بحث هذه المدونة الإلكترونية

2007/06/13

بعد وفاة محمد شكري


طنجة تستريح من فاضحها

ليس هناك مكانٌ أكثراماناً من المقبرة. أعتقد أن الناس يحترمونأنفسهم أمواتً أكثر مما يحترمون أنفسهم أحياء
محمد شكري /الخبز الحافي
بين الشّهرة العالمية ومؤسسة المنع العربيّة عاش الرّوائي المغربي ،الطنجاويّ الأصل، محمد شكري وحيدًا بلا زوجة ولا أطفال بين مواخير وخمّارات مدينة طنجة التي كان يعتبرها بمثابة الزوجة والحبيبة والنّّديمة رغم أنها " مدينة ممسوخةٌ" كما وصفها هو في روايته الأشهر "الخبز الحافي"،وكان هو بالمقابل كاشف أسرارها والشّّاهد الحميم الذي عبّر عن روحها من دون مجاملة أوسترٍٍ،وهاهو اليوم يرحل عنها في صمت أو هي ترحّله رغما عنه ـ بعد أن أعياها فضحًا وهتكًا وانتهاكا وكشفًا لكل البُؤر المتعفّنة فيها ولكل زواياها المظلمة... وما طنجة إلا النموذج الأبلغ لكل المدن العربية من دون استثناء ـ بتفانيها في اختراع أساليب المنع والقمع،التّهميش والإفراد، التّقزيم والإدانة...التي مارستها السّلطة البطريركيّة ـ عليه وعلي رواياته ـ بمختلف تمظهراتها من جمعيات أولياء التلاميذ إلي وزارة الأوقاف والشؤون الإسلاميّة ووزارة الدّاخليّة والإعلام وصولا إلي دُور النّشر التي تعضد هذا الطّغيان، مما جعل رواية "الخبز الحافي"مثلا ـ وهي التي رفض سهيل إدريس نشرها في بيروت وهي بكْرٌ ـ تُنشر بأكثر من تسعة عشرة لغة أجنبيّة منذ صدورها عام ،ماعدا اللغة العربية التي وصلتها بعد سنة!!!، ويترجمها الأمريكي بول بولز إلي اللغة الأنقليزية ـ بعد أن أعطي لمحمد شكري درهما ليشرب الزجاجة الطيّبة في حانة "روكسي" ـ ثم ترجمها الطاهر بن جلّون إلي اللغة الفرنسيّة وتعدّدت ترجماتها إلي مختلف اللغات فعاش محمد شكري ردحا طويلا من الزمن اسما عربيًا علي نص أجنبيٍ...هذا الاحتفاء العالمي قابله منع عربي لامبرّر له مما جعل محمد شكري يقول ـ وهو محقٌ في ذلك ـ : "إنّني أفضّل اليوم إحراق كل كتبي علي تسليمها لناشر عربي.لأنّ النّاشرين عندنا ليسوا جبناء فقط بل لصوص أيضا ومصّاصو دماء... ولو عوّلت علي النّاشرين العرب لمتُّ جوعًا." وطبعا ليس مُستغربًا ،بعد موت محمد شكري، أن يُسارع تجّار الورق إلي إعادة طبع كتبه وتصفيفها في الواجهات البلوريّّة للمكتبات لا لغاية تعميم فائدتها علي القارئ العربيّ وإنّما لمزيد الإستثراء فقط لا أكثر ولا أقلّ.رحل إذن محمد شكري ذاك المحارب الذي لم يتعب من الإقبال علي الحياة وطلب اللّذة والمتعة الماديّة والفكريّة. حياة لم يبحث لا عن عِبَرِها ولا عن قِيمِها ولاعن ماهِيتها، حياة نهمٍ ورغبةٍ وتعدٍ ومصارعةٍ ،إنها الحياة في ليل طنجة الأسطوريّ بكل مُباءاته وإجرامه المجانيّ... رحل ابن الفجر والمغامرة وابن الأندلسيّين الذين علّّموه كيف يكسب حياته بالعمل الوضيع والسّرقة والتحيّل دون خجلٍ أو ارتباك ، مثل صديقيه "جان جونيه وبول بولز" رحل محمد شكري الذي عاش أميًّا عشرين سنة قبل أن يتلقّي دروسه الأولي للُغة مضطهديه ( اللغة العربيّة ) قبل أن تصبح قدره الجميل... عشرة سنوات علي مقاعد الدراسة كانت كافيةٌ لتجعل منه كاتبًا استثنائيا. قصته الأولي "العنف علي الشاطئ" أعجبت سهيل إدريس فأعلن عبر نشرها عن ميلاد كاتب استثنائي، كاتب متمرّد، غاضب، يفضح الجميع بلغة عارية بالغة القسْوة. منذ أكثر من سنة لا يزال يسكن في نفس الشّقة، يصعد درجة نحو الطابق الخامس من عمارة "تولستوي"... العمارة بلا مصعد وشكري يقفز درجاتها و لا يشتكي منها ولا من أعداء الأدب...يصعد إلي أعلي ليفتح نافذة علي الحياة السفليّة وليضع أيقونة لحياة الحضيض ...لم يغّير شقّته أبدا لكنه كان يغّير حاناته باستمرار من "روكسي" إلي "نيكريسكو" إلي "إيلدورادو" و "ثقب في الجدار" وحانة "ريدز" حيث يمتصّ "الفودكا" كما الإسفنجة كل ليلة إلي الحادية عشرة ليعود إلي عزلته في شقّته أين كتب أغلب نصوصه: "مجنون الورد" ، "الخبز الحافي"، "زمن الأخطاء"، "وجوه"، "الشطّار"، "السوق الداخلي" ، " جان جينيه في طنجة" ، "تينسي ويليامز في طنجة" و "غواية الشحرور الأبيض"... هذا الكتاب الأخير الذي ضمّن فيه شكري مقالاته النقديّة والذي انتقد فيه نجيب محفوظ واتهمه بنقص التجربة و وصف شكسبير بالافتعال في وصف المشاعر الإنسانيّة... أما عن شكل موته فقد كان شكري يتمنّي أن يموت ذات يوما فجأة وكأس "الفودكا" أمامه علي الطاولة تماما كما يليق بكاتب من طينته، وقد كان يردد دائما مع أبيكور "مادمت أعيش فلا خوف من الموت. وإذا متّ فلن أحس بشيء" ويضيف "ما يُرعبني في الحقيقة ليس الموت بل المرض. أُفضّل أن أموت علي أن أمرض. أفضّل الموت الفجائي علي الموت البطيء. أن يموت المرء في الحانة وكأس الفودكا أمامه، أليس ذلك أفضّل له وللآخرين". "انه يري موته في النّبيذ" مثل "عزالدين قلق" كما صوّر لنا موته محمود درويش في قصيدته "الحوار الأخير في باريس."ومن يطّلع علي بعض كتابات محمد شكري سيكتشف احتفاء هذا المحاصر بلعنة طنجة بالموت، ففي "الخبز الحافي" ـ ذلك النص الذي كُتب أساسًا ضد الأدب لا لجرأته فحسب ولا ببذاءته وصراحته فقط بل أساسًا لتجاوزه لكل رقابة أخلاقية أو دينية أو اجتماعية، وكتابته عن الجنس المثْلي والدّعارة والجوع بلغةٍ حرّة بلا كبتٍ ولا مواربةٍ ولا توْرية أو رمز أوكناية...حوّلته إلي ما يشبه وثيقة اعتراض أو مصدر لقيمٍ مضادة أو مدرسة أسلوبية ـ يقول "إنني الآن أحمل موتي علي كتفي" ونقرأ في موضع آخر من نفس الرواية "لا تنسوا أن لعبة الزمن أقوي منا . لعبةٌ ُمُميتةٌ هي لا يمكن أن نواجهها إلا بأن نعيش الموت السّّابق لموتنا لإماتتنا: أن نرقص علي حبال المخاطرة نشدانًا للحيلة"، كما نقرأ عن الموت في رواية "الشطّار" ـ وهي الجزء الثاني من "الخبز الحافي" ـ "لكي نقهر فكرة الموت لا ينبغي لنا أن نتصوّر أنفسنا ميتين، انه مصيرك مع نفسك لا يخص أحدا ولا تنتظر أن يواسيك احد. اعتبر نفسك واهمًا ولو في الوهم. لا يقهر الموت سوي حب الحياة". كما يكتب في نفس الرواية "إن الإنسان هو كيف ينتهي لا كيف يبدأ".. وهو لا يخجل عندما ـ يعترف في كتابه "ورد ورماد" الذي جمع فيه مراسلاته مع الأديب محمد برادة في ما بين و ـ بأنّه فكّر في الانتحار مرّات عدة خلال الأسبوع الواحد...لن أقول أن موت محمد شكري يمثّل خسارة عظيمة للقارئ العربي، لأن القارئ العربي ميّتٌ أصلاًً، قتلته أدوات التكنولوجيا وأبعدته عن الكتاب، غرّّبته مظاهر التحديث الزّائفة فانبت عن كينونته وهويته ?.. وها هي فواجع الموت والرحيل النّهائي بدأت تمعن في تدميرنا كل مرّة، فبعد المفكّر الفلسطيني إدوارد سعيد جاء الدور علي الروائي المغربي محمد شكري والقائمة حتما ستطول والموت لن يستثني أحمد فؤاد نجم ومظفّر النوّاب ودرويش وأدونيس وسيأخذ وحيدر حيدر وخريّف والكوني وجبرا ، وكذلك لن ينسي محمد أركون والجابري والمهدي المنجرة وجابر عصفور و نصر حامد أبو زيد ومحمد الطالبي وجعيط... وإن رحل هؤلاء فلن نطمع بعد ذلك في هوية أو انتماء أو خصوصيّة ستحميها سلطة معرفية إبداعية ذات أفق أرحب من السلطة التسلّطيّة ذات الطّقوس الجنائزيّة التي تتقن جيدا إنتاج كل مبرّرات الموت والإفناء فقط وتعمل بالمقابل علي تلقيننا دروسا في الغباء حين تغيّب وتمنع عنّا كل وسائل الحّس الإشكاليّ والمساءلة النقديّة، بل إنها صارت تحتفي أكثر "بالميتوس" (الأسطورة ) والشعوذة واللاّهوت وتسعي جاهدة بكتّابها البلاطيّين إلي إقصاء "اللغوس" (العقل) لتوهمنا بقدريّة ما أوصلتنا إليه ولتُمعن في تقزيمنا أمام أنفسنا و إذلالنا أمام الآخر متناسيةً أن الطريق اللاّّهوتي هو الطريق المؤذن بفاتحة الخاتمة، بل إنّنا وصلنا إلي خاتمة الخاتمة بعد الذي حدث في العراق ويحدث في فلسطين وسوريا ولبنان وو.. فما الخراب الذي نحن فيه إلا نتاجٌ طبيعيٌ لمسار التخريب الذي تنتهجه السّلطة الرجعيّة ضد أطر الإسناد الإبستيمولوجيّة الإبداعيّة لا الاتباعية بدءا من قتل ابن باجة وتشريد ابن رشد والمعرّي وابن طُفيل وصولاً إلي إخصاء مظفّر النوّاب واغتيال حسين مروّة ومهدي عامل ومُحاكمة حيدر حيدر ونوال السّعداوي وغسّان كنفاني والحُكم علي منوّر صمادح بالجنون والانتهاء بمحمد شكري إلي مستشفي الأمراض العقليّة ..إلي أن قتله عشق طنجة ولم يقتل أسطورة "الخبز الحافي" التي لن تقتل ـ مع باقي رواياته ـ محمد شكري الأديب وكما يقول الشّاعر والرسّام "جان كوكتو" الذي كتب سيناريو فيلم يتصوّر فيه موته مسبقا فتوجّه إلي بيكاسو قائلا "لا تبكي هكذا، تظاهر فقط بالبكاء فالشّعراء لا يموتون إنّهم يتظاهرون بالموت فقط."

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق