وأبوابها وأزقتها وساحاتها العمومية ومقاهيها وقصورها التاريخية ومقامات أوليائها وحاناتها... رغم انه لم يُقم بتونس الا ثلاث سنوات فقط في بداية التسعينيات من القرن الماضي। «باب الحيرة»... باب الكتابةمثلما قدّم لنا يحي القيسي شخصية روايته تدور كالمجذوب وهي تذرع تونس الحاضرة، مدينة الحفصيين «من باب البحر الى باب الجزيرة ومن باب العسل حتى باب الخضراء ووصلت حتى باب الجديد وباب سويقة... وقد أكملت التسعة والتسعين بابا، وأُعطيت من المعارف ما لم يعط أحد»، مثلما فعل الراوي مع المرويّ عنهم، كان لزاما على الكاتب ان يفعل مع قارئه ما يشاكل خيوط نصه او ما يجمعها كلها ضمن عتبة الدخول، العنوان الرئيسي للرواية... «باب الحيرة» هو المكان المجازي، المكان اللفظي المتخيَّل، منه يخترق القارئ المتن السردي، انه الفضاء الروائي الافتراضي... او هو ابواب الرواية كلها الواقعية منها والخيالية، واذا كانت اسماء الامكنة داخل الرواية تحيل على أمكنة بعينها يعرفها كل التونسيين وكل من زار تونس، أمكنة واقعية ذات هندسة ومعمار متعارف عليهما... وقدمها يحي القيسي في أغلبها وفق مبدأي الاستقصاء والانتقاء في نفس الجملة الوصفية، إذ يقول «كنت أسير في شارع الحبيب بورقيبة باتجاه المدينة العتيقة متجاوزا زحمة المشاة، وأبواق السيارات، ورنين الميترو، وصليل عجلاته على قضبان الحديد، ورفرفة العصافير على الاشجار الكثيفة، التي تتوسط الشارع، وثرثرة الجالسين في المقاهي والحانات، وأدخل في ضيق السوق العربي المظلل بالسقوف... صعودا باتجاه مقام سيدي بن عروس وجامع الزيتونة، تتضوّع قربهما روائح الاكل الشهي من مطعم الزاوية...» (ص 9) ليحقق بذلك سمة الواقعية من خلال الوصف البلزاكي الاستقصائي من جهة، ويغذي سمة التخييل لدى القارئ من خلال الخطوط العريضة للوصف الانتقائي الذي يعوّل عليه ستندال في رواياته।واذا كانت أمكنة المتن محيلة على فضاءات امتدادية فيزيقية، فان مكان عتبة الدخول «باب الحيرة» هو فضاء معنوي مجازي اختاره الكاتب من طبيعة العلاقات بين شخصيات حكايته وعلاقتهم بما اتصل بهم من احداث ومؤثرات واقعية (مثل حكاية حسن بن عثمان في فضاء 20 أوت للابداع) وخيالية (مثل حكاية قيس حوران مع أبواب الهلوسة والتخيلات) فمكان العنوان اللغوي هو القادح للحركة المادية والنفسية في أمكنة النص بإطلاقيته ورمزيّته، ذلك أن تركيب لفظتي «باب» و «حيرة» من شأنه ان يضمن الغاية التأطيرية او التوجيهية للكاتب في علاقة بنصه، ذلك ان «إضفاء صفات مكانية على الافكار المجردة يساعد على تجسيدها، وتستخدم التعبيرات المكانية بالتبادل مع المجرد مما يقربه الى الافهام» (4) فالحيرة هي التي انطلقت منها اغلب الانساق والسياقات والدلائل في الفضاء الروائي، وهو يتنقل من المغلق الى المفتوح ومن العالي الى الواطئ ومن المقبب الى المسطح ومن الواقعي الى الافتراضي من خلال «الباب»...واذا ما حاولنا الايغال بعيدا في تأويل «الحيرة» فإننا سنذهب الى تقنية كتابة التجربة الحضرية الحديثة، تلك التي تكون فيها المدينة سلسلة متواصلة من الاحتكاكات مع الناس الذين يعرفون عن بعضهم البعض القليل، حيث يلتقون بالصدفة ويفترقون بسرعة، هذه الكتابة التي برزت خاصة حول باريس في القرن التاسع عشر مع شارل بودلير وإيميل زولا وغوستاف فلوبير، ثم مع مارسيل بروست وجيمس جويس وفيرجينيا وولف، وهي أيضا ما يسمى «بكتابة المتجوّل» حيث «تصبح قراءة النص مثل المشي على الرصيف نفسه... ويتجاوز العمل كونه نصا عن المدينة الى كونه اندماجا للتجربة الحضرية والنص نفسه، وينتهي كرواية وحيدة ليشمل تعددية التجارب في المدينة» (5) وهذا عين ما نقف عليه في ثنايا نص يحي القيسي وابواب تونس الحاضرة، فالبطل «قيس حوران» تَعَرَّفَ بمحض الصُّدفة على «سعيدة القابسي» لمّا كان جالسا على «الدكة المرمرية، قاعدة تمثال ابن خلدون المنتصب اخر الشارع»، حيث يكتب «بَدَا أمر تعرّفي عليها وليد الصدفة। صبية حنطية الملامح اقرب الى السمرة منها الى البياض» (ص 34 ـ 35) وجرى بينهما حوار عفوي ومستعجل كأغلب حوارات ولقاءات المدن المُزدحمة بالمشي... في مكان اخر من الرواية يكتب يحي القيسي على لسان قيس الحوران:»... وذات مرة لم يكن مناص غير الولوج في نهج سيدي عبد الله قش من كثرة ما سمعت عنه من الحكايات والتشويق»، فالصدفة أو الفضول أو الايعاز تتوفر كل مرة لتقوم بتحويل وجهة البطل وبالتالي تحويل وجهة الأحداث، كما أن الأفضية والأطر المكانية لم تُقَدَّم كمعطيات جغرافية معزولة عن خيوط السرد وحبكة الحكايات، فنهج زرقون أفضى إلى الحديث عن الاقتصاد العشوائي ونهج سيدي عبد الله قش كان قادحا للحديث عن تاريخ الجنس، وفي هذا الاطار المكاني قَدَّمَ يحي القيسي وجهة نظره التقدمية، ذات البعد المادي الجدلي عندما يصف النساء اللواتي قَادَتْهُنَّ الظروف البائسة الى مثل هذه المهنة التي تسحق انسانيتهن، ونفس النهج أحال «قيس حوران» لقراءة مخطوط شهاب الدين التيفاشي القفصي قاضي مصر وتونس، والمقاهي مثلت قادحًا لشرح ذكورية المجتمع التونسي وجَنْسَنَته للمكان مثله مثل أي مجتمع عربي ، فالمقهى حكرٌ على الرجل ومُحَرَّمٌ على النساء، كما أن دكة تمثال ابن خلدون وما حوى الشِّريَان الإسفلتيُّ الأكبر بتونس العاصمة، شارع الحبيب بورقيبة، كانت (دكة التمثال) قادحًا لطرح قضية الغُرْبَة اللُّغوية التي يعيشها التونسي والتونسية، «غربة قسريّة وطوعيّة في ذات الوقت، حتى تَمَشْرَقْنَا من جهة، وتَفَرْنَسْنَا من جهة أخرى، وثمة أيضا من يريد أن يُتَوْنسَنَا تماما والشاطر فينا من يختار وجهته» (ص 37) كما كانت دار الكتب بالمدينة العتيقة مكانا حاضنًا للحبّ والمعرفة، وبالمثل أحالت مقامات الأولياء على أحاديث الشفاعة وحتى حزب النهضة وجماعة الاخوان المسلمين... وأيضا مثلت الأماكن التونسية المُحيلة على الفعل الثقافي مثل فضاء 20 أوت للابداع قادحا لتشريح واقع الثقافة التونسية في فترة التسعينات من القرن الماضي أورد محتواه يحي القيسي على لسان الروائي حسن بن عثمان بسخريته اللاذعة عندما قال «مُش معقول الواحد ياربي يتدمّر من أجل كتابة قصة، ويأتي أنصاف القرَّاء والكَتَبَة ليقوده بنقاشهم الى النَّدم على فعل الكتابة كله... هذه آخر مرة أشارك فيها أمسيات من هذا القبيل...» (ص 62)। عندما تفيض الأمكنة بأرواحهاهكذا يستأثر المكان في رواية باب الحيرة بنصيب وافر من الاشتغال عليه من حيث هو مكوّن فني مستقل بذاته، ومن حيث هو مكوّن فني جزئي ينصهر مع باقي مكونات الكتابة الروائية، وهذا الاهتمام بالمكان وتحديدا بالتجربة الحضرية لم تُسقط الروائي يحي القيسي الى درجة الجغرافيين ـ على علمهم ـ ولم يكن رحالة، بقدر ما تمكن من مسك «روح المكان» بل إنه وصف النَّبْعَ الصافي في الوادي الراكد (نهج سيدي عبد الله قش) وحرّك الماء الآسن في قلب الحدائق المصطنعة (شارع الحبيب بورقيبة) فأمسك بذلك الروائي ناصية الابداع ذلك أن «كلٌ من المغزى الأدبي لتجربة المكان والتجربة الادبية لذلك المغزى المرتبطة بالمكان يشكلان جزءا من عملية فعالة للابداع والهدم الثقافيين» (6) فالكاتب يستغرق في عناصر الامكنة وتفاصيلها ويتعاطف معها ويفرّ من أبوابها تماما مثلما يجعل القارئ يستغرق خلف شخوص روايته في الفقرات المنتقاة من تراث السَّرد المغضُوب عليه والمُصَادر... سرد «ذلك المتمرد الاكبر، ربيب إبليس الراوندي، وأستاذه أبي عيسى الوراق المانوي» (ص 30)... سرد السيوطي وابن عبد ربه والاصفهاني والمحاسبي والنفزاوي والتيفاشي والحلاّج وحمدان القرمطي والتيجاني والانطاكي... باب الحيرة»... بحثا عن الزمن الضائع«بحثا عن الزمن الضائع» هو عنوان الرواية الأشهر لمارسيل بروست وهي التي معها تطور شكل الرواية الكلاسيكية، رواية القصة السردية، ذلك ان سرعة ايقاع الحياة الحضرية انسحب على نمط الكتابة الروائية فظهرت اشكال جديدة على هذا الجنس الادبي مثل الشكل الحر للتذكر حيث تتقدم القصص والاحداث توازيا مع الاستطرادات ويجري تفجيرها عن طريق التجارب السريعة والذكريات المنبثقة من تلك التجارب فلا يتعاقب الزمن وفق تسلسل كرونولوجي سليم، وتختلف الامكنة والفضاءات، ويتم توظيف المنتجات التكنولوجية في علاقة بأحداث السرد فضلا عن التوزيع المدروس للهامشي والمركزي من حيث الشخصيات والاماكن وعلاقتهما ببعضهما البعض حتى يتمَّ «قطع رأس الزمن» على حد تعبير جون بول سارتر...و قولنا في العنوان بأن قراءة النص السردي صارت تشبه المشي على الأرصفة لم يكن اعتباطيا بل هو مقصود، ذلك ان التوزيع البصري الذي اعتمده يحي القيسي في روايته «باب الحيرة» يحيلنا على فضاء جغرافي ممتد تتناثر فيه الاشارات الضوئية وتحكمه مداخل وأبواب تكون بارزة وظاهرة للسائرين، فمع مطلع كل حدث او ذكرى في الرواية يكون تركيبها اللغوي الاول مكتوبا بالبنط العريض (َّفْا) «ثم توقفت فجأة»، «تحت زقزقة العصافير»، «نهج عبد الله قش»، «قادني الطيب اليه»، «أدخلني في التجربة»، «درت كالمجذوب»، «ثم أوقفتني أول العتبات»، «ثم دخلت باب الخلق» و «فانفتح امامي»... وهي كلها تراكيب تحيل في مجملها على المكان وطبيعة الحركة التي يستوجبها، وكأن بالقيسي يأخذ بيد القارئ مثل دليل سياحي ليتجول به في سرد باب الحيرة ليتركه بالأخير معلق المصير مثل «قيس حوران» و»سعيدة القابسي» و»هاديا الزاهري» و»الطيب بن محمود» وطلبة الزيتونة الشوام ومثل الكاتب ذاته... أليست المصائر المعلقة للقارئ والكاتب والشخصيات هي شكل من أشكال الضياع في الفضاء والزمن، فالجميع ما عادوا يدرون «ما حدث معهم أصلا في هذا الزمان، في بلاد تونس وحوران» (ص 10). فالقارئ لنص يحي القيسي «باب الحيرة» لم يعد قارئًا من ورق، مستهلكًا سلبيًا للغة بل جعل القيسي من قارئه كاتبًا... يكتب تفاصيل مدينته ويطارد أشباح ذكرياته المطمورة تحت الأقبية أو المركونة داخل المقاهي والحانات، وكأن يحي القيسي أوجد حلا لمشكل رولان بارث المتمثلة في كيفية جعل القارئ كاتبا، حسب تحليل عمر أوان (7). كما ان مَوْلدَ هذا «القارئ / الكاتب» لم يدفع ثمنه المؤلف بموته، وبالمثل لم تعد الشخصيات ورقية من صنع خيال الكاتب، فحسن بن عثمان مثلا لم يعد فعلا يُسْتَدْعَى للأمسيات الثقافية إلا فيما ندر والطيب بن محمود يعيش فعلا في دبيّ أين يعمل في مجال الاعلام... مثلما هي الأماكن التونسية برائحتها ورطوبتها وبموسيقاها وصمتهاوبمهمّشيها... بانفتاحها وانغلاقها... بغرابتها عنا وحيرتنا فيها...إن هذه التأويلات الاخيرة لا تعني سقوطنا في البساطة والتبسيط بقدر ما هي تمثل شكلا من أشكال الانزياح أو العُدُول عن القواعد «المنطقية» المألوفة احتراما لاختلاف الأجناس الأدبية وخصوصياتها، فرواية «باب الحيرة» ليست من جنس المذكرات ولا هي من جنس اليوميات وليست من فنون الرحلة ولا هي أيضا من التيار الواقعي الصرف أو الخيالي البحت، وإنما هي جميع هذه الاجناس مرفودة بذاكرة ثاقبة وتخييل موظّف واقتباس مدروس... كيف نسكن أوراحنا؟مثل الفضاء أو المكان في رواية «باب الحيرة» ليحي القيسي قادحا لأغلب الأحداث وكان الحامل الأول والحاضن الرئيسي لمنعرجات السَّرد وتطور خط القص، كما مثّل مادة حية لإثراء السَّرد والحوار من خلال المقاطع الوصفيَّة المطولة والاحالات التاريخيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والثقافيَّة والسياسيَّة على الأماكن المرصُودة في هذه الرواية، مما أكد لا حيَاديَّة هذا المكوّن فسمح للقارئ أن يقف على المدلولات المجرَّدة والقيميَّة التي أدخلها المؤلف في «عالم اللاَّمحسوس بواسطة نظام لغوي ذي دلالات... ليحولها الى أنساق دلالية تشير إلى أي مُتَلَق بأنها انتاجات ثقافية في المقام الأول، ودور المُرْسل يكمن في محاولة تخلصه من وطأة الأنساق التقليدية السائدة في أحياز طلبا للبديل الذي لا بديل منه، ومن هنا ينشأ الصراع الفضائي» (8). هكذا المكان يتسم بلا حياديَّته على عكس ما نظنُّه و»المسألة ليست حجارة صمّاء أو خشبًا ينخره السُّوسُ أو حديدًا صدئا، بقدر ما هو طافح بالإحساس، بالدلالات والرموز... إن المكان يعلّمنا كيف نسكُن أرواحنا بالشكل الأمثل، بالشَّكل الذي

يليق بنا كذوات بشرية» (9)

المراجع

1) تودورف تيزفتان: ما البنيوية. دار سوي .1968(2) القيسي يحي: باب الحيرة. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. .2006(3) باشلار غاستون: جماليات المكان. ترجمة غالب هلسا. المؤسسة الجامعية للنشر. بيروت .1984(4) قاسم سيزا أحمد: بناء الرواية. دار التنوير. بيروت .1985(5) مايك كرانغ: الجغرافيا الثقافية. سلسلة عالم المعرفة. جويلية .2005 ترجمة سعيد منتاق.(6) مايك كرانغ: نفس المرجع السابق.(7) أوان عمر: مدخل لدراسة النص والسلطة. دار افريقيا الشرق. .1994(8) مرتاض. عبد الجليل: دراسة سيميائية ودلالية في الرواية والتراث. منشورات ثالة. .2005(9) الخشناوي ناجي: صفحة جديدة (كتاب جماعي) دار شرقيات للنشر والتوزيع. القاهرة .2005



2007/10/23

هل يجمع العالم على حق الحياة؟


بعد المصادقة على مشروع وقف تنفيذ حكم الاعدام عالميا من قبل الأمم المتحدة

أول وأهم حق في العالم، هو الحق في الحياة ثم تأتي بعده جميع الحقوق الانسانية. والحق في الحياة تلازمت معه منذ أول التاريخ عقوبة الاعدام رغم اعتراف عديد حكومات العالم بأن عقوبة الاعدام لا يمكن ان تنسجم مع احترام حقوق الانسان.وقد اعتمد المجتمع الدولي أربع معاهدات دولية تنص على الغاء عقوبة الاعدام وهي البروتوكول الاختياري الثاني للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الهادف الى إلغاء عقوبة الاعدام والذي اعتمدته الجمعية العامة سنة 1989، والبروتوكولان 6 و 13 الملحقان بالاتفاقية الاوروبية لحماية حقوق الانسان والحريات الاساسية اللذان اعتمدهما مجلس أوروبا سنتي 1982 و 2002 ثم البروتوكول الملحق باتفاقية الدول الامريكية لحقوق الانسان الهادف الى إلغاء عقوبة الاعدام والذي اعتمدته الجمعية العامة لمنظمة الدول الامريكية سنة 1990.
كما ان قانون روما الاساسي للمحكمة الجنائية الذي صادقت عليه 150 دولة يستثني عقوبة الاعدام من العقوبات التي خوّلت المحكمة بفرضها وقد اعترفت عديد الحكومات بأن عقوبة الاعدام لا يمكن ان تنسجم مع احترام حقوق الانسان ونتيجة لذلك ألغى عدد متزايد من البلدان في شتى أنحاء العالم عقوبة الاعدام في تشريعاتهم الوطنية بل ان العديد من الدول تجاوزت الالغاء وقامت بقيادة ودعم مبادرات دولية تهدف الى الغاء العقوبة تماما من العالم بأسره।

الأمم المتحدة وعقوبة الاعدام

رغم ان قرارات الامم المتحدة، منذ ان أنشئت ـ لا تزال خاضعة لسيطرة الدول العظمى ولارادتها في توجيه القرارات، الا انها تسعى دائما الى تأكيد استقلاليتها وصبغ قراراتها بصبغة عالمية وانسانية، مثل قرارها بشأن وقف تنفيذ عقوبات الاعدام، ففي سنة 2005 اعتمدت لجنة الامم المتحدة لحقوق الانسان قرارا بشأن قضية عقوبة الاعدام دعا جميع الدول التي لا تزال تطبق عقوبة الاعدام الى إلغائها كليا، وقد وقعت 95 دولة في 19 ديسمبر 2006 على بيان مشترك قدم في الدورة 61 للجمعية العامة للأمم المتحدة يؤكد دعوة الغاء عقوبة الاعدام نهائيا।ومؤخرا قدم يوم 18 سبتمبر 2007 مشروع قرار يدعو الى وقف تنفيذ الاعدام على المستوى العالمي، قدم للأمين العام يان كي مون الذي قال بشأن هذه العقوبة «أعتقد ان الحياة ثمينة للغاية وينبغي حمايتها واحترامها... وانني أرى الاتجاه المتنامي في القانون الدولي وفي الممارسات الوطنية نحو الالغاء التدريجي لعقوبة الاعدام» ومنذ ان اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار 32/61 قبل 30 سنة ما انفك العالم يتحرك بثبات نحو الغاء عقوبة الاعدام مع التزام في قرارات الهيئات الحكومية الدولية بتطبيق القرار.

نداء منظمة العفو الدولية

تعتبر منظمة العفو الدولية من اهم المنظمات الدولية المعنية بحماية حق الانسان في حياة كريمة بدفاعها المستميت ضد كل اشكال انتهاك الحرمات الاساسية للانسان، وهي تبرهن دائما على تدخلها الفوري ومساندتها للمساجين والمعتقلين المحكوم عليهم بالاعدام، ومنظمة العفو الدولية هي حركة عالمية تضم 2।2 مليوني شخص ممن ينشطون في حملات بشأن حقوق الانسان ولها نشطاء في اكثر من 80 بلدا في جميع انحاء العالم ورؤيتها العامة هي ان يتمتع كل شخص بجميع الحقوق المكرسة في الاعلان العالمي لحقوق الانسان وغيره من اتفاقيات حقوق الانسان.وقد رفعت مؤخرا منظمة العفو الدولية نداء عاجلا ومناشدة عالمية لتبني قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الداعي الى إعلان وقف عمليات الاعدام في العالم بأسره والتصويت لصالحه، مؤكدة ـ منظمة العفو الدولية ـ الحق في الحياة والنص على ان الغاء عقوبة الاعدام يعتبر أمرا أساسيا لحماية حقوق الانسان وتدعو الدول التي لا تزال تطبق عقوبة الاعدام الى اعلان وقفها كخطوة أولى نحو الغاء العقوبة ودعوة الدول التي لا تزال تطبق العقوبة الى احترام المعايير الدولية التي تكفل حماية حقوق الاشخاص الذين يواجهون الاعدام.وترى منظمة العفو الدولية ان القرار بحد ذاته يمنع دولة ما من اصدار احكام بالاعدام او تنفيذها لكن السلطة التي ينطوي عليها مثل هذا القرار المنبثق عن هيئة تمثل جميع الدول الاعضاء في الامم المتحدة سيزيد من صعوبة استمرار الدول في اعدام الاشخاص وسيمهد الطريق للالغاء العالمي.

عقوبة الاعدام بالأرقام

خلال سنة 2006 أعدم ما لا يقل عن مليون ونصف المليون شخص في 25 بلدا، وحكم بالاعدام على ما لا يقل عن 861،3 شخصا في 55 بلدا وفي نفس السنة نفذت 91 من جميع عمليات الاعدام في ستة بلدان هي الصين وايران وباكستان والعراق والسودان والولايات المتحدة الامريكية، وقد سجلت الكويت أعلى عدد من عمليات الاعدام مقارنة بعدد السكان، وقد قدرت منظمة العفو الدولية عدد المعدمين في الصين سنة 2006 بمليون وعشرة اشخاص، كما يبلغ العدد التقديري للأشخاص المحكوم عليهم بالاعدام في نهاية 2006 بين 185،19 و 646،24 شخصا وهي احصائيات مستقاة من جمعيات حقوق الانسان وتقارير وسائل الاعلام والارقام الرسمية للدول।

معايير الحكم بالاعدام

غالبا ما يتم فرض عقوبة الاعدام وتنفيذها اثر محاكمات جائرة حيث تنتهك الحقوق الاساسية للمتهمين بما فيها الحق في افتراض البراءة والحق في التمثيل القانوني والحق في المحاكمة امام محكمة مستقلة ومحايدة والحق في تقديم استئناف الى محكمة أعلى، والحق في التماس الرأفة او تخفيف حكم الاعدام وغالبا ما تعرض قضايا عقوبة الاعدام امام محاكم خاصة او عسكرية تستخدم فيها اجراءات موجزة، وتنتزع اعترافات المحكوم عليهم تحت التعذيب، ولذلك اعربت المفوضة السامية للأمم المتحدة عن الاسف لاعدام كل من عواد حمد البندر وبرزان ابراهيم الحسن في بغداد، كما أطلق سراح 124 شخصا سنة 1973 في الولايات المتحدة الامريكية من المحكومين بالاعدام لبراءتهم، مثلما أطلق سراح شخص حكم عليه بالاعدام بعد ان قضى 18 سنة في السجن بعد ان تبين ان الشخص الذي

قتله لا يزال حيّا!!!

عقوبة الاعدام ليست رادعة

سنة 1996 قال رئيس جنوب افريقيا نيلسون مانديلا «لم تصل الجريمة الى مثل هذا المستوى غير المقبول بسبب الغاء عقوبة الاعدام فحتى لو أعيد العمل بالعقوبة فان مستوى الجريمة سيظل على حاله»। ولا يوجد دليل علمي صحيح يدعم الرأي القائل بأن عقوبة الاعدام تردع الجريمة بشكل اكثر فعالية من العقوبات الاخرى.ان الرادع الأقوى للجريمة العنيفة يكمن في ضمان زيادة فرص القبض على المجرمين وادانتهم لأن عقوبة الاعدام تصرف الانتباه عن معالجة اسباب الجريمة وتوفير الحلول الناجعة والفعالة لتفاديها.

الاعدام والأفق المسدود
ان كل عملية اعدام تعتبر فعلا وحشيا ينزع الروح الانسانية عن الذين ينفذونها ويلغي القيمة التي يضفيها المجتمع على الحياة البشرية، ذلك انها تضفي شرعية على فعل عنيف تقترفه الدولة ولا يمكن الرجوع عنه ولا تكرس الا تغذية روح العنصرية لأنها تستخدم بشكل جائر وغير شرعي ضد الفقراء والاقليات وأفراد المجتمعات العنصرية والعرقية والدينية المستضعفة وضد الابرياء وستظل عقوبة الاعدام تحصد أرواح ضحايا بريئة ولن تؤدي الا الى انسداد أفق انساني سلمي ما دامت هناك دول لا تزال تواصل توقيع عقوبة الاعدام وتطبيقها سرا وجهرا، ولذلك يعتبر القرار الذي صوت عليه مؤخرا في الجمعية العامة للأمم المتحدة قوة دفع جبارة وجيدة التوقيت نحو الالغاء النهائي لعقوبة الاعدام وتكريس الحق في حياة انسانية كريمة.

أفكار متقاطعة 36

حـبــل الـحــيـــاة

يظل مشهد الرأس الآدمي وهو يتدلى مثل حبة الرمان الناضجة وسط عقدة الحبل المحكمة الربط من اكثر المشاهد ايلاما ذلك ان اعدام حياة نفس بشرية تظل أقصى عقوبة تسلط باسم القانون، ولئن كانت عمليات الاعدام البشعة تنفد في السابق بشكل سري ومباغت، سواء كانت اعدامات فردية او جماعية، فاننا اليوم بتنا نتابع مشاهد الاعدامات على القنوات التلفزية بتلذذ خفي وصر الكثير من الناس يسجلون تلك الاعدامات لإعادة مشاهدتها!!! مثلما فعلت السلطات العراقية المنصّبة من قبل الادارة الامريكية بعد ان «أفرجت» عن شريط صامت يصور بدقة عملية اعدام الرئيس السابق صدام حسين حتى ما قبل لحظة شنقه!!!
وقد صارت الحكومات تتفنن في تنفيذ أحكام الاعدام، ففي ايران مازال الاعدام رجما على الزاني، وقد رجم مؤخرا في جويلية 2007 جعفر كياني حتى الموت في قرية بالقرب من طاكستان في اقليم قازوين، اما في الصومال فقد نفذ حكم الاعدام على عمر حسين على الملأ بعد ان وضع قناع على رأسه ووجهه وربط بعمود ثم طعن حدّ الموت على يدي صبي في السادسة عشرة من العمر!!!وتبقى كعادتها الولايات المتحدة الامريكية، المبشرة بالديمقراطية وحقوق الانسان، يبقى الاعدام فيها الاكثر تميّزا وحرفية، ذلك ان الامريكيين حليمون بطبعهم لذلك استنفدوا أغلب الاشكال «رحمة» بالمعدمين ومختلف الأساليب لقطع حبل الحياة، من الشنق، الى اطلاق النار على أيدي فرق الاعدام، الى غرفة الغاز والصعق الكهربائي والاعدام بالحقنة المميتة وهذه طبعا اشكال لا تطال المعدمين الامريكيين وحدهم بل ان لأمريكا الحق في اعدام الملل والنحل والشعوب والحكماء والرؤساء وكل من تسوّل له نفسه الخروج عن طاعتها...ومنذ عشرة أيام تقريبا احتفل العالم بأسره باليوم العالمي ضد عقوبة الاعدام والذي وافق يوم 10 اكتوبر، وشاهدنا المظاهرات والمسيرات الاحتجاجية المنادية بوقف تنفيذ احكام الاعدام، وكانت منظمة العفو الدولية كعادتها سباقة في تنظيم التظاهرات وتوقيع المناشدات الدولية لفرض وقف عالمي على تنفيذ عقوبة الاعدام وهي التي توصلت بمعية جمعيات ومنظمات مدنية دولية ـ الى ترفيع عدد الدول التي ألغت حكم الاعدام قانونا وممارسة الي 130 دولة...واذا كان يوم 10 اكتوبر من كل سنة مناسبة للتذكير بشناعة وفظاعة عقوبة الاعدام المادية في جميع دول العالم فاننا في أوطاننا العربية المتخلفة مطالبون كل يوم من كل سنة بإدانة عقوبة الاعدام المادية أولا (في العراق 270 معدما منذ ثلاث سنوات فقط!!!) وثانيا بوقف عقوبة الاعدام الرمزية التي يمارسها الحكام والرؤساء العرب من دون استثناء على الشعوب العربية، من ذلك اعدام التداول السلمي على السلطة، اعدام استقلالية القضاء والمحاكم، اعدام علوية الدساتير والقوانين، اعدام حرية التعبير والتفكير، اعدام العمل النقابي، اعدام الاختلاف السياسي، اعدام الدور الطلائعي للمثقف، اعدام التعليم والتنوير، اعدام الأمل في الحياة...إن حبل الحياة ـ على طوله ـ قصير في بلداننا، لا، لا... انهم يصرون على جعله قصيرا ليكون خانقا أكثر... نافذا في قطع الانفاس والأرزاق والاحلام والآمال... حبل الحياة عندنا هو تماما كقطعة الحبل التي نعرفها جميعا، تلك التي أتى بها واد ساكن غائر تماما مثلما تأتينا الانقلابات السياسية والعسكرية ساكنة غادرة فتلطمنا بأمواجها المستبّدة حتى تجعلنا نحتفل بها كل سنة طول الحياة!!!

2007/10/16

أفكار متقاطعة 35

هديّــة العيــد

عندما تعلو ضحكة صبي صغير على أخته الصغيرة فتتهاوى على الأرض مُضرّجة في جدائلها المُزدانة بفرحة العيد وألعابه يصير مشهد سقوط صبية وصبايا فلسطين والعراق برصاص الامبريالية والصهيونية مشهدًا عابرًا...تعلو ضحكات الصبي وأخته وهما يلعبان بمسدسين بلاستيكيين، أو بدبّابة أو رشاش معدني اقتناهما لهما والدهما أو والدتهما من إحدى مغازات لعب الأطفال أو من أحد الباعة المتناثرين يمنة ويسرة على أرصفة نهج بومنديل أو الكومسيون أوشارل ديغول أو نهج اسبانيا...
بذهنية الاستهلاك العشوائي يتهافت الأولياء على الألعاب الحربية بأبخس الأثمان وأغلاها كذلك.. وببراءة الأطفال وعفويتهم تضجُّ المنازل والبيوت يوم العيد بأزيز الدّبابات وهدير الطائرات والطلقات الناريّة البلاستيكية... وبين العشوائية والبراءة يتسرّب المشروع المُخرّب والمُدمّر لبصيص أمل وحيد في تكوين ذات انسانية سويّة ومتكاملة.. في تنشئة جيل قادر على العيش فوق هذه الأرض من دون تقتيل أو تشريد.. من دون حروب أو دماء...جولة قصيرة ومتأنيّة داخل أسواق المنصف باي ونهج بومنديل والكومسيون وشارل ديغول وكل الأسواق الشعبية منها والمنظمة والفضاءات الكبرى المزدحمة في هذه الأيّام تكفينا لنتأكد من أنّ ذهنية اللاّمبالاة ومواقف الصمت والتخاذل لا يختارها العربي وإنّما يتربّى عليها وبها يكبُر معه التواطؤ الداخلي ويتضاعف التدخّل والاستهزاء الخارجي وتحديدا الأمريكي والصهيوني ومن يعضدهما من أبناء جلدتنا الملتصقين بكراسيهم إلى حدّ الإهتراء...هذا التدخل هو بالتأكيد الحلقة الأبشع والأفظع من حلقات مشروع تمتد ارهاصاته الأولى وبذوره الجنينية الى برامج مدروسة بدقة فائقة قد لا ننتبه لها أو نعتبرها مسائل عابرة نُحمّلها ما لا تحتمل...لُعب العيد هو ما يشغلني في هذه السطور، تشغلني وتعنيني بالقدر الذي تعنيني الهويّة، هويتي أنا، هويّة الطفل الذي سيصير شابا يحمل على عاتقه مشروع وطنه وأمته ويحمل رؤيته الانسانية لهذا العالم الذي يجمعنا...إنّ اللعب الحربية والعسكرية التي تُروّج في أسواقنا ومغازاتنا منذ سنوات قد لا تزيد عن سنوات الحصار العراقي أو عن سنوات الانتفاضة الثانية هي التي جعلت الشاب التونسي وبالمثل العربي عديم الموقف ممّا يجري في وطنه من تفقير له وتهيمش لآفاقه وتعطيل لطاقاته، مثلما تجعله عديم الموقف ممّا يدور في العالم من تخريب وتدمير وإفناء...إنّ الايديولوجيا الامبريالية التي تُمرّر في المعاهدات الجائرة والمواثيق المفروضة والاتفاقات المشروطة هي ذاتها التي تتسرّب عبر أكداس اللعب التي تخترق الحدود بفضل العصابات الاقتصادية والمافيات التجاربة.قد يتبادر الى أكثر من ذهن أنّي مُوغلٌ في التفكيك، مُسرف في التأويل.. وقد يعتبرني البعض أنّي أقمع الطفولة وأحرمها من اللعب، غير أني لا أُسرف ولا أقمع وإنّما يأسرني مشهد واحد وموقف واحد وخطاب واحد كنت أتمنّى أن أسمعه أو أتابعه عن كثب خلسة خلف أب (كان طفلا) يقنع ابنته (ستصير امرأة) بأنّ هذه العروسة/الدمية ذات الشعر الأصفر والثوب الأبيض قد تؤنسها في غرفة نومها ويمكنها أن تبوح لها بكل أسرارها من دون خجل أو عُقدٍ ويمكنها أن تتحاور معها كلّما خلت بها.. وتؤثّث بها سريرها...إنّ التواصل الذي تحققه دمية العروسة لطفل أو طفلة مُخالفٌ للموت الذي تُعلنه طلقات الدبابات والرشاشات والمدافع البلاستيكية وهو ذاته (التواصل) الذي سيتطوّر وينمو في الذات لينعكس تواصلاً مع الآخر بنديّة ومن دون إملاءات أو شروط.. والموت هو ذاته الذي يكبر وينمو مع الطفل ليصير شابا جبانا ميّتًا في البيت والمدرسة والجامعة وفي عمله وفي الشارع وأمام المدّ الصهيوني والامبريالي.

2007/09/29

أفكار متقاطعة 33

نَشَازُ الكَمَنْجَة

مثلَ المرآة المشرُوخَة التي تَفشَل في عكس الملاَمح الحقيقيَّة للوَاقف أمامَها، تفشَل أوتار الكمنجة المُقطَّعة الأوصال في تأثيث حلم مستمع واحد فما بالك لو كان المستمعون يفوقون العشرة ملايين... مستمعون لا تجمعهم كمنجة عازف وسط المسرح البلدي مثلا أو في المسرح الأثري بقرطاج أو في الجمّ، وإنّما هم مستمعون متناثرون فوق ركح ترابي مساحته 164 ألف كيلو متر، حيث الأحياء الشعبية والأرياف والقرى والمداشر...
ما يجمعهم هو كمنجة الكاتب علي اللواتي والمخرج حمادي عرافة كل ليلة على مدى 15 يوما ضمن البرمجة الرمضانية لصندوق العجب المسمّى تونس سبعة...
كمنجة سلاّمة هو عنوان المسلسل التونسي الذي ألّفه الاستاذ علي اللواتي وأخرجه حمادي عرافة وضم نخبة من وجوه الدراما التونسية مثل يونس الفارحي وعلي بالنور ومحمد علي بن جمعة ولطفي العبدلي ودليلة المفتاحي...
وهو يعالج فيما يعالج مظاهر تحلّل وتفككّ البرجوازية في تاريخ المجتمع التونسي الحديث، وهو مبحثٌ مهم جدّا وشديد الحساسية والخطورة باعتباره يتطلب قراءة تاريخية وتحديدا جغرافيا ومرجعيّة ايديولوجيّة ووجهة نظر فنيّة وجمالية مخصوصة، والأهم من ذلك الأفق النَّظري الذي سيُحدّد مستقبل فئة / طبقة البرجوازية إن انهيارا أو صعودا مثلما فعل بلزاك في رواياته مع الطبقة الأرستقراطية عندما كانت في طور الضُّمُور حيث تنبأ بحتمية انهيارها واتخذ منها موقفا نقديا كالذي اتخذه من المجتمع الرأسمالي عموما...وما من شك أن الفن عموما لا يمثل بديلا للايديولوجيا بقدر ما يعكس الواقع من خلال التعبيرات الفنية المُعْتَمَدَة، والتي لا محالة تُصنّف ضمن الواقعية النقدية التي تَتَطَلَّبُ حرصًا شديدًا في انتقاء المادة الحياتية وحرصًا أشدّ في كيفيَّة حَبْكهَا وتقديمها وتمرير الموقف التَّقَدمي المَنُوط بالفنان صانع ذاك الفن... واعتقد أنّ الكاتب علي اللواتي مع ممثلي مسلسل كمنجة سلاّمة ومُخْرجُهُ قد نجحوا الى حدّ بعيد في تجسيد «محنة» البرجوازية وتمكنوا من كسب تعاطف وجداني من قبل المشاهدين والمستمعين لعزفهم ونشيد انهيارهم.
ولكن «كمنجة سلاّمة» لم يَنْجُ عزفها من نشاز طال عدة جوانب مهمة في اعتقادي، فالمسلسل إجمالا يصوّر تحلّل البرجوازية ومظاهر تفككها ولكنه أغفل تحديد طبيعة هذه الطبقة التي تظهر لنا في المسلسل على انها فئة، فعائلة «للاَّ عقيلة عبد المقصود» لا تمتلك وسائل إنتاج وابنها موظّف سام مثلما هو الشأن لزوجته وكذلك الحال لدى المهندسة المعمارية أو لدى موظفة البنك، كما أن الصّراع القائم في المسلسل هو صراع نفسي وأخلاقي بالدرجة الأولى وليس صراعا اجتماعيا واقتصاديا رغم عديد الاشارات المحيلة على ذلك، ثم إن تشخيص أي تغير في بنية المجتمع يتطلب ضرورة الإشارة إلى إرهاصاته وأسبابه الجذريّة التي مهَّدت لذلك التغيّر...
وأعتقد أن تحميل أحداث المسلسل خطابا ايديولوجيا أعمق ممّا نستمع له في كل حلقة وبلغة أكثر رقيّا مثلما نشاهد في المسلسلات العربية الجادة كان يمكنه أن يدفع أكثر بالعمل نحو شُرْفَة درامية نَفْتَقدُهَا كثيرا في تلفزتنا ومن كُتَّابنَا ومُخْرجينَا وممثلينا... ولكنّ...

2007/09/24

حوار مع الشاعر كمال بوعجيلة

الشعر فعل مستقبلي تزداد لذّته كلّما توغّل الشاعر في تفاصيل الحياة

استعمال بعض مصطلحات التكنولوجيا في القصيدة لا يعني حداثتها

ترك البلاد ذات صباح ممطر أواخر الخريف لبائع الجرائد وهو يؤثث منضدته لتوزيع الاخبار المتشابهة في منحى رصيف بليل... وترك الناس يلهثون سعيا الى الرغيف ليعلق قنديلا كالأيقونة في خطواته المتموجة وسط شوارع باريس وحاناتها وداخل فضاءاتها الثقافية متصفحا كتاب العمر وسط الوحشة والعذابات... فظل طيلة عشر سنوات يهذي تحت سماء باردة لعله يتمكن من تفسير دهشته وكتابة أغنية من حرير الكلام...
الشاعر كمال بوعجيلة، المولود بتطاوين سنة 1957 والمقيم منذ 1998 بعاصمة النور باريس، صاحب المجموعة الشعرية «ترى ما رأيت» (1994) و «حبيبتي تتركني لليل» (1996) و «هذيان تحت سماء باردة» (2006) و «كيف أفسر دهشتي» (2006)... لا يزال يبحث عن نص العمر رغم تمنّع اللغة وجحودها... كعادته التي تربى عليها لا يزال يمر على رصيف الاشتهاء كالندى فيبلل الازهار اليانعة دون ان يخدش عطرها، ويعبر كالفراشات الواحات الوارفة دون ان يترك اثرا لخطاه...كمال بوعجيلة، ذاك الطفل الوحيد، المستوحد في سنواته الخمسين، لا يزال متوغلا في الصباحات القديمة وهو يتكئ على لغة الشعر ليعيد الاغنيات ويرتب الاحلام فوق أرض تهرع للذيول...
منذ ثلث قرن تقريبا وأنت تكتب الشعر، فهل وصل كمال بوعجيلة الى القصيدة من أجلها وُلِدَت؟
ـ هل مرّ كل هذا الزمن!!!لعل فعل الكتابة يقتل الوقت كما يقال...وأنا أقرأ سؤالك أدركت انه يمكننا ـ فعلا ـ ان نتذكر المستقبل... بل لعله الزمن الوحيد الذي يمكن ان نتذكره بكل تفاصيله وجزئياته... نتذكره كمؤشرّ أساسي للكتابة الادبية بكل اجناسها شعرا ونثرا، الكتابة كشرط من شروط بقاء اللغة حية متجددة ونابضة بآلام وآمال الانسان...وقد يبدو السؤال من الوهلة الاولى بسيطا، ولكن لنسأل معا:هل هناك للكاتب نص متميز بشكل فاضح وواضح عن نصوصه الاخرى بحيث يمكننا ان نسميه، «نص العمر»... من وجهة نظري لا أتصور ذلك مطلقا... فحين تتصفح وتدقق في اعمال الكُتاب والشعراء الذين بقوا في ذاكرة التاريخ (وهذا لدى كل الشعوب) ستلاحظ خيطا شفافا يربط كل نصوصهم بحيث يمكن ان نتحدث عن مشروع متكامل قد تحدث خلال تبلوره «اشراقات» متميزة ومُبهرة، وقد يصيبه في لحظات اخرى بعض الوهن والسقوط.ولكن ان نقول قد وصل كاتب او شاعر ما الى القصيدة التي من أجلها وُلد فمعناه ان يغلق الكتاب ويصمت الى الابد... الكتابة حسب رأيي فعلٌ مستقبلي، تزداد لذتها الساخرة وأتعابها غير المحتملة كلما تقدمت السنوات، وكلما توغل الشاعر في تفاصيل الحياة واصطدم بتمنع اللغة الرهيب وحتى جحودها احيانا. ولا اتصور ـ وهذا يهمني شخصيا ـ أنني بلغت الى مرحلة الرضا عن النفس والاطمئنان الى ما كتبت... أنا بعيد كل البعد عن هذا، وواع تمام الوعي بجسامة وخطورة الامر.حين تمر بما كتب لدى كل الحضارات والشعوب تصيبك رجفة وتسأل: ألا يمكن ان يكون ما أفعله وقاحة وعدم اكتراث بالمسؤولية؟! انظر معي جيدا الى الأفق وتعال نسأل معا ما الذي سوف يبقى امام هدير الحياة؟!!...
من يقف على مجموعتك الشعرية «هل أفسّر دهشتي» يلمس شدة تشاؤمك ويأسك، كيف تفسر هذه الحالة، أهي حالة الشعر أم حالة الشاعر أم الاثنين معا؟
ـ قد يكون الحزن في احيان كثيرة مشابها او مقاربا للتشاؤم... واذا اعتبرنا الحزن حالة نفسية يمر بها الانسان قد تتصاعد وتيرته أحيانا وقد تخفت احيانا اخرى، واذا كان التشاؤم موقفا من الحياة تحدده رؤية الشخص الى الحياة والكون، فان ما يصح قوله ـ حسب رأيي ـ هو الحزن المبثوث في القصائد، والحزن يقارب في لحظات ما الفرح والزهو الحزين يمكن ان يطرب ويغني ويرقص... وهي علامات فرح... ولكن الامر يتجاوز هذه الوقفة السريعة والتلميح الخاطف للمسألة... لنعد الآن الى السؤال: هل التشاؤم حالة الشعر ام الشاعر؟! ام حالة الانسان عموما وخاصة انسان هذا العصر؟ ألا ترى معي ما يحدث، إن الصورة التي وحدت العالم وجعلته يعيش في نفس الوتيرة تقريبا... فالاحداث التي نعيشها جميعا في نفس اللحظة تقريبا جعلت المشهد المأسوي (حروب، مجاعات، كوارث طبيعية...) يسيطر على ذاكرة الانسان ومخيلته، وبالتالي اصبحنا نعيش حالة إحباط وقنوط ويأس من كل المشاريع... انها الحالة التي تحدثت عنها في سؤالك... فهل يُعاب على النص ان يحمل بعض خلجات الواقع وان كان في مرارة العلقم؟!!...
تعوّل كثيرا في مجاميعك الشعرية على معجم الطبيعة بمكوناتها وحالاتها وتحولاتها في حين ان الكثير من الشعراء يتجهون اليوم الى معجم التكنولوجيا وصرنا نتحدث عن القصيدة الافتراضية؟
ـ سؤالك هذا يذكرني بسطحية القائلين بضرورة نقل الواقع كما يبدو للعين المجردة. هذا التبسيط لعلاقة الواقع بالنص يضر بالنص ويجعل منه في احسن الاحوال «ريبورتاجا» او مقالا صحفيا سمجا... حسب رأيي الامر اكثر تعقيدا وعمقا... فلا يعني استعمال بعض أدوات التكنولوجيا الحديثة التي دخلت حياة الانسان في السنوات الاخيرة ان النص حديث ومعاصر... والحداثة شيء اخر لا يسمح مجال حديثنا هنا التورّط في تفاصيله، ولكن لا بأس ان أوضح أمرين هامين:1 ـ ان التكنولوجيا بكل أدواتها وبرامجها جُعلت بالاساس لخدمة الانسان، ولم تنف الطبيعة ولم تُخرج الانسان من محيطه البيئي وان تدخلت وضيقت كثيرا مجالات عديدة، ولكن هذا حدث عبر مرور الزمن السريع واستوعب الانسان خطورة الامر. ألا ترى معي هذا المشروع الكبير الداعي الى حماية البيئة والمناخ والمحيط عموما، انظر الى الجمعيات والاحزاب التي تُولد يوميا في كل أرجاء الارض والتي جعلت همها الاساسي ترشيد الانسان وتوعيته الى مخاطر انهاك الطبيعة واستنزاف مواردها وثرواتها، من هنا يمكن للنص ان يكون حديثا وبطريقته الخاصة في الدفاع عن الحياة وعن الانسان والطبيعة طبعا... دون الاسفاف والافتعال في استعمال كلمات تسقط اسقاطا سمجا... فتكون نصوصا مفبركة لا علاقة لها بالحياة ولا بالحداثة.2 ـ إن النص يكون حديثا باشتغاله العميق والجاد في اللغة أولا احتكاكا ومناقشة للنصوص الاخرى، وثانيا بانغماسه الواعي والمدروس لقضايا الانسان وهمومه سواء في قضايا وجودية كالموت والحب... او في برامجه الآنية ـ الآن وهنا ـ ومخططاته للمستقبل ضمانا للحياة... طبعا لا يمكن للنص ان يُفلت من شروطه التاريخية... رغم إلحاح بعض المنفلتين من كهوف التاريخ على قدسية بعض النصوص... النص هو تفكير باللغة ولذلك هو تاريخي، وليأت من حيث شاء.
في قصيدتك «مرثية لغزالة الضوء» من مجموعتك «هل أفسر دهشتي» قلت ان اللغة انتهت، فهل يعني هذا انك مؤمن بمقولة موت اللغة والشاعر والشعر استتباعا لموت الايديولوجيا والمثقف والكاتب؟
ـ أنا لست مؤمنا بشيء ما... ثابت ومقدس... الاشياء متحركة لانها حية، والحياة هي الحركة، قد تكون لولبية، أفقية، صاعدة، او نازلة ولكنها تتحرك، وحين اقول ان اللغة انتهت، يجب ان يؤخذ هذا السطر او البيت الشعري في سياق النص. فأنا لست معنيا بتفسير شعري، ولكن دعني أصارحك بأن هذا السطر يرمز الى المعاناة التي يعيشها الشاعر وهو يزود ويُنازل اللغة... طبعا العلاقة ليست حداثية ولكنها في احيان كثيرة نزالية، اي ان الشاعر يفتك ما يريده من براثن اللغة المترهلة والمتكلسة والممزقة. إن النص هو ثمرة مجهود انساني شاق ومضن ولذلك حاولت ان أرسم بعض الصعوبات التي تعترض سبيل الشاعر ومنها تمزّق اللغة...أما ما ذهبت اليه في سؤالك من ميتات فهو موضوع فلسفي واجتماعي بالاساس ويمكن مناقشته ولكن دون تعجل وانبهار بالمقولات الرنانة والفاضحة لنفسها في حقيقة الامر... ما فائدة البكاء على الموت اذا كان سيأتي فانه لم يحن وقته بعد... أليست الحياة هي المنبعثة دوما من رماد الموت؟!
هل يصنّف كمال بوعجيلة مجاميعه الشعرية كتجارب منفصلة أم ان كل نتاجك الشعري هو تجربتك الوجودية التي لا تزال تنحت ملامحها؟
ـ لقد أجبت عن سؤالك بنفسك في شطره الثاني، واجمالا أنا لا أتصور الكتابة الا كمشروع متكامل، وما النصوص الا محطات داخل ذاك المشروع. سأعطيك مثالا: أحيانا تتداخل بدايات النصوص بشكل مربك ولا تدري اي نص سيكتمل وأيها سيبقى مشرعا الى مالا نهاية... إن الكتابة بالاساس ـ مثلما ألمحت في بداية حديثنا ـ هي عمل مفتوح ومشرع على المستقبل.
هل كمال بوعجيلة موغل في وهم من سبقوه الى الماء... مثلما كتبت في احدى قصائد مجموعتك الموسومة بهذيان سماء باردة؟
ـ الماء هو احد تغييرات الحياة، من منا يمكن ان يفهم هذا السطر؟ لا أحبذ كما قلت لك سابقا تفسير شعري واعترف انها مهمة شاقة وصعبة، وسأجوز القول ان التوغل في هموم ومشاغل الانسان واحلامه وآماله وطموحاته هي احد مكونات الشعر واحدى مهام الشاعر.
عندما تقرأ اليوم ـ بعد عشرين سنة ـ قصيدتك المهداة الى أبي القاسم الشابي «مرثية الارض السراب» هل تصنّف نفسك بمرتبة الشاعر النبيّ؟
ـ إذا كان الشاعر كما ألمحت هو المتذكر للمستقبل والسابح في تفاصيله، واذا كان النبي هو الحامل لأسراره فلا يمكن للشاعر الا ان يكون نبيّا... ولعل النبي يكون شاعرا... من يدري.
هل يعتقد كمال بوعجيلة ان تجربته الشعرية لم تحظ بما تستحق من النقد والقراءة؟
ـ لابد من توضيح الامر التالي: أنا لا أكتب لأجل النقد ـ أرجو ان يُفهم كلامي هذا ـ اي ان الحادث الذي جرّني الى فعل الكتابة لا يسمح لي بمغازلة مقاعد الدرس... والتصنيفات... ولا أشتكي عادة من غياب النقاد وعزوفهم عن دورهم الاساسي...التجربة تستفيد جدا من النقد، اي نص يستفز الناقد ويحرّك فيه رغبة الكتابة هو نص يحمل بالضرورة ما يستحق القراءة... ولكن اين نحن من هذا؟! لقد اصبحت الكتابة النقدية عندنا نوعين بعيدين عن النقد: فإما المصافحة الاخوانية المجاملة والمتزلفة لغاية في النفس او الكتابة الحاقدة والشامتة المتلصفة لعلة في نفس الكاتب والناقد وليست لعلّة في النص...بودي ان يرتقي النقد بشكل عام الى مصاف الابداع والعلم... وان لا يظل حبيس الاخوانيات والمجاملات او الاحقاد والكراهية...
ألا تظن ان كمال بوعجيلة كاسم أكبر من كمال بوعجيلة كنص شعري؟
ـ هذا السؤال لا يوجّه إليّ... هناك مختصون في مثل هذه المسائل يمكن ان تجد لديهم الجواب. هل ساهم
وجودك في باريس منذ 1998 في تأثيث تجربتك الشعرية وإثرائها؟
ـ وجودي في فرنسا منذ عشر سنوات ساعدني في فهم الكثير من الامور، اضافة الى الافادة الكبرى من الاطلاع على تجارب حديثة جدا في كل مجالات الفن والادب، علاوة على ما يمنحه السفر من انفتاح على العالم ومتعة استنشاق روائح القرى والمدن والنساء وسماع الاصوات المختلفة والتجوال عبر الامكنة وكأنك تسافر في الزمن... ان للرحيل مزايا على الكاتب لا تحصى ولا تعد.
وأنت البعيد في فرنسا كيف تقيم المشهد الشعري في تونس نتاجا وحركة؟
ـ احدى سلبيات هجرتي الى فرنسا ابتعادي عن الساحة الشعرية والادبية عموما في تونس... أكاد لا أعرف الا ما عرفته قبل سفري... الان العودة ممكنة... سأحاول الاطلاع على كل ما نُشر اثناء مدة غيابي للاستفادة منه ومواكبة الحركة الادبية في تونس وأرجو ان يساعدني الاصدقاء على ذلك.
في السنة القادمة سنحتفل بمائوية ابي القاسم الشابي، فهل لك ـ باعتبارك شاعرا ـ ما تقترحه بشأن هذا الحدث الشعري؟
ـ المنشطون والمختصون في شؤون الاحتفالات والمهرجانات يمكن ان تكون لهم مقترحات واراء صائبة ومفيدة، اما انا فلي نصّي ويسعدني ان احضر هذا الاحتفال بشاعر تونس الكبير.
في زمن الحروب وعودة الاستعمار بمختلف اشكاله هل يمكن للشعر ان يعود لجماهيريته مثلما كان في أربعينات وخمسينات القرن الماضي؟
ـ الجماهيرية. جماهيرية الشعر والفن عموما هي قضية مطروحة على وجه الخطأ... لست أدري متى كان الشعر جماهيريا ومتى كفّ عن ذلك، ولكن الذي أعرفه هو ان الشعر ظل موجودا ومبثوثا في كل أرجاء الدنيا، هذا ما ألاحظه من خلال تجوالي عبر قارات العالم ومدنه، لم أجد مكانا خاليا من الشعر، إطلاقا لم يحدث معي هذا.اما قضايا الشعوب المستعمرة والمضطهدة فقد يخدمها الشعر في حدود امكانياته دون ان نبالغ في ضرورة هذا الاستعمار والظلم لانتشار الشعر.أقول ختاما أننا لسنا في حاجة الى كل هذا الدمار والخراب كي يظل الشعر حاضرا.

2007/09/17

أفكار متقاطعة 31

حنظلة الذي لا يموت

قد تُقرأُ علاقة قلم الرصاص بالممحاة وجوديا كعلاقة الحياة بالموت من حيث المعادلتين الموضوعيتين ولادةٌ / كتابةٌ من جهة وقبرٌ / محوٌ من جهة ثانية، وقد تُقرأُ سياسيا كعلاقة المقاومة الفلسطينية بالاستعمار الصهيوني من خلال المعادلة الموضوعية للصراع الأبدي بين القاتل والضحية أو من خلال فعلي البناء والهدم أو بين الرسم والطمس، ولكنها مع ناجي العلي لن تقرأ إلا ضمن سياق متجانس ومتناغم، من حيث المعادلتين الاستثنائيتين حياةٌ / حياةٌ ومقاومة / مقاومة ذلك أنه المشرّد، إبن المخيمات مثّل «وحدة عضوية شمولية تكاملية للفعل المقاوم « منذ أن حمل بحنظلة فكرة فوق رمل الصحراء العربية الملتهبة الى أن باغته المخاض بمخلوقه الشكليّ وهو منفي في صقيع الشوارع الأوروبية القارس، ليظل «حنظلة كأيقونة تحفظ روحه وتحفظه من الانزلاق» محققا بذلك خلودا وجوديا في ذاكرة الورقة البيضاء التي سترسم فوقها خريطة فلسطين المستقلة من الداخل والخارج ... ومُحققا خلودا ميتافيزيقيا بعد أن محا بقلم رصاصه كل ما خططت له الممحاة الصهيونية لما رسم منشوره الكاريكاتوري بالأبيض والأسود : « فلسطين ثورة وبركان من داخل الخيمة»...
يقول الكاتب السوري عبد الله أبوراشد عن تمفصلات مسيرة الشاهد والشهيد ناجي العلي : «ثلاثة مفاصل تاريخية رئيسية رافقت مسيرة الأحزان الفلسطينية في حياة الشاهد والشهيد ناجي العلي : الأولى مترافقة لمرحلة الولادة وما قبل عام التشرد في حروب النكبة 1948 .وواقع الغربة ما بين عامي 1948 ـ 1974 الثالثة شاهدة على يوميات الجراح الفلسطينية الدامية والانهيارات المتوالية ما بين أعوام 1974 ـ 1987 «. ومنذ أن وُلد ناجي العلي في قرية الشجرة بالجليل الأعلى بفلسطين سنة 1936 الى أن اغتيل بلندن يوم 29 أوت 1987 لم يكفّ قلم رصاصه عن التحريض والتعبئة ضد الاستيطان الصهيوني والتواطئ العربي حيث كانت كل رسومه رسائل مفتوحة واضحة الشيفرات والرموز ... الاستقلال التام لفلسطين وحق العودة للمشردين المتناثير في أصقاع الدنيا قسرا...ترحاله الجغرافي قسرا من أرض لأخرى لم يدخله في ترحال إيديولوجي أو تنقل مبدأي... بل كان مع كل محطة جديدة يُطوّر طاقته الابداعية ويطوّع الورقة البيضاء وقلم الرصاص لتغذية روح المقاومة والدفع بجذوتها نحو الذّرى ... كان يرفض «الحياء» باعتباره قيمة اجتماعية وبالمقابل يذهب بعيدا نحو «الوقاحة الفكرية» ليضمن عدم أكل قلمه الرصاص أو قضم لسانه مع ورقة الرسم ... إنه بعبارة سليم دولة «لم يكن وقحا فقط وإنما كان سعيدا بتلك الوقاحة، متحملا لتبعاتها»... كان مؤمنا ـ مثل محمود درويش ـ أن : «في عنف السلاسل ... مليون عصفور على أغصان قلبي ... يُخلَقُ الحنظل المقاتل»...الذكرى العشرون لإغتيال ناجي العلي تنطلق كفراشة قزحية مثقوبة برصاصة على ذاكرة النسيان والتجاهل، ذاكرة الصمت والخوف التي استحالت الى كيس من الرمل يعسُر معه السير، مثلما وصفها (الذاكرة) الكاتب الجزائري الطاهر بن جلون ، ذاكرتنا المسكونة بأشباح الامبريالية الأمريكية والصهيونية العنصرية... الذكرى العشرون لإغتيال ناجي العلي الذي مشى الى قبره بلا وجل لتحيا فلسطين مستقلة ويفك حنظلة يديه المعقودتين الى ظهره، تنطلق اليوم رصاصة حيّة تُخرج القيم والمفاهيم من قمقم اللغة الرثة الى عظمة الفعل الحي المنبثق من المعادلة الوجودية : الحرية تساوي الموت والموت يساوي الحياة... آلاف الرسومات الكاريكاتورية التي تركها لنا ناجي العلي ستظل شوكة في حلق أولئك الواقفين على الربوة يلوكون الوقت ويمضغونه جيئة وذهابا في الشوارع الفسيحة، والمترصدين لابتسامات مضيفات الطائرات التي تقلهم نحو وهم السلام ووهم المفاوضات...

2007/09/11

أفكار متقاطعة 30

اغتصاب التاريخ

بعد اغتصَاب الأرض العراقيَّة وانتهَاك حُرمَات جغرافيا ما بين النهرين، وبعد اعدام الرئيس الشرعي لجمهورية العراق العربية صدام حسين جاء الان دور اغتصاب التاريخ بعد السّرقات والنّهب وطمس معالم حضارة بلاد الرافدين في اطار مشهدي سينمائي...صدّام حسين برؤية صهيوأمريكية هي ذي الآن ورقة بريطانيا وامريكا... ورقة الثقافة الغازية... ذلك ان هيئة الاذاعة البريطانية BBC ستنتج قناتها الثانية فيلما عن حياة ومسيرة صدام حسين وقد اختارت هذه القناة ممثلا صهيونيا لتقمص شخصية الرئيس العراقي ويدعى الممثل «يغال ناؤور» (48 سنة) بعد ان كان سيتقمص شخصية الرئيس ممثل امريكي الجنسية، والفيلم سيكون بعنوان «بين النهرين».
طبعا هذا الانتاج الصهيو -أمريكي لن يخرج عن اطار التشويه والتزييف لمسيرة الرجل وحياته اثناء حكم العراق ولن تكون قراءة الواقع والتاريخ العراقيين وفقا لمعطيات وحقائق الواقع والتاريخ العراقيين إلا بما سيخدم الآلة الصهيونية والعقل الصيهوني لتعزيز استحواذه على مستقبل المنطقة بعد ان امّن ماضيها المنغرس في فلسطين ولبنان وما جاورهما... وسيكون فيلم «بين النهرين» مثل رواية «أرض الميعاد». ولن يضاهي دور الممثل الصهيوني «يغال ناؤور» في «بين النهرين» دور «أنطونيو كوين» في فيلم «عمر المختار» الذي أخرجه المخرج العربي/ العالمي مصطفى العقاد والذي أُغتيل هو الآخر عن طريق الموساد الصّهيوني..إن توظيف الثّقافة كسلاح حربي يمثل استراتيجية قديمة وهي مستمرة الى الآن لنجاعته وفاعليته، وهو أيضا مستمر هناك، عند الآخر المستعمر ويكفي أن نذكر مدخل نابليون بونابارت لمصر... أما عندنا نحن فالثّقافة كسلاح وجود، هي مقبورة بأيادينا نحن... أيادي السلطة الرجعية والسلطة المتواطئة مع الاستعمار....فالفيلم السياسي والمسرح السياسي والرواية السياسية والشعر السياسي... كله مُصادر ومُطارد من قبل السّلطة السياسيّة فلا غرابة أن يُغتيل غسّان كنفاني وناجي العلي، ولا غرابة ان يجنّ محمد شكري ويُنفى عبد الرحمان منيف، ولا غرابة أن يُغتال سعد الله ونوس وأن يُحاكم عاطف الطيّب ويُحاصر مظفر النواب وأحمد عفيفي مطر ومنوّر صمادح...وفي المقابل تنخرط الآلة الثقافيّة الرسميّة في تمجيد وأسْطَرَة السيد الرئيس الحاكم بأمره وتمجيد وأسطرة الحزب الحاكم الواحد الأوحد وتوظف كل مدّخرات شعبها وبلادها لترويج فلكلور مشوّه وشعوذة بائسة، وتكرّس ثقافة منبتّة لا تمتلك أفقا ولا استراتيجيا، ويكفي أن نقف على الموجة الجديدة للسينما المصرية أو الإطار العام لمسلسلاتنا التونسية ولبرامج المسابقات والاغاني لنلاحظ عمق الهوّة الفاصلة بين الرؤيا الصهيونية والأمريكية في مجال استثمار الثقافة والرؤيا الثقافية العربية في مجال طمس وردم الثقافة...هل تحرّك المثقف العربي أمام انتاج هذا الفيلم عن الرئيس العراقي صدام حسين قبل أن يتم انجاز الفيلم وعرضه؟! أبدا إنه لن يبدي ساكنا، فهو منخرط في ولائمه ومآدبه وفي مشاريعه الثقافية الشاحبة، وحتى نقابة المهن التمثيلية بمصر لم تتحرك إزاء هذا الفيلم ـ الذي ستصوّر مشاهد منه في تونس ـ الا ليُحقّق مع ممثل مصري (عمرو واكد) كان سيشارك في هذا الفيلم... تحرّكٌ لم يخرج ـ كعادتنا ـ عن اطاره الاني والمصلحي الضيّق، فما يهم نقابة المهن التمثيلية هو عدم مشاركة عضو منها في الفيلم وليس انتاج الفيلم في حد ذاته... هذا موقف نقابة المهن التمثيلية بمصر فلنبكي كثيرا وطويلا عن موقف من ليست لهم نقابة تمثلهم... ولنبكي أبد الدهر عن موقف المثقف العربي قبل أن يتم إخراجه نهائيا في الزي الصهيوني بعد حين قريب...

2007/08/20

أفكار متقاطعة 27

قليبية والسينما الهاوية

عندما كانت قاعات السينما تواصل تقهقرها الى الوراء بإصرار وعزم أسطوريين، كانت مدينة قليبية تسابق الريح وتُجنّح عاليا وهي تعرض الافلام والاشرطة السينمائية على بياض الجدران والحيطان...وعندما كانت قاعات السينما بالعاصمة وبمختلف ولايات البلاد تتنافس فيما بينها للفوز بأولوية اعادة الافلام التي تعرض كل ليلة في الفضائيات... كانت مئات السيارات تقل الناس وتتجه الى مدينة قليبية لمتابعة افلام عالمية تعرض لأول مرة بتونس...وعندما كان بريق السينما المحترفة / التجارية يخفت ويتوارى في ظلمة الدهاليز الموحشة، كانت السينما الهاوية تزداد تألقا... تتوهّج وتشعل الحرائق فتغذي العقول وتشحن القلوب لتكون النقاشات البنّاءة والافكار الخلاقة متاريس ضوئية ضد التسطيح السينمائي والتعليب المشهدي...
لقد تحولت مدينة قليبية الى قاعة شاسعة لعرض الافلام ومناقشتها... لقد صارت قلعة شامخة بما تقدمه كل سنة ـ طيلة ربع قرن تقريبا (23 سنة) ـ من نجاح وتميز ان على مستوى اختيار المادة السينمائية، وان على مستوى صدقية منح الجوائز والحوافز، وان على مستوى حسن التنطيم... حيث تتضافر هذه العوامل الثلاثة في كل دورة من مهرجانها السنوي لفيلم الهواة لتؤمن في كل مرة دورة ناجحة لا تصنف على انها تدخل في باب التراكم الكمّي بقدر ما تؤكد انها دورة نوعية ودورة مؤسسة...وها هي الدورة 23 لهذا المهرجان الدولي (رغم موت أحمد بهاء عطية أحد مؤسسي هذا المهرجان) تؤكد بما لا يدع مجالا للشك بأن أفق هذا الفعل الثقافي لا تسوّره أسوار وبأنه أفق اللامنتظر... اذ تناثرت في هذه المدينة المكتنزة بشهوة الصورة، الافلام صدفا ومرجانا فطوّقت عُريشات قلوب المهوسين بالسينما الخلاقة، بالسينما التي تغير وتطور وتتقدم بمريديها ومشاهديها... سينما صمبان عصمان التي شرحت التفاوت الطبقي في داكار... سينما باولينهو كادوزو التي وقفت على عمق المشكلات الاجتماعية بالبرازيل... سينما وسام شرف وهو يدربنا على الانضباط لجيش النمل والذكريات القديمة... سينما وائل نور الدين وهو يقفز كالمعتوه بين قنابل القصف الوحشي للطيران الصهيوني على القرى والمدن اللبنانية... سينما شادي سرور وهي تعلمنا ان حيفا هي الأنا والأنا هي فلسطين وفلسطين والأنا معا هما الحرية والعالم الحرّ... سينما وليد مطار وهو يرجمنا بحب البلاد ويحرّضنا على الهجرة السرية في دواخلنا العاطفية والايديولوجية والثقافية لنعرف كيف نهاجر من تونس في العلن ولا نهرب منها... سينما شريف البنداري تفتح على مشاهديها خزانة الاحزان فتعلمهم كيف يكون الحزن بطعم الورد ورائحة الصباحات الندية...سينما... سينما... قليبية... قليبية... تجريب خلاّق وتثوير مدروس... أفق ممتد في المدى وأديم من الاصرار والثبات والمغايرة والاختلاف... إضمامة من التحايا والتصفيق... قبلات وعناق... وعود صغيرة وأكياس من احلام الشباب ـ شباب الفكر لا العمر ـ تترقرق في عيون هواة السينما ومريديها... شباب يحج كل سنة الى قليبية، زادهم دقائق معدودة هي عمر الفيلم وطموح بأن يظلوا أبد الدهر هواة ومريدين لئلا تصيبهم لعنة الاحتراق وظلمة القاعات النائمة في الشوارع الباهتة...

2007/08/14

أفكار متقاطعة 26

عن الكرة العراقية

منذ أن سجّل المنتخب الوطني العراقي لكرة القدم هدفه في شباك المنتخب الوطني السعودي الذي حاز به ـ عن جدارة ـ كأس الأمم الاسيوية في نسختها الأخيرة ووسائل الاعلام تتورّط يوما بعد آخر في تمجيد هذا المنتخب وأسْطرة هدف يونس محمود، فقد تجنّدت الفضائيات العربيّة والاذاعات الدولية والصحف والمجلات والمواقع الالكترونية في الحديث عن هذا الحدث الكروي العراقي وعن مسيرة منتخب الشتات الذي جمّعه المدرب البرازيلي وأوصله الى منصّة التتويج أمام منتخبات عريقة لها تاريخ وأمجاد كرويّة..
وللتاريخ، يُعتبر انتصار المنتخب العراقي وفوزه بكأس قاريّة معجزة وخارقة تاريخيّة بالنظر لطبيعة هذا المنتخب وحال بلاده وشروط تماسكه ولُحمته... ولا أحد يمكنه أن ينكر روح الانتصار والثأر ربّما التي غذّت لاعبي فريق الرافدين وارتفعت بهم الى أعلى درجات التتويج.. ولكن هل بلغ فوز منتخب العراق مبلغا صار معه الحديث عن فوز العراق شعبّا وحضارة أمرا مشروعا؟!أعتقد أنّ انسياق وسائل الاعلام في تمجيد مبالغ فيه أمر يجب الوقوف عنده بالنظر والتدقيق، فجل وسائل الاعلام وخاصة منها القنوات الفضائية التي تواصل الى الآن اعادة بث مقابلة السعودية والعراق وأهازيج النصر هي نفسها الفضائيات التي توارت في الانظار وتناست أخيار الموتى والشهداء الذين يسقطون يوميًّا بآلة الحرب الأمريكية...ثمّ انّ انتصار المنتخب العراقي هو انتصار فئوي ـ لا يهمّ الشعب المنكوب بقدر ما يهمّ فئة قليلة من العراقيين حتى لو أوهمتنا التلفزات بعكس ذلك... فالرياضة عموما وكرة القدم خصوصا، مثلما تؤكّد الدراسات السوسيولوجية والأنثروبولوجيّة، هي المشجب المثالي الذي تعلّق عليه الشعوب المتخلفة خساراتها وسياساتها الرجعيّة اذ أنّها تجتهد في تحويل وجهة شعوبها المفقرة عن قضايا التنمية والتقدّم وقضايا الحريات وحقوق الانسان الى الملاعب والمنافسات الوهميّة وهذا لعمري ـ ما يعيش فيه العراق اليوم بأسطرته لنصر لن يضيق لتاريخ الحضارة العراقية والشعب العراقي ـ شيئا...ولو تنبهنا مثلا الى كرة القدم الأمريكية أو الاسرائيلية لوقفنا على عمق المفارقة بين الدول ذات الاستراتيجيات المرسومة بدقة والدول التي تتهاوى في صحراء الزمن كالإبل التائهة...إنّ الحدث الكروي هو حدث آنيّ زائل وهو أيضا حدث فئوي لا يعبّر عن طموح شعب ما أو أمّة ما بقدر ما يحجب عنها واقعها الأليم ومستقبلها الضبابيّ... والمتابع الحصيف لما يجري ويحدث على أرض العراق من انتهاك متواصل وتخطيط يومي تدبره آلة الخراب الأمريكيّة وتُعزّز ها العقول الصهيونية المتخفيّة في جلباب مؤسسات اعادة إعمار ما دُمّر واعادة بناء ما هُدّم... سيتأكّد من أنّ التورّط في الفرح هو عينه التورط في الوهم... وسيعلم الجميع بعد زمن أنّ النصر الحقيقي ليس نصر الكرة إنّما هو نصر التاريخ العراقي ـ والشعب العراقي... فالكرة تظلّ بالأخير جزءًا ـ ليس مهمًا ـ في حضارة الشعوب، ولا يمكن المراهنة عليها الاّ زمن القوّة والاستقرار مثلما يحصل الآن في الدول الأوروبية وفي بعض دول شرق آسيا
...

2007/08/07

حوار مع امين عام اتحاد الوفاء اللبناني

الشعب تلتقي أمين عام اتحاد الوفاء للعمّال والمستخدمين بلبنان الأخ الحاج هاشم سلهب
مواقف الاتحاد العام التونسي للشغل ساهمت في صناعة النصر التاريخي والاستراتيجي للبنان


تقوم الحركة النقابية العربية على تمتين العلاقات وتوطيدها بين مختلف الهياكل النقابية والعمّالية في مختلف الأقطار العربية، حيث تتوالى زيارات الوفود وتتنوّع الندوات المشتركة لتتوحّد صفوف النقابيين والنقابيات في الوطن العربي من أجل عزّة وكرامة العاملة والعامل في المصانع والمؤسسات وفي مختلف مواقع الانتاج...
وتتميّز علاقات الاتحاد العام التونسي للشغل بكل الهياكل النقابية والعمّالية في الوطن العربي بديناميكية وحركيّة متواصلة وخاصة مع نقابات وعمّال سوريا وفلسطين والعراق ولبنان، حيث يبرهن الاتحاد العام التونسي للشغل قيادة وقواعد في كل مرّة عن انشغاله العميق بخصوصية الوضع في هذه الدول العربية الأربعة التي تعاني ويلات الإستيطان الصهيوني والاحتلال الأمريكي والتفكك الطائفي.. ويسعى الاتحاد العام التونسي للشغل في كل مرّة لمؤازرة هذه الاتحادات والوقوف الى جانبها في محنها ولعل زيارة الأخ الحاج هاشم سلهب الأمين العام لاتحاد الوفاء للعمال والمستخدمين بلبنان والأخ ناصر نزال رئيس نقابة عمّال النقل البحري بلبنان، بدعوة من الاتحاد العام التونسي للشغل دليل قاطع على الايمان العميق بتكثيف التشاور والتعاون والتنسيق والافادة بما اكتسبه الاتحاد العام التونسي للشغل من خبرة نقابية صارت مضربًا للمثل في المحافل الدولية واللقاءات العمّالية العالميّة.«الشعب» انتهزت وجود الأمين العام لاتحاد الوفاء للعمّال والمستخدمين بلبنان الأخ الحاج هاشم سلهب بيننا وأجرت معه هذا الحوار ليقف من خلاله القرّاء على حيثيات هذه الزيارة.
الأخ الأمين العام تأتي زيارتكم هذه لتونس في إطار دعوة من الاتحاد العام التونسي للشغل، فهل هي دعوة صداقة أم دعوة عمل؟
ـ هذه الزيارة ترجمة لعدّة أهداف أهمّها التأكيد على الصداقة بين نقابيي لبنان ونقابيي تونس، وهذه الصداقة هي التي تنتج بطبيعة الأمور أنشطة مشتركة وعمل ثنائي بين الاتحادين ولذلك فهذه الزيارة هي أيضا زيارة عمل حيث أثمرت عددا من الاتفاقات من شأنها أن تترجم صدق العلاقة بين عمال تونس وعمّال لبنان وبالتالي بين شعبي البلدين في العديد من القضايا الوطنية والقومية، ثمّ انّ هناك هدفا أساسيا آخر من الزيارة فللشعب التونسي ولعمّال هذا الوطن وللاتحاد العام التونسي للشغل حق وواجب علينا نحن اللبنانيون.يتمثّل في شكرهم على المواقف الداعمة للبنان ومقاومته التي عبّروا عنها أرقى تعبير وأجمل تعبير ابّان العدوان الصهيوني على لبنان في السنة الماضية حيث كان لمواقف نقابيي تونس بالغ الأثر في نفوس اللبنانيين وكان لها عظيم الوقع والتأثير من حيث أنّها ساهمت في صناعة النصر الإلهي والتاريخي والاستراتيجي الذي نحتفل في هذه الأيّام بذكراه السنوية الأولى. وأودّ من منبر «الشعب» الصوت الهادر والصادق والمعبّر عن هموم الشغالين وقضاياهم وإرادتهم الوطنية والقومية أن أتوجّه الى عمّال تونس والى الشعب التونسي بأسمى آيات التقدير والاعتزاز والفخر والشكر بإسمي وبإسم العمّال اللبنانيين وبإسم المقاومة اللبنانية.ورسالتي لهم أن يكونوا دائما في مستوى الآمال والطموحات التي تجمعنا في مواجهة التحديات التي تحيط بالأمّة العربية ولنكن جميعا كلمة واحدة متراصة حتى نحقّق الانجازات الكبرى وهي الحرية والتحرّر وابراز المجد العظيم الذي تتمتّع به أمتنا العربية التي كانت وستبقى عظيمية أبية في قوّتها ومقاومتها... فتلك هي ثقافتها وذلك هو وجدانها النابض بحب الحياة الكريمة.
الأخ الأمين العام وقعتم يوم 31 جويلية 2007 بلاغا مشتركا مع الاتحاد العام التونسي للشغل، فماهو فحواه؟
ـ الزيارة التي قمنا بها الى تونس سمحت لنا بالتشرف بلقاءات عديدة مع النقابيين التونسيين في مختلف القطاعات والهياكل وعدّة اتحادات جهوية مثل تونس ونابل وتوّجت بلقاء مثمر ومفيد جدّا مع المناضل النقابي الأخ عبد السلام جراد الأمين العام للإتحاد العام التونسي للشغل، صاحب النظرة الاستراتيجية الثاقبة في العمل النقابي ليس على المستوى الوطني فحسب وإنّما على المستوى العربي والدولي وشعرنا في حديثه أنّه يحمل قلبا ينبض بالحركة والنشاط ويحمل آمال وآلام عمّال العالم العربي أجمع وحركتهم النقابية من المحيط الى الخليج. والاتحاد العام التونسي للشغل الذي يقود نضالا رائدًا في حركته المطلبية وفي دفاعه عن حقوق العمّال والذود عن كرامتهم يمثّل محطّة ومنهلاً لكل النقابيين ومن هنا تأتي زيارتنا للنهل من هذا المنهل الفياض والاستفادة من التجارب المتراكمة بهذا الصرح والمعقل النقابي العريق في ميادين نضاله الواسعة وتجاربه الناجحة في الدفاع عن حقوق العمّال ومكتسباتهم وأيضا في علاقاته العربية والدولية التي ما فتأت تسجّل انجازا تلو الإنجاز وتثبت جدارتها وفاعليتها في نصرة قضايا العمّال في جميع المحافل الاقليمية والدولية.أمّا فيما يخصّ البلاغ المشترك الذي وقعناه يوم 31 جويلية 2007 بمكتب الأخ محمد الطرابلسي الأمين العام المساعد المكلّف بالعلاقات الخارجية فقد جاء نتيجة طبيعية لتطابق وجهات النظر بين الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الوفاء لنقابات العمال والمستخدمين في لبنان فيما يتعلق بدور الحركات النقابية العربية لنصرة قضايا الأمة العربية وحماية مقدّراتها واثبات قدرتها على ادارة شؤونها الاقتصادية والاجتماعية بكل جدارة من دون تدخل أجنبي أو فرض المشاريع التي لا علاقة لها بالمصالح الوطنية والقومية لأمتنا بقدر ماهي تعمل على تحقيق مصالح الإمبريالية العالمية الأمريكية خاصة والأوروبية.وأهم ما في هذا البلاغ المشترك هو التعبير العملي عن احتفاء عمّال تونس ولبنان بالنصر الذي تحقق على الكيان الصهيوني الغاصب من خلال مشروع حديقة التضامن التونسي ـ اللبناني في بيروت تعبيرا عن وحدة الشعبين ووحدة عمّال تونس وعمّال لبنان في مواجهة أي شكل من أشكال العدوان وتمسكهما بحق لبنان بتحرير كامل التراب اللبناني وأن يبقى دائما قويا قادرا على نصرة الشعبين الفلسطيني والعراقي والشعب السوري وهذه الحديقة سيفتتحها الأخ عبد السلام جراد الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل أثناء الاحتفالات التي تقام في الذكرى الأولى للإنتصار في شهر أوت.
الأخ الأمين العام التقيتم عدّة وجوه نقابية وزرتم عدّة اتحادات جهوية وقطاعات فماهو انطباعكم على طبيعة النشاط النقابي في تونس؟
ـ الحركة النقابية التونسية حركة ناشطة وحيوية وفاعلية ويظهر ذلك في نشاطها المؤسساتي وترابط جهاتها وقطاعاتها وهذا النسق العالي في التنظيم اضافة الى الوعي والحكمة في التعاطي مع قضايا العمّال وشؤونهم والدراسات الاستشرافية والمخططات الاستراتيجية والاحصائيات الميدانية التي تقوم بها دليل على جدية المتابعة والحرص على النجاح في الدفاع عن حقوق العمّال وحماية مكتسباتهم في شتى الميادين الاجتماعية والاقتصادية وأكثر ما شد انتباهي الحرص اللامتناهي على ممارسة الديمقراطية في صناعة القرار وهذا الإلتزام الصادق من قبل نقابيي تونس بوحدة كلمتهم والتفافهم حول قيادتهم المركزية والشرعية هو مصدر القوة الحقيقية التي يعوّل عليها في دربه النضالي ورسالتي الى نقابيي تونس أن لا يشعر أحدنا بقيمة وحدة الحركة النقابية ونعمة هذه الوحدة إلاّ إذا افتقدها لا سمح اللّه أو تعرّضت لأي خلل.

2007/07/14

الشيخ امام عيسى

حيّ يغنّـــي في بنعروس

تحول مقر الاتحاد الجهوي للشغل بجهة بنعروس بتونس العاصمة يوم الجمعة 6 جويلية 2007 الى محضنة لتربية الأمل على شفاه صغار الجهة وكبارها على حد السواء بمناسبة الاحتفال بذكرى مرور 12 سنة على وفاة رائد الأغنية المناضلة الفنان الشيخ إمام عيسى حيث إنداحت كل الحناجر طلقة على سجيّتها تردد ما قطفته من بستان الكلام المتسربل بأيامنا الشعبية وايقاعات خطواتنا الرافلة في حرير التعب والاصرار ... كلمة أحمد فؤاد نجم وألحان الشيخ إمام عيسى ...
بجهة بنعروس إلتحمت كل الأجيال بأوتار العازف محسن بن أحمد لتنشد سمفونية الدرب الأخضر ... ووقفت مشدوهة أمام كلمات عم خميس المولدي زليلة صاحب بابور زمّر ...
سرب حمام أبيض
بعد كلمتي الترحيب التي جاءت على لسان الأخت وسيلة العياشي عضوة المكتب التنفيذي الجهوي والأخ محمد المسلمي الكاتب العام للاتحاد الجهوي ببنعروس وبعد عرض مقتطفات من حفلات متعلقة بذكرى الشيخ إمام عيسى استمتع الحضور بعرض موسيقي لأغاني الشيخ إمام تشابكت فيه حناجر الأطفال بالشباب والكهول لتأمنه في تواصل موسيقي وجينيا لوجي... حيث غنى كل من مراد جاد «دوريا كلام» و»أتوب إزاي» وغنت هيفاءالهمامي وفوزية الهمامي أغاني «يمة مويل الهوى» و «رجعوا التلامذة» و «إيدوشمعة» في حين غنت نداء الهاني أغنيتي «يا حبايبنا» و «كل عين تعشق حليوة» وغنّت الطفلة رؤى أغنة «البحر بيضحك ليه» وغنّت يا سمين الطرابلسي أغنيتي «حاحا» و «الأولى بلدي».الحفل الذي أمن إيقاعاته محسن بن احمد من مجموعة العودة وعازف الناي عمار القاسمي من مجموعة الحمائم البيض أوقع الجميع في الغناء والإنشاد.
البابور لم يزمر
«عم خميس»، المولدي زليلة صحاب كلمات أغنية بابور زمر التي أداها الفنان الهادي قلة أكد في جهة بنعروس أن سنواته التسعين لا تضاهي شيئا أمام تلك الحناجر الندية التي جعلته يقفز الى الركح ليغني مع الاعلامي الحبيب بالعيد والمناضل الهاشمي بن فرج والأخت وسيلة العياري والأخ محمد المسلمي وكل الحضور أغنية الشيخ إمام عيسى «مر الكلام» ... غنّى عمّ خميس بدار الاتحاد وعمره فاق التسعين بأشهر ليكرّم أبناء الاتحاد وهم الذين أغرقوه بالورد ... لحظات حميمية عاشها أبناء الاتحاد الجهوي ببنعروس لا أخال أن كاميرا الأخ رضا بن حليمة ستزوغ عن التقاطها والإحتفاظ بها شاهدة على فورة هذه الجهة بما تقدمه كل مرة من برهان ساطع على أن مبادئ الاتحاد نضالا وثقافة هما نبراس الاستمرار وجمرات الإتقاد...

أفكار متقاطعة 24

غسّان كنفاني ونشيد الكلام العـالي


قياسًا على ذلك التَّركيب الذي أورَدَه غَسّان كنفاني ضمن تقديم كتَابه «في الأدَب الصُّهيوني» والذي يقول فيه «إن الصُّهيونيَّة الأدبيَّة سبقَت الصهيونيَّة السياسيَّة.» يُمكننَا أن نَتَجَوَّزَ ونكتُب أن فلسطَين الأدَب والشّعر سبقت فلسطين المفَاوضَات والاتّفَاقَات... فوحدهُ المقلاعُ الفلسطينيُّ والحجرُ الفلسطيني يظلُّ كالزَّغَب يَتَنَاسَل ويطولُ على جَسَد كل فلسطيني وفلسطينيَّة من أتُون شعر محمود درويش وسَميح القَاسم وعزّالدين المناصرة ومن رُسُومات ناجي العلي ومن نثر غَسّان كنَفَاني وهشَام شَرَابي وإدوارد سَعيد وإميل حَبيبي وإليَاس خُوري (بعد أن انخرط في الجبهة الشعبية)...
وإذا مَا كَان الأدَب الصهيوني أقرَب إلى «سَمْفُونية دَعَاويَّة وإعلامية» فإن الحبر الفلَسطيني لا يَزال يَرسم على الجدار اللُّغوي شَذَرَات الخَلق والإبداع ... فكلّمَا انفَتح قَبرٌ على قلمٍ استمر النَّشيد الملْحَمي بمدَاد الإصْرَار في دَربه نَحو سَاحَة البُرتقَال من دون أسْيجَة شَائكة ولا غَمَامَات سَودَاء... وكأنَّ كل قلم فلسطيني هو ألْفُ عام من اللَّحظة العَربيَّة...
غسّان كنفَاني، صاحب «أم سعد» وزارع «أرض البرتقال الحزين» و"وَاحد من الرّجَال" الذين قَاتَلوا «في الشَّمس»، غَسّان كَنَفاني «العَاشقُ»، «العَائدُ إلى حَيْفَا» ... قَبل أسبوع واحد مَرت علَى استشهَاده 35 سَنة كَاملة...
وغَسَّان كنفاني من مَواليد مَدينة عَكا الفلَسطينيَّة في سَنة 1936 عَاش في يَافَا ثم نَزَح إلى جَنوبي لبنَان بَعد نَكبَة 1948 ثم انتَقَل مَع عَائلته ليعيشَ في دمَشق.
عَمل كنفَاني معلمًا للتَّربية الفنيَّة في مدارس وكَالة غَوث اللاجئين الفلسطينيّين (الأونروا) في دمشق ثم انتقل إلى الكويت عَام 1956 حيث عمل مدرسا للرَّسم والرّيَاضة وعملَ في الأثناء في الصّحَافة وبَدأ في نفس الفترة يكتب قصصه ورواياته ومسرَحيَّاته ودرَاسَاته النَّقدية.
في بيروت عملَ محررا أدبيَّا لجَريدَة الحُرية ثم صَار رَئيسًا لتَحرير جَريدة المحرّر عام 1963 وعملَ في صَحيفَتي الأنوار والحَوَادث حَتى عَام 1969 . أسَّس صَحيفة الهَدف وظلّ رئيسًا لتَحريرهَا حتَّى استشهَاده يَوم 8 جويلية .1972
غسّان كنفَاني عَاش يبْني عَلَى الرَّمْل مَا تَحْملُهُ الرّياح ... عَاش يُرَبِّي الأمَلَ ... ويكتب للنموذج الفلسطيني ولطريق استرداد الأرض...
لَقَد كَتَب غَسان كنَفاني أغنيَة شَعبه النّضَاليَّة... وَرَفَع أوتَاد خَيمته اللّغوية لتجْمع ما شتَّتَهُ «رجَال السّيَاسة»... لأنه ظل يَدْرسُ ويُدَرّسُ في مَدرسة الشَّعب... فلسطين... ويَكفي أن يقرأ واحدٌ منّا، نَحن أشباح القلَم والجُرح، هذا المَقطع الذي بَدأ به غَسان كَنفَاني روايتَه الأشهَر»أم سَعد» لنَكتشف وَهَنَ وُجودنا وكذبَة مشيَتنَا...
يَقول غسان عن أم سعد : «أم سَعد امرأة حَقيقيَّة، أعرفُها جيَّدا، ومَازلتُ أرَاها دائمًا، وأحَادثُها، وأتعلَّم منهَا، وتَربطُني بها قَرابة مَا، ومَع ذلك فَلم يَكن هذا بالضَّبط، مَا جعلهَا مَدرسَة يوميَّة، فالقَرابة التي تَربطني بهَا واهيَة إذا ما هي قيسَتْ بالقَرابة التي تَربطها إلى تلكَ الطَّبَقة البَاسلَة، المسْحُوقَة والفَقيرة والمَرميَّة في مُخَيَّمات البُؤس ، والتي عشْتُ فيهَا ومَعها ، ولَستُ أدري كَم عشْتُ لهَا».
هل يعلمُ الفلسطينيُّ كم عاشَ لوطنه؟ وهل يعلمُ الصُّهيونيُّ كم من سَعْدٍ سيُولَد من السَّنابل المتسَامقَة فَوق الأرض الفلسطينيَّة والمتَهَاطلة من وَجَع الوَلاَّداتِ... ؟...
سَيظلّ الرَّصاص الشَّعبي سَائرا جَنبًا إلى جَنب مَع النَّزيف الحبري، شعرا ونثرا وإيقاعًا ليَصلاَ الشّريان بالشّريان ويَضُمَّا حَبات التُّراب الفلسطيني خارجين عن النَّص الرَّسمي وعن مَآدب التَّقسيم وإعَادة التَّوزيع ... فالنَّص الشَّعبي والحبر الفلسطيني لا يُهدران وقتهما وسَيلهما خَيالاً واستشرافًا واهيَا بعيدًا عن اللَّحم الممَزق وعن جُغرافيا الشَّتات...
وحده نَشيد الكَلام العَالي يَرتفع كصَارية خَضراء ليترك انْشقَاق الشَّقَائق وانقسَام الوَاحد واختلاف اللَّون وانشطَار الطَّيف...
تَمَّحي الصُّور المشوَّشَة لأعْلاَم لفَرط تَعدُّدها غَاب عنّا نَصها الخَطابي السّياسويّ لتَظل في عُرَيشَات القَلب والذَّاكرة مَرساةُ المجَاز الشّعري والسَّرد المُتَسَرْبل بخطوات أم سعد وضَفَائر جَفْرا تَحْبِكُ أسْطورةً لشعب مُتَوَحّد في المُقَاومة نَصًا ودَمًا... ودُونَهُمَا عَدَمٌ ونَدَمٌ...

2007/07/04

في قلب الكنغرس

من الحمق التصديق بحسن النوايا

لَمْ يَكن بوسْع خَيَالي، رَغْمَ جُموحه، أن يَصل به النَّسج والتوليفُ يوما مَا الى تَخيّل واستيعَاب مَا كُنْتُ بصدد فعله ومُعايشته مُنذ شهر وبضْع أسَابيع خَلَت... انسقتُ وراء خطاي التي بَدَت تَرفُس بتُؤدة وثبَات رُخَام الأروقَة الفسيحَة لمقَر الكُنْغرس الأمريكي في قَلْب العَاصمَة السِّيَاسية للولاَيَات المتحدَة الأمريكيَّة واشنطن، بَعْد أن تمَ تفْتيشي من أعْلَى رَأْسي الى أخمَص قَدمَي بالألات الالكترُونيَّة وبالأيَادي الخشنَة لرجَال الامْن المتوثبينَ كالنُّمُور في المدْخَل الرَّئيسي لهَذا المبْنَي الشَّاهق والمُطَوَّق بركْض السَّنَاجب وشَذَى آلاف الزُّهُور...
رَهْبَتي وخَوْفي من عَظَمة المَكَان رَغْمَ دَنَاءة العُقُول المدَبٍّرَة غَاديَة رَائحَة بَين أرْوقَته والمَاضيَة بالبَشَريَّة نحْو خَاتمَة الخَاتمَة، كَانَت تَتَسَاوى مَع شُحْنَة الشَّجَاعَة والتَّمَاسك اللذَيْن أحْسَسْتُ بهما يَسْريَان في كَامل جَسَدي مثلَ التَّيَار الكَهرُبَائي ويَحُثَّانني عَلَى انتهَاز هَذه الفُرْصَة التَّاريخيَّة ولو بالكَلاَم... ألَيْسَ الكَلاَم هو السٍّلاَح الانْجَعُ والابْقَى والاكثَر مَعْقُولية...يَوم الارْبعَاء 18 أفريل 2007 عَلَى السَّاعَة السَّادسَة مسَاء، وبَعْدَ جَولة مُنَظمَة زُرْنَا خلاَلهَا البَيْتَ الأبيضَ ووزَارَتي التٍّجَارة والخَارجيٍّة، أين إلتقينا مع نائب ديك تشيني، ومَتْحَف الذَّاكرة الأمْريكيَّة، وفي أفْسَح قَاعَات الكُنْغَرسْ بالطَّابق الرَّابع حَيثُ تَنْتَصبُ مَجْمُوعَة من أعْلاَم الولاَيَات المتَّحدَة الأمريكيٍّة الى جَانب صُوَر ضَخْمَة لحُكَّامهَا الأَوائل وَواضعي دُسْتُورهَا وقَوَانينَهَا المُؤَسٍّسَة، وَجَدت نَفْسي وَسَطَ جَمْع غَفير من نُشَطَاء المجْتَمَعَات المَدَنيَّة منْ مُخْتَلَف الأقْطَار العَرَبيَّة من الجيل النَّاشئ وأيضًا من ممُثَلي بَعض الجَمعيَات والمنَظمَات غَيْر الحُكُومية الأمريكيَّة والعَديد من رجَال السٍّيَاسَية والصَّحَفيِّين والاعْلاَميين... جَميعنَا كنَّا في انتظَار إثنين من سينَاتُورَات الكنْغرس الأمريكي سَنَلتقيهم لمدَّة سَاعة ونصْف تقريبًا في حَفل استقبَال أقيمَ عَلَى شَرَفنَا نَحنُ القَادمينَ من تونس والجَزَائر وليبيَا ومصرَ في دَورَة تدريبيَّة حَولَ استرَتيجيَّات التَّخطيط وحُقُوق الانْسَان لمدة شَهر وَنصف هُنَا في وَاشنطن وَكَنَدا، بَعد أن قَضينَا أسبوعًا في العَاصمة الأردُنيّة عَمَان، وتحَديدا في نُزل «رَاديسُون سَاسْ» الذي أغتيلَ فيه المخرج العَالمي مُصطَفَى العَقَّاد...تجَاهلتُ صَدمَتي لما وَجَدتُ في مَقر مثلَ الكنغرس مئَات من زُجَاجَات النَّبيذ الفَاخر والجُعَة منتَصبَة فَوقَ الطَاولات البرنزيَّة الى جَانب الاطبَاق الضَّخْمَة للمرطبَات والحَلويَات فَدَاهَمني السُّؤال سَريعًا وَوَاضحا: أيأخُذُونَا كل القَرَارَات وَهُمْ سَكَارَى؟؟ ربما الأمر كَذلك فعلا، فَمَا من قَرار أمريكي بخصوص سيَاسَتهَا الخَارجية إلا وَكَانَ بعيدا كل البعد عَن العَقل والتَّعَقل...بَعد كلمَات التّرحيب والمجَامَلات الرَّسميَّة تَكلَّم السينَاتورَان باللغَة الأنقليزيَّة مشيرين الى حُسْن نَوايَا الولايَات المتَّحدَة الأمريكية وَسَعيهَا الى إحلاَل السِّلم العَالمي... كُنْت أقفُ حذْوَ الطاولاَت أثبتُ بيدي اليُسْرَى آلة التَّرجَمة وباليُمنَى أمسك كَأسي منتَظرًا دَوري في الكَلاَم... لَم أرَكّز كَثيرًا عَلى كَلمَات السٍّينَاتورَين وَلا عَلى كَلام المتَدَخلين الذينَ تَدَاولُوا عَلى المصدَح وكل واحد منْهُم يُحَاولُ أن يَلتَزمَ بالوَقت المحَدد لَه (دَقيقَتين لكل متَدَخّل) فَيَبْذل قُصَارى جهدَه ليَخْتَصرَ الكَلامَ ويكثفَ الافكَار التي يَوَد أن يَقولهَا. منهم مَن تَكلم باللغَة الأنقليزيَّة وأخَرونَ بالفرنسيَّة وأيضًا بالعَربيَّة... أغلَبُ المتدخلينَ وصَفوا الأوضَاع المترديَة داخلَ بلدانهم في ظل غيَاب الحُرّيَات العَامَة والفردية واشتدَاد القَمع السِّياسي والتَّخَلف المعرفي وكلهم أشَادو ببَادرَة المجتمَع المدَني الأمريكي للتَّعَاون من أجل ايجَاد خُطَط سلميَّة لتغيير الأوضَاع... اقتربتُ من أحَد المترجمين اللذين رَافَقانَا طوالَ الدَّورة التدريبيَّة (ولحسن حظي أنهمَا تُونسيَّان يَعيشَان في الولايَات المتَّحدَة الأمريكيَّة منذ أكثَر من عشرين سَنة) ورَجَوته أن يَجتهدَ في ايصَال فكرَتي التي سَأقولهَا في الكُنْغَرس أمَام السيناتورين وهَذا الجَمعُ النَّوْعي...قَفزَت الى ذهني أيام الجَامعَة وخطَب التَّحريض والتَّعبئَة... تذكرتُ أن التَّاريخَ لن يعيدَ نفسَه ولَن أجدَ نَفسي مَرة ثَانيَة في نَفس الظُّروف في هَذا المَكَان المُوحش رَغْم بَهرَجه الخَلاَّب، كَمَا أني لَن ألْتَقي مَرة ثَانيَة اثنَين من سينَاتُورَات الكُنْغَرس الامريكي ليستمعا الي... لم انس ايضا وجوه بعض الشامتين والحاسدين والمشككين الذين تركتهم خلفي في تونس ينتظرون اوبتي... اعرفهم ويعرفونني ونعرف بعضنا جيدا...عدلت نظارتي . نزعت آلة الترجمة من أذني لئلا يختلط علي كلام المترجم بحديثي الذي سأدلي به ثم صوبت نظري الى الجميع ونطقت : « باعتبارنا نمثل جزءا من مجتمعاتنا المدنية ونحن الآن داخل هذا المقر السيَاسي فإنني لن أخفي كَراهيتي للسيَاسة الأمريكية وتحديدا لسياسة هذا الخنزير الناطق الذي يسمى بوش، وأعتقد أيها السادة أنه من الغباء تصديق من يقترح التعاون السلمي وهو بالمقَابل يبيد شعوبًا بأسرهَا ويمحَق حَضَارات ضاربة في التاريخ... من الحمق التصديق بحسن النوايا الامريكية في ظل مساندتها التامة للانظمَة الاستبدَادية في العَالَم من جهَة ومغَازلة منظمات المجتمعات المدنية وجَمعياتها من جهة ثانية... انكم الآن تشربون هذا النبيذ الفاخر (واشرت بيدي الى الطاولات على يميني) وأطفال العراق وفلسطين يشربون الغازات السامة والقاتلة... كل الليالي التي قضيتها هنا تجولت في الشوارع الفسيحة لواشنطن حتى الفَجر ودَخلت مَلاهيهَا وحَاناتها ومقاهيها فرأيت كل الناس يرقصون ويمرحون ويملؤون كأس الحياة فيجلدني السؤال مليون مرة عن أمن العراق وليلها وعن فلسطين ودَارفور وايران وسوريا... كنت فيما مضى أكره أمريكا برمَتها. حتَّى اسمها أكره ان اتلفظ به، أما الآن وبعد أن عاشرت بعضا من موَاطنيها في هذه الفترة القصيرة، فان كل كراهيتي باتت تنحسر تحديدا في سيَاسَتها وساستها. ان السلم الذي من أجله نلتقي هذا المساء والديمقراطية التي نبتغيها لا يمكن أن يتحققا ما دام البيت الابيض يدعم الدكتاتوريات وأباطرة القرن الواحد والعشرين... وأمام هذا المد المحافظ الرجعي لليمين المتطرف الذي يدعم الكيان الصهيوني في منطقتنا ويصمت عن جرائمه بحق الفلسطينيين... ان التراجيديا الكونية التي تحياها شعوبنا اليوم انما هي وليدة هذا التدخل السافر واللاشرعي في مصائرنا الذي تمارسه الولايات المتحدة الامريكية مرة بطريقة مباشرة ومرة عن طريق الوكالة...»صمتُّ قليلا لآخذ نفسا وأواصل كلمتي، غير آبه بالدقيقتين اللتين التزمت بهما قبل الدخول الى الكنغرس، غير أن موجة من التصفيق طوقت قاعة الكنغرس وتركتني أنسحب من امام المصدح لأعود الى الوليمة المنتصبة فوق الطاولات البرنزية... استمرت بعدي المداخلات المتبقية من الضيوف وقد استلهم بعضهم مما اشرت اليه في كلمتي ثم انخرط الجميع في أحاديث ثنائية للتعارف ومزيد الشرح والتوضيح حول ما أثير من قضايا ونقاط... في غرفتي رقم 608 بنزل كارلايس الكائن بشارع نيوهمشر في قلب واشنطن كان كل شيء يشجّع على الكتابة، الاباجورتين، الموسيقى، الثلاجة الممتلئة، النوافذ البلورية المفتوحة على الأفق... والدفتر الذي اقتنيته ما تزال أوراقه بيضاء... بيضاء... حاولت أن أدوّن ما حدث ذلك المساء فلم أفلح في تركيب ولو جملة يتيمة. وضعت المفتاح الالكتروني داخل جيب سترتي وخرجت أتجول في الشوارع المزدحمة بعد منتصف الليل... وجدت نفسي أنتقل من ملهى الى آخر وكأني أطارد شبح الفكرة المستعصية عن التدوين في دفتري. طال التطواف الخائب فعدت ادراجي حوالي الساعة الخامسة فجرا الى النزل...انقضى الاسبوع الثاني في واشنطن ولم أكتب حرفا واحدا. عندما غادرت مطار ريغن بنيويورك ونزلت في مطار مونتريال العاصمة الكندية، اتسع صدري ولفحتني ندف الثلج الصغيرة مداعبة ارنبة أنفي ووجنتي... أحسست بضيق ما ينقشع عن صدري وعرفت أني لم أكن بحاجة لا لأباجورة ولا لموسيقى ولا لثلاجة ... كنت بحاجة لهواء أنقى... كنت بحاجة لأرض غير تلك التي كنت فوق أديمها أتجوّل...على ضفاف نهر سان لوران الذي يشق مدينة ريموسكي شمال مونتريال، وداخل مقهى حانة «الباريستا» التي يؤمها عادة طلبة واساتذة علم النفس الاجتماعي، انهلت على بياض الدفتر تحت وقع نقرات هادئة على آلة البيانو منسربة كالماء من بين الجدران الخشبية للمكان... لم أرفع بصري عن الطاولة الا وأنا أسمع فيما يشبه الشهقات المكتومة كانت تصدر من فتاتين جلستا بجواري... رأيتهما تتطلعان باندهاش واستغراب لسير قلمي من اليمين الى اليسار وهو يحرث ألياف الورق ... كنت لحظتها قد أتممت هذا المقال ووقعته بتاريخ 2 ماي 2007 ريموسكي / كندا... ابتسمت لهما وأنا أطوي الدفتر ودخلنا في نقاش باللغة الفرنسية ذات اللكنة الكندية حول اللغة العربية وسبب وجودي هنا وعن حرية الصحافة والرأسمالية والاشتراكية وحال فيدال كاسترو وعن الثائر الأممي تشي غيفارا وأيضا عن حظوظ سيغولان مرشحة اليسار أمام سراكوزي في الانتخابات الفرنسية حتى وصلنا الى سيدي بوسعيد والكسكسي التونسي....

2007/06/16

أفكار متقاطعة 22

الحياة مدى الحياة

عندما تطوي الصفحة 170 من رواية عبد الجبار العش الجديدة «محاكمة كلب» التي صدرت مؤخرا عن دار الجنوب ضمن سلسلتها «عيون المعاصرة» وقدم لها الدكتور محمد القاضي، ستضم وجعك ومحنتك التي تتفنن في مواراتها ودسها بين أضلعك وتطلق حنجرتك للعواء لتتقيأ حمم النباح وشلالات اللعاب الكامنة فيك منذ ولادتك... فخيوط السرد التي نسجتها تفاصيل الحياة الكلبية التي عاشها، و ما يزال، «عرّوب الفالت «/عبد الجبار العش / أنا/ أنت/كل حي ... لن تترك لك مجالا إلا لتمتحن مدى وفائك لظلمة صدرك... وغبش جرأتك...
في السنة الفارطة، وبمناسبة ملتقى الشعراء النقابيين الذي التام بمدينة القيروان، أخبرني الشاعر والروائي عبد الجبار العش بأنه يضع اللمسات الأخيرة على مخطوط روايته الجديدة «محاكمة كلب»... أخبرني أنها سيرة ذاتية لحياته بكل تفاصيلها التي لم تخرج عن الأوجاع... وروى لي بعضا من الحقائق والوقائع التي تخصه والتي سيسردها ضمن نصه الجديد بكل تجرد... احتفظت بسره داخل صندوق اللحم الذي يحملني حتى نسيتها مع مرور الأيام... الى أن أفشى هو أسراره بقلمه ونباحه ولعابه وجرأته وبوفائه الكلبي الذي مكنه من تحويل الفواجع الى وجود خلاق وشعلة من الإبداع والنزوع الدافع الى المثل الإنسانية النبيلة فارتفع بنصه وصدقه الى مرتبة «الكلاب الخالدة» مثل محمد شكري وجان جونيه ومكسيم غوركي وادغار ألان وجون جاك روسو وميشال راكاناتي... فهؤلاء جميعهم ومعهم التونسي عبد الجبار العش بروايته «محاكمة كلب» يظلون وحدهم قناديل مشعة على أرصفة سيرنا الحياتي لأنهم ببساطة يؤكدون لنا بأن فعل الكتابة هو فعل لفظ الحجر العالق بالحنجرة... وبأن الكلب الحقيقي هو الذي يمضغ نباحه ويلعق لعابه في أتون ظلمته وداخل سجنه وفمه المكمم بعناية وفقا لفنون الكذب والمواراة والأقنعة المستعارة من الأروقة التي تقذفنا إليها الحياة... وما أكثر هذه الكلاب يا عبد الجبار...فرادة رواية عبد الجبار العش «محاكمة كلب» لم تأت من كونها رواية هامشي ومهمشين... بل جاءت من حاشيتها الأخيرة - وهي أيضا تقنية سردية مهمشة الى حد ما - فعند إتمام أي قارئ لسرد محاكمة «عرّوب الفالت» سيصنف هذه الرواية ضمن السرد التخييلي الملتبس بالواقع في بعض من أحداثه، ويصنف عبد الجبار العش كروائي تتغذى مقدرته السردية نصا بعد آخر ورواية بعد أخرى، غير أنه سيعدل عن ذلك بمجرد أن يواصل قراءة الحاشية التوضيحية التي ذيل بها الروائي متنه السردي فحسم العش إضافة الحاشية التي تضمنت رأي المحامي زبير الوحيشي جعلت من «محاكمة كلب» تنتقل من الدرجة الصفر للسرد الى الدرجة اللانهائية من التمرئي ...ولكن السؤال الحقيقي يتمثل في حقيقة وقوع القارئ في الفخ الذي نصبه عبد الجبار العش؟ في قدرته على تلبيس الحقيقة بالخيال... هل السارد هو الكاتب ؟ وهل الآحداث هي فعلا حقائق ؟ هل عروب الفالت هو عبد الجبار العش؟ أذكر هنا كلمة الروائي المغربي محمد شكري في كتابه «غواية الشحرور الأبيض» التي قال فيها :» من اخترع المرآة، ليس ضروريا أن يكون نرجسيا. ربما اخترعها ليتشفى من الذين يتهربون من رؤية وجوههم فيها. إذا كانت المرايا تسوركم فأين ستولون وجوهكم؟ هذا إذا لم تكن المرآة قد اخترعت نفسها لنفسها».كما أن فرادة هذا المنجز السردي الجديد لعبد الجبار العش يأخذ فتنته وفرادته من الإيغال بعيدا في الإيهام بوجود شخصية مادية حقيقية تتلقى رسائل بطله ونباحه المحموم وتقتفى أحداث حياته العجيبة في إنصات وصمت مقدسين الى حدود الصفحة 155 حتى أنها جعلتني أتحاشى مجرد تذكر بعضا من الحقائق التي قالها لي عبد الجبار عن حياته الشخصية في القيروان منذ سنة وظللت أتابع الأحداث وألاحق صفحات الرواية مستبعدا أية علاقة بين الكاتب ونصه... ورغم أن فطنتي أسعفتني منذ البدء بأن نزيل «عروب الفالت» في زنزانة السجن ما هو إلا شخصية هلامية من اختراع الكاتب، إلا أني لم اطمئن للفكرة ولم أثق تماما بمحسوسية الشخصية الى أن أسعفنا العش على لسان أحد حراس السجن وهو يقول لبطله «إحقاقا للحق فانك تتمتع بذكاء نادر إذ لأول مرة أرى سجينا يوضع في الحبس الانفرادي ويحكي قصة كاملة لنفسه، إنها حيلة ذكية لكسر وحشة العزلة».رواية «محاكمة كلب» لعبد الجبار العش لا تترك لقارئها مجالا إلا لينبش كالكلب في أعماق أعماقه عن أسباب حياته مدى الحياة أسيرا لحياة كلبية عله يتعلم كيف يكسر وحشة نباحه الذي يتوهمه سيلا من الموسيقى..

2007/06/13

بيان حبري

لا الوقت لنا... ولا الكتابة أيضا

من السهل على الواحد منا – نحن السواد الأسود– أن يعثر على عتبة حبرية يشغل بها رأس المساحة الورقية المتبرجة أمام ناظريه، في فستانها الأبيض، ولكن من الصعب عليه أن يجد الوقت الكافي والضروري لفك أزرار الفستان البيضوي والولوج داخل أتون الورقة ومغاورها، فيصيّرها – بعد ساعة أو بعد أيام – حبلى بمتن لغوي نثري أو شعري
من السهل على الواحد منا - نحن السواد الأسود – أن ينجح في لضم تركيب لغوي على قياس «لا الوقت لنا... ولا الكتابة أيضا» مثلما كانت تلضم بائعة الكبريت – في حكايا الجدات - دموعها عقدا من الزمرد والمرجان...
ببساطة، من السهل على الواحد منا أن يمسك بعنوان قصة قصيرة مثلا وهو يركض خبطا ولطما خلف ذيل حافلة صفراء عجوز. من السهل عليه ذلك، ولكن من الصعب جدا أن ينجح في الحفاظ على حبات الزمرد والمرجان لعقده اللغوي بمجرد أن يحشر داخل العلبة الحديدية الصفراء العجوز اللعينة، إذ تتبخر فكرة القصة مع الروائح العطنة وتبتلعها أحداق العيون المتوثبة على الجيوب والحقائب اليدوية لصبايا الطريق... ويداس المتن السردي بأحذية الركاب المعفرة بأوحال الأرصفة، وتثقب الفكرة بكعب حذاء يرزح تحت وطأة مائة كيلوغرام من لحم أنثوي مترهل...
يمكنك أن تحني ظهرك النحيل، كما قلمك ينحني سيلانا فوق دروب الورقة، يمكنك ذلك، فتمد ذراعك لتلتقط بأطراف أصابعك ما سقط من مرجل جمجمتك هذا الصباح فتجمع نثار المعني وشتات الفكرة وتستجمع ألق صباحك ذاك... فتنجو بجلدك المصهود بالأنفاس المحرقة وبمحفظتك المكتنزة وبفكرة قصتك القصيرة بما حوت من أبطال وأحداث ومكان وزمان وأزمة وانفراج...
تحضنهم جميعا وتهرول نطا وركضا من الباب الخلفي للحافلة الصفراء اللعينة باتجاه أول كرسي وطاولة لم ينخرهما سوس الثرثرة واللغو، فتلقي بجسدك فوق الكرسي وتبسط على خشب الطاولة عتبتك اللغوية لتشرع في رفع أوتاد خيمتك القصصية...
من السهل عليك وأنت - من السواد الأسود – أن تفتح محفظتك العتيقة وصدرك ينشرح لسيلان القهوة الدافئة والتبغ الموشح بالضباب في عروقك، فتكاد تصيّر عين قلمك الراقص بين أصابعك كأوتار كمنجة قرطبية، مثل فوهة بندقية، يطارد حبره وبر المفردات...
من السهل ذلك ولكن من الصعب عليك أن تكتب جملة واحدة في قصتك القصيرة تلك، وأنت مزدحم ب«صباح الخير» و«يومك سعيد» ومكتض ب«كم الساعة من فضلك؟» أو«ولاعتك لو تسمح»... من الصعب أن تمسك بأول حروف قصتك وسط مقهى «l’univers» من الصعب عليك ذلك وأنت محاصر بعقارب التوقيت الإداري وبسخط رئيس التحرير على تأخرك الدائم... من الصعب.... من الصعب...
ولكن من السهل عليك مرة أخرى، وأنت ضاج بأزرار الحواسيب الجامدة داخل مكاتب عملك الباردة، ومشغول بخطى الموظفين رائحة غادية تلوك الوقت والهراء كما يلوك الجمل الكلأ، سهل عليك أن تشحذ قلبك بمساء هادئ في غرفة نومك لتزهق روح متنك السردي اللعين، تشحذ قلبك بالتمني وتشرع في اختيار مطفأة السجائر الأوسع والقطع الموسيقية الأنسب، وتتوعد الانتظار والازدحام والخوف من السرقة... أعداؤك الدائمين المتربصين بك وبقصتك وسط الحافلة الصفراء العجوز اللعينة... تشحذ قلبك ولا تنتبه لغبطة موهومة إلا على هدير محرك الحافلة...
من الصعب إذن عليك، وأنت من السواد الأسود، أن تجد الوقت الكافي والضروري لكتابة مسودة قصة قصيرة طيلة يومك، ولكن من السهل عليك مادمت تصر وتلح على فعل الكتابة، أن تسلسل أحداث قصتك في ليل المدينة...
من السهل عليك أن تتخلص من محنتك الحبرية هذه وأنت محاط بالمطفأة الأوسع وقلبك يتلاشى تحت سطوة الموسيقى الصامتة وساقاك يرفلان في الدفء تحت صوف الغطاء الشتوي... من السهل أن تكتب على الورقة البيضاء من دون أنفاس حارقة ولا روائح عطنة أو كعاب ثاقبة... من السهل... من السهل...
ولكن من الصعب عليك أن تجهز على عتبة الخروج من قصتك هذه وصوت المذيع الأجش يخرم هدوء غرفتك ونقاء فكرتك، وهو يقدم للنظارة الكرام مجموعة قصصية حديثة النشر، هي السادسة لأستاذ جامعي في عقده الثامن...
تطفئ الضوء الخافت وتشعل سيجارة يابسة لتؤنس صمتك أمام ثرثرة المذيع والأستاذ القابعين داخل الصندوق الملون... فتتيقن – وأنت المنهك – أن لا وقت لك وللسواد الأسود إلا للنوم... فتسحب الغطاء الصوفي إلى آخر رأسك وتشرع في كتابة قصتك القصيرة حلما أو كابوسا في انتظار منبه الساعة الخامسة فجرا وهدير الحافلة الصفراء العجوز اللعينة و«صباح الخير»... وفي انتظار عتبة دخول حبرية أخرى لرأس ورقة البارحة تنتظرك لتفك أزرار فستان عرسها الأبيض...

اسم مقهى كائن بشارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة التونسية أغلب روادها من الشريحة المثقفة

قصة قصيرة

غرق حبري


على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة
أوّل الحبّ عشب على حجر
سيّدتي استحقّ
لأنّك سيّدتي. استحقّ الحياة
محمود درويش

:همس في أذنها والفرح يشقّ صوته
- "اللّيلة سأنام على سرير من حنين... للّذي حدث بيننا هذا المساء."
صمت قليلا وأردف بتردّد
- "وللّذي سيحدث كلّ مساء... لديّ سرير يتّسع لجسدين من ماء... لجسدين من نرجس و نار... سرير يتّسع للّه و البحر..."
كانت هي في الجهة المقابلة تمسك بحفيف الحروف, و تخيّلته يحطّ على كحل أهدابها مثل عصفور يحطّ على ماء بحر... لم تنبس ببنت شفة. فقط ظلّ نفسها صاعدا مثل خيط رفيع نازل من السّماء...
تواطأ معها في هذا الصّمت و كأنّه لم يشأ أن يقاطعها و هي تقرأ له – في صمتها – قصيدة لم تكتبها بعد.
لمّا أحسّها أنهت قراءتها قطع صمت البوح بينهما وهو يقول لها:
- "أشتهي ما سيحدث مساء الغد... و لكنّي أخاف من خوفي وتردّدي..."
استرق نفسا قصيرا ليلتقط عبيرها في الأرجاء, ثم رسم قبلة على... سمّاعة الهاتف.
أقفل الخطّ و تمدّد على سريره. ظلّ مغمض العينين برهة من الزّمن ثمّ امسك مجموعتها الشّعريّة بأصابعه المرتعشة و شرع يتفحّصها ورقة ورقة و بياضا بياضا, تهجّاها سطرا سطرا إلى أن فطن بصوته المنفلت من حلقه يردّد مقطعا واحدا أعاده أكثر من خمسين ألف مرّة:
مستوحدان
أنا و ظلّي
نرسم إلى الحلم سلالم
لا وفي لنا
نسمي الدفاتر عمرا
(العمر خيول تهاوت
(1
طوى المجموعة و هو يقاوم فكرة قصّة قصيرة بدأت تراوده عن نفسها, و بلهفة وارتباك تناول ورقة مطروحة على المنضدة المحاذية للّسرير و خطّ فوقها: "... غرق"
ثمّ نام على سرير من حنين ... و من ورق

(1) مقطع من قصيد تسميات على مسامع الظل من المجموعة الشعرية حمى القصائد للشاعرة التونسية يسرى فراوس



قصة قصيرة

موعد النّرجس

العالم كلّه مسرح, لكلّ دخوله ولكلّ خروجه
و بين الاثنين حياتنا حيث نلعب عدّة ادوار

ويليام شكسبير
كما يحلو لك

كتمت رنين منبّه السّاعة وهي تقاوم ارتخاء جسدها و تقلّبها على الفراش, ثمّ نهضت خفيفة كنسمة هواء بحريّة تنطّ في ثيابها الشفّافة بين المطبخ و الصّالة و بيت الاستحمام مثل فراشة فجريّة.
صوت فيروز المنبعث من آلة التّسجيل ينساب طلقا بين أبواب الغرفة المواربة, ونوافذها. ورائحة البنّ, المدعوكة بحبّات الهيل, على نار الموقد الخافتة, تثقب سقف المطبخ الصّغير...
انتصبت خلف السّتارة الحريريّة لبيت الاستحمام تطرد الكسل عن مفاصلها و تداعب حلمتيها البنّيتين بلون الخرّوب الجبلي تحت دفق الماء الدّافئ. عادتها الّتي تربّي عليها جسدها منذ الصّبا ولم يترهل بعد.
جفّفت شعرها الذّهبي أمام المرآة وهي تلعق آخر قطرات القهوة من الفنجان.
داخل سيّارتها الحمراء واصلت الاستماع إلى صوت فيروز وهي تستمتع بطعم التّبغ الصّباحي وحبّات المطر الطّائشة تنزلق بحنوّ من السّماء الخريفيّة على البلّور راسمة خيوطا شفافة كالدموع...
في الشّارع الرّئيسي رتّبت عشرين زهرة نرجس أمام أوّل بائع ورد اعترضها. استنشقت الباقة بعمق وانطلقت باتّجاه مسرح المدينة مباشرة.
كلّ الكراسي شاغرة إلاّ مقعدها المحجوز في الصفّ الأمامي, منذ يومين... و ملامح الجمهور الشّاحبة لا تنبئ بأنّهم سيحضرون حفلا موسيقيّا...
الأضواء باهتة من الرّكح إلى السّقف. الكراسي أيضا بدت باردة على غير عادتها... هكذا أحسّتها... و الصّمت. صمت لا يطاق يلفّ أرجاء المسرح...
أخذت تداعب النّرجسات العشرين بأرنبة أنفها في محاولة يائسة للّتخلّص من حالة التّوجّس الّتي تملّكتها على غير موعد أمام مئات الوجوه الواجمة, وبدت تغرق نفسها في حالة من الاطمئنان الموهوم لفتنة هالتها بزهرات النّرجس, وكأنّها تقاوم فعلا خرس المكان الغريب أو سواد السّتار الّذي لم يرفع بعد.
كانت تقاوم تداعيا محموما تلبّس بذهنها وصار ينخره بجنون.
- إنّ الخوف من فعل محتمل الوقوع لهو أقسى من وقوعه في حدّ ذاته.
هكذا قالت بصمت وواصلت: ممّا الخوف إذا, وأصابعه لا تزال مغروسة في أسرار جسدك إلى الآن منذ ليلة أوّل أمس. أتذكرين كم راقصك, بعد منتصف الّليل, على عتبات السّماء, فوق نزل "الهناء". كم تلذّذت شفتيه المغمستين بطعم البيرّة الّتي شربها بحانة السّطح المطلّة على أطراف العاصمة وعلى مدارج هذا المسرح.
كلماته منذ ليلتين تلمسينها الآن, تدعكين حروفها بنفس الحرارة, تتدلّى مع قرطك العاجي هذا... ممّا الخوف إذن وأنت الموعودة بعزف منفرد مهدى لك وحدك... تماسكي أيّتها الغبيّة واطرحي هذا الخوف اللامبرّر, فالسّتار يرتفع.
بدأت مخاوفها تنقشع عن رأسها, تتبدّد كأكياس ضباب ثقبتها أشعة شمس لاذعة, بمجرّد أن سرّحت بصرها على مساحة ركح المسرح: العازفون يتوزّعون فوق الخشبة في شكل هلالي. كلّهم منحنون على ﭐلآتهم الوتريّة و الإيقاعيّة. صورته العملاقة تنتصب خلفهم. خطّ طويل من الورود مختلفة الألوان يسيّج أطراف الرّكح الأمامي. عوده, الّذي تغار منه, يتّكئ على الكرسيّ المعدّ له, كنجمة صيف مكابرة.
الجمهور لا يزال ينتظر دخوله, وهي تنتظر عزفها الموعود... والوقت يمضي. يمضي بطيئا قاسيا.
عادت تحدّث نفسها: لماذا تأخّر كلّ هذا الوقت؟ لا شك ّأنّه يجمّع شتاته أو هو يرتّب أصابعه ليجيد مراقصة الأوتار ومغازلة اجّاصته الخشبيّة...
كم هي مملّة لحظات الانتظار ومقيتة. هيّا ادخل وكفانا انتظارا. نطقتها بصوت مسموع !!!
ظلّت تنظر ساهبة إلى الجثث المنحنية على التّماثيل الموسيقيّة اللاّمعة تحت الخيوط الضوئيّة المتسلّلة من بين الرّؤوس المنشغلة بلحظات الانتظار. ذهنها لا يزال ينطّ فوق سطح نزل "الهناء" ولم تنتبه للّرجل الّذي انتصب في قلب الرّكح إلاّ عندما صدح صوته من المكبّرات الجانبيّة.
اعتصرت زهرات النّرجس العشرين بين يديها وضمّتهم أكثر إلى صدرها بارتباك وبدا العرق ينزّ من كامل جسدها بمجرّد أن بدأت شفتا الرّجل البدين الذي تقدم إلى طرف الركح من جهة الجمهور الأمامي, تتحرّكان:
- يؤسفنا أن نعلمكم أنّ هذا العرض قد ألغي. لقد ابتلعت مرآة النّزل الضّخمة عازف العود قبل لحظات من الآن لمّا همّ بتقبيل وجهه المنعكس على بلّورها!!!... يمكنكم استرجاع ثمن التّذاكر بداية من صباح الغد من شبّاك المسرح ونجدد لكم اعتذاراتنا وأسفنا.
لم تدر كيف انفرجت ساقاها بتلك السّرعة العجيبة وهي تشقّ الجموع الآخذة في التّحرّك عشوائيّا بين أروقة المسرح, صامّة أذنيها عن الصّراخ والصّياح المتعالي من أفواه النّساء والرّجال. لم تصدّق كيف لم تدهسها سيّارة وهي تشقّ شارع الحبيب بورقيبة راكضة نحو نزل "الهناء" المقابل للمسرح, ولا حتّى كيف اخترقت حشد المشعوذين والسّحرة والمنجّمين وبعض الأطباء المتكوكبين, إلى جانب رجال الأمن والفضوليين, أمام المرآة المنتصبة وسط بهو النّزل.
كانت ترتجف بصورة هستيريّة داخل المصعد الآلي صارّة أكثر زهرات النّرجس الّتي ازدادت تألّقا وطولا بين أصابعها وصدرها!!!.
على سطح النّزل كانت الحانة مفتوحة. لا احد بداخلها, الكلّ بالبهو الأرضي يتدافع أمام المرآة العجيبة. حلقها تيبّس تماما بفعل زجاجات البيرّة الّتي سكبتها داخل بطنها دون حساب.
سقطت أكثر من ثلاث مرّات وهي تكابد ثقل جسدها لتنقله من الحانة إلى طرف السّطح المطلّ على شارع الحبيب بورقيبة. لم تعد تقوى على الوقوف مستقيمة, ولا على التّركيز.
السّيارات تحتها تراها تصطدم ببعضها البعض, والمارّة صاروا ضئيلين بحجم حبّات الزّيتون وهم يتدافعون كالجراد الهائم في كلّ الاتجاهات وأشجار الشّارع بدت هي الأخرى تتراقص وتتنحّى عن منابتها المستطيلة.
كان رأسها متدلّيا كحبّة الرمّان النّاضجة من فوق السّطح العالي, وكأنها تقف على رأس جوف عظيم, وأخذ فخذاها في الاصطكاك بعنف على جدار السّطح الواطئ.
لم تستطع إمساك فمها, الّذي انفتح كبالوعة نفايات, عن القيء. قيء شديد يندفع من قاب بطنها الّتي تكاد تتمزّق ألما وتتناثر في سماء الشّارع. كان قيئا غزيرا كالمطر, ينقذف زخّات مدرارة من عل فيغطي رؤوس المارّة وأرصفة الشّارع دون توقّف, بل كان الدّفق يقوى باطّراد حتّى صارت تخشى – في لا وعيها- أن تغرق شارع الحبيب بورقيبة في قيئها المحموم, هذا الذّي يتضاعف كلّما لمحت واجهات المحلاّت البلّوريّة المتراصّة على طول الشّارع، لكأنها سكرت بالبلور...
همدت جثّتها قليلا. ارتخت مفاصلها على طرف الجدار, وظلّت بقايا القيء الرّغويّة تسيل لزجة من زاويتي شفتيها كالّلعاب قذرة داكنة. أمعاؤها تتموّج تحت جلدة بطنها ويعتصر قلبها بشدّة. شعرت بحالة من السّكينة والخدر وهي تفكّ يديها المضمومتين إلى صدرها, تركتهما يتدلّيان في الهواء مستلذة هذا الوضع برهة من الزّمن. بعدها لم تدر كيف انفرطت زهرات النّرجس العشرين من بين أصابعها وصارت تتساقط واحدة واحدة, نرجسة تلو نرجسة لتقع بحنوّ فوق جثّة العازف المسجاة أمام مدخل نزل الهناء, وفوق كاميرات السياح و آلات التّصوير وعلى قبعات رجال الأمن والأعناق المتطلّعة لجثّتها الآيلة للسّقوط من فوق النّزل

قصة قصيرة

المقالة الافتراضية


نؤكّد من جديد التزامنا بمبادئ حريّة الصّحافة, وحرّية المعلومات وكذلك بمبادئ الاستقلال والتّعدّديّة والتّنوّع, وهي عناصر جوهريّة في مجتمع المعلومات, ومن الأمور الهامّة في مجتمع المعلومات حرّية التماس المعلومات وتلقّيها وإذاعتها واستعمالها لإحداث وتراكم ونشر المعرفة

النقطة 55 من إعلان المبادئ لبناء مجتمع المعلومات.
القمة العالمية جنيف 2003 منشورات الأمم المتحدة
والاتحاد الدولي للاتصالات


ينبغي لمجتمع المعلومات أن يحترم السّلم وأن يدافع عن القيم الأساسيّة مثل الحرّية والمساواة والتّضامن والمسؤوليّة المشتركة واحترام الطّبيعة
النقطة 56 من إعلان المبادئ لبناء مجتمع المعلومات.
القمة العالمية. جنيف 2003 منشورات الأمم المتحدة
والاتحاد الدولي للاتصالات


لنفترض أنّه عندما طرق الصّباح باب غرفتي الباردة, حوالي السّاعة السّابعة إلا ّعشرين دقيقة, استقبلت يومي بكلّ تفاصيله. بدءا من صوت فيروز ينهمر على مسامّ جسدي من كلّ الجهات, إلى أن استقبلني رئيس تحرير الجريدة الوحيدة الّتي قبلت بنشر مقالتي دون أدنى تحفّظ.
بعد أن أعلمني رئيس التّحرير أنّ قرّاء الجريدة إفتراضيّون, ولا خوف لا من مقصّه ولا من الرّقابة الأمنيّة, وطمأنني أنّ عقابي - إن حدث - سيكون افتراضيّا. فإن طردت من عملي فافتراضا, وإن سجنت وحوكمت صوريّا فافتراضا أيضا... طمأنني بهذا إذا ما أنا كتبت ـ فوق ورقاتي الافتراضيّةـ أمورا تتعلّق بقمع الرّأي ومصادرة حرّية التّعبير, و إلجام الحناجر عن"الصّراخ" داخل أسوار الجامعات والكلّيات, وعن عسكرة الشّوارع وانتهاك الحرمات الجسديّة والمعنويّة للمواطنين العاديّين بترصّد خطواتهم واعتقالهم ومطاردتهم وحضر تجوّلهم وسط الشّوارع ومراقبة حركاتهم وسكناتهم داخل المقاهي وبين جدران الحانات... وإجبارهم ـ في المخافر تحت الرّكل والشّتم طبعاـ على الالتزام بعدم التّعبير عن آرائهم مطلقا وطلب العفو, كتابيّا, عن نيّتهم في التّظاهر سلميّا!!! ( من أوكد شروط استمرار الأنظمة الافتراضية مدى الحياة, الكشف عن نوايا المواطنين ومصادرتها فورا !!!).
طمأنني, بل شجّعني, رئيس التّحرير لئلاّ أتردّد في القيام بتحقيقات ميدانية عن العاطلين المنثورين في المقاهي, والمتسوّلين المبعثرين في المنعطفات والأزقّة, واللّصوص المترصّدين لفرائسهم في وسائل النّقل العمومي... بل نبّهني إلى إمكانيّة إجراء حوار مع فتيات الأرصفة ليتحدّثن عن تجاربهنّ ومغامراتهنّ في الملاهي اللّيليّة وتحت أشجار الطّرقات السّريعة... أو فوق سطوح البنايات المظلمة...
بعد أن أعلمني رئيس التّحريرـ إعلاما افتراضيّا ـ بكلّ ما أسلفت ذكره ( وما نسيه الرّاوي أو تعمّد نسيانه ربّما),تبدّدت هواجسي وتماسكت في ارتباكي الّذي كان يطوّقني. نهضت ومددت كفّي للسيّد رئيس التّحرير مهنّئا إيّاه على جرأته وشجاعته في الدّفاع عن حرّية التّعبير عن الرّأي واحتضان الأقلام الحرّة, والأفكار الحرّة والحرّية الحرّة... صافحته بحرارة أسطوريّة, حتّى أنّي لم أخجل عندما استدرت خلف مكتبه من الجهة اليسرى واتّجهت نحوه أقبّل جبينه بحرارة مضاعفة, وتلقائيّة لم أعهدها في نفسي من قبل.
لم أصدّق عينيّ وهما تشرئبّان نحو ذراعيه القويّتين, أراهما ينفتحان على إتساعهما ويضمّان صدري النّحيل إلى ربطة عنقه المتدلّية فوق بطنه المنتفخة, حتّى خلت نفسي سألجه من الأمام أو ستبتلعني أمعاؤه!!! ولم أصدّق حروفه القويّة المتناثرة مع بصاقه اللّزج تنسكب كالضوء في ثقب أذني اليمنى عندما قال لي" أنت الصّحفي الّذي تحتاجه جريدتنا, وتفتقده صحافتنا." حتّى خيّل إليّ ـ ونحن متعانقان هكذا ـ أنّنا سننخرط في نوبة بكاء فرحا بلقائنا, وكأنّنا عاشقان فكّا أزرار خجلهما وباحا بعشقهما شعرا ومجازا فوق صخرة سكّريّة دغدغت حبيباتها أمواج بحر شتوي...
عدّل ربطة عنقه الحمراء, عندما رنّ جرس الهاتف من فوق مكتبه العريض. تركه يرنّ طويلا, إلى أن استويت أنا في مقعدي قبالته ـ أين كنت أجلس ـ وانشغلت بمحفظتي الجلديّة أقلّب محتوياتها بشكل عشوائي لأتركه يحادث مخاطبه, ولم أتفطّن لانقطاع الرّنين و لا إلى الحركة السّريعة والمرتبكة لأصابع رئيس التّحرير فوق أزرار جهاز الحاسوب المنتصب حذوه.
رفعت بصري من أمام المحفظة المفتوحة وقلت له وأنا ألاحق الحروف المتطايرة من حلقي:
ـ مقالتي افتراضيّة لم أكتبها على ورق أبيض.
التقط كلمتي ورق أبيض من صوتي وقال:
ـ طبعا. طبعا, فجريدتنا افتراضيّة لا ترقن على الورق الأبيض.
صمت قليلا, وهو يتفرّس تبدّل ملامحي, وأضاف:
ـ بما أنّ قرّاءنا افتراضيين, فإنّ جريدتنا افتراضيّة ولا تقبل إلاّ المقالات الافتراضيّة.
لمح بريقا في عينيّ, فابتسم نصف ابتسامة كشفت بياض أسنانه, وأضاف:
ـ ولحسن حظّك أنّ مقالتك تخضع لمقاييس النّشر لدينا.
اتّسعت عينيّ أكثر حتّى لمحت بريقهما منعكسا كأشعّة شمس هذا الصّباح في عيني رئيس التّحرير, وكدت أن أعاود الرّكض خلف مكتبه, لكن لم أشعر كيف خفت بريقهما فجأة وانقبض قلبي بمجرّد أن سمعت وقع خطوات قويّة قادمة من الرّواق المفضي مباشرة إلى المكتب الّذي نحن فيه. خطوات واثقة وحاسمة, تقترب نحونا بسرعة.
حاولت أن أهدّئ من روعي باستئناف الكلام مع رئيس التّحرير, غير أنّي بمجرّد أن رفعت بصري نحوه لم ألمح لا وجهه الّذي كان مشرقا منذ ثوان, ولا ربطة عنقه المتدلّية فوق بطنه. فقط تراءت لي أصابعه الخشنة تمسك بطرفي جريدة كبيرة. أكبر من وجهه وبطنه, جريدة ورقيّة كتب أعلى صفحتها من جهة اليسار باللّون الأحمر "حرّية".
خطوات الأقدام أسقطت قلبي وسط أمعائي لهول وقعها الّذي صار كالطّبل يدقّ داخل ثقبي أذنيّ, وبعدها لم أتذكّر ما الّذي حدث.
تعالت أصوات محرّكات السّيارات والحافلات في الخارج, خارج غرفته. تقلّب فوق فراشه أكثر من ساعة تقريبا إلى أن رنّ جرس المنبّه المركون فوق المنضدة المحاذية.(جرس المنبّه صار يذكّره دائماـ على ما أذكرـ بهاتف رئيس التّحرير فيما بعد.). رنّ المنبّه في السّاعة السّابعة إلاّ عشرين دقيقة تماما. مدّ ذراعه من تحت اللّحاف وأسكت الجرس المصرّ على الرّنين, وبحركة آليّة شغّل قارئ الاسطوانات ليستقبل صوت فيروز يتسلّل إلى مسّام جسده ككلّ صباح.
انزلق رأسه تحت العباءة, ومعه صوت فيروز ليمضي العشرين دقيقة الفاصلة عن السّاعة السّابعة, محاولا كعادته دائما كلّ صباح, أن يمتصّ رغبته في الاستغراق في النّوم وطرد الكسل عن مفاصله المرتخية. لم تمض ثلاث دقائق تقريبا حتّى ألف نفسه محاطا بأكثر من عشرة أشخاص جلسوا كلّهم أمام أجهزة حواسيب ذات شاشات مسطّحة, داخل قاعة فسيحة قسّمت مساحتها بحواجز من البلّور الرّمادي اللّون, بلّور سميك يرتفع بين الحاسوب و الآخر, وكان يجلس حذو بابها رجل وسيم بملابس أنيقة, مرتّبة بعناية تنمّ عن ذوق رفيع, كان يملي ـ على ما يبدو - جملة أوامر من جذاذة حمراء بين يديه (عثر الرّاوي على نسخة منها في وقت لاحق وقد شحبت حمرتها واهترأت حواشيها.).
كانوا كلّهم يضعون آلات صغيرة, بحجم حبّة القمح, داخل آذانهم, تربطها أسلاك ذهبيّة بأجهزة الحواسيب المنتصبة أمامهم. كانوا يستقبلون بتلك الآلات أوامر الرّجل الأنيق, الّذي اختلط صوته مع صوت فيروز.
عندما أرهف السّمع, التقط جمل الرّجل الّتي تندفع من حلقه واضحة وحازمة. وقال:
ـ علينا أن نجعله أعجوبة لا تنسى, ليكون عبرة لمن يجرؤ على عرشنا ومملكتنا, ولهذا سنفصل, أوّلا, رأسه عن جثّته ونستبدله بمحرّك البحث "غوغل" أو"عجيب". ثمّ سنمزّق المتبقّي من جسده, في مرحلة ثانية, ونوزّع أعضاءه على مختلف المواقع الالكترونيّة الّتي أحدثناها.
صمت قليلا مركّزا بصره على الرّجال المتراقصة أصابعهم فوق أزرار الحواسيب, ثمّ استأنف كلامه:
ـ ولئلاّ نسيء إلى صورتنا, فإنّنا سنتركه ينشر مقالته الافتراضيّة تلك في أكثر من جريدة ومجلّة دون تتبّعه, وخاصّة خارج حدود مملكتنا, لنبرهن أنّنا فعلا نؤمن بحرّية الصّحافة وندافع عن القيم الأساسيّة لمجتمع المعلومات.
حوالي السّاعة الثّامنة إلا ّعشر دقائق صباحا, كان يحتسي قهوته مع زميل له داخل مشربة الشّركة الّتي يشتغل بها تقني إعلاميّة. تردّد قليلا ثمّ اقترب منه أكثر وأخفض صوته (وهنا قطع الرّاوي أنفاسه وأطرق السّمع قليلا ليلمّ بتلابيب الحكاية الّتي رواها لزميله)... أخفض صوته ودسّ له في إحدى أذنيه كلاما مرتبكا التقط الرّاوي منه هذه الجملة اليتيمة :" كلّ شيء يمكننا أن نصيّره واقعا افتراضيّا ما عدا صوت فيروز ووقع أقدام الجنود".


٭ إشارة أخيرة
إعلان افتراضي
لكلّ قارئ أن يضيف ما شاء إلى مسودّة هذه القصّة
ويرسل إضافته إلى عنوان الجريدة الافتراضي التّالي:
Iftaredhe @ yahoo.fr