بحث هذه المدونة الإلكترونية

2009/12/09

لوحة ثقافية



عادة ما تجمعهم طاولات المقاهي والمطاعم والحانات، يؤمونها من سياقات متنوعة، الشعر الرواية، القصة، الرسم، السينما، المسرح، الموسيقى... وغالبا ما تكون موائدهم باذخة بالثرثرة واللغو، فاقدة للأفكار والمشاريع...
ينتقدون هذا ويسخرون من تلك، ويتندرون على ثالث لينتهوا بالشتم والقدح في أعراض من لم يقاسمهم خشب الطاولة وكراسيها...
لوحة سريالية لا تُرسم بالخطوط والألوان بقدر ما تُرسم بالأسى على من يؤثثون مشهدنا الثقافي، والاستثناءات قليلة جدا مثل تلك "التعديلات" التي يستحضرها الرسام بعد أن ينهي لوحة ما.
يقلبون الصحف صباحا، وفي الظهيرة يُلقون الأسماك في بطونهم، لمن استطاع إليها سبيلا، ليفضوا في الليل أختام سيد الطاولات "الماغون"... وغدا صباح جديد وصحف أخرى...
جيل يتطاوس على جيل... جيل يُقزم وينفي ويدمر ويُقصي بشراهة لا متناهية، وجيل يكابد ويتجاسر والجسر بينهما مهزوز أبدا، ولا تواصل بين الجيلين إلا بما توفر من فتات الطاولات... وما بينهما جيل يرمي خطاه هنا وهناك...
جيل يلهف الدعم حتى وان لم ينتج، يسافر إلى أصقاع الدنيا تملقا، يحوز على الجوائز قبل انطلاق المسابقات... وجيل يتسول ليصدر نصه البكر أو فيلمه الأول أو يقيم معرضا للوحاته... جيل لا يسمع بالملتقيات والندوات والمهرجانات إلا بعد انقضائها... وما بينهما جيل يغمس حبره تارة بالأسود وطورا بالأبيض...
جيل صرنا نخشى أن نفتح يوما ما حنفية الحمام فتندفع من حلقها، قبل الماء، ذات الأسماء ونفس الوجوه... وجيل يولد ويموت وكأنه لم يكن أبدا... وما بينهما جيل ينوس ذات اليمين وذات اليسار...
جيل تقاعد "إبداعيا" فبات يستثمر اسمه ليستأثر بكل شيء... وجيل سيخفت بريقه لشده ما ضاق به السياق... وما بينهما جيل يتهافت هنا وهناك...
جيل يعتبر نفسه المتن وما سواه هامش... وجيل ينخره السوس لشدة ما هُمش... وما بينهما جيل يتأرجح على الحبلين...
لئن تُعرف الشجرة من ثمارها فإن ثمار شجرتنا تبزغ من بين الأوراق في عتمة شديدة التعفن، ولا تُنبئ بسلة "طازجة" في ظل تناسل أكوام الثمار الفاسدة، وتأبيد استمرارها لكأنها باتت القاعدة التي لا شذوذ عنها...
هكذا سنظل نردد أغنية تبتعد كلماتها عنا... ولا نعرف حدود الصوت من الصدى...مادامت أجيالنا الثقافية تُباعد المسافة فيما بينها... وترفع الحواجز...

2009/11/30

أرضُ الخرفَان



انقضت صباحات عيد الأضحى ومساءاته أيضا، وانتهت لحوم الخرفان المذبوحة في بطون الكبار والصغار بمذاقاتها المختلفة، مشوية ومقلية ومطهية... ونامت بطاقات المعايدة الورقية، إن مازالت، في ظلمة أدراج مكاتبنا في حين انتهت المعايدات الإلكترونية إلى سلة المهملات الافتراضية، كما هدأ ضجيج الهواتف الجوالة، ومحركات السيارت خمدت وتقلصت قبلات التهاني... وكل السلوكيات الاجتماعية التي لا نأتيها إلا في مناسبة عيد الأضحى انتهت... أو تبدو انتهت...
تبدو أنها انتهت بعد أن عادت الحركة الطبيعية إلى وتيرتها اليومية، بين الإدارات والمدارس والكليات والطرقات والمتاجر وغيرها من فضاءات دواليب الدولة، غير أن رائحة عيد الأضحى ما تزال عالقة بأرضنا، منتشرة هنا وهناك، نلمحها في الدماء المتخثرة فوق التراب وأمام العمارات، وفي أكداس التبن المتكومة في قلب العاصمة، وفي الروائح العطنة المتطاولة على ما ألفته أنوفنا من دبق المدينة...
في المدن الغربية، المتحضرة طبعا، توفر أجهزة الدولة للمسلمين المتواجدين بأرضها مذابح خاصة يقوم فيها الجزارون المختصون بذبح الأضاحي وسلخها وتقطيعها وفقا للطريقة "الإسلامية" في الذبح بأسعار رمزية، ويتم التصرف في فضلات الأضاحي وأوساخها بطريقة صحية وفي أماكن مخصوصة ومعدة سلفا للغرض، فلا تبقى لا أثار الدماء ولا التبن ولا الروائح العفنة، وكأن شيء لم يكن، وتظل المدن مزهوة في أناقتها المعمارية ومتبرجة في روائح حدائقها الجميلة وتسير الحياة بنسقها الحر...
قد يكون هذا مطلبا مبالغا فيه أن نقتفي أثرهم في الاحتفال بعيد الأضحى، ولكنه ليس بالمستحيل، والأهم، طبعا للمسلمين، أنه لا يتعارض مع الشرائع السماوية والتعاليم الدينية، فما الذي ينقصنا نحن لنؤثث لمواسمنا الدينية بشكل حضاري يواكب عصرنا؟ ومتى ننسى أننا بدو وأننا لا نستطيب العيش إلا في المغاور والجبال رغم أننا نوزع خطواتنا أمام المباني الشاهقة ونقضي أيامنا داخل المكاتب الوثيرة ونستعمل الأنترنات والهواتف الجوالة؟
أكتشف، ككل عيد أضحى، أن الكل يتساوى في "الانحطاط الحضاري"، المتعلم والأمي، الغني والفقير، فكلاهما يُصاب بأزمة ضمير إن لم يسمع الخروف "يبعبع" في بيته، وكلاهما يُصاب بالخجل إن لم "يسيح" الدم أمام عتبة بيته، وأيضا أمام العمارة التي يسكن بأحد شققها ولا يهمه في باقي المتساكنين، وكلاهما يُصاب بإحباط إن لم يحمل رأس خروفه وسيقانه لأحد الأطفال المنتصبين على الطرقات العامة، لتنظيفها وترك بقايا الصوف على قارعة الطريق العام؟؟؟؟
أتأكد، كل عيد أضحى، أننا شعوب تفكر ببطنها دائما، وتسترسل في تهجين نفسها بما ملكت من قدرة على ذلك ممعنة في سقوطها الصاروخي وهبوطها المخجل إلى أرض الخرفان أو ما شابهها من الدواب المنهمكة في حياتها القطيعية.

2009/11/23

شعوب الأقدام

نجحت الكرة في أن تكون المشروع الوطني العربي الأول، كما نجحت في تحويل وجهة الأزمات العربية من أزمات بين الحكومات إلى أزمات بين الشعوب، بعد الأزمة المستمرة إلى ألان بين الجزائر والقاهرة بسبب تصفيات كأس العالم لكرة القدم التي فاز ببطاقتها المنتخب الجزائري في مباراة فاصلة في السودان.
واخذ المنحى العدائي البغيض من كل طرف ضد الآخر وبوجه عنصري قبيح يتصاعد، وسط اتهامات متبادلة باستهداف جاليتي البلدين في كل من الجزائر ومصر بسبب التعبئة الإعلامية المنظمة المنتهجة من قبل "منابر الفتنة" المرئية والمسموعة والمكتوبة والالكترونية من الجهتين، وذكر كل طرف الآخر بشكل هجين أن إسرائيل هزمت مصر في حرب الأيام الستة وأن فرنسا حولت الجزائريين إلى عبيد...
وبسبب مبارة قدم هاجم مصريون سفارة الجزائر في القاهرة، واستمرار تبادل الاتهامات على مستويات عالية بين مسؤولي البلدين، وأعلن نقيب الموسيقيين المصريين أنه قرر منع المطربين المصريين من الغناء في الجزائر ووقف إصدار تصاريح للمطربين الجزائريين للغناء فى مصر وقطع العلاقات الموسيقية المصرية ـ الجزائرية، كما قرر رفع دعوى قضائية ضد رئيس الاتحاد الجزائري لكرة القدم ورفع دعوى قضائية أيضا ضد السفير الجزائري في القاهرة للسبب ذاته.
كما دعا رئيس اتحاد النقابات الفنية المصرية، الممثلين والسينمائيين والموسيقيين، إلى عدم إشراك الفنانين الجزائريين في الأعمال الفنية داخل مصر، مثلما هدد الاتحاد المصري لكرة القدم بوقف النشاط الرياضي لمدة عامين، كما تبادل وزراء البلدين الاتهامات وبلغ الأمر حد سحب السفراء وتدخلت الجامعة العربية لتهدئة الأمور غير أنها فشلت، كعادتها، في شؤون العرب...
وعلى الضفة المقابلة ذهب بعض الإعلاميين "الإسرائيليين" إلى التعبير عن سعادتهم في خلاف البلدين العربيين، متمنين "مباراة" من هذا النوع بين حركتي "فتح" و"حماس"، كما وصفت إحدى القنوات "الإسرائيلية"، مباراة إيران والأردن وهي مباراة جرت في نفس يوم مباراة الجزائر ومصر وانتهت بفوز الإيرانيين بهدف يتيم. ووصفتها بأنها "مباراة بين السنة والشيعة". وتساءل أحد "الإسرائيليين" بشكل ساخر قائلا:"أي عقلية حمقاء هذه؟ بدل أن تطعموا شعوبكم تقومون بإرسالهم إلى الملاعب؟."
من هذا التعليق الساخر نقف على حجم المهانة التي تُلحقُ بأمة كاملة بسبب مبارة كرة قدم، ونقف فعلا على سبب تخلفنا الذي لم يمكنا حتى من إدارة أزمة عابرة اندلعت فوق ملعب لتدك أركان دولتين وتهتك هيبتهما المفترضة، وهذا في تقديري أمر طبيعي، ولم استغربه مطلقا لأن أنظمتنا بحجم الأحذية، لا تعلي من شأن العقل المفكر والمبدع لتثبت ذاتها بقدر ما تعول على الأقدام القذرة لتأبيد التخلف والتردي الاقتصادي والأمني والإنساني... مستمرة في استغباء شعوبها بشكل بات مفضوحا...
إني لن اخجل من أن ضم صوتي واصرخ عاليا إلى متى سنظل كالخنازير نلهج في الملاعب ونحن جوعى، جوعى للحرية والديمقراطية والثقافة وجوعى للأكل؟؟؟
هل ستتحصل الجزائر على كاس العالم؟ وهل ستحصل عليه مصر لو فازت في مباراة الجهل الأخيرة؟ لا أظن ذلك مطلقا، ولكن أظن أن ما أججته التسعون دقيقة بين البلدين سيكون فرصة مهمة لإلهاء الشعبين، وكل الشعوب العربية، عن البؤس المعمم والخراب الدائم الذي يسبح فيه مئات الملايين العرب.

2009/11/06

صاحب السلوان، قاذف المنجنيقات



جاء من "مدينة التدقيق والتحقيق" أو "مدينة المطلقين"، قفصة، ذات مارس من سنة 1953 ليدق عنق الفلسفة في كلية 9 أفريل ويطلق منها، وهو طالب بعدُ، كتابه الأكثر مبيعا "ما الفلسفة" سنة 1987 ثم يجترح بعده "ما الثقافة" و"الثقافة والجنسوية الثقافية" و"الجراحات والمدارات" حتى لقبته جريدة "لوموند" الدولية بفيلسوف الصحراء...
كانت كتبه تلك، وهي تدور في فلك الفلسفات مغربا ومشرقا، تتوهج مصطلحاتها وحكمها بصور الكلام العالي ومفردات المجاز المفرط في شعريته لتقوده نحو "كتاب السلوان والمنجنيقات" و"ديلانو شقيق الورد" ليثبت أن فيلسوف الصحراء هو أيضا شاعر الوجع الأممي... بعد أن "كسرته الدنيا"... مثلما يتكسر الطيران في بعض الأجنحة...
مثل العطر، سال حبره من الفلسفة، من "زهرة العصور ووردة المدن" إلى الشعر "زهرة الصحاري ووردة الرمل"... متأبطا بصيرة أبو العلاء المعري وطه حسين في دربه الحبري...
فيلسوف الصحراء، شاعر الوجع الأممي هو الكاتب الحر سليم دولة الذي أعاد منذ أسابيع قليلة نشر "كتاب السلوان والمنجنيقات" إمعانا منه في "تكسير أجمل ما في الدنيا وفتح أختامها وتقبيل أصابعها عضا..."، وهو "مكتوب" مُرسل رأسا إلى سامي الأزهر دولة في ضريحه الوطني، والى "صدام حسين المجيد" في شرفة شهداء الحرية وهما يطلان على "المتوغلين في الاحتفال بسفك الدماء"...
مكتوب السلوان "المصمق بالحبر والدماء والدموع والعرق وأشياء أخرى" مرفوع أيضا في بعض من أوجاعه إلى كل من "الفنان الفرنسي الفوضوي الرائع ليو فيري" والى "الشاعر كليم نفسه" و"إلى الذين أشاعوا" موت الدولة في سليم و"نعوه" وأيضا إلى "قدامة ابن جعفر الكاتب البغدادي" أنيس عزلة سليم وحصنه وصخرته في محنه المتناسلة، وكذلك إلى "صاحب كتاب المتاهات والتلاشي محمد لطفي اليوسفي"، و إلى "درة سليلة الروح" والى "الحكيم القفصي عبد الحميد الزاهي" والى "صاحب مملكة السنبلة عبد الوهاب البياتي الشاعر العراقي" والى "صاحب كتاب الجراحات والمدارات، إلى سليم دائما ودولة أحيانا" والى الشاعر عبد الوهاب الملوح وعبد القادر خليفة وطارق الصغيري...
لم أجد ابلغ من وصف سليم دولة ذاته لكتاب "السلوان والمنجنيقات" في الصفحة 90 منه عندما كتب ما يلي:
"هذا المكتوب المصمقُ في
حب الفقراء...
وكراهية الملوك والسلاطين والأمراء
ومن في هذا السياق من أعداء الأمة..."
أكتفي بهذا المقطع الشعري لأن الكتب الجيدة لا تترك لنا مجالا للكتابة عنها مثلما نشتهي، ولا تمنحنا القدرة على التماسك في تحبير جمل فضفاضة بتقنيات باهتة في محاولة للإيهام بفتح مستغلاقاتها أو الاقتراب من الأرض التي يقف عليها كاتبها... والمهمة تزداد عسرا عندما يكون النص شعرا، وتتضاعف أكثر عندما يكون كاتب الشعر سليم دولة...

2009/10/26

برج الرومي



كثيرة جدا هي الحكايات التي سمعتها من مساجين الرأي بسجن الناظور ببنزرت المعروف ببرج الرومي، وكثيرة جدا هي الكتابات التي قرأتها عن هذا السجن، وعن مغامرات وعذابات المساجين الذين مروا بزنازينه و"بلواراته" وساحاته، وآخر ما قرأته في هذا السياق كتاب فتحي بالحاج يحي وكتاب جلبار النقاش.
ولئن سبق لي أن جالست العديد من مساجين الرأي الذين مروا ببرج الرومي، فان فرصة الذهاب إلى تلك القلعة المنتصبة على أطراف مدينة بنزرت لم تتوفر لي إلا منذ أسبوعين تقريبا.
أوصلت صديقا، بالسيارة، لزيارة أحد منوبيه، وبقيت خارج أسوار السجن انتظره زهاء الساعة والنصف ساعة، كانت كافية بالنسبة لي لأكتب هذه البطاقة الأسبوعية وأرصد ضمنها بعض الملاحظات "العابرة" و"الخارجية" عن هذا المبنى المغلق على المساجين.
الطريق الجبلية الموصلة إلى السجن، أقل ما يقال عنها أنها سيئة ورديئة. تعرجاتها كثيرة وحفرها أكثر، وهي ضيقة جدا، رغم أن الحافلات الجهوية تعبرها، وحركة السيارات لا تهدأ فوق اسفلتها المهترئ، كما أن الإشارات الدالة على برج الرومي غير متوفرة بالشكل الذي يساعد الزوار على معرفة الطريق بيسر، خاصة وأن أغلب الزوار، على ما أظن، يتوافدون من مختلف الجهات.
أمام مدخلي السجن، أين يقبع الزوار، وأغلبهم من النساء، وتحديدا الزوجات والأمهات، حيث يقبعن إلى جانب قفافهن، فوق الحجر المتناثر تحت الأشجار المنتصبة أمام السجن.
المساحة الممتدة أمام السجن، تتناثر أمامها أكداس الرمل والأتربة والأسلاك الشائكة، فضلا عن الفضلات المتناثرة هنا وهناك ينبشها الدجاج يمنة ويسرة وتحوم فوقها جحافل الذباب، فلا يجد بها الزائر مكانا محترما يقضي فيه مدة انتظار دوره للزيارة التي قد تطول لأكثر من ساعة، ولكم أن تتصوروا وضعيه النساء المنتظرات تحت المطر في الشتاء أو تحت لهيب أشعة الشمس في أيام الصيف... كما أن السيارات الرابضة أمام برج الرومي تعطل حركة الطريق باعتبار أنها تقف عشوائيا على جانبي الطريق.
اعتقد أن بناء موقف للسيارات أمام السجن أمر ضروري وعاجل، وكذلك تخصيص مكان لائق بالزوار وزائرات المساجين أمر ضروري وعاجل أيضا، وأظن انه لن يكلف بلدية بنزرت، أو إدارة السجن عناء كبيرا، خاصة إذا ما تم تكليف المساجين بتنظيف المساحة الممتدة أمام السجن وبناء مأوى للسيارات وثان للزوار ومدرج موصل لباب السجن، ولمَ لا بناء مقهى أو مشربة مثلا، ينتظر فيها المرافقون للزائرين، مثلي، وتكون عائداتها لحساب إدارة السجن...
ملاحظات قد تكون عابرة وشكلية، ولكن اعتقد أنها ضرورية ولا تكلف الكثير، بل إنها ستعطي صورة جيدة لإدارة السجن، سجن برج الرومي... ولكي لا تكون حالة الانتظار سجنا ثان ترتفع أسواره النفسية والجسدية أعلى من جدران الاسمنت المسلح...

2009/10/16

المخرج الفلسطيني إيليا سليمان:



قريبا من الوطن بعيدا عن القضية



يصر المخرج والممثل الفلسطيني إيليا سليمان دائما على ابتعاده عن دائرة السياسة، إذ أنه لا يتردد في كل مرة في الإعلان عن هويته السينمائية بالأساس قبل أية هوية أخرى سواء دينية أو جغرافية، فقد سبق له أن صرح قائلا:"... أنا في النهاية سينمائي ولست سياسيا ومهمتي ليست البحث عن الحلول" وهذا الموقف يتجلى بصورة واضحة ضمن آخر عمل لإيليا سليمان "الزمن الباقي سيرة الحاضر الغائب" الذي يُعرض هذه الأيام بقاعة "آفريكار" بتونس العاصمة.
إيليا سليمان المولود في الناصرة عام 1960 والذي اعتقلته قوات الأمن الإسرائيلية ولم يتجاوز عمره السابعة عشرة... توزعت خطواته في أكثر من عاصمة أوروبية باعتباره كان محاضرا زائرا في مختلف جامعات العالم، من لندن إلى باريس وروما وبرلين وبرشلونة... فنيويورك التي احتضنته لمدة 12 سنة... وتوزعت رؤاه السينمائية والفنية عموما من فيلم إلى آخر، فكانت في كل مرة تضيق دائرة السياسة وتضمحل القضية الفلسطينية بأبعادها السياسوية لتتسع بالمقابل دائرة فلسطين الزعتر والزيتون، فلسطين البرتقال والدبكة... وجل أفلامه أن لم نقل كلها تشهد على ذلك مثل "سجل اختفاء" و"نهاية جدال" وطبعا فيلمه الأشهر "يد إلهية" الفائز بجائزة لجنة التحكيم في دورة 2002 لمهرجان "كان".
هي ذي فلسطين التي تطفو صورتها بشكل جلي في الأعمال السينمائية التي قدمها إيليا سليمان، والتي باتت يُشار لها بالبنان في كل مرة، فهي لا تنتهي في أفلامه وان انتفت القضية الفلسطينية، بل تبدو مثل منمنمة فارسية تبني صورتها قطعة قطعة، مثلما يبني إيليا سليمان مسيرته فيلما بعد فيلم، لكأنهما توأم فراش يكابدان الخروج من شرنقتهما، شرنقة "التسييس المفرط" لبلد تمادى في الجرح كثيرا... وشرنقة الالتزام المفرط في ايديولوجيته التي تقتل كل نفس إبداعي... ولذلك يمثل ايليا سليمان الضلع الرابع من المربع الذهبي للسينما الفلسطينية في المنفى إلى جانب ميشال خليفي ورشيد مشهراوي وهاني أبو سعد.
تكبر فلسطين الفرح، ويكبر معها إيليا سليمان المخرج المبدع، لا المخرج المتسربل بالسياسة واللائذ بالقضية الفلسطينية مطية سهلة...
يوغل في الرمزية وفي تصوير المشاهد العبثية التي تصل حد الدونكيشوتية، ولا تخلو أفلامه من الظلال السياسية والإشارات الواقعية التي يمررها بفطنة وحنكة متناهية الإتقان، تمنح جل أفلامه القدرة على إيصال الفكرة المراد تبليغها من خلال خلق فضاء شعري تأملي مشحون بواقع الفلسطينيين الحاضرين والمغيبين، وألئك الذين يصفهم هو بالممنوعين من الوجود حتى في الصورة المجازية...
لقد باتت تشكل أفلام سليمان تذكرة سفر إلى أعماق فلسطين، سفرة مجازية تؤمنها الرحلات الواقعية التي غالبا ما يستند إليها المخرج في أفلامه، ومنها فيلمه الأخير، الذي يصور معاناة الفلسطينيين في الضفة الغربية وداخل العمق الإسرائيلي من خلال الرحلة عبر الحافلة إلى مدينة رام الله حيث تتناسل مشاهد أرض البرتقال لتختلط مع مشاهد العنف المنظم والقمع المفرط لشعب بات مفخخا بالأمل...
إيليا سليمان لا يقترب من وطنه فحسب، بل انه يتماهي معه ويتورط في تفاصيله اليومية، فهو لا يتردد في كل مرة من التعبير عن إنغراسه في تربة فلسطين والتحليق في فضائها، واقعا وذكريات، ماضيا وحاضرا، من خلال عرضه المستمر، وبأشكال متنوعة ومختلفة، لسيرته الذاتية التي عاشها أو بحث عن تفاصيلها منذ 1948 ولسير أشخاص صنعهم خيال المخرج وما اختلفوا عنه في تشعب الحياة أمام بندقية الجندي، وبساطتها في رائحة البن الفائرة على طاولات المقاهي...
هذه التركيبة الثنائية، التعقد والبساطة، الحياة والموت... مثلت التيمة الرئيسية والمحمل الأساسي لرؤية إيليا سليمان الفنية والإيديولوجية التي تطورت وتعمقت بشكل تصاعدي طيلة العشرية التي أنجز فيها ثلاثيته السينمائية الروائية، "سجل اختفاء" ثم "يد إلهية" والآن "الزمن الباقي" ليتأكد لنا تشبث هذا المخرج بأسلوبه الحداثي وما بعد حداثي في استناده على مسرح بريخت وسينما قودار ...
إيليا سليمان يقترب من بساطة الوطن، ويسعى دائما للابتعاد عن تعقد القضية الفلسطينية، إلا أنه في كل مرة "يُفتضح" تورطه الواعي في القضية العادلة لشعبه، من خلال استناده لأحداث مفصلية في التاريخ الفلسطيني، بداية من إعلان دولة إسرائيل المزعومة سنة 1948 ومرورا بحرب حزيران عام 67 التي عجلت باحتلال الضفة الغربية فمعركة الكرامة في 68 والانتفاضة الأولى في 87 ثم ذكرى يوم الأرض الموافق لــ 30 مارس 1976 واتفاقية أوسلو في 93 وانتفاضة الأقصى سنة 2000 وغيرها من الأحداث .
أقوى من طلقات بنادق المقاومين، وأبلغ من بيانات التنديد والشجب والاستنكار السياسية، وبالموسيقى والأغاني وخاصة بالصمت المُثقل بالكلام، تتحدى أفلام إيليا سليمان مدافع الجنود الإسرائيليين وتفضح إصرارهم على تزييف التاريخ الفلسطيني وتشويهه، وتهب الحياة لفلسطين، ولو مجازا، وهي تُسقط أسوار الرعب المنظم المضروبة على شعبه الفلسطيني وعلى "الأقلية الفلسطينية" في إسرائيل، وهو واحد منهم.
"أن تكون فلسطينيا فهذا في حد ذاته تحديا"، هذا التصريح الذي قاله إيليا سليمان قد يُجمل بشكل واضح قيمة هذا المخرج وقدرته على تحويل "مواطنته الإسرائيلية" التي فُرضت عليه إلى "مواطنة فلسطينية" اختارها ودافع عنها في أفلامه مثلما تدافع الورود عن رائحتها والعصافير عن زقزقتها.

2009/10/09

بين أولاد أحمد وبن عثمان:وسقط القناع عن القناع




كل كاتب مشنوق بنصه، وكل نص على قدر الزيت فيه يضيء. قد يحرق النص كاتبه فيصير لعنته الأبدية، وقد يضيء سبيله فيصير قنديلنا الأبدي نرصد به انسجام الخطوات من تبعثرها في الدرب الحبري الذي يُكابده نصا بعد نص...ونختار بين إحراقه أو الاحتراق به.
وربما أفضل تشخيص لمهمة الكاتب/المثقف ذاك الذي قدمه المفكر الفلسطيني ادوارد سعيد بقوله:" المثقف لا ينزع إلى تهدئة الأوضاع، وهو ليس معززا للإجماع، بل هو شخص يرهن وجوده كله للإحساس النقدي، وهو إحساس يشي بعدم تقبل الصيغ السهلة أو الأفكار الجاهزة أو البراهين الناعمة الملائمة تماما لما تقوله الجهات القوية أو التقليدية، وما تفعله ولا اقصد هنا عدم الرضا السلبي بل الاستعداد الفعال لقول ذلك على الملأ"... وأضيف على هذا الكلام فأقول بأن "الجهات القوية والتقليدية" لا تستعين بآراء المثقف لتقويم سلوكها وتعديل سياساتها بل إنها تعمل جاهدة على تدجينه واحتوائه لتنـزع عنه وظيفة النقد والسؤال والمحاسبة...
هي ذي مهمته الأساسية التي لا يتنازل عنها مهما كانت الإغراءات، غير أن تاريخ الكتابة، ومثلما يشهد على الموت المادي والرمزي الذي طال مئات الكتاب وهم يدحرجون كل الإغراءات تحت نعالهم، فهو أيضا يشهد على الآلاف من الذين سقطت أقلامهم تحت نعالهم، ولم نعد نعرف هل هم فوق الأرض أم تحتها... هل هم كتاب أم هم مستكتبون؟
من هذه الزاوية يمكننا أن نقف على "المناوشة" الحبرية التي حصلت مؤخرا بين الشاعر الصغير أولاد أحمد والروائي حسن بن عثمان، حيث أطنب بن عثمان بجريدة الصحافة في توصيف مناخ حرية الإبداع في تونس مستتشهدا بأولاد أحمد فكتب: "شاعر منشق، متمرد، سليط اللسان والقلم... ومع ذلك فإن تونس لم تغمطه حقه ولم تتعرض له بالأذى، إضافة إلى أنها تستلطف تطويحاته السلوكية" فرد عليه الشاعر أولاد أحمد بجريدة الطريق الجديد حيث كتب:" ... ولأن نعوتا مثل هذه تندرج في خانة قلّة الأدب المحض، وفي حفرة التعامل مع اللغة العربية بعقل دارج، وفي هوّة الغيرة المفضوحة من وضعية كاتب مستقل مثلي، افتكّ مساحة حريته بنفسه وبقلمه، بالرغم من الحروب المنظمة ضده بانتظام طيلة ربع القرن الذي نحن بصدد أدائه كلّ بطريقته... فإنني أتجاوز هذه النقطة لأبشّره بما لا يسرّه من أمور الدنيا التي يحبها حبّا جمّا ويستكثر علينا أن نعوّضها بالكتابة على الأقل...".
ما حدث بين كاتب "برومسبور" وكاتب "تفاصيل" قد يؤدي إلى أن "تنتفي كل صداقة زائدة عن اللزوم بل ينتفي لزوم الصداقة ذاتها إذ لا صديق للكاتب سوى سلاحه." مثلما أعلن ذلك بصريح العبارة الشاعر ضمن رده على الكاتب (وقد كان ردا فصيحا لن يجدي بعده تعقيب) غير أن انقطاع هذه العلاقة من تواصلها لا يعنيني في شيء، فهي بالأخير لن تكون أكثر من مناوشة ظرفية بين الرجلين وستتحول إلى نادرة بينهما في مجالسهم القادمة، أما ما يعنيني بشكل مباشر فهو هذا السقوط الصاروخي والانحدار الرهيب للعديد من الأقلام التي كبرنا مع نصوصها... وباتت تتهاوي، بكتابتها العرجاء، مثل فقاقيع الهواء والسحابات العابرة ولم تعرف كيف توطن جراحها ولا جراحنا مثلما يفعل المبدعون الحقيقيون.
هاهو "حسن" يلتحق بابنه الورقي "عباس" فيفقد صوابه ويُصاب بإسهال حبري في باب "ما قل ودل" وهو يُقر بأن حرية الإبداع جريمة تستوجب العقاب، وأن الوضع الطبيعي للمثقف هو أن يتعرض للأذى ويُجرم من أجل أفكاره أما غير ذلك ففضل ومنّة من السلطان؟؟؟ متناسيا أن فعل التهرئة الإبداعي والمَأسَسَة الثقافية والتهميش المُنظم... أشنع وأبشع؟؟؟
.......
عندما اقترح السلطان على الشاعر عمر الخيام، حسب رواية أمين معلوف في سمرقند، أن يحقق حلم حياته فيمنحه مرصدا فلكيا وبالمقابل يجاور المثقفين فينقل للسلطان أخبارهم ومواقفهم منه، أجابه"دعوني لنجومي".
فهل كثير علينا أن يصرخ "مثقفونا" دعونا لنجومنا، وأن يصيروا رموزا للثبات على الموقف في زمن تتحول فيه الأفكار إلى مروحة للهواء المتأكسد...

2009/10/01

حوار مع المسرحي معز القديري: فتح سوق الدراما مغاربيا سينتشل مبدعينا من غربة المقاهي


على العكس تماما من شخصية «زاك» في شرّها وتوترها الدائم وفي حيرتها وقلقها الوجودي، تتسم شخصية الممثل معز القديري بقدر عال من الأخلاق وبالاعتداد بالنفس وخاصة وضوح الرؤية في مشروعه الفني.

معز القديري مثال حيّ لفورة الشباب المتزنة ولإتّقاد طموح جيل يصر على سرقة النجوم اللألاءة وسط الظلمة التي باتت تسور دربه وتمعن في تكريس الاسماء المستهلكة حدّ الهلاك على حساب الطاقات المتناثرة...

عقد من الزمن وأنت على خشبة المسرح، فهل كنت تتهيأ للظهور في التلفزة بالشكل المتميز الذي شاهدناه من خلال دور «زاك» في نجوم الليل»؟

ـ هناك جانبان، جانب الوضعية وجانب الخيار، وكل وضعية تنتج بالضرورة خياراتها، الوضعية الموجودة تتسم بقلة الاعمال الدرامية و التي تكتفي في الغالب الأعمّ بالوجوه المستهلكة، وكأن الدراما التونسية حققت اكتفاءها الذاتي من الممثلين، وهذه الوضعية تحتم على الممثل خيارات معيّنة، فإما ان يعاود دائما المشاركة في اي عملية كاستينغ، أو أن يسعى الى بناء مسيرته بالطرق المتاحة له، أنا شخصيا اخترت ميدان المسرح ولم آت بمحض الصدفة وأخرت وقتي بعد التخرّج من المعهد العالي للفن المسرحي 2003 ثم واظبت على التكوين لمدة 4 سنوات وهو ما سمح لي بالدخول لعالم المسرح كممثل ليكبر الهاجس وأطرق ابواب الاخراج المسرحي وبداية من 2006 أخرجت اول عمل خاص بي وهو مسرحية «هيدروجان» وخلقت اطارا ومنظومة خاصة بي أتحرك ضمنها حاولت من خلالها تحقيق ما أمكنني من إكتفاء ذاتي ابداعي ومن اشباع فني كما حاولت قتل اللهفة على البروز في الشاشة.

تشبثي بطموحاتي مكّنني من خلق مشروع فني لا يشبه احدا سوى معز القديري، وصارت التلفزة بالنسبة لي إما ان تضيف لتجربتي وتتناغم مع مشروعي الفني وإما فلا.
المسرح يعلمك ان تحمل خطابا وأن تقتنع به وتدافع عنه ولذلك لم أكن مستعدا للظهور كوجه لمدة يوم او يومين، كنت أرفض ولازلت الظهور الكمّي أو الظهور لغاية الظهور.

ولكنك ظهرت في أكثر من عمل سينمائي؟

ـ في السينما، ظهرت في فيلم «بين الوديان» لخالد البرصاوي وتقمصت شخصية رئيسية تحمل خطابا وتحكي عن معاناة حقيقية تدفعك للتماهي معها.

كذلك في الافلام القصيرة التي ظهرت فيها مثل «عين وليل» وكذلك في «نسمة وريح» وفي "الضو في البحر» وهذا العمل الاخير يندرج ضمن ما يسمى سينما الفكر، وهي سينما دوغمائيّة نوعا ما وقد لعبت فيه دور حارس القرية الذي يمنع أهلها من الرحيل عنها وكذلك في فيلم «سويعة آذان» لعبت دور منشط اذاعي وكنت حاملا لصوت الشعب...

كل الشخصيات التي قبلت تقمصها لم تكن شخصيات اعتباطية او هامشية بقدر ما كانت شخصيات اشكالية تحمل دائما نقاط استفهام...

الى أن تقمصت شخصية «زاك» في مسلسل نجوم الليل!؟

ـ منذ البدء وفي اطار طبيعي وبظروف مثالية تم لقائي بكاتبة المسلسل ومخرجه، ومنحوني الثقة التامة من خلال الدور، وطبعا تجربتي المسرحية خوّلت لي تقمص الشخصية التي قدمتها.
مروّج المخدرات شخصية حديثة في الدراما التونسية ولذلك تطلب آداؤها جهدا مضاعفا من حيث البحث في اعماقها والنبش في تفاصيلها اليومية حتى تتمكن من معايشتها فعلا.
«
مروّج المخدرات» كنا نسمع عن هذه الشخصيّة الاجتماعية وصرنا نشاهدها، بل انها كانت شخصية شبه اسطورية وصنعت الاف الحكايات في المخيال الشعبي وصارت محور حديث الشباب وهذه الخصوصية هي التي تخوّل لمن سيتقمّصها ان يتحمل المسؤولية كاملة في اخراجها على الوجه الذي يجب ان تظهر عليه. شخصية «زاك» سقطت في الجانب المظلم من الحياة، شخصية تعيش حالة قلق وجودي وكوابيس وخوف، هي شخصية تراجيدية بكل المقاييس.
في «نجوم الليل» قدمت الشخصية في حالتها القلقة ولكن ايضا لم ننسى الجانب المشرق فيها، اي محاولة «زاك» التخلص من «محنة المخدرات» ولكن احداث المسلسل حتّمت ان تكون لحظة الوعي هي لحظة نهاية هذه الشخصية.

وهذا الاختيار مقصود طبعا، فالعبرة من شخصية «زاك» تتمثل اساسا في ان العدميّة هي المآل الطبيعي لمن يتجاهل انسيته الكامنة فيه، وان السعادة والرضا عن الذات لا تتحقق الا بالبحث في الذات والغوص في اعماقها.

هناك أسطورة معروفة، هي أسطورة ايزيس عندما جمع كل الآلهة وسألهم: أين يمكن ان نخفي السعادة والحقيقة؟ فاختلفت الآلهة عن موضع السعادة الأمين أهو أعماق البحر أم باطن الأرض أم لا متناهي السماء، الى ان أجابهم ايزيس بأن أعماق الذات البشرية هي المكان الذي يتجاهله الإنسان ولا يبحث فيه وهي بالتالي المكان الاكثر أمانا للسعادة والحقيقة...هذه الأسطورة حاولنا أن نجملها ونقدمها من خلال شخصية «زاك» التي كانت في ظاهرها شريرة في حين كانت في باطنها تعاني الصراع الابدي و التمزّق بين الشر والخير.

يبدو ان للمسرح فضل كبير في شحنك بتلك الطاقة الخلاقة التي تجلت في ظهورك التلفزي حضورا وآداء؟

ـ المسرح هو المخبر الحقيقي لاكتشاف الطاقة الكامنة في كل انسان وهو الذي يمكنك من التحكم في الادوات والقدرة على التركيز لمواجهة الجمهور وجها لوجه من دون مساحيق او آلات تصوير.

كما يوفر لك متعة لا متناهية، هذه الخصوصيّة المسرحية كلما تمكنت منها كلما لازمتك في حلك و ترحالك وبالتالي من الطبيعي ان تجيد توظيفها امام الكاميرا...

المسرح يدرّبنا على العيش الحقيقي بصدق ، وبعفوية الحياة ولا يوهمنا بأن الاقتراب من الشخصية التي نتقمصها يحتم علينا ان نمثل بشكل جيد، ومثلما تقول العرب «أنفذ من السهم الى القلب كلمة صادقة»، بمعنى ان يكون الممثل في خدمة الشخصية لا في خدمة شخصه، وكلما تقلصت نرجسيته امام الكاميرا كلما تماهى مع الشخصية التي يقدمها، وهذه غاية لا يبلغها الا الممثل الذي يحترم مشاهديه.

ولكن هناك العديد من الممثلين القادمين من خشبة المسرح ومع ذلك فشلوا في تقمص أدوارهم التلفزية، فكيف تفسر ذلك؟

ـ ببساطة كل من يفشل في دور تلفزي وهو ابن المسرح فهو بالضرورة لم يستوعب بعد ان المسرح عمل يومي وجهد دؤوب يتطلب الحفاظ على أدواته المسرحية وتطويرها بالثقافة وبالمشاهدة.
الممثّل الذي يقتنع بأنه قادر على لعب كل الادوار هو الممثل الذي بلغ بداية نهايته.
في أمريكا اخترعوا ما يسمى بممثل الاستوديو «Acteur studio» لإيمانهم بأن التمثيل هو بالفعل جهد يومي ولذلك ننبهر بأدوار» روبارت دينيرو» و «ألباتشينو»، فهؤلاء قضوا سنوات من العمل في الاستوديوهات، كذلك «توماس ريتشارد» الذي جمع ممثلين من جنسيات مختلفة من العالم ليتدربوا الساعات الطوال يوميا، وقد شاهدت احد اعمالهم في احدى دوراتهم التكوينية بالحمامات.

الثابت ان نجاح مسلسل «نجوم الليل» تظافرت فيه عدة معطيات لعل ابرزها الكتابة الجديدة؟

ـ أطول مشهد في السيناريو لم يتجاوز الصفحة الواحدة وكأنه كُتب اساسا للسينما بإيقاعه المتسارع، ثم ان المخرج «مديح بالعيد» هو مخرج سينمائي بالاساس وتعامل مع اكبر المخرجين في السينما العالمية وهو ما مكنه من خلق توجه كامل في الكتابة وايضا لا ننسى مدير التصوير" بشير المهبولي"

اجتماع هذا الثلاثي، الكاتبة «سامية عمامي» و المخرج «مديح بالعيد» ومدير التصوير "بشير المهبولي»، وطبعا لا ننسى رغبة قناة حنبعل في تحقيق الاضافة والخروج عن السائد والمألوف، لا يمكنه الا ان ينعكس ايجابا على أداء الممثلين وعلى كامل الفريق التقني الذي أمّن تصوير مشاهد المسلسل.

الكتابة الجديدة قدمت لنا وجوها قديمة بشكل مغاير تماما، وأخرجت منهم في 15 حلقة ما لم نشاهده طيلة سنوات طويلة ولعل المثال الأنسب هشام رستم ومحمد كوكة.
الكتابة الجديدة ايضا ساهمت بشكل ملحوظ في سرعة اندماج الوجوه الشابة مع أدوارها أولا ومع باقي الأدوار ثانيا حتى اننا في هذا العمل لم نعد نفرق بين الوجوه القديمة والوجوه الجديدة، فالكلّ انصهر في كتلة من الابداع والاضافة، وهذا ما انطلقت فيه الدراما السورية والمصرية منذ سنوات قليلة ففي مسلسل باب الحارة لبسام الملا مثلا لا نلاحظ وجود اي فرق بين الممثل الكبير «عبد الرحمان التراشي» وبين الوجوه الجديدة ، فالكلّ اصبح في خدمة الفريق لا في خدمة ذاته.

هناك سؤال يتردد كل سنة، لماذا لا ننتج الاعمال الدرامية الا في رمضان؟ ولماذا مع كل عمل درامي تثار دائما مسألة أحقية هذا الممثل او الآخر من عدمها في التمثيل وهل يمكن اختزال حل المسألة برمّتها في اعتماد بطاقة الاحتراف او ما يسمى الثلثين؟

ـ في علاقة بالانتاج الموسمي، هناك معضلة حقيقية تتمثل في عدم تسويق الانتاج الدرامي التونسي بسبب «الاسطورة» التي صنعها أخوتنا المشارقة والمتعلقة بعائق اللهجة، وهي ليست صحيحة، لأن تجاوزها امر بسيط، فيكفي ان يتعود مشاهد سوري او مصري او خليجي على لهجتنا حتى يتمكن من فهم كامل العمل، اضافة الى ان الراعي الوحيد للأعمال الدرامية هي الدولة التي تضع المليارات كل سنة في انتاج مسلسل او مسلسلين وهذا راجع الى ان المنتجين لديهم حالة من التوجّس والخوف من خوض غمار الانتاج التلفزي، رغم ان توجه الدولة يسعى الي تكثيف العمل الدرامي، لكن الدولة بمفردها لا يمكنها ان تضمن انتاج عشرة اعمال مثلا في السنة، ونلاحظ مثلا في سوريا او مصر غياب القطاع العمومي عن الانتاج فأغلب المسلسلات هي من انتاج خواص وتحديدا رؤوس الاموال الخليجية.
علينا ان نعرف كيف نغري المستثمرين والمنتجين او على الاقل نفتح سوق مغاربية مشتركة ونخلق حركة تبادل درامي بين الاقطار المغاربية الخمسة.

عائدات الاشهار لا تكفي لتكثيف الانتاج الدرامي والعشرة ملايين الذين يشاهدون عملا ما يمكنهم ان يغطّوا تكلفته المالية، قناة نسمة مثلا بدأت تشق الطريق نحو هذه المبادرة ويكفينا اتكالا على مهرجانات الاذاعة والتلفزيون والتحصل على جائزة افضل ممثل شاب!!!

ومسألة بطاقة الاحتراف والثلثين؟

ـ المسألة مرتبطة كما أسلفت الذكر بقدرتنا على فتح سوق حية ومتحركة وساعتها سيغامر المنتج وسنكتشف مخرجين متميزين واكثر من سيناريست سيخرج من صمته وحيرته «الوجودية» ويثبت وجوده وكذلك سينتشل كل ممثل من المقهى ليجد نفسه في موقعه الطبيعي وهو استوديو التصوير.

اما مسألة الثلثين فهي متعلقة اساسا بالمسرح، فالدولة تقدم دعما للمسرح يناهز المليارين سنويا فمن الطبيعي جدا ان تكون هذه العائدات لأصحاب بطاقات الاحتراف اما الموهبون فعليهم بالمثابرة والجهد ليتحصلوا على أحقية ان يكونوا ممثلين محترفين.

الى جانب مشاركتك في مسلسل نجوم الليل، أنت ايضا مخرج مساعد لمسرحية made in tunisia التي لاقت رواجا جماهيريا منقطع النظير، فكيف تقيم هذه التجربة؟ وهل سيؤسس لطفي العبدلي فعلا نهجا جديدا في مسرح الممثل الواحد؟

ـ مسرح «وان مان شو» يبقى رائده الامين النهدي وأعتقد ان هذا النوع يعيش أوجه في السنوات الاخيرة حيث تتالت التجارب من آدم العتروس وجعفر القاسمي ووجيهة الجندوبي وسفيان الشعري وصولا الى لطفي العبدلي، ما أضافته مسرحية «صنع تونسي» هي الكتابة المعاصرة وخلق الفرجة من خلال الاضاءة والموسيقى وحركة الممثل وغياب الديكور والأكسسورات، وايضا عفوية وصدق الممثل الذي جعله قريبا جدا من الجمهور وكذلك طبيعة مضمون النص وحرفية لطفي العبدلي الذي عرف كيف يقوم بعملية جرد وتكثيف لثلاثة عقود من تاريخ تونس وتقلبات المجتمع والتطور الذي حصل للمواطن التونسي، ولذلك فإن المشاهد الذي تابع هذا العمل لم يجد نفسه غريبا عنه وهو ما ضمن كثافة الجمهور حيث سجل دخول احدى عشر ألف متفرج في مهرجان قرطاج وصنفت المسرحية جماهيريا الرابعة بعد عرض صابر الرباعي وشارل أزنفور وأمينة فاخت.
وأعتقد ان أهم ما نجحت فيه المسرحية هو مصالحة الجمهور مع ركح المسرح، وقد يعتقد البعض ان هذا العمل كوميدي بالأساس في حين أن كل الوضعيات الكوميدية في المسرحية تم بناؤها دراماتورجيا على أساس الكوميديا السوداء وبُنيت على إثارة نقاط الاستفهام لدى كل من يشاهدها.

ولن أضيف على ما قاله النوري بوزيد وابراهيم لطيف بأن هذه المسرحية تعبّر عن "ثورة جيل يتمرد على السائد والمألوف ويتجاوز حدود المنطق السائد لصنع منطق جديد يشبه المرحلة التي نعيشها".



2009/09/28

نسمة على "بيت صدام" وبيوت الأذى السلطاني


بعد اغتصَاب الأرض العراقيَّة وانتهَاك حُرمَات جغرافيا ما بين النهرين، وبعد إعدام الرئيس الشرعي لجمهورية العراق العربية صدام حسين جاء الآن دور اغتصاب التاريخ من خلال السّرقات والنّهب وطمس معالم حضارة بلاد الرافدين في إطار مشهدي سينمائي...

صدّام حسين برؤية صهيو- أمريكية هي ذي ورقة بريطانيا وأمريكا... ورقة الثقافة الغازية... ذلك أن هيئة الإذاعة البريطانية BBC أنتجت قناتها الثانية فيلما عن حياة ومسيرة صدام حسين أخرجه جيم هانلون وأليكس هولمز الذي أسهم أيضا في كتابة السيناريو وقد اختارت هذه القناة ممثلا صهيونيا لتقمص شخصية الرئيس العراقي ويدعى «ايغال ناعور» والفيلم بعنوان «بيت صدام».

الفيلم شرعت قناة "نسمة" المغاربية في بثه منذ الأسبوع الفارط على أجزاء، رغم "مناشدة" الهيئة الوطنية التونسية لدعم المقاومة العربية في العراق وفلسطين بالعدول عن بث هذا العمل مثلما طالعنا في الصحف ورغم ما أبداه العديد من المثقفين والمهتمين من رفض لهذا العمل منذ إعلان تصوير أغلب مشاهده في تونس.

شخصيا لا أرى مانعا من بث الفيلم على القناة المذكورة لعدة أسباب أولها أن الفيلم أُنتج وطبيعي أن يُبث، وان لم يبث على هذه القناة فسيُبث على غيرها، وهو قد بُث سنة 2008 على القناة المنتجة له كما أنه متوفر على أقراص ليزرية، وثانيها أن رفض أي عمل من قبوله لا يكون إلا بعد مشاهدته لنُحسن الحكم له أو عليه، وثالثها أن هذا العمل بالذات سيقدم عدة حقائق من حقنا أن نطلع عليها، ولو أننا وددنا لو كانت بعيون موضوعية ولا يهم إن كانت عربية أو غربية... وقد أكد العديد من العراقيين الذين عايشوا صدام حسين عن قرب أمانة نقل الحقائق والأحداث ضمن هذا الفيلم...

طبعا هذا الإنتاج الصهيو - أمريكي لن يخرج عن إطار التشويه والتزييف لمسيرة الرجل وحياته أثناء حكم العراق ولن تكون قراءة الواقع والتاريخ العراقيين وفقا لمعطيات وحقائق الواقع والتاريخ العراقيين إلا بما سيخدم الآلة الصهيونية والعقل الصيهوني لتعزيز استحواذه على مستقبل المنطقة بعد أن أمّن ماضيها المنغرس في فلسطين ولبنان وما جاورهما... وسيكون فيلم «بيت صدام» مثل رواية «أرض الميعاد». ولن يضاهي دور الممثل الصهيوني «ايغال ناعور» دور «أنطونيو كوين» في فيلم «عمر المختار» الذي أخرجه مصطفى العقاد والذي أُغتيل هو الآخر قبل ان يخرج فيلما عن صلاح الدين الايوبي...

إن توظيف الثّقافة كسلاح حربي يمثل استراتيجية قديمة وهي مستمرة إلى الآن لنجاعته وفاعليته، وهو أيضا مستمر هناك، عند الآخر المستعمر ويكفي أن نذكر مدخل نابليون بونابارت لمصر... أما عندنا فالثّقافة كسلاح وجود، مقبورة بأيادينا نحن... لا بأيدي غيرنا... أيادي السلطة الرجعية والسلطة المتواطئة مع الاستعمار....

فالفيلم السياسي والمسرح السياسي والرواية السياسية والشعر السياسي... كلها مُصادرة ومُطاردة من قبل السّلطة السياسيّة فلا غرابة أن يُغتال غسّان كنفاني وناجي العلي، ولا غرابة أن يجنّ محمد شكري ويُنفى عبد الرحمان منيف، ولا غرابة أن يُغتال سعد الله ونوس وأن يُحاكم عاطف الطيّب ويُحاصر مظفر النواب وأحمد عفيفي مطر ومنوّر صمادح... وتظل كاميرا المخرج سابحة في سحابة التظليل والمغالطات والتستر على الفظائع المُرتكبة في كل قطر عربي... وفي تشييد بيت للأذى الدائم للشعب العربي...

وفي المقابل تنخرط الآلة الثقافيّة الرسميّة في تمجيد وأسْطَرَة السيد الرئيس الحاكم بأمره وتمجيد وأسطرة الحزب الحاكم الواحد الأوحد وتوظف كل مدّخرات شعبها وبلادها لترويج فلكلور مشوّه وشعوذة بائسة، وتكرّس ثقافة منبتّة لا تمتلك أفقا ولا استراتيجيا، ويكفي أن نقف على الموجة الجديدة للسينما المصرية أو الإطار العام لمسلسلاتنا التونسية ولبرامج المسابقات والأغاني لنلاحظ عمق الهوّة الفاصلة بين الرؤيا الصهيونية والأمريكية في مجال استثمار الثقافة والرؤيا الثقافية العربية في مجال طمس وردم الثقافة...

2009/09/25

حوار مع كاتبة مسلسل نجوم الليل سامية عمامي حان الوقت لتتخلص الدراما التونسية من قمقم الصورة الكلاسيكية المسطحة


أحدث مسلسل «نجوم الليل» الذي بثته قناة حنبعل في النصف الأول من شهر رمضان، نقلة نوعية خاصة على مستوى الصورة، حيث تخلص هذا العمل من الصورة الكلاسيكية الباهتة التي انحسرت فيها جل أعمالنا الدرامية إن لم نقل كلها، كما أن هذا العمل قدم للمشاهد وجوها جديدة وشابة أثبتت جدارتها وقدرتها على التمثيل.

من بين الوجوه الجديدة والشابة التي ساهمت في هذه الدراما كاتبته سامية عمامي التي كان لنا معها هذا الحوار.


لمن لا يعرف كاتبة مسلسل نجوم الليل، كيف تقدم سامية عمامي نفسها للقارئ؟

ـ درست بكلية الحقوق بتونس وتخرجت سنة 1998 بالحصول على شهادة في الدراسات المتخصصة، اختصاص نزاعات المؤسسة، وبعد فترة من التمزق بين حبي للفن بصفة عامة والفن التشكيلي بصورة خاصة وبين التجريب في الكتابة سواء المسرحية أو السينمائية أو التلفزيونية، انطلقت في العمل المسرحي حيث أنجزت مشروع تخرج مع طلبة المعهد العالي للمسرح سنة 2005 بعنوان «مسجل مجهول» وقد فاز بجائزة أفضل مشروع تخرّج وكذلك جائزة الجامعة وكان من تمثيل لبنى نعمان ويسالا النفطي ثم دخلت إلى مجال الاحتراف من خلال عمل مونودراما بعنوان "هيدروجين" حيث كتبت النص وأنجزت الدراماتورجيا وجسّده معز القديري وأخرجه أيضا للمسرح وعرض لأول مرة بفضاء التياترو في تظاهرة «العرض الأول» ثم شاركنا في مهرجان الفوانيس بالأردن، كما قمت بتربص مع المسرح الملكي لمدة سنة ونصف حول «الكتابة الدرامية الجديدة".

ثم كانت لك تجربة أولى مع الشاشة الصغيرة؟

ـ بالفعل كتبت سيناريو سيتكوم، سلسلة كوميدية، بعنوان «الكلوك» وهو مصطلح غربي يطلق على المشتركين في الكراء مع المخرج برهان بن حسونة، وقد قامت بإنتاجه قناة حنبعل وبثته السنة الفارطة في شهر رمضان، وهذا العمل هو الذي ساهم في التعريف بي لإدارة حنبعل، رغم أن التجربة لم تكن مكتملة، إلا أن صاحب القناة السيد العربي نصرة، منحني ثقته واقترح علي تجديد التجربة، فكان لقائي بالسيد المهدي نصرة المشرف على قسم الدراما بالقناة، والذي اقترح علي فكرة وتصور لمسلسل درامي وترك لي حرية الكتابة فيها.

تقصدين فكرة وتصور مسلسل «نجوم الليل»؟

ـ تماما، كانت فكرة وتصور المسلسل الذي تابعه المشاهد التونسي والعربي في الجزء الأول من شهر رمضان والذي كان بعنوان «نجوم الليل»، حيث أنهيت كتابة السيناريو في ظرف شهرين وإحقاقا للحق فإن الفكرة في حد ذاتها كانت الدافع الرئيسي لشحني وحثي على تطويرها وحبك تفاصيلها.

وبما أن فكرة السيد المهدي نصرة كانت فكرة حية و «ابنة الواقع»، فقد فسحت لي المجال للتجريب فيما يسمى الكتابة الجديدة للتلفزة، وهي التي تستعير مفرداتها ولغتها من الكتابة السينمائية المبنية أساسا على الصورة ودلالاتها، وهذا الاختيار هو الذي جعلنا نختار المخرج الشاب مديح بالعيد باعتباره سينمائيا وهو المؤهل للكتابة السينمائية التي أردناها، وهي الكتابة الخالية من "الكليشيهات" التلفزية.

ولكن ما هو دور عبد الحكيم العليمي الذي نطالع اسمه في جينيريك المسلسل؟

ـ الكتابة الأولى أفرزت ثلاثين حلقة، غير أن إدارة القناة، ومن اجل إعطاء حظوظ أوفر للمسلسل، قررت تقليص الحلقات إلى النصف فدعت السيد عبد الحكيم العليمي للقيام بهذه المهمة، وتم التقليص من مشاهد المسلسل.

طيب لماذا كل هذه الدراما المغرقة في السوداوية؟

ـ هو في الحقيقة المسلسل ككل مبني على صراع الخير والشر، صراع الحق ونقيضه، وكل الخيوط الدرامية تمت صياغتها في ظل هذا الصراع، حتى قصص الحب الموجودة في العمل تعيش تحت الحصار، أو هي قصص تحمل فشلها في داخلها.

أؤمن بقولة جبران خليل جبران «الآباء يأكلون الحٌسرم والأبناء يَضْرَسون» لأن شباب اليوم يدفع ضريبة أخطاء الكبار وصراعاتهم.

لا يمكنني أن أنكر بأن مادة المسلسل هي من الواقع المعاش ولكن هي بالأساس تأويل لهذا الواقع. فمثلا عندما أطرح علاقة حب بين شخصين، فإني أتساءل عن كيفية استمرار ذاك الحب، وبالتالي كيف تكون العلاقة بين شخصين مستلبين، فمثلا علاقة "مروى" و "أيمن" هي علاقة روحان ضائعان فالأولى تبحث عن فارس أحلام يأتيها على "هامر" بيضاء وينتشلها من الأحياء الشعبية والثاني مسلوب من حلمه ولاذ بعالم المخدرات ليعيش وهم الحياة، وبالتالي فالعلاقة بين هذين الشخصين لا يمكن أن تكون إلا كارثية.
الصورة السينمائية حققت للمسلسل قيمة مضافة وهي أول تجربة تقريبا في الدراما التونسية ككل؟
ـ هناك تجارب قامت بها التلفزة التونسية، مثل الشريط التلفزي "ولد البسطاجي" ولكن كانت تجارب منعزلة ولم تكن اختيارا من طرف القناة بقدر ما كانت اختيارات فردية من بعض المخرجين، عكس تجربة «نجوم الليل» التي هي بالأساس اختيار مدروس من قبل إدارة قناة حنبعل التي تسعى للرقي بالصورة التلفزية والارتقاء بالدراما الوطنية وجعلها قابلة للانتشار عربيا وعالميا، ولذلك لا نستغرب اختيارها لمدير تصوير المسلسل الشاب بشير المهبولي الذي تلقى تكوينا سينمائيا ودرس فن الصورة في فرنسا، وهو اسم ستذكره الدراما التونسية.
والصورة التي شاهدناها كانت نتاجا لتضافر عدة جوانب منها الجانب التقني، حيث تم استعمال تقنيات فيديو متطورة، والجانب الإخراجي المبني على خلفية سينمائية، ثم جانب الكتابة السيناريستية المعتمدة على البعد السينمائي أكثر من اعتمادها على الكلمة ولذلك عملنا على تكثيف لغة الحوار واختزالها والتعويل على الصورة كلغة مستقلة بذاتها وقادرة على التبليغ.
ولكن أيضا عملية اختيار الممثلين ساهمت بشكل كبير في نجاح المسلسل؟

ـ بالفعل عملية اختيار الممثلين ساهمت في نجاح المسلسل، ويعود ذلك أساسا إلى أن الاختيار كان مبنيا على منطق عدم تقديم الوجوه المستهلكة تلفزيا، فأغلبهم وجوه جديدة، والى جانب هشام رستم وعلي بالنور وفؤاد ليتيم ومحمد كوكة وسامية رحيم وعلي الخميري وغيرهم فإن باقي شخوص المسلسل، وجوه شابة، وحسب رأيي فإن هذا الاختيار يساهم في خلق نوع من «التغريب» الذي يشد المشاهد ويجعله يعيش رحلة اكتشاف، كما انه يتعامل مع الوجوه الجديدة من دون خلفية مسبقة أو تصنيف معين لهذا الممثل أو ذاك، ثم إن هذا الاختيار يساهم في إضفاء واقعية أكثر على الأحداث.

باعتبارك كاتبة المسلسل هل ساهمتي في عملية اختيار الممثلين؟

ـ عملية اختيار الممثلين هي بالأساس وأولا وأخيرا مهمة المخرج ولكن ومثلما هو متعارف عليه فقد كانت هناك مشاورات بيني وبين السيد مديح بالعيد مخرج المسلسل خاصة في الأدوار الأساسية، وعموما لم تكن هناك أية اختلافات بيننا بخصوص الممثلين.

هل تابعتي عملية التصوير وهل كان لك دور فيها؟

ـ حضرت أغلب المشاهد، وساهمت من موقعي كسيناريست، في تحوير بعض المشاهد كلما استوجب الأمر، واعتقد آن تواجد السيناريست أثناء التصوير لا يسبب عائقا في سير العملية مثلما هو سائد لدى العديد من السيناريست أو المخرجين، بقدر ما يساهم في إنجاح تصوير المشاهد، فالسيناريست هو بالأساس مبدع ولكن دوره يتحول إلى دور تقني أثناء التصوير، وكل ما يقوم به هو في خدمة الإخراج.

ولا أجد مبررا لاستمرار الصراع التقليدي بين الكاتب والمخرج بقدر ما أؤمن بأن هذا الصراع يمكن آن يكون «صحيا» وفي صالح العمل الدرامي ككل سواء كان مسرحيا أو سينما أو تلفزيا...

بعد كتابة «نجوم الليل» وبعد تجربة الواقعية التي ما تزال تكبّل الدراما التونسية، ألا تفكرين بكتابة نص مسلسل وثائقي مثلا أو فنطازيا تاريخية، مثل أعمال شوقي الماجري أو بسام الملا؟

ـ بالطبع، فمثل تلك الأعمال توفر متعة لا متناهية خاصة في البحث والكتابة، وهي تشكل نوعا من التحدي باعتبار انك تكتب في «تيمة» تاريخية أو قيمية بأسلوب معاصر وقريب من الناس، أي كيف تجدد التاريخ أو تعيد تصنيفه، ولكن المسألة تبقى إنتاجية بالأساس، نظرا للكلفة المادية العالية لمثل تلك الأعمال.

أنا شخصيا لا أقول بأنني أفكر في كتابة عمل درامي وثائقي مثلا أو في الفنطازيا التاريخية، ولكن أقول بأن لدّي القدرة على الكتابة في هذين النمطين متى طٌلب مني ذلك، ثم إن ما يعنيني أساسا هو «الصراع» الذي تقدمه الدراما، ولا أخفيك سرا بأن لدي ميولات لمَ يسمي «Les Filmes procés» أي تلك التي تقوم على «تيمة» الاستحقاق القانوني.