2012/02/24
"اصدقاء سوريا": الصداقة الموقوتة تحت سقف مؤقت
لا تطرح نقاط الاستفهام والتعجب من "هرولة" الحكومة المؤقتة التونسية وتسهيل الإجراءات التنظيمية لإيجاد "حل" إزاء الأزمة السورية، من جزء كبير من الشعب التونسي والمعارضة السياسية والمجتمع المدني فقط، وإنما تطرح دوليا وخاصة من الطرف الروسي والصيني.
باستثناء روسيا والصين والهند ولبنان، ستلتقي عشرات الدول العربية والأجنبية، إلى جانب حضور الأمين العام للأمم المتحدة، يومي الجمعة والسبت (24 و25 شباط الجاري) بالضاحية الشمالية لتونس العاصمة لتدارس الحلول الممكنة للازمة السورية في إطار ما سمي "مؤتمر أصدقاء سوريا" الذي أعلن عن انعقاده وزير الخارجية في الحكومة التونسية المؤقتة رفيق عبد السلام بوشلاكة منذ أسبوعين تقريبا، وهو المؤتمر الذي يثير العديد من الانتقادات خاصة في الداخل التونسي من طرف الأحزاب السياسية المعارضة (حركة البعث القطر التونسي ، حركة الشعب المؤتمر التأسيسي الموحد للتيار القومي التقدمي ، حزب العمال الشيوعي التونسي ، حركة الوطنيين الديمقراطيين ، حزب العمل الوطني الديمقراطي ، حزب الطليعة العربي الديمقراطي والاتحاد الديمقراطي الوحدوي التونسي وحركة التجديد والحزب الديمقراطي التقدمي) ومن طرف العديد من مكونات المجتمع المدني والحقوقي والنقابي (الاتحاد العام التونسي للشغل والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والاتحاد العام لطلبة تونس)، إلى جانب شق واسع من الشعب التونسي، وقد عبرت هذه الأطراف عن رفضها المطلق لان تكون تونس بوابة لتدويل الأزمة السورية في أكثر من مناسبة لعل أبرزها عندما استضافت الحكومة المؤقتة ما يسمى المجلس الانتقالي الوطني السوري بقيادة برهان غليون وعندما أعلنت أيضا قرار طردها السفير السوري من الأراضي التونسية، حيث انتظمت عديد الوقفات الاحتجاجية بتونس العاصمة وأمام السفارة السورية بالعاصمة وأمام مقر المجلس التأسيسي وفي العديد من المحافظات الداخلية على غرار محافظة صفاقس ثاني اكبر المدن التونسية.
وتجمع عديد القراءات السياسية أن الحكومة التونسية المؤقتة قد فتحت غرفة ولادة قيصرية لاستقبال "الجنين" المشوه، القادم من دولة قطر بعد أن نمى في رحم اسطنبول، خاصة بعد أن كشف عديد الدبلوماسيين العرب عن تمويل سفارة قطر بتونس لهذا المؤتمر وتكفل طاقمه بتنظيم أدق التفاصيل، ومن خلال التعبئة الإعلامية من طرف الفضائية القطرية "الجزيرة" والفضائية السعودية "العربية" ووسائل الإعلام الأمريكية والأوروبية.
هذا فضلا عن طبيعة العلاقة المتينة بين محمد المنصف المرزوقي الرئيس المؤقت لتونس وهيثم مناع رئيس التنسيقية السورية اللذان أسسا في باريس الرابطة العربية لحقوق الإنسان.
المؤتمر الذي سيُعقد على مستوى وزراء خارجية دول الجامعة العربية (التي استحوذ عليها مجلس التعاون الخليجي) والإتحاد الأوروبي ومنظمة المؤتمر الإسلامي وبعض الأطراف الدولية على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، كما سيشارك في أعماله مندوبون عن فصائل المعارضة السورية ومنها "المجلس الوطني السوري"، و"هيئة تنسيق قوى التغيير الديمقراطي"، و"المجلس الوطني الكردي السوري" كمراقبين، نفت قيادة حركة النهضة الإسلامية، وتحديدا زعيمها الأول راشد الغنوشي، نفى أن هذا المؤتمر سيشرع لتدويل الأزمة السورية والتدخل العسكري، دون أن ينفي الاعتراف بالمجلس الوطني السوري، وهو ما لا تستبعده عديد الأطراف المهتمة بالملف، وخاصة المعارضة التونسية التي تعتبر أن مؤتمر "أصدقاء سوريا" سيكون محطة لإعلان "ضرورة" إرسال قوات حفظ سلام عربية ودولية إلى الأراضي السورية، مستندة في ذلك (المعارضة التونسية) إلى التضارب الصارخ بين راشد الغنوشي وصهره وزير الخارجية فيما يتعلق بالاعتراف بالمجلس السوري وبالتدخل العسكري، كما أن العديد من الملاحظين والمتتبعين لسياسة حركة النهضة الإسلامية الحاكمة في تونس يربطون الموقف من سوريا بطبيعة العلاقة الجديدة مع الكيان الصهيوني خاصة بعد تصريحات قيادييها من أن تونس لا تمانع من إنشاء علاقات طيبة مع "إسرائيل" وبان الحركة لن توافق على إدراج فصل في الدستور التونسي يجرم التطبيع.
من بين العناوين البارزة في صحافة المعارضة التونسية العنوان الذي تصدر الصفحة الأولى لجريدة "صوت الشعب" الناطقة باسم حزب العمال الشيوعي التونسي، في الأيام الأخيرة والذي يقول "في لعبة الشطرنج: البيادق تتحرك أولا" وهي إشارة بليغة عن طبيعة العلاقة بين المشروع الأمريكي القطري السعودي من جهة والحركات الإسلامية فيما يسمى ربيعا عربيا، وعلى رأسهم حركة النهضة الإسلامية في تونس.
2012/02/22
عمار منصور يترك السجن الكبير
لن نسمع مجددا قهقهاته العالية، ولن نراه يناقش بصوت عال مسائل السياسة والثقافة، وهو ينثر ابتساماته وامتعاضاته يمنة ويسرة أينما جلس أو مشى...
سوف لن تصعد السجائر مجددا إلى فمه، لا السوائل ولا اللغة...
سيجف حبر عمار منصور عن تأثيث مدينته المشتهاة "تحت السور" اللغوي الذي رفعه عاليا على صفحات الجرائد اليومية والأسبوعية، سيتخفف عمار من ثقل الشوارع الخلفية ومن الثرثرة اللغوية التي تحيط به، وسيتمدد إلى جانب نور الدين بن خذر ومحمد بن جنات وأحمد عثمان وعبد الحفيظ المختومي ويشاطرهم طريق الحلم بتونس أجمل وأفضل، وهم الذين تركوا بذرة الاتقاد تتسامق بداخلنا.
إجلالا لمسيرته النضالية والإبداعية نعيد نشر بعض المقتطفات من الحوار الذي خصنا به الفقيد عمار منصور.
من كان ينتظر أن يتكلم عمار منصور في يوم ما عن تجربته السجنية وتجربته الشعرية وموقفه من أدب السجون في تونس بشقيه، أدب المسؤولين السياسيين، وأدب الرفاق، رفاق حركة آفاق، رفاق سجن 9 أفريل ... كنت دائما أراه متوغلا في صمته وتأمله، ولم أكن أنتظر ـ كغيري ربّما ـ أن يتحدث إليّ في أكثر من جلسة واحدة لولا إصرار أحمد حاذق العرف. فكان أن خص الملحق الفكري "منارات" بجريدة الشعب بأهم وأطول حوار أجري معه، وهو الذي لا يجري الحوارات إلا نادرا .
❊ من مساوئ الذاكرة الجمعية أنها تتجاهل أو تتناسى من يساهمون في صنع التاريخ في صمت ... أنت كنت واحدا ممن ناضل في صمت ويبدو أنك تمرّ في صمت أيضا؟
ـ نحن لا نتخاصم على "تركة" تاريخية. أنا لا أتحدث عادة عن السجن في علاقاتي الشخصية والمهنية ولذلك فالكثير من الناس يستغربون دخولي السجن. أعتقد أن التجربة أو المحنة التي مررت بها لم أخضها من باب الطموح الشخصي الضيق، وإنما من باب القناعات الفكرية والوجودية بالأساس وبدرجة أقل سياسية. لذلك أعتقد، ولا أدّعي، أن ما قمت به ليس (مزية) على هذه البلاد أو على أي شخص كان، وإنما أعتبرها محاولة بسيطة لإرضاء ضميري الحائر إلى درجة العذاب والذي لا يزال كذلك إلى الآن، معذب من عديد القضايا الوجودية سواء محلية أو قومية أو أممية وأعتقد أنها تشكل بؤرة التوتر في حياتي إلى اليوم، ولربما على هذا الأساس، فإن تجربتي السجنية، وكذلك الأشعار التي كتبتها وأنا داخل السجن لم يطّلع على بعض جوانبها ـ بل لم يسمع بها كثير من الأصدقاء والزملاء إلا فيما شذّ وندر ـ إلى درجة أن بعض الناس يستغربون تمام الاستغراب إذا ذكر بعضهم أن فلانا شاعر أو كان سجينا سابقا.
كأنني دفنت نفسي بنفسي أو كأني خرجت من سجن لأدخل إلى آخر. أمقت الافتعال والتصنّع وقد أكون مخطئا في هذا وقد يعود ذلك إلى حكم سلبي مطلق على تجربتي من ألفها إلى يائها ولكنه في الحقيقة يشكل احتراما فعليا لتلك التجربة.
❊ ولكن كل المناضلين أو لنقل جلهم خاضوا تجاربهم أيضا انطلاقا من قناعاتهم، كما أنهم يحترمون تجاربهم فعليا دون تصنع أو تكلف؟
ـ إذا كان الأمر كذلك مع كل السجناء السياسيين السابقين دون استثناء فهذا أمر مشرف لهم ومشرف للوطن.
❊ طيب، لنعد إلى قابس وما قبل قابس؟
ـ إنها عودة "إلى الوراء" زمانيا لأكثر من نصف قرن (1955) حينما كانت الحركة الوطنية في تونس والعالم العربي في أوج فعلها التحرري أذكر أنني (ولم أكن قد التحقت بعدُ بالمدرسة الابتدائية بقرية المنصورة) استمعت ذات صباح إلى ضوضاء رهيبة وعلمت فيما بعد أنها مظاهرة ضد الاستعمار الفرنسي فلم أشعر إلا وأنا أختطف من أميّ أداة حادة كانت تستخدمها في نسج الصوف وقفزت من سطح الدار وخرجت لألتحق بجموع المتظاهرين .
لقد نشأت في مناخ وطني متحرك خاصة وان أبي نفسه محمد بن منصور قد كان من أول مؤسسي شعبة الأعراض بالجنوب التونسي والتي كانت لها علاقة وثيقة بالمقاومين مثل بلقاسم البازمي والساسي الأسود والطاهر الأسود والحبيب شقرة.
أذكر أن والدي كان يعطيني سلة لأجلب له الفلفل من بستاننا لأعطيه للفلاڤة خلسة. عندما التحقت بالتعليم الابتدائي تشبعت بالأناشيد الوطنية التونسية والعربية، وهناك قصائد أحفظ منها الكثير الى الآن للشابي وحليم دموس وحافظ إبراهيم واحمد شوقي وجميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي ...
في مرحلة الثانوي بالمعهد المختلط بقابس (62 / 63) تعرفت على عدد كبير من التلاميذ من مختلف ولايات الجنوب أذكر منهم سجناء سياسيين فيما بعد مثل عمار الزمزمي ونور الدين بعبورة وبولبابة بوعبيد، أما محمد معالي فكان زميلي من فترة التعليم الابتدائي وتعرفت أيضا على التلميذ أحمد حاذق العرف الذي أضحكنا كثيرا على شخصية ( شلُكْة ) وهو قيّمٌ عام .
هذه الفترة كانت أخصب فترة من حيث المطالعة فقد كنا نتداول الكتب أكثر من تداول الجوعى للخبز . في ظرف ثلاث سنوات قرأنا مئات الكتب .
❊ إلى أي الاتجاهات أخذتك الكتب؟
ـ حملتني الأفكار إلى نثر نقاط الاستفهام وطرح الأسئلة وتوليد الأسئلة من الأسئلة. في تلك الفترة اطلعت تقريبا على المدونة الأدبية والنقدية العربية بالخصوص من الجاهلية حتى مجلة آداب لسهيل إدريس ثم دخلت عالم الأدب الفرنسي.
❊ وأيضا حملتك إلى ظلمة السجون؟
ـ يمكن أن يكون ذلك صحيحا بنسبة كبيرة، فجدتي رحمها الله سمعت أنني نشرت قصيدة في إحدى الجرائد اليومية فلم تفرح بل حزنت وتوقعت مصيرا غير سار لحفيدها عمّار، ولعل هذا ما جعل عمار يرثيها في قصيدة مطولة عندما أدركتها الموت وهو في السجن.
وكان قد بعث لها في إحدى رسائله سلاما لكنه لم يصل (بلّغتكُ السلام فلم يصل ).
في خضم عالم القراءات وفورة الحركات التحررية الوطنية في كافة أنحاء العالم وخاصة بعد هزيمة 67 اتصلنا بالفكر الماركسي عن طريق نصوص مبرمجة في كتب الفلسفة أولا ثم عن طريق مترجمات مشرقية لكلاسيكيات الماركسية، وفي تلك الفترة، وأنا بين البورقيبة والناصرية واليوسفية والماركسية انتقلت الى الجامعة التونسية والتحقت بكلية الآداب والعلوم الانسانية ( 9أفريل) بعدما تحصلت على شهادة الباكالوريا في الفلسفة والآداب الأصلية .
في الكلية درست الآداب العربية، وفي شوارع العاصمة انفتحت الآفاق رحبة.
كنت أتصوّر قبل الالتحاق بالكلية أن صفة طالب تعني بالضرورة صفة ثائر، ومن البداية تعرفت على عدد كبير من الطلبة سرعان ما تجاوبنا معا لتشابه مراجعنا وقراءاتنا وخلفياتنا الفكرية وطموحاتنا.
في تلك الفترة تعرفت على "الشيخ" الهاشمي الطرودي وكان شابا ذكيا وحركيا ومن خلاله تعرفت على الرفيق محمد بن جنات الذي كان يتقد حماسا ويتمتع بنوع من الكاريزماتية والنجاعة العملية، ثم أصبحت أسكن معهما في نهج أحمد التليلي.
منذ سنتي الأولى كنت عضوا في اتحاد الطلبة وكنت أيضا في التنظيم السري (آنذاك) لحركة آفاق بعد أن حسمت أمري من اختلاط البورقيبة واليوسفية والناصرية والماركسية لصالح الأخيرة.
عشت وساهمت من بعيد في مؤتمر قربة وحركة فيفري 72 وحركة ماي 73 .
❊ ليلة 18 نوفمبر 1973 دخلت السجن؟
ـ قُبض عليّ. لم أدخل طوعا إلى السجن. أُدخلت إلى سجن 9 أفريل في الزنزانة رقم 6 ومنها إلى الزنزانة عدد 17 (قد تكون الزنزانة عدد 5 فعذرا على الذاكرة المهترئة) قبلها بقينا تقريبا ثلاثة أشهر في مكاتب ودهاليز وزارة الداخلية التي كان على رأسها الطاهر بلخوجة آنذاك .
أثناء الاستنطاق تعرضت كغيري من الرفاق إلى تعذيب شديد اكتسى مظاهر متعددة لعل أشنعها التعليق على طريقة "الهيلكوبتر" وهي طريقة بلغنا إنها مستوردة من أمريكا اللاتينية حيث تُربط يدا السجين وساقاه بإحكام شديد ويتم تعليقه على عمود ثابت وتوضع على فمه "كمامة" فتصير قدماه إلى أعلى ورأسه إلى أسفل ويتداول عليه جلاّدان بالهراوة وهي أنواع متعددة هي الأخرى (الهراوة المطاطية والهراوة الخشبية) ومن أبرز الجلادين الذين أحتفظ الآن بأسمائهم محسن ولد الصغيرة وثان ينادونه "سكابا" وثالث اسمه نور الدين ولا أذكر لقبه ولكن أذكر جيدا انتشاءه بالتعذيب بالغناء نكاية فينا.
من بين أشكال التعذيب أيضا ضرب العضو التناسلي للسجين بعصى مطاطية مما جعلني أتبوّل الدّم سبعة أيام متتالية وانتفخت رجلاي ويداي وتقيحت، وفقدت أظافري وطيلة فترة زمنية لم أعد قادرا على الذهاب الى دورة المياه إلا بمساعدة شرطيين بالزي ممن كانوا يتولون حراستنا بعد الجلادين وكان بعض هؤلاء لا يخفى تعاطفه معنا خاصة وان منهم شباب تلمذي شارك في حركة فيفري 1972 واضطر للالتحاق بسلك الأمن لأسباب قاهرة .
ظللت أكثر من شهرين لم يلمس الماء جلدي حتى أن بعض الحشرات كالقمل والبق بدأت تعشش في فُرُشِنَا وأجسادنا ويوم نُقلنا الى "دوش" السجن المدني بـ 9 أفريل لم تدم حصة التطهير تلك أكثر من خمسة دقائق بحيث أن الأوساخ تحيّرت ولكنها بقيت بأجسادنا ممّا ضاعف من وسخنا وآلامنا، وكأن "الدوش" كان نوعا من أنواع التعذيب بل هو كذلك.
أشعلوا النار في شعر عانتي، عشت على "الراڤو" لمدة شهر تقريبا ومع ذلك فقد كنا صامدين أمام القمع والتعذيب داخل دهاليز وزارة الداخلية بحيث كنا نؤلف الأناشيد الثورية ونلحنها وننشدها بكل قوة ليلا نهارا مما يثير الهلع في صفوف الحراس وموظفي الداخلية الكبار ومن الأناشيد التي ألفتها وأنا في الزنزانة وأَنْشَدَهَا الكثير من الرفاق السجناء وانتشرت داخل وزارة الداخلية .
كتبتُ (إلى اللقاء، إلى اللقاء يا أيها الرفاق / سوف النضال يجمع شملا بعد الفراق / سنلتقي سنلتقي في جبهة النضال / في حزبنا حزب الملايين من العمال...) وهي معارضة لنشيد كنا حفظناه في التعليم الابتدائي يقول مطلعه "الى اللقاء، الى اللقاء يا أيها الإخوان"...
❊ إذن كنت تكتب داخل زنزانتك؟
قبل الدخول الى السجن كانت لي تجارب شعرية ومحاولات عديدة انطلقت من التعليم الابتدائي ولكنها في بداية التعليم الثانوي بدأت تتبلور في اتجاه رومنطيقي صوفي وقد نالت بعض قصائدي جائزة الجمهورية على مستوى الشبيبة المدرسية في مناسبتين متتاليتين أذكر منهما قصيد »ثورة مجنون« ونشرت عدة قصائد في الصحف (جريدة الصباح، مجلة فكر) ثم لما التحقت بالجامعة وتحديدا كلية الآداب والعلوم الانسانية 9 أفريل في السنة الدراسية 69 / 70 تعرفت على العديد من الشعراء الطلبة مثل المرحوم الطاهر الهمامي والمنصف الوهايبي والطيب الرياحي وبدأنا نتصل بكثير من النقاد والشعراء المعروفين الذين بدأوا يؤسسون لما يسمى بالطليعة الأدبية مثل إبراهيم بن مراد ومحمد الصالح بين عمر والحبيب الزناد وسمير العيادي وأحمد مختار الهادي فضلا عن أحمد حاذق العرف وشاعر آخر نسيت اسمه كان يشتغل في الحرس الوطني!!! (عذرا تذكرت اسمه، خالد التومي ).
وقد تزامنت هذه الموجة "الطليعة" مع انهيار نظام أو سياسة التعاضد مع أحمد بن صالح فبقدر ما كنا مستائين من سياسة احمد بن صالح التجميعية المفرطة وغير المبنية على وعي الفلاحين، كنا نتعاطف معه وحرصنا على حضور محاكمته باعتبار انه لم يكن المسؤول الأول عن تلك السياسة الفاشلة، وفي خضم تلك الأحداث كتبت أنا والمنصف الوهايبي أول قصائد جماعية بمجلة »فكر« والملاحظ هنا أن هذه المجلة تفتحت في تلك الفترة بالذات على الطليعة ونشرت الكثير من النصوص الجريئة، كما كتبنا مجموعة قصائد جماعية أيضا سنة 1970.
أذكر مقطعا من قصيدة كتبتها دفاعا عن بن صالح باعتباره مظلوما أقول فيها : ( حياتكم أفيون / وفكركم عاطل / فحكمّوا المجنون / وحاكموا العاقل....
وأذكر مقطعا آخر يعبّر عن تبرّم الناس من الوعود التي لم تتحقق إلا من خلال أبواق الدعاية: (عُوّدتُ بالخضوع / عُوّدتُ بالقناعة / عُوّدتُ أن أرتقب الموعد ألف ساعة / وكنت حينما أجوع / أقتاتُ من برامج الإذاعة).
هذا قبل السجن، ولعل هذه الأشعار والأفكار هي التي أفضت بي الى السجن.
❊أنا سألتك عن الكتابة داخل الزنزانة؟
ـ في البداية مُنعت عنا الأقلام والأوراق والكتب ورغم ذلك كتبت برماد السجائر على أوراق علب الدخان ومختلف أنواع الأوراق الأخرى ومن ذلك قصيدة ـ وقد ضاعت ـ عنوانها »قائمة الممنوعات« أقول فيها (ممنوع ممنوع... الحاكم يحكم والشعب قطيع... مكتوب بالحبر... مكتوب بالطين على كل جبين... يدق بناقوس الإنذار... كلما التقى اثنان... وكلما تحركت شفتان) هذه القصيدة كان يقرؤها الرفيق نور الدين بن خضر رحمه الله وهو ملقى على بطنه في أوج الشتاء بصوت مرتفع وجهوري ليبلغها إلى باقي سجناء السجن المدني عبر الفجوة التحتية لباب الزنزانة (صوته إلى الآن يرن في أذني ).
❊ كيف كانت تصلكم الكتب؟ وهل تذكر بعض العناوين التي قرأتها داخل زنزانتك؟
ـ أثناء مرحلة كاملة في السجن المدني بدأنا نناضل نضالا مريرا من اجل المطالبة بالكتب والأقلام والأوراق، خضنا إضرابات جوع من أجل الحق في المراسلة والكتابة والقراءة وبعد عدة إضرابات جوع تمكنّا من حق الكتابة لأفراد عائلاتنا لكن الكتب لم يسمح لنا بها إلا بعد إضرابات جوع عسيرة ومضنية، ولم نتحصل على الكتب إلا بعدما تم نقلنا إلى برج الرومي .
وقد زوّدنا الرفاق من خارج السجن ومن خارج البلاد أيضا بعناوين محترمة من الكتب في مجالات متعددة تتراوح بين التسلية مثل الروايات البوليسية والروايات العالمية بل أمهات الروايات العالمية من الروسية إلى الألمانية والأنڤليزية والفرنسية والعربية وروائع الشعر العالمي فضلا عن الكتب السياسية وتحديدا الماركسية منها، بما فيها رأس المال لكارل ماركس وديالكتيك الطبيعة لأنجلز .
❊ والكتابة داخل الزنزانة؟
ـ منذ بداياتي الشعرية الأولى، وأنا فتى اقترن، الشعر عندي بالمعاناة والحياة بحيث إنني كنت ـ ومازلت ـ أعجز تمام العجز عن الفصل بين القول والفعل.
فالشعر عندي ليس مجرّد معالجة لسانية أو استيهاميّة للوجود وإنما كان مغامرة أخوضها بقولي ووجداني وفعلي ولذلك فقد كنت متأثرا بالشعراء الفرسان والمتصوفين حتى البطولات الإنسانية المثالية التي كثيرا ما كان يسخر منها بعض النقاد "الموضوعيين" بل وحتى الأساطير والرموز ...كنت أتمثلها واقعا لا ينفصل عن الجسد ولعل هذا ما حدا بي الى مواصلة الكتابة في السجن باعتبارها فعل مقاومة وإيمان وصدق ...
وقصائدي التي كتبتها على أوراق السجائر ولا أقصد أوراق علبة السجائر بل لفافة السيجارة، كنت أحرم نفسي من لذة التدخين وأتلف التبغ لأغنم ورقة السيجارة وأصيرها ورقة كتابة قابلة للتهريب خارج السجن... وتمكنت بهذه الطريقة من "تهريب" مجموعتين شعريتين إحداهما بعنوان "إلى تونس" بفضل المرحوم نور الدين بن خذر وقد استرجعتها حالما خرجت من السجن أما الثانية فقد هُربت الى باريس بفضل المرحوم أحمد بن عثمان وقد استرجعتها مؤخرا بفضل زوجته سيمون للوش وأنا الآن بصدد الإعداد لنشر هذه القصائد في كتاب واحد سيكون حسب اعتقادي معبرا فعلا عن عمار منصور في عمر الشابي . ببساطة لأنني لن أغير فاصلة واحدة فيما كتبته داخل السجن وعمري لم يتجاوز الخامسة والعشرين وسأنشر الكتاب بتاريخه وخطه .
❊ لماذا كل هذا الإصرار على عدم تغيير أية فاصلة ممّا كتبت رغم أنك الآن خارج السجن وعمرك تجاوز الستين؟
ـ القضية ليست قضية عمر، وإنما هي مسألة وعي. وأنا شخصيا أستنكر وأمقت الوعي المابعدي أي ذاك المبني على منطق تبريري كأن أقحم أو أفرض وعي رجل الستين أو السبعين على فورة ذاك الشباب الذي ما زال يتحسس طريقه وهو في العشرينات...
هل هو أنا أم أنا هو؟! أبدا لا أدري ولكن كل ما أحب وكل ما أغار عليه هو ذلك الكائن الذي قد يكون أنا وقد يكون الآخر، ليس من ملكي الشخصي وانما يعكس وعيا محددا في قترة تاريخية محددة لا سبيل الى تزويقها أو التلاعب بها.
أنا أغار على ذلك الشخص الذي كنته وإذا ما زوقته أو جمّلته أو خنته فمعنى ذلك أنني اعتديتُ على كرامته كذات متصلة بي ومنفصلة عني في ذات الوقت .
❊ هل تعني بالوعي الما بعدي كتابة مذكرات ما بعد السجن؟
ـ مذكرات ما بعد السجن لم تكتب في السجن وان كانت لها علاقة بالسجن... ذلك أن المذكرات التي تُكتب آو تدوّن بعد مرور الاختبار أو التجربة بسنوات عديدة (قد تتجاوز عشرات السنين) وبعد انتقال صاحبها من تجربة إلى تجربة قد تكون مناقضة للأولى... وهذا يؤدي حتما إلى تلبيس وتلفيق وترقيع وتشويه التجربة الأولى بحيث يعمد البعض إلى تطويع وعي مضى لشروط وعي حاليّ فيُغفل أشياء ويهمل أحداثا ويُجمّل ما يريد تجميله ولو كان قبيحا إلى غير ذلك من المخاتلات النفسية كأن يخون الإنسان نفسه، أو يخون وعيه وأقول يخون لأنه عاجز عن التجاوز الحقيقي...
وهذا المسار إذا ما انسقنا فيه سنكون في قلب العبث.
لكن إذا كان النص المكتوب في السجن ( بحشيشه وريشه ) هو المنشور الآن فلا سبيل إلى المغالطة والتحذلق أو التقبيح.
ذلك هو أنا مثلما كنت ماضيا... فهل معنى ذلك أن ذلك الماضي هو أنا حاضرا وتلك مسألة أخرى...
التجربة السجنية قد تكون دافعا لكتابة أدب السجون ويكون جيدا وإنساني ولكنه ينبغي أن لا يُحسب تماما من أدب السجون ...
أدب السجون أدبٌ مدّمرٌ وليس أدب بلاغة ومجاز وشعارات... وإذا أردنا التعميم فإن الأدب هو أدب سجون أو لا يكون لأن كل أديب يبحث عن حرية ما... والكلمة دائما تريد أن تتحرّر من سجن ما، من وضع ما...
وأعتقد أن الكتابة فعل تحرّر وهي كذلك ولا ينبغي تقديس كل ما كُتب في السجن أو كل ما كُتب عن السجن خارج السجن، فليس كل من دخل السجن أديب ولا كل أديب دخل السجن...
❊ ولكن الهاجس التوثيقي والجانب التأريخي مهم؟
ـ طبعا التجارب السجنية بصفة عامة ليست بالضرورة تجارب إبداعية أدبية وإنما هي وثائق في تاريخ مجتمع... تعبر عن صراع سياسي ما في مرحلة ما... عن وعي حضاري معين... المهم أن يعي كلٌ دورهُ.. ولا سبيل الى الخلط بين مستويات متباعدة...
❊ ألهذا لم تدوّن مذكراتك السجنية على غرار البعض من رفاقك؟
ـ مذكراتي السجنية هي تلك القصائد التي كتبتها في السجن فقط، أما مذكراتي ما بعد السجن فهي مسألة أخرى تهم وعيي اليوم تاريخيا وحضاريا وفلسفيا... أي أنها تشكل مقارباتي الحالية لمجمل القضايا التي نعيشها وطنيا وإقليميا وعالميا...
❊ ولكن اليوم، وعلى الأقل في تونس، أدب السجون بات يُمثل عنصرا مهما في المدونة المكتوبة؟
ـ أدب السجون، أو غيره، ينبغي أن يكون أدبا قبل أن يكون أي شيء آخر.
فإذا كان أدبا قبلناهُ وقرأناه وبجلناهُ، أما أن يكون مجرّد مذكرات ما بعديّة أو مزايداتٌ تبريرية فهذا أمرٌ يتجاوزنا ( لاحظ كثرة المذكرات وخاصة من المسؤولين السياسيين السابقين ...).
أما عن رفاقي الذين اكتووا بنفس النار التي اكتويتُ بها فمازالوا في البداية... وإن الكتب التي أصدروها مازالت تُعدُ على قيد الأصابع (جلبار نقاش، فتحي بالحاج يحي، محمد صالح فليس في انتظار آخرين كثر...) فما أنجز لدينا من آثار قليلة لم يُشكل بعد أدب سجون... فأدب السجون في نهاية الأمر لا يكون إلا من أدب التحرّر والحرية، وهذا ما نحن في أشد الحاجة إليه.
أجرى الحوار: ناجي الخنشاوي (تونس)
2012/02/18
المغرب الكبير:وحدة الشعوب ابقى من وحدة الحكومات
تمتد الحدود بين الدول الخمس للمنطقة المغاربية، وتنتصب الحواجز الديوانية والأمنية في مختلف نقاط العبور، غير أن حركة الشعوب لا تتوقف، بل هي في تزايد مستمر مؤسسة لعلاقات إنسانية واقتصادية بالأساس .
تشهد مسيرة توحيد المغرب الكبير (تونس، الجزائر، المغرب، ليبيا وموريتانيا) تعثرا بدأت إرهاصاته الأولى تظهر بعد اشهر قليلة من تأسيس اتحاد الدول المغاربية يوم 17 فيفري 1987 غير أن النقابيين في تونس، واصلوا، رفقة إخوانهم في بقية الدول، تأمين نجاح هذه المسيرة ولو من الناحية النقابية وهم يناضلون إلى اليوم من اجل تجسيد هذه الوحدة لإيمانهم بإمكانية تحققها على خلاف الحكومات التي لم تساهم إلا في مزيد رسم الحدود بين الأشقاء، وحصر الوحدة المغاربية في خطاب رسمي مفرط في الديبلوماسية، وفي هذا الصدد اشتغل النقابيون في تونس، إلى جانب الحقوقيين والجمعيات النسوية المستقلة، على تذليل الصعوبات التي من شأنها عرقلة اللقاءات المغاربية وترتيب البيت النقابي بين كافة ممثلي المنظمات النقابية في الدول المغاربية، مما مهد لصياغة ميثاق اجتماعي مغاربي موحد وبلورة مرجعية نقابية مغاربية مشتركة ساهمت في توحيد المواقف في المؤتمرات واللقاءات الدولية والتعامل كقطب مغاربي خاصة أمام النقابات الأوروبية والأمريكية.
إن دور الاتحاد العام التونسي للشغل في إنجاح مسار الوحدة والاندماج المغاربي يعود إلى فترة الأربعينيات من القرن الماضي، حيث دعا الزعيم فرحات حشاد مؤسس الاتحاد، أول منظمة نقابية في المغرب الكبير وفي الوطن العربي عموما، دعا إلى توحيد نقابات شمال إفريقيا لتعزيز الكفاح التحرري ضد المستعمر الفرنسي والاسباني والايطالي، وقد تجسمت دعوة فرحات حشاد ورواد الحركة النقابية التونسية في ما يعرف بميثاق طنجة، الذي مهد لتأسيس الاتحاد النقابي لعمال المغرب العربي، والذي مقره الآن في تونس.
هذا الاتحاد المغاربي كان له دور كبير في مسيرة الانعتاق من ربقة المستعمر بتوحيد صفوف المقاومة على الحدود بين الدول (خاصة بين تونس والجزائر وليبيا) ثم كان له دور هام في بناء الدولة الحديثة وتركيز أسسه وهو يواصل اليوم نضالاته من اجل الحريات العامة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية خاصة وان كلفة "اللامغرب" باتت تثقل كاهل شعوب المنطقة.
كما أن الاتحاد العام التونسي للشغل، إلى جانب الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات والجمعية التونسية للبحث والتنمية حول المرأة والفرع التونسي لمنظمة العفو الدولية ورابطة كتاب تونس الأحرار وجمعية "راد ـ أتاك" المناهضة للعولمة والاتحاد العام لطلبة تونس وجمعية المعطلين عن العمل، الفيدرالية الدولية من أجل المواطنة بين الضفتين واتحاد العمال التونسيين المهاجرين بباريس، كانوا من أول الداعين إلى تأسيس منتدى اجتماعي مغاربي مع بقية مكونات المجتمع المدني المغاربي المستقل، ورغم الحواجز التي رفعتها الأنظمة والحكومات في وجه نشطاء المجتمع النقابي والمدني والحقوقي فإنهم نجحوا في عقد المنتدى الاجتماعي المغاربي حيث توحدت سهام النقد ضد العولمة النيوليبرالية، واشتغل المشاركون ضمن ورشات المنتدى في مختلف دوراته على سبل إيجاد الحلول التنموية التي تحد من نزيف البطالة والفقر والمديونية في المنطقة المغاربية.
كما اشتغلت المنظمات والجمعيات التونسية المستقلة النقابية والحقوقية والنسوية، في إطار هذا المنتدى وفي ندوات ولقاءات أخرى، على مسألة الهجرة السرية في المنطقة المتوسطية، بين دول الشمال ودول الجنوب، مؤكدين على ضرورة احترام حقوق المهاجرين والعمل على إدماجهم في النسيج الاقتصادي والاجتماعي للدول المستقبلة لهم.
ولم يكن نضال النقابيين والحقوقيين التونسيين، من اجل توحيد المنطقة المغاربية، بمعزل عن المسار الثوري الذي تعيشه بعض دول المنطقة المغاربية (تونس وليبيا تحديدا) وقد أجملت مواقفها في العديد من البيانات التي أصدرتها مختلف المنظمات والجمعيات المستقلة منذ اندلاع شرارة الثورة التونسية وطيلة فترة الثورة الليبية، حيث أكدت على مبدأ تلازم مطالب الحرية والديمقراطية بالعدالة الاجتماعية بين الجهات والدول المغاربية، هو الكفيل ببناء منظومة اقتصادية واجتماعية مغاربية تكون الكرامة والحرية والمساواة محورها الأساسي والرئيسي، وان مكاسب الثورة (في تونس وليبيا) لا تكتمل مع استمرار ظواهر الفقر وتعميق الفوارق وحرمان الشباب من الحق في الشغل، مقدمين مختلف طرائق الانتقال الديمقراطي السلمي واستكماله ببلورة سياسة تنموية بديلة والنضال ضد تأجيل النظر في بعض القضايا المحورية مثل قضايا المرأة والشباب والفئات المهمشة.
غير أن هذا الزخم النضالي التونسي من أجل توحيد المنطقة المغاربية، والى جانب كل أشكال الصد والمنع والتعطيل التي مارسها نظام بن علي لإخماده في السابق، تجد اليوم هذه المنظمات والجمعيات نفسها في مواجهة أولوية "قطرية" تحتم عليها النضال من أجل الحفاظ على مكتسبات الدولة المدنية الحديثة التي باتت مهددة بأخطار التشدد الديني تماما مثلها مثل ليبيا والمغرب، وهذا التشابه في المصير سيكون رافدا جديدا لتعزيز العمل المشترك من أجل تحقيق وحدة الشعوب المغاربية.
حجاب الورع يخنق تونس الجديدة
تم إيقاف 3 صحافيين (المدير نصر الدين بن سعيدة والحبيب القيزاني رئيس التحرير والصحفي المحرر محمد الهادي الحيدري) م جريدة "التونسية" مساء الأربعاء 15 فيفري الحالي، بتهمة المساس بالأخلاق الحميدة بعد نشرها لما وصفته النيابة العمومية "صورا فاضحة" للاعب كرة القدم الألماني من أصل تونسي سامي خذيرة مع زوجته عارضة الأزياء "لينا كارك"، وهي الصورة التي تداولتها مختلف المواقع الالكترونية الفنية والرياضية وشبكات التواصل الاجتماعي. وقد أصدر قاضي التحقيق بالمكتب 15 بالمحكمة الابتدائية بتونس العاصمة بطاقة إيداع بالسجن بحق مدير الجريدة نصر الدين بن سعيدة طبقا للفقرة الثالثة من الفصل عدد 121 من المجلة الجنائية.
وتذكر جريدة "التونسية"، وهي جريدة حديثة صدرت بعد الثورة التونسية، تذكر أن نشرها للصورة على صفحتها الأولى لم يكن مجانيا وإنما رافقها خبر متعلق بمضمون الصورة، وهو ما ذكره محامي الجريدة الأستاذ شكري بالعيد معتبرا أن المحاكمة هي سياسية بالأساس ولا تعبر إلا عن نية بعض الأطراف الحكومية في الالتفاف على مبادئ الثورة وأولها حرية التعبير والإبداع.
هذه الإيقاف والإيداع بالسجن، والذي يعتبر سابقة أولى في تنس منذ الاستقلال، طرح أكثر من نقطة استفهام لدى أهل القطاع الإعلامي في تونس والرأي العام الحقوقي والنقابي خاصة أن عملية الإيقاف تمت حسب القانون العام، وتحديدا حسب المجلة الجنائية ولم تعتمد على فصول مجلة الصحافة، وأيضا لأنها تأتي في ذات السياق الذي تتم فيه محاكمة قناة نسمة الفضائية بعد بثها لفيلم "برسيبوليس" الإيراني حيث وجهت لمديرها تهمة التعدي على الذات الالاهية.
وكان الاتحاد الدولي للصفيين من أول الهيئات التي أصدرت بيانا مساندا للصحافيين ورافضا لعملية إيقافهم، وقد قال رئيس الاتحاد "جيم بوملحة" أن إيقاف ثلاث صحافيين يؤكد على وجود قوى مضادة في تونس ترفض تكريس حرية التعبير والصحافة، ودعا الاتحاد في بيانه الذي صدر يوم الخميس 16 فيفري، دعا الدولة التونسية إلى احترام التزاماتها مع مبادئ حقوق الإنسان التي تنص في جزء منها على حرية الصحافة والتعبير.
وقد أصدرت النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين بيانا عبرت فيه عن موقفها الرافض لإيقاف الصحفيين الثلاثة لما فيه من تعسف واضح في استعمال القانون واعتماد المجلة الجزائية في عملية الإيقاف دون اعتماد المرسومين 115 و116 الصادرين في 2 نوفمبر 2011 المتعلقين بالصحافة والنشر والإبداع، داعين إلى ضرورة الإسراع بإصدار النصوص الترتيبية المتعلقة بتفعيل هذين المرسومين باعتبارهما الضمانة القانونية لحماية الصحفيين وتنظيم قطاعهم.
وأصدرت أيضا النقابة العامة للثقافة والإعلام بالاتحاد العام التونسي للشغل بيانا أعربت فيه عن قلقها من تكرر هذه الممارسة الضاربة لحرية الإعلام والصحافة، معتبرة أن إيقاف الصحفيين الثلاثة هي سابقة خطيرة لأنها انتهكت حرماتهم الجسدية وتعاملت معهم كمجرمين، داعية أهل القطاع إلى مزيد اليقظة أمام هذه الهجمة الممنهجة لضرب حرية الإعلام والإبداع. ودعت النقابة العامة للثقافة والإعلام إلى الإفراج الفوري عن الصحفيين الموقوفين وتوفير محاكمة عادلة لهم بعيدا عن الخلفيات السياسية أو الأخلاقية.
كما أصدرت الجمعية الوطنية للصحافيين الشبان وجمعية مديري الصحف، والنقابة التونسية للصحف المستقلة والحزبية بيانات تندد بإيقاف صحفي جريدة "التونسية".
كما أصدر مركز تونس لحرية الصحافة بيانا دعا فيه أيضا إلى إخلاء سبيل الصحفيين الموقوفين وإيقاف التتبع القضائي في حقهم والعمل على تنقية القطاع من الرواسب التي خلفها النظام السابق والشروع في فتح حوار وطني جدي حول واقع القطاع الإعلامي وآفاقه المستقبلية في ظل الثورة التي حدثت في تونس.
كما أصدرت العديد من الصحف التونسية بلاغات مساندة لصحيفة "التونسية".
2012/02/17
الداعية المتشدد وجدي غنيم: غير مرغوب فيك بيننا
"لا مكان لوجدي غنيم بيننا، تونس بلد الاعتدال والأصالة وليست بلد طيور الظلام" بمثل هذا الشعار وغيره انتفضت فئة واسعة من الشعب التونسي رافضة للزيارة التي قام بها الداعية المصري المتشدد وجدي غنيم، وقد اشتدت موجة الرفض والتنديد بهذه الزيارة غير المرغوب فيها خاصة عندما استفز هذا الداعية جمعا غفيرا من المواطنين الذين رددوا النشيد الوطني في محافظة المهدية في بهو احد المساجد بالمدينة، حيث رد عليهم الداعية بقوله "موتوا بغيظكم" مضيفا بطريقة تعبوية قائلا "تونس إسلامية وليست علمانية".
زيارة هذا الداعية المتشدد تأتي في الوقت الذي تعاني فيها البلاد موجة برد غير مسبوقة أبانت عن واقع اجتماعي واقتصادي وإنساني مترد، وتأتي في الوقت الذي تشهد فيه الحكومة المؤقتة انتقادات واسعة بسبب طردها للسفير السوري بتونس، وهي استضافة نظمتها أربعة جمعيات جديدة، بزغت فجأة اثر الثورة التونسية، هي جمعية الإيثار والدعوة الإسلامية وجمعية بشائر الخير وأكاديمية دار الحديث بتونس وجمعية الفرقان لتعليم القرآن، وهي جمعيات مثلما تدل على ذلك أسماؤها لا تنتمي إلى المجتمع المدني بقدر ما تنتمي إلى "مجتمع ديني مكتمل الملامح"، وقد سبق أن استضافة جمعيات مماثلة الداعية المصري عمرو خالد الذي عُرف باستفزازه المتواصل للمجتمع التونسي وتحرر المرأة فيه ومنسوب الحريات المكتسبة.
دعوة غنيم استمرت أربع أيام (من 11 إلى 14 فيفري الجاري) وقدم خلالها ست "محاضرات" في مساجد توزعت بين تونس العاصمة ومحافظتي سوسة والمهدية ومدينة الحمامات السياحية.
والى جانب الحركات الاحتجاجية التي نفذها عدد من المواطنات والمواطنون أمام المساجد التي ألقى فيها هذا الداعية "محاضراته"، والى جانب الجدل الواسع القائم على الصفحات الاجتماعية، تعددت المواقف الرافضة لهذا الداعية ولغيره من الدعاة المشارقة المتشددين في قراءتهم للإسلام ولدوره الحضاري، ومن بين المواقف التي عبرت عن رفضها المطلق لمثل هذه الاستضافات موقف مفتي الجمهورية التونسية الشيخ عثمان بطيخ، حيث اعتبر المفتي أن الداعية مجدي غنيم مثله مثل عمرو خالد هما ظاهرتان فضائيتان، مرجعا "هجمة" الداعية غنيم على الإسلام في تونس مرده أساسا أن منابع الزيتونة قد جفت في العقود الأخيرة وأن عددا من المشائخ والعلماء قد رحلوا، وهو ما فسح المجال لظهور دعاة متشددين لا يعملون إلا على إثارة الفتن، مشيرا إلى أن الاختلاف في الرأي والتعدد في الاجتهاد مرده أساسا العرف والقياس والمصلحة العامة والاستحسان وسد الذرائع على أن يبقى الاجتهاد منضبطا للقرآن والسنة والمقاصد الشرعية العامة، وان زاغ عنهم فهو يعد ضربا من ضروب العبث ولا يصدر إلا عن "جاهل بالشريعة وبأصولها".
مع العلم أن وزارة الشؤون الدينية لم تكن بعلم بهذه الاستضافة ولا بتلك التي تعلقت بعمرو خالد، وقد أصدرت الوزارة بيانا عبرت فيه عن موقفها الرافضة لمثل هذه الزيارات.
كما كان موقف الشيخ عبد الفتاح مورو، أحد قياديي النهضة سابقا ورئيس قائمة "طريق السلامة"، موقفا واضحا من هذه الاستضافة، حيث لاقى تصريحه للتلفزة التونسية استحسانا كبيرا من طرف المواطنين ورواجا لموقفه على الصفحات الاجتماعية، وقد أكد في تصريحه على هؤلاء الدعاة ومنهم (غنيم وخالد) يريدون إسقاط قراءاتهم على الواقع التونسي الذي يختلف تماما عن واقع دولهم (مصر بالخصوص) وخاصة فيما تعلق بختان البنات الذي يدعو له وجدي غنيم، أما فيما اعتبره الداعية المصري من أن الديمقراطية حرام فقد كان رد الشيخ عبد الفتاح مورو واضحا إذ أن الديمقراطية هي آلية من آليات التسيير المدني بين المواطنين وهي لا تتعارض مطلقا مع الإسلام، كما كان رد مورو على غنيم فرصة لدعوة الشباب السلفي بتونس إلى تغليب قيم التسامح والحوار والكف عن العنف وقمع الآخر، داعيا إياهم إلى الالتفات إلى واقعهم الاجتماعي والاقتصادي المتردي.
ومن جهة أخرى رفعت الحقوقية والمناضلة النسوية المحامية بشرى بالحاج حميدة قضية ضد وجدي غنيم وضد الجمعيات التي استضافته إلى تونس، مضمنة في عريضة دعواها تهما لهذا الداعية بالتحريض على العنف والبغضاء والكراهية والجهاد تحت مظلة الدين وتكفير المعارضين وترويج أفكار غريبة عن المجتمع التونسي كختان البنات. وقررت المحامية بشرى بالحاج حميدة القيام بمسائلة سياسية لكل من رئيس الجمهورية المؤقت ورئيس الحكومة ورئيس المجلس التأسيسي اعتمادا على فصل قانوني يمنع استخدام المساجد لغير الصلاة.
وجدي غنيم الداعية المتشدد، ورغم أن العديد من "أنصاره" قد تابعوا دروسه الدينية، فقد كانت زيارته غير مرغوب فيها ونددت بها العديد من الأوساط الدينية والحقوقية مذكرين بطرده من انقلترا بتهمة التحريض على الإرهاب.
2012/02/16
رائد حركة آفاق اليسارية محمد بن جنات يوارى التراب
وصل جثمان المناضل التونسي محمد بن جنات إلى تونس يوم الأربعاء 15 فيفري حيث سيوارى الثّرى بمسقط رأسه بمدينة قليبية وهو المكان الذي عبر الفقيد قبل وفاته (11 فيفري 2012) عن رغبته في أن يدفن بين أهله و أحبابه و أن لا يُخصّ بأية مراسيم لاستقبال رفاته أو لدفنه، بعد أن توفيّ بمستشفى باريسي بعد صراع مرير مع مرض العضال عن سنّ تناهز 72 سنة.
محمد بن جنات كان مناضلا في الحركة الطّلابية وكان من روّاد حركة آفاق اليسارية في ستينات القرن الماضي ومن أوائل سجناء الرأي في فترة الحكم البورقيبي. اشتهر عالميا في سنة 1967 على إثر مسيرة حاشدة بالعاصمة احتجاجا على العدوان الصهيوني على مصر، وشهد إحراق مقرّ تابع للسفارة الأمريكيّة وإصابته برصاصة. وبعد اعتقاله على خلفيّة تلك المظاهرة وجّه له النّظام البورقيبي تهما عديدة منها محاولة حرق سفارة الولايات المتحدّة الأمريكية وأدت إلى الحكم عليه بعشرين سنة أشغال شاقة وإلى قيام حركة تضامن عالمية للمطالبة بالإفراج عنه، وهو ما تمّ في أواسط السبعينات ثم توجّه إلى العيش بفرنسا حيث التحق بحركة العامل التونسي ونشط في قضايا عالمية مثل مقاومة الحرب على الفيتنام والقضايا الوطنية قبل أن يعتزل نهائيا العمل السياسي ليعود بعد ذلك إلى العيش في تونس بمسقط رأسه في قليبية.
محمد بن جنات، الذي اعتزل العمل السياسي وكان دائم الرفض لجميع المبادرات التّي اقترحت عليه، أمضى سنة 2009 عريضة مساندة لمناضلي الاتحاد العام لطلبة تونس المسجونين وقدّم منذ بضعة أشهر حوارا يتيما في فرنسا وهو على فراش المرض عبّر فيه عن بعض مواقفه بخصوص الثّورة التّونسية والشأن العالمي وعدائه للامبريالية.
وزير الثقافة وشرطة الأخلاق
يبدو أن مقاييس الفن في تونس ستأخذ غطاء جديدا مع صعود اليمين الإسلامي إلى سدة الحكم بعد انتخابات المجلس التأسيسي، ولعل التصريح الأخير لوزير الثقافة والمحافظة على التراث السيد المهدي مبروك بخصوص برمجة مهرجان قرطاج لسنة 2012 خير دليل على اعتماد مقاييس ذات بعد أخلاقي بالأساس في علاقة بمن سيصعد على ركح الدورة الجديدة في مهرجان قرطاج الدولي.
فقد صرح الوزير بأن هذه الدورة ستقصي الفنانات اللواتي يعتمدن على العراء والإغراء في عروضهن وذكر بالاسم المطربتين اللبنانيتين أليسا ونانسي عجرم والمطربة المصرية شيرين عبد الوهاب إلى جانب المطرب المصري ثامر حسني.
تصريح الوزير الذي ورد ببرنامج "حبر على ورق" بقناة تلفزية وطنية، قال فيه أن مهرجان قرطاج سيقطع مع الثقافة السابقة، التي كانت تعتمد على العروض "التمييعية" التي لا تؤسس إلا لثقافة "هابطة" ولا تخلق إلا صورة سلبية في الشباب والنساء، وبمقابل إقصاء المطربات اللواتي ذكرهن الوزير قال بان مهرجان قرطاج سيكون مفتوحا لفنانين يؤسسون للفن الراقي مثل لطفي بوشناق ولطيفة العرفاوي (التي تلاقي هجمة كبيرة من التونسيين باعتبارها أحد المناشدات للرئيس السابق).
وقد اعتبر الوزير أن هذا القرار يدخل فيما اسماه "ديكتاتورية الذوق السليم" خاصة بعد أن وجهت له العديد من الانتقادات من طرف بعض الإعلاميين ومن أحباء هؤلاء الفنانين خاصة على المواقع الالكترونية والاجتماعية، معتبرا أن قرطاج سيظل ركحا رمزيا ذا زخم حضاري وفكري وثقافي ولا يمكن بأي حال أن يتواصل "انتهاكه" مشيرا إلى أن هناك فضاءات جانبية للمهرجان، مثل فضاء النجمة الزهراء، يمكن أن تتخصص لقائمة الممنوعات والممنوعين من اعتلاء ركح قرطاج.
وزير الثقافة الحالي، المهدي مبروك، هو عالم اجتماع وله انتماءات لحركة النهضة في السابق ثم كانت له تجربة مع الحزب الديمقراطي التقدمي، غير انه وبعد الثورة التونسية قدم استقالته من الحزب التقدمي، بعد فوز حركة النهضة بالانتخابات وهو ما أهله لمنصب الوزارة مثلما يرى ذلك العديد من المتابعين للشأن السياسي.
ويذكر أن نانسي عجرم كانت قد أقامت حفلتين في ليلة واحدة سنة 2010 بمناسبة عيد الحب حيث اعتلت ركح القبة الرياضية بالمنزه بتونس العاصمة، وأمنت حفلا ثانيا بأحد فنادق العاصمة، كما أن مواطنتها أليسا كان لها آخر حفل في تونس في نيسان 2010.
2012/02/09
اللقاء السنوي للمسرحيين الشبان بالتياترو: ايه في أمل
يبقى فضاء التياترو للفن المسرحي بتونس من بين الفضاءات القليلة الآبقة والمختلفة من خلال العروض والبرامج التي يقترحها دوريا على رواده. برامج تجاوزت المسرح لتنفتح على الرقص والموسيقى والسينما والمحاورات الإبداعية والفكرية، والتي أسست لعلاقة تفاعلية بين الباث والمتقبل، وجعلت من فضاء التياترو، الذي تديره زينب فرحات، قبلة يحج له الباحث عن الإبداع المنفلت من كل عقال وملاذا لاكتشاف الطاقات الشابة، ولعل برنامج "العرض الأول" (اللقاء السنوي للمسرحيين الشبان) أفضل مثال في هذا السياق، فالعرض الأول مثلما يصفه المنظمون له "يجمع أجيالا من مختلف مصادر التعلم والتكوين، بين العمومي والخاص، وهو لقاء متعة ورفعا لالتباسات ممكنة، لأن المسرح رحب لكل الذوات العالية والأنفس الحرة والإبداع المطلق".
العرض الأول في دورته الثامنة، التي ستمتد من يوم 9 إلى 18 شباط الحالي، سيقدم تجارب مسرحية نوعية لجيل شاب من مبدعي الخشبة في تونس، سيقدمون تسعة أعمال مسرحية قاسمها المشترك "ثورية" النص والتجسيد مثلما توحي بذلك مختصرات الأعمال المقترحة، فمسرحية "الحي يروح" لصابر الوسلاتي سيكتشف جمهورها أن كل مواطن عربي يخال نفسه حرا هو بالأخير ليس إلا مثالا لحالة السجن الكبير التي نعيشها، في حين أن فتحي الذهيبي في مسرحيته "تعتيم" وانطلاقا من لوحة فنية تشكيلية تتضمن ثلاث شخصيات غير واقعية تنطلق الحكاية من الفن إلى الواقع من الجمود إلى الحركة وفق إيقاع تصاعدي، حيث تطرح ثلاث شخصيات لها مواقف سياسية متباينة تطرح إشكاليات السلطة، الانتخابات وكيفية التعامل معها ومن وراء ذلك الكشف عن العلاقات الجدلية بين السياسة و الثقافة.
أما مسرحية "أهداب الأرض يا زيتونة" لفاطمة الفالحي فستداعب شعورا جامحا وتصورا لا مادي لأرواح متناثرة تجمعهم لحظة غير زمنية وغير مكانية تستوي فيها الأحاسيس والأهداف وتتناثر فيها تساؤلات لا نهائية بعد أن اكتروا أرضا بزيتونة " لا شرقية ولا غربية" ليعيدوا بناء الوطن.
وقريبا من ذات السياق ستقدم انتصار العيساوي مسرحيتها "حلمة وقص" حيث يتخيل عاملا نظافة ليليان نفسيهما في فضاءات وأزمنة مغايرة لواقعهما الأليم لتنتهي علاقتهما بموت العامل الأول الذي تتدهور حالته الصحية بسبب المرض. وهو عمل يقوم بالأساس على لغة الجسد مصحوبا بمؤثرات صوتية حية ينتجها الممثلون. أما مسرحية "حيرة مفتوحة" لوليد العيادي فهي تنهض في عمقها على طرح السؤال الوجودي ذاك المتعلق برأي الآخر وبمنسوب العدالة المحلوم به و بالأمل في التقارب الإنساني.
مسرحية "فصل بلا كلام" ليونس المقري ستقدم شخصية محورية تسعى إلى الخروج، ولكن قوى غامضة تدفعها وتمنعها فترجع متعثرة وتقع وسط المسرح لتنفتح أمامها كل إمكانات السؤال.
مسرحية "في الوقت" لوحيد العجيمي ستطرح علاقة الإنسان بالزمن من خلال أخوين منعزلين في منزل ريفي يرفضان التواصل مع العالم الخارجي فيجثم عليهما الزمن ثقيلا ويحول حياتهما إلى رتابة دائمة فيحاولان كسرها وولوج مغامرات وهمية باسترجاع الماضي. ماض كان سببا في عدة تراكمات نفسية أدت إلى انهيار احد الشخصيات وموتها.
أما مسرحية "انفلات" لوليد الدغسني فهي تصور رجل وامرأة يسكنان حيا قديما، يسيطر عليهما شبح الخوف من المجهول ويختلفان في تقييم الواقع بين من يدعو إلى عقلنة الثورة وبين من يرى ضرورة الصدام وافتكاك الحق.
في حين أن مسرحية "آخر تنهيدة" لسمية بوعلاقي هي تكريم لأرستوفان عموما وتحديدا لنصه "ليسيستراتا"، هي تكريم لمسرحي دافع عن كرامة الإنسان وكرامة المرأة بصفتها منبعا للحياة. دافع عنهما بمسرحه الساخر.
الأكيد أن المشترك الجامع لهذه المسرحيات التسع لن يحجب عن الجمهور الذي سيشاهدها اختلافاتها الجوهرية في مستوى القراءة والكتابة وفي تنوع التقنيات المسرحية المعتمدة في كل منجز مسرحي على حدة.
2012/02/06
حوار مع الأستاذ خالد الكريشي الناطق الرسمي لحركة الشعب الوحدوية التقدمية بتونس
كان لي الشرف أني أول من رفع شعار " بن علي: أسألك الرحيل"
هذه الأرضية السياسية التي ستجمعنا مع بعض الأحزاب اليسارية والتقدمية
هذا ما قلته لرئيس الدولة المؤقت حول المجلس الانتقالي السوري
لن أترشح إلى أي منصب قيادي في مؤتمرنا التوحيدي
تونس/ أجرى الحوار ناجي الخشناوي
الناطق الرسمي باسم حركة الشعب الوحدوية التقدمية بتونس الأستاذ خالد الكريشي من مواليد محافظة القيروان التونسية، تحصل على شهادة الباكالوريا سنة 1993 بعد خروجه من السجن، وهو ناشط سابق بالحركة الطلابية. تحصل على الأستاذية في الحقوق سنة 1997 ثم شهادة الدراسات المعمقة في القانون الخاص سنة 2000 وهي السنة التي التحق فيها بمهنة المحاماة. وهو الآن بصدد إعداد أطروحة دكتوراه حول " إرهاب الدولة".
شغل منصب كاتب عام الجمعية التونسية للمحامين الشبان 2002-2004 وعضو هيئتها المديرة 2008-2010 كما أنه عضو مؤسس لمنتدى شباب المحامين العرب الذي عقد مؤتمره التأسيسي الأول بالقاهرة في افريل 2005. وعضو مؤسس لمركز تونس لاستقلال القضاء والمحاماة. وعضو مؤسس للجمعية الدولية لمساندة المساجين السياسيين سنة 2001 وعضو هيئتها المديرة منذ سنة 2010 -2012.وعضو الوفد التضامني التونسي مع الشعب اللبناني إبان العدوان الصهيوني سنة 2006. وعضو عامل بالمؤتمر الناصري العام في دورته الثالثة المنعقدة بالقاهرة 2006 ودورته الرابعة 2007، أحد مؤسسي الوحدويون الناصريون بتونس في مارس 2005.
التقينا به فكان الحوار التالي:
* أستاذ خالد الكريشي لو نبدأ حوارنا هذا بالعودة إلى ما قبل ثورة 14 جانفي لنسألكم عن تقييمكم لدور القوميين في الإسراع بمخاض الثورة التونسية؟
ــ كان للقوميين دور فعال وايجابي منذ اندلاع الشرارة الأولى للثورة يوم 17 ديسمبر 2010 بمدينة سيدي بوزيد إلى حين يوم 14 جانفي 2011 مع سقوط نظام بن علي وفراره، إذ سيذكر التاريخ أن أول خطاب أُلقيَ في الثورة كان من الأخوين خالد عواينية المحامي والناصر الظاهري النقابي أمام مقر محافظة سيدي بوزيد، وهذا الأخير هو من أطلق شعار "التشغيل استحقاق يا عصابة السراق".
كما قمنا بتأسيس اللجنة الوطنية لمساندة أهالي محافظة سيدي بوزيد يوم 24 ديسمبر 2010 والتي ضمت إلى جانبنا بعض الفصائل اليسارية والتقدمية إلى حدود يوم 28 ديسمبر 2010 لما انتقلت المسيرات إلى تونس العاصمة في أول تحرك بشارع باب بنات والذي اتسم كذلك بتغيير في مضمون الثورة من الاجتماعي إلى السياسي، حيث رُفعنا شعارات ومطالب سياسية بحتة وقد طالبت تلك المسيرة أمام المحكمة الابتدائية بتونس العاصمة بإسقاط النظام ورحيل بن علي، وكان لي الشرف أني أول من رفع شعار " بن علي: أسألك الرحيل"، هذا علاوة على التحرك الميداني والتأطير بالجهات وخاصة في مدينة المكناسي من قبل الأخوين مسطوري القمودي وبدر الدين القمودي، وكذلك في مدينة سيدي علي بن عون مع الأخ فاضل الصغير وفي مدينة تالة مع الأخ جمال الدين بولعابي، وقد تم كل هذا بالتنسيق ومشاركة عدة أطراف يسارية وتقدمية وطنية.
هذا إلى جانب مواقفنا التي كنا نمضيها في البيانات باسم الوحدويون الناصريون بتونس والداعية جميعها إلى مساندة مسار الثورة وإسقاط النظام إلى حد البيان الأخير الذي أصدرناه يوم 13 جانفي 2011 ليلا والذي عبرنا فيه عن رفضنا المطلق لما قدمه الرئيس المخلوع في آخر خطاب له.
*بعد سقوط النظام وفرار بن علي، شرعتم في تأسيس حزب مهيكل يضم كل من يحمل الفكر القومي في تونس، كيف تقيمون هذه الخطوة؟
ــ بعد 14 جانفي كان محمولا علينا استحقاق ومسؤولية كبرى في تحويل التيار القومي بتونس من تيار فكري سري ومشتت بين الجامعات والقطاعات المهنية والنقابات إلى حزب سياسي مُهيكل ذو مرجعية فكرية قومية وصاحب برنامج ومشروع سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي بعد ما عانينا طيلة أكثر من نصف قرن شتى صنوف القمع والملاحقة والتضييق، وهذه العملية (أي التحول إلى حزب مهيكل) هي مهمة شاقة وصعبة بل ومصيرية تطلبت منا جهدا كبيرا واستنفذت قوانا في استحقاق داخلي مع تمسك بعض الأخوة برؤية عدم جدوى العمل السياسي الحزبي في ظل الدولة القطرية، إلى جانب حالة الفوضى التي كانت سائدة آنذاك على المستوى الأمني والسياسي والإعلامي، وفي ظل الانعدام الكلي للإمكانيات المالية والتعتيم الإعلامي الذي مورس ضدنا، ورغم الصعوبات توصلنا إلى عقد مؤتمر تأسيسي للحزب أيام 22 و23 و24 أغسطس 2011 وقد انبثقت عنه قيادة منتخبة، ثم دخلنا مباشرة اثر المؤتمر لتقديم قوائمنا في كل الدوائر الانتخابية للمشاركة في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، ورغم هذه الظروف واهتمامنا باستكمال أهداف الثورة كنا نقاتل على جبهتين، جبهة داخلية تمثلت في بناء هيكل حزبي، وجبهة خارجية تمثلت في المحافظة على المد الثوري واستكمال أهداف الثورة خاصة مع اعتصام القصبة الثاني الذي اثمر بداية تحقيق المطالب السياسية من حل الحزب الحاكم سابقا ومجلسا النواب والمستشرين وانتخاب المجلس الوطني التأسيسي.
*في علاقة بالجبهة الداخلية التي كنت تتحدث عنها، برزت منذ البداية عدة مؤشرات ساهمت في تصدع حزبكم الفتي وهو ربما ما أثر بشكل مباشر على عدد المقاعد التي حصلتم عليها في المجلس التأسيسي؟
ــ نحن قدمنا قوائمنا الانتخابية في كل الدوائر كحزب حركة الشعب الوحدوية التقدمية دون التصدع، لكن ذلك لم يمنع من تقديم عدة قوائم قومية ناصرية أخرى في نفس الدوائر سواء باسم حركة الشعب أو قوائم مستقلة، وهذا ما أثر على نتائج الانتخابات وعلى عدد المقاعد، إذ نجد في بعض الدوائر ثلاثة قوائم قومية ناصرية، إضافة إلى دخولنا الانتخابات بعد مؤتمرنا التأسيسي مباشرة وانعدام الإمكانيات المالية والتعتيم الإعلامي والظروف الإقليمية خاصة في كل من ليبيا وسوريا اللتين تشهدان ثورة شعبية ضد نظامين يرفعان شعارات القومية، كما لا ننسى أن العميد السابق الأخ البشير الصيد كان قد خير الاستقالة من الحزب قبل انعقاد المؤتمر بيومين.
*بعد الفوز الانتخابي الذي حققته حركة حزب النهضة، والتراجع الكبير لعدة أحزاب تقدمية وسطية كيف تقرؤون هذه النتائج؟
ــ النتائج كانت منتظرة بحكم توفر عدة ظروف ووقائع ساعدت حركة حزب النهضة على تحقيق أعلى نسبة في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، وهي نتائج تعود أساسا إلى تاريخية هذا الحزب المتواجد منذ ثمانينيات القرن الماضي كما استغلت حالة التعاطف الشعبي التي لقيتها من الشعب، وأيضا لترويجها لخطاب ذو نزعة دينية، علاوة على الإمكانيات المالية والإعلامية وبنائه التنظيمي المحكم، ولا ننسى أن بقية الأحزاب الأخرى دخلت إلى سباق الانتخابات منقسمة ومشتتة في عدة قوائم ولا أحد يشك في أن هذه الانتخابات، ولئن كانت ديمقراطية وشفافة، فان المعروف أن الانتخابات لا تنجز في يوم وليلة ولا في ساعات بل هي نتيجة موروث كامل وظروف متشابكة بين الذاتي والموضوعي وبين المادي والمعنوي وبين الداخلي والخارجي.
*وكيف تقيمون أداء الحكومة التي انبثقت عن هذه الانتخابات؟
ــ لئن كان عُمرُ هذه الحكومة الوقتية لم يتجاوز الشهر الواحد، فإن بوادر عمل هذه الحكومة اتسم بالارتباك وعدم وضوح مشروعها وبرنامجها، وهذا نتيجة طبيعية لأنها ليست حكومة كفاءات بقدر ما هي حكومة حزبية قامت على أساس الأغلبية والأقلية، في حين أننا في تونس نعيش الآن مرحلة انتقالية لما بعد الثورة تتطلب الوفاق والتوافق بين كل مكونات المشهد السياسي والمدني من أحزاب وجمعيات ومنظمات دون إقصاء أو استثناء، لأن التجارب الثورة على مدى التاريخ علمتنا أن مراحل ما بعد الثورة تُدار بالوفاق وليس بقاعدة الأغلبية والأقلية، إلى حين إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية لأنها الوحيدة المؤهلة لمنح الشرعية الكاملة للأحزاب أو الحزب الفائز، على عكس هذه المرحلة التأسيسية المؤقتة التي تتسم بنصف الشرعية (من شرعية الثورة إلى شرعية الدولة).
*هل أن هذا الارتباك والتذبذب في عمل الحكومة وسيطرة حزب حركة النهضة على المشهد السياسي هو الذي دفعكم إلى الدخول في تحالف سياسي مع عدة أطراف يسارية تقدمية؟
ــ وإن كنا لا ننكر أن المشهد السياسي الحالي له دور في تسريع نسق الالتقاء والعمل المشترك مع بعض الأحزاب التقدمية واليسارية، فان هذا ليس بجديد لان التقاءنا سابق على 14 جانفي 2011 سواء في القطاعات المهنية كالمحاماة أو في النقابات من خلال الاتحاد العام التونسي للشغل أو في الجامعة من خلال الاتحاد العام لطلبة تونس، أو على المستوى السياسي في هيئة 18 أكتوبر 2005 التي ضمت إلى جانبنا حزب العمال الشيوعي التونسي وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية وحزب التكتل من أجل العمل والحريات والحزب الديمقراطي التقدمي وحركة النهضة أيضا، وبالتالي فان الالتقاء والعمل المشترك الآن يجب أن يكون على أرضية سياسية واضحة تقوم على الوفاء لمبادئ الثورة وتأمين الانتقال الديمقراطي والعمل على ضمان الحد الأدنى من الحريات الفردية والعامة والقبول بمبادئ الدولة المدنية الديمقراطية التقدمية التي تتعايش فيها كل الأطراف السياسية ومختلف الرؤى الإيديولوجية، والقبول بالعملية السياسية المدنية السلمية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من المشاركة في الانتخابات والقبول بديمقراطية الصندوق كآلية للتداول السلمي على السلطة ورفض التدخل الأجنبي مهما كان مأتاه ومصدره وشكله في شؤوننا الداخلية والدفاع عن سيادة القرار الوطني مع رفض كل أشكال التطبيع الصهيوني ورفض انخراط تونس في أي من المشاريع السياسية الدولة ذات النزعة الاستعمارية مهما اتخذت لها من الأسماء.
ومواصلة للعمل الذي بدأناه بعد 14 جانفي مباشرة بعد تأسيس جبهة 14 جانفي التي ضمت إضافة لنا كل من حزب اعمل الشيوعي التونسي وحركة الوطنيين الديمقراطيين وحزب العمل الوطني وحركة البعث وحزب الطليعة العربي الديمقراطي ورابطة اليسار العمالي والوطنيون الديمقراطيون وبعض اليساريين المنشقين عن الحزب الاشتراكي اليساري، ونحن الآن في طور إعادة المشاورات والحوار من أجل تفعيل هذا العمل المشترك دون تسرع حتى لا نقع في أخطاء الماضي التي أدت إلى تفكك الجبهة.
*نفهم من الأرضية التي تعملون على الالتقاء حولها أن هذه الجبهة ليست تكتيكية مرحلية بل هي ذات افق استراتيجي؟
ــ أولا هي ليست جبهة بالمفهوم السياسي للمصطلح بل نحن في طور المشاورات والحوار من أجل بناء هذا الالتقاء على أسس سياسية وأرضية واضحة تجمع ولا تفرق وتحمل في طياتها مشروعا مجتمعيا مستقبليا، وليست التقاء انتخابيا فقط بحكم تقارب الرؤى والمواقف في عديد المسائل القطرية والإقليمية والدولية، وهذا يتطلب منا جهدا مضاعفا لأننا في تونس لا نملك تقاليد العمل الجبهوي المشترك ولا حتى تقاليد العمل الحزبي أصلا.
*على ذكر العمل الجبهوي، كيف تقيمون عملية الانصهار بين حزبي أفاق تونس والديمقراطي التقدمي؟
ــ هي خطوة في الاتجاه الصحيح، وان كانت متأخرة، وذلك حتى نخرج من حالة الانفلات الحزبي وبناء حياة سياسية سليمة لأن وجود أكثر من مائة حزب لن يخدم الانتقال الديمقراطي السلمي للسلطة ولا الحياة السياسية عموما، بل يخدم فقط حزب أو حزبين ويكون بوابة لعودة الدكتاتورية ونظام الحزب الواحد من جديد فتاريخيا نشأت هذه الأحزاب الكثيرة في واقع يشهد انفلاتا امنيا وسياسيا، ومثلما كان يفعل بن علي عندما كان يؤسس بعض الأحزاب بقرار إداري لإفساد الحياة السياسية فإننا نرى أن التعدد الحزبي الحالي يشوه الحياة السياسية ولا يخدم الديمقراطية في شيء ونتمنى أن تبقى في تونس اليوم أربعة أحزاب كبرى تمثل المرجعيات الفكرية والإيديولوجية الكبرى (الليبرالية والقومية والماركسية والإسلامية).
*لنعد إلى سياسة الحكومة الحالية، كيف تقرؤون مواقف رئيس الجمهورية المؤقت من استقبال المجلس الوطني الانتقالي السوري ومن مشروع الوحدة الاندماجية بين تونس وليبيا؟
ــ بالنسبة للمجلس الانتقالي السوري أعتقد أن السيد الرئيس المؤقت قد وقع في خطأ عندما استقبل المجلس الوطني الانتقالي السوري وكنت قد أبديت له بعد لقائي به على اثر استقبالي بقصر قرطاج، تحفظنا ورفضنا لهذه الخطوة باعتبارها تتعارض مع مصلحة الشعب السوري ومسار ثورته وأن المجلس الوطني الانتقالي السوري لا يمثل كل المعارضة السورية، فكان جوابه واضحا وصريحا والذي عبر عنه في وسائل الإعلام والمتمثل في رفضه التام لمشروع وبرنامج المجلس الوطني السوري الداعي خصوصا إلى تدويل الأزمة السورية والتدخل الأجنبي، وطالب الرئيس من المجلس الوطني الانتقالي بتوحيد صفوف المعارضة السورية في إشارة إلى هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي في سوريا برئاسة حسن عبد العظيم وطالبها بنبذ الطائفية والحفاظ على سلمية الثورة وعدم عسكرتها وهو الموقف الذي بلغه الرئيس المؤقت لوفد التنسيقية بعد ان استقبله مؤخرا بقصر قرطاج داعيا إياهم مجددا إلى توحيد صفوف المعارضة السورية ورفض التدخل الاجنبي باعتباره عملية انتحارية وهو نفس الموقف الذي عبرنا عنه في بيان مشترك أمضيناه يوم 7 جانفي 2012 مع التنسيقية الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي.
أما بالنسبة لمشروع الوحدة الاندماجية مع ليبيا فنحن ننطلق من مسلمة أن الشعب العربي واحد في كل الاقطار العربية وأن الوحدة العربية (اندماجية، كنفيدرالية، فيدرالية...) هي المصير المحتوم مستقبلا بحكم ان الوحدة العربية أضحت اليوم ضرورة وليست خيارا أمام الكيانات السياسية الكبرى والعظمى، ألا أنه علينا ان نتعض من التجارب التاريخية مثلما وقع في السبعينيات من القرن الماضي اذ لم يدم عمر الوحدة الاندماجية بين تونس وليبيا سوى 24 ساعة فقط، كما أن هذه الوحدة يجب أن تكون نابعة من إرادة الشعبين ومن خلال مؤسساته الدستورية المنتخبة ديمقراطيا وبذلك فان دعوة منصف المرزوقي التي نؤيدها من حيث المبدأ فإننا نتحفظ على توقيتها وارتجاليتها.
*قبل أن ننهي هذا الحوار نود أن تطلعنا على آخر تحضيراتكم لأول مؤتمر لكم كحزب والمزمع عقده الشهر المقبل؟ وهل لكم طموحات في الترشح؟
ــ نحن بصدد مواصلة التحضيرات على المستوى التقني واللوجيستي والسياسي للمؤتمر التوحيدي بين حركتي الشعب والشعب الوحدوية وعدة وجوه قومية في أواخر شهر فبراير 2012 على قاعدة بناء حركة سياسية مناضلة وديمقراطية واحدة موحدة، وأدعو جميع الأخوة إلى إنجاح هذا المسار التوحيدي بالانخراط فيه مباشرة ونبذ كل الخلافات الذاتية وتغليب المصلحة العامة لبناء حزب قوي يتصدى لواقع التشتت القطري، وان هذه الخطوة الأولى نحو بناء حزب قومي واحد موحد يضم كل الفصائل القومية من بعثية وناصرية على قاعدة العمل المنظم والإيمان بان الموقف قبل الموقع وأن المناضل القومي هو أول من يضحي وآخر من يستفيد.
وسوف أسعى أولا الى انجاح هذا المؤتمر التوحيدي في لم شتات القوميين وبناء الحزب القومي الواحد واعلن من هذا المنبر أني لن أترشح لاي منصب قيادي في المكتب الذي سينبثق عن المؤتمر وأتمنى أن تنبثق قيادة حزبية منتخبة عن هذا المؤتمر تعبر عن نضالية وتاريخية التيار القومي في تونس وفي حجم ما ينتظره القوميون منه مع التزامي الكامل والمطلق لمساندته ومواصلة الانخراط في المسار التوحيدي./.
2012/02/01
من السجن الصغير إلى السجن الكبير
من المنتظر أن تصدر موفى هذا الأسبوع قائمة اسمية جديدة تتعلق بالعفو عما يناهز 3000 سجين، بعد أن تم العفو والسراح الشرطي عن 8844 سجينا من قبل رئيس الجمهورية التونسية المؤقت، بمناسبة الذكرى الأولى للثورة التونسية يوم 14 جانفي 2012، وهذا الرقم عده أهل الاختصاص والقضاة بدرجة أولى انه غير مسبوق، وقد شملت القائمة الأولية مساجين تعلقت بهم جرائم القتل والاغتصاب والمخدرات، كما تم العفو عن 23 سجينا محكوم عليهم بالإعدام، وشمل أيضا القرار العفو عن 12 مسجونا مغربيا، كما استبدل الرئيس المؤقت للجمهورية عقوبة الإعدام بعقوبة السجن المؤبد لــ122 سجينا.
ويذهب عدد كبير من الجهاز القضائي إلى أن هذا العفو مس من صلاحيات الجهاز وخاصة مؤسسة قاضي تنفيذ العقوبات الذي ينظر في مطالب السراح الشرطي في الجرائم التي يبلغ الحكم فيها 8 أشهر، ويمكن أن يخلى سبيل المتهم بعد قضاء نصف مدة العقوبة المسلطة عليه إذا خلى ملفه من السوابق العدلية وثلثي المدة أن كانت له سوابق.
وزارة العدل التي يرأسها نور الدين البحيري (عن حركة النهضة)، والى جانب ملفات الفساد القضائي وعمادة المحامين ومطالب أعوان وكتبة المحاكم التونسية وتعويض عائلات شهداء وجرحى الثورة، شكلت الوزارة في صلبها لجنتين خاصتين بالنظر في مطالب العفو والسراح الشرطي المقدمة لها من قبل عائلات المساجين، غير أن الدفعة الأولى التي أعلن عنها أثارت ردود فعل كبيرة لما اعتبرته العديد من العائلات إجحافا في حق بعض المساجين ومحاباة لعدد آخر، ولعل إطلاق سراح شقيق وزير العدل المتهم بالاعتداء الجنسي على صبي هي التي أججت الاحتجاجات خاصة في مدينة جبنيانة من محافظة صفاقس جنوب البلاد (موطن شقيق الوزير المُفرج عنه)، وقد امتدت التحركات والاحتجاجات لتصل مبنى الوزارة، حتى بلغ الأمر بإحدى المتظاهرات إلى محاولة سكب البنزين على جسدها، وهو ربما ما جعل الوزارة تفتح أبوابها لعائلات المساجين وتتفاوض معهم على مدى الأسبوع المنقضي ووعدهم بإطلاق دفعة جديدة من المحكوم عليهم.
هذا التمشي الذي تتبعه وزارة العدل فيما يتعلق بملف العفو والسراح الشرطي، أثار العديد من المخاوف لدى الشارع التونسي خاصة وأن الكثير من المسجونين وممن عرفوا بالإجرام باتوا يندسون في احتجاجات وتحركات المعطلين عن العمل والمواطنين العاديين الذين يطالبون الحكومة بتحسين ظروف عيشهم وتمكينهم من حق الشغل أساسا، هذا فضلا عن مخاوف الجهاز القضائي من التدخل في أحكامه وتغليب السياسي والأخلاقي على حساب منظومة العقوبات القانونية، خاصة أن وزارة العدل تُعتبر وزارة سيادة في حكومة ائتلافية مازالت تضع أولى خطواتها في مسار الانتقال الديمقراطي الذي قامت من أجله الثورة التونسية.
وفي علاقة بموضوع المساجين والحياة السجنية في تونس يُذكر أن بعض القنوات التلفزية دخلت، ولأول مرة، بطريقة مباشرة ومطولة إلى زنازين بعض السجون التونسية وأجرت العديد من التحقيقات المصورة خاصة مع السجينات اللواتي يقضين عقوباتهن بالسجن المدني للنساء بمحافظة منوبة المتاخمة للعاصمة، وقد لاحظ العديد من المراقبين والمتابعين اختلاف الأحكام في نفس القضايا تقريبا واستفحال ظاهرة الرشوة في المحاكم التونسية طيلة فترة النظام السابق مما جعل العديد من الأبرياء يقبعون وراء القضبان ورغم براءتهم إلا أنهم لم يتمتعوا بالعفو أو بالسراح الشرطي...
إن السؤال الذي يُطرح الآن أمام قبول وزارة العدل بإضافة قائمة جديدة للمفرج عنهم بعد أن نفذت عائلاتهم العديد من الوقفات الاحتجاجية، هو هل أن الوزارة ستُقدم على هذه الخطوة تحت ضغط الشارع أم لاقتناعها بنقصان القائمة الأولى التي أعلنت عنها؟
بين الغنوشي وصحفي إسرائيلي: من صدق من؟!
في الوقت الذي تطالب فيه عديد الأحزاب والجمعيات والمنظمات غير الحكومية، وخاصة منها الهيئة الوطنية لدعم المقاومة العربية ومناهضة التطبيع والصهيونية، تضمين الدستور التونسي الجديد فصلا واضحا يجرم التطبيع مع الكيان الصهيوني، شهدت الساحة السياسية بتونس منذ أيام قليلة ضجة إعلامية مازالت متواصلة بسبب تصريح إذاعي أدلى به راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة لغيديون كيتس مراسل "صوت اسرائل" بمناسبة تواجده في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بسويسرا.
وقبل التصريح المنسوب لزعيم النهضة أثارت مشاركة راشد الغنوشي في هذا المنتدى (رفقة ابنه معاذ) جدلا واسعا في تونس حول الصفة التي يشارك بها، باعتباره لا يشغل أي منصب حكومي، في حين أن وزير المالية التونسي السيد حسين الديماسي لم يكن ضمن الوفد المشارك في المنتدى.
التصريح الأخير لراشد الغنوشي الذي قال فيه "أن مستقبل العلاقات بين تونس وإسرائيل مرتهن بحل القضية الفلسطينية" مازال يتراوح بين التأكيد والنفي، ففي الوقت الذي نفى فيه السيد نجيب الغربي المسؤول عن قسم الإعلام بحركة النهضة وعضو هيئتها التأسيسية، أن يكون الغنوشي قد خص إذاعة "صوت إسرائيل" بأي تصريح، وأن ما قام به هو تنظيم ندوة صحفية حضرها عدد كبير من الإعلاميين للتعريف بالثورة التونسية وبالتحديات الاقتصادية التي تواجهها تونس والفرص التي يمكن أن تدفع عجلة الاستثمار خاصة من طرف الاتحاد الأوروبي، وفي نفس الوقت اتصلت إحدى الإذاعات الخاصة في تونس (موازييك أف أم) يوم الثلاثاء 31 كانون الثاني بالصحفي الإسرائيلي "غيديون كيتس" للتأكد من صحة الخبر فأفاد لصحفي الإذاعة التونسية شاكر بسباس بأنه بالفعل قد أخذ تصريحا وبث مباشرة من طرف السيد راشد الغنوشي بعد أن عرفه بنفسه وبالمؤسسة الإعلامية التي يعمل لصالحها والمرسوم شعارها على شارة الدخول (إذاعة صوت إسرائيل).
وقد تتالت ردود الفعل الشاجبة لهذا التصريح، خاصة بعد الاتصال بالصحفي الإسرائيلي، حيث استنكر قياديون في الحزب الديمقراطي التقدمي هذا التصريح معتبرين أنه مدخل للتطبيع مع الكيان الصهيوني خاصة وأن راشد الغنوشي علم بجنسية الصحفي وبالإذاعة التي يعمل لصالحها.
راشد الغنوشي سبق له أن صرح لمجلة "ويكيلي ستاندار" الأمريكية أن الدستور التونسي الجديد لن يتضمن "أية مواد تدين الكيان الصهيوني" وأن الوثيقة التي أمضتها عدة أحزاب وجمعيات وشخصيات سياسية ومدنية وحقوقية في مجلس حماية الثورة، قبل انتخاب المجلس الوطني التأسيسي، والتي تجرم التطبيع مع الكيان الصهيوني، هي وثيقة لا معنى لها؟ وهذا التصريح السابق يستند إليه اليوم العديد من المحللين السياسيين والأحزاب في إدانة التصريح الأخير للغنوشي في دافوس بسويسرا.
يُذكر أن راشد الغنوشي لم يدل لأول مرة بمثل هذه التصريحات المثيرة للجدل، لعل أبرزها تلك التي وجهها قبل ظهور نتائج انتخابات المجلس التأسيسي والتي "هدد" فيها بإنزال مناصريه إلى الشارع إذا ما تم تزييف الانتخابات، أو تلك التي دعا فيها إلى غلق السفارة السورية بتونس وطرد سفيرها، أو تلك التي صرح بها في واشنطن عندما قال أن المملكة العربية السعودية "مهددة" بثورات الربيع العربي، هذا فضلا عن تصريحاته التي أدانتها فرنسا بسبب عدائه للغة فولتير.
وقبل التصريح المنسوب لزعيم النهضة أثارت مشاركة راشد الغنوشي في هذا المنتدى (رفقة ابنه معاذ) جدلا واسعا في تونس حول الصفة التي يشارك بها، باعتباره لا يشغل أي منصب حكومي، في حين أن وزير المالية التونسي السيد حسين الديماسي لم يكن ضمن الوفد المشارك في المنتدى.
التصريح الأخير لراشد الغنوشي الذي قال فيه "أن مستقبل العلاقات بين تونس وإسرائيل مرتهن بحل القضية الفلسطينية" مازال يتراوح بين التأكيد والنفي، ففي الوقت الذي نفى فيه السيد نجيب الغربي المسؤول عن قسم الإعلام بحركة النهضة وعضو هيئتها التأسيسية، أن يكون الغنوشي قد خص إذاعة "صوت إسرائيل" بأي تصريح، وأن ما قام به هو تنظيم ندوة صحفية حضرها عدد كبير من الإعلاميين للتعريف بالثورة التونسية وبالتحديات الاقتصادية التي تواجهها تونس والفرص التي يمكن أن تدفع عجلة الاستثمار خاصة من طرف الاتحاد الأوروبي، وفي نفس الوقت اتصلت إحدى الإذاعات الخاصة في تونس (موازييك أف أم) يوم الثلاثاء 31 كانون الثاني بالصحفي الإسرائيلي "غيديون كيتس" للتأكد من صحة الخبر فأفاد لصحفي الإذاعة التونسية شاكر بسباس بأنه بالفعل قد أخذ تصريحا وبث مباشرة من طرف السيد راشد الغنوشي بعد أن عرفه بنفسه وبالمؤسسة الإعلامية التي يعمل لصالحها والمرسوم شعارها على شارة الدخول (إذاعة صوت إسرائيل).
وقد تتالت ردود الفعل الشاجبة لهذا التصريح، خاصة بعد الاتصال بالصحفي الإسرائيلي، حيث استنكر قياديون في الحزب الديمقراطي التقدمي هذا التصريح معتبرين أنه مدخل للتطبيع مع الكيان الصهيوني خاصة وأن راشد الغنوشي علم بجنسية الصحفي وبالإذاعة التي يعمل لصالحها.
راشد الغنوشي سبق له أن صرح لمجلة "ويكيلي ستاندار" الأمريكية أن الدستور التونسي الجديد لن يتضمن "أية مواد تدين الكيان الصهيوني" وأن الوثيقة التي أمضتها عدة أحزاب وجمعيات وشخصيات سياسية ومدنية وحقوقية في مجلس حماية الثورة، قبل انتخاب المجلس الوطني التأسيسي، والتي تجرم التطبيع مع الكيان الصهيوني، هي وثيقة لا معنى لها؟ وهذا التصريح السابق يستند إليه اليوم العديد من المحللين السياسيين والأحزاب في إدانة التصريح الأخير للغنوشي في دافوس بسويسرا.
يُذكر أن راشد الغنوشي لم يدل لأول مرة بمثل هذه التصريحات المثيرة للجدل، لعل أبرزها تلك التي وجهها قبل ظهور نتائج انتخابات المجلس التأسيسي والتي "هدد" فيها بإنزال مناصريه إلى الشارع إذا ما تم تزييف الانتخابات، أو تلك التي دعا فيها إلى غلق السفارة السورية بتونس وطرد سفيرها، أو تلك التي صرح بها في واشنطن عندما قال أن المملكة العربية السعودية "مهددة" بثورات الربيع العربي، هذا فضلا عن تصريحاته التي أدانتها فرنسا بسبب عدائه للغة فولتير.
2012/01/31
حزب التكتل يتفكك

مثلت الأحداث الأخيرة في تونس من انتهاك واضح للحريات العامة والفردية ومن تخطيط ممنهج لضرب حرية الإعلام واستقلاليته والانزياح بالمطالب الجوهرية التي قامت من أجلها الثورة التونسية إلى متاهات ثانوية، فضلا عن ارتباك العمل الحكومي، مثلت فرصة لتقارب العديد من الأحزاب الوسطية الإصلاحية والحداثية، وقد دخلت العديد من الأحزاب والشخصيات السياسية في الخطوات العملية لإعداد أرضية فكرية وسياسية تكون بمثابة بديل سياسي وشعبي قوي ومتماسك خاصة بعد البيان الذي أصدره الباجي قائد السبسي رئيس الحكومة السابق منذ أيام قليلة، وكذلك توقيع وثيقة تحالف بين 13 حزبا تحت تسمية الحزب الوطني، ولعل المسيرة الحاشدة (أكثر من 10 آلاف مشارك) التي انتظمت يوم السبت 28 كانون الثاني بتونس العاصمة خير دليل على مدى جدية التقارب السياسي بين هذه الأحزاب، وبالمقابل تشهد بعض الأحزاب في تونس حالة من التفكك التي تنذر باندثارها ولعل حزب التكتل من اجل العمل والحريات أفضل مثال على ذلك.
حزب التكتل من اجل العمل والحريات، الطرف الثالث، إلى جانب حركة النهضة والمؤتمر من اجل الجمهورية، فيما يعرف بالترويكا في تونس، أي التحالف الثلاثي الأغلبي في المجلس التأسيسي، هو حزب تأسس سنة 1994 وعُرف برؤيته التقدمية وبدفاع مناضليه عن قيم الجمهورية الثانية وبناء مجتمع المواطنة، غير أن دخوله في التحالف الثلاثي ورئاسة مؤسسه، السيد مصطفى بن جعفر، للمجلس التأسيسي الوطني ومشاركة بعض كوادره في الحكومة الائتلافية، مهدت لبروز هوة عميقة داخل الحزب بدأت تتعمق في الأيام القليلة الماضية من خلال تتالي قوائم المستقيلين من هياكل الحزب، حتى أن البعض من المتابعين للشأن السياسي يرون في إمكانية اندثار الحزب من الخارطة السياسية إمكانية واردة جدا.
ولئن ظلت وسائل الإعلام التونسية تُرجع أسباب هذه الانسحابات إلى الضغط الذي يمارسه احد ابرز قيادات الحزب، السيد خميس قسيلة، على المناضلين والمنخرطين في الحزب، مستندين في ذلك إلى تصريحات الناطق الرسمي باسم الحزب السيد أحمد بنور، فان التصدعات التي ضربت بقوة هذا الحزب تعود إلى أسباب أكثر عمق من حرب إعلامية ثنائية بين رجلين، وهي أسباب أجملها المستقيلون في بيان لهم والمتمثلة أساسا في فشل قيادة الحزب في إدارة المرحلة وانعدام الديمقراطية داخل الحزب واستعمال القيادة لأسلوب فوقي في التعامل مع المناضلين، وإقصاء كوادر الحزب من الإدلاء بآرائهم في المسائل الجوهرية التي تهم الحزب والوضع العام للبلاد.
المستقيلون من الحزب، وخاصة في الدوائر المركزية مثل تونس وأريانة وبنعروس والذين يعدون بالمئات، وجهوا أصابع الاتهام مباشرة إلى قيادة الحزب باعتبارها تسببت في "انحراف الخط الرسمي للتكتل عن المبادئ والقيم الأصلية التي دفعت بفئات واسعة للانخراط صلب هذا الحزب."
وقد اعتبر المستقيلون أن "الصمت الغريب" لزعيم الحزب السيد مصطفي بن جعفر، رئيس المجلس التأسيسي الوطني، بعد تصريح نائب حركة النهضة وابرز قيادييها الصادق شورو بالمجلس ودعوته الصريحة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية لإنهاء الاعتصامات والاحتجاجات، هي القطرة التي أفاضت الكأس، فرغم الانتقادات الواسعة من قبل الحقوقيين والسياسيين والمثقفين والإعلاميين والمواطنين العاديين لهذا التصريح، ورغم أن حركة النهضة ذاتها نأت بنفسها عن هذا التصريح نافية أن تكون الشريعة الإسلامية على أجندة الحركة، فان السيد مصطفى بن جعفر لزم الصمت ولم يبدي ساكنا أمام هذا التصريح، مما دفع ببعض مناضلي حزب التكتل إلى رفع شعار "شورو يدعو إلى القتل وبن جعفر يقول شكرا" في المسيرة التي انتظمت نهاية الأسبوع المنقضي، والتي لم يشارك فيها حزب التكتل بصفة رسمية.
ولعل تصريح كاتب عام إحدى فروع التكتل، السيد الطيب العقيلي، بعد استقالته منذ يومين فقط، بقوله حرفيا "الاستقالات ستتوالى وستطوى صفحة التكتل نهائيا كحزب وطني كبير" فيه الكثير من النظر للمستقبل القريب لهذا الحزب، خاصة أن تصريحات الناطق الرسمي للتكتل، السيد احمد بالنور، تتسم بالهشاشة وبالدوران في نفس الحلقة، إذ انه يرى أن غياب التواصل بين القيادة والقواعد تعود حسب رأيه إلى أن "الحزب دون إمكانيات مادية تذكر واغلب قياداته غير متفرغين للعمل الحزبي بل لهم التزامات مهنية وعائلية"!!!
التصدعات التي يواجهها حزب التكتل من اجل الجمهورية اليوم، لا تقتصر عليه فقط بل هي طالت حزب المؤتمر من اجل الجمهورية، الطرف الثاني في التحالف الثلاثي والذي أسسه رئيس الجمهورية المؤقت السيد المنصف المرزوقي، فهذا الحزب أيضا تشقه صراعات بين شق أمينه العام المؤقت حاليا السيد عبد الرؤوف العيادي والشق المحسوب على السيد الطاهر هميلة احد ابرز قياديي الحزب، ويرى العديد من الملاحظين في تونس أن حزبي التكتل والمؤتمر أصبحا جزءا من حركة النهضة تتحكم فيهما وفق توجهاتها ورؤيتها لطبيعة الحكم في تونس، غير أن هناك الكثير من المؤشرات أيضا على بوادر تصدع داخل الحركة ذاتها بين الشق المتشدد والشق المعتدل وهو ما ستكشفه الأشهر القادمة في مؤتمر الحركة.
2012/01/30
فيلم "ينو بابا" لجيلاني السعدي: عندما تفقد الكاميرا حركتها والسيناريو شاعريته
يمثل سياق الهامشي والمهمشين في أي مجتمع ما من أكثر السياقات خصوبة لما يمنحه من إمكانات القراءة والتأويل التي يُتيحها للمبدع وهو يتدبر كتابته الإبداعية، سواء كانت نثرا أو شعرا، موسيقى أو رقص، سينما أو مسرح، رسما أو نحتا... غير أن هناك من الأقلام من يظل على هامش الهامشي ويظل يداعب الأطراف القصية دون أن يغوص في عمق النص.
هذه المسلمة أو البديهية يمكن أن نسحبها على "السينمائي" التونسي الجيلاني السعدي بعد مشاهدة آخر انتاجاته السينمائية ونعني به الفيلم الروائي الطويل "وينو بابا" (أين أبي؟) الذي عرض لأول مرة مساء الاثنين 16 جانفي 2012 بقاعة المونديال .
الفيلم الذي سبقته حملة إعلامية كبيرة لترويجه لم يكن في مستوى انتظارات الإعلاميين الذين خصهم المخرج الجيلاني السعدي بأول عرض إلى جانب حضور عدد مهم من أبطال عمله، فهذا المنجز السينمائي الذي يُعرض سنة 2012، أي سنة بعد الثورة التونسية، لم يرق إلى الحد الادني لا في مستوى معالجة الفكرة المُراد إيصاله ولا في مستوى شكل تقديمها سينمائيا (التصوير والإضاءة والموسيقى...).
"وينو بابا" الذي يأتي بعد فيلمين للمخرج الجيلاني السعدي هما "خرمة" و"عرس الذيب" يواصل من خلاله المخرج معالجة نفس الواقع الاجتماعي للمهمشين والملفوظين على قارعة الحياة، محاولا كتابة تفاصيلهم اليومية بعدسته وبلغته السينمائية التي تجتهد في أن تكون شبيهة بموضوعها من حيث حركتها وزاوية التقاطها الصورة وتوزيع الضوء على المساحات المقتنصة.
فهذا الشريط الذي كتبه الجيلاني السعدي على غرار الأعمال السابقة، هو من صنف الكوميديا السوداء، والذي يجمع بين جمال المداني في دور "حليم" وبوراوية مرزوق في دور "خيرة" وميلة بن يوسف في دور "أنس" وكل من محرز قلوز ومهى بوعفيف وحاشد ازموري وخالد قسمي وهادي هذيلي وحبيب أفلي، في حين أن الشخصية التي يحيل عليها عنوان الفيلم، أي الأب، جسدها صوتا الممثل محمد قريع، باعتبارها شخصية حاضرة بالغياب، هذا الشريط يصوّر حياة أرملة اسمها "خيرة" ابنها الذي تجاوز الأربعين دون زواج اسمه "حليم" تعيش من أجل تحقيق حلم تزويج ابنها من "أنس"، غير أن طبيعة الشخصية المحورية، باعتبارها متمردة ورافضة لرتابة الواقع، تأبى أن تنصاع إلى مؤسسة الزواج ظاهريا وتستمر في تأثيث أيامها بالتفاصيل التي اختارتها وهي أساسا الاستماع إلى أغاني عبد الحليم حافظ وزيارة والده في المقبرة والالتقاء بأصدقاء الشارع من المهمشين مثلها، وتمعن شخصية حليم في الانغماس عميقا في عالم اللانظام بعد أن ترفض زوجته المحتملة حضور حفلة زواجها مما يدفع "حليم" إلى أن يعتكف في منزله لبضعة أيام ثمّ يقرّر اعتزال الحياة الاجتماعية والانضمام لجماعة من المُـهـمّـشين، ثم تتطور أحداث السيناريو بعد أن تتم معاقبة "انس" من قبل أهلها لكنها تنجح في الفرار لكي تتسكع في المدينة على غير هدًى حتى تلتقي مع حليم فيواصلا سوية حياة الـتّـيـه.
نلاحظ من خلال سيناريو الفيلم أن هذا المنجز السينمائي يُبشر المتقبل بالتحول من السؤال السوسيولوجي للآخر المختلف، إلى السؤال السيميولوجي الذي تتحرك ضمنه مدلولات الصورة بالدرجة الأولى عبر خصوصية التعبير السينمائي، غير أن مخرج الفيلم الجيلاني السعدي يبدو أنه فَقَدَ القدرة على التحكم في حركة الكاميرا بعد أن فقد نسق السيناريو توهجه الأول وسقط في الرتابة المشهدية من ناحية وفي بساطة النص الملفوظ من ناحية أخرى، مما أربك باقي العناصر السينمائية، خاصة منها لعبة الضوء وتوزيع المشاهد وترتيبها، بل ان الديكور لم يسلم من الأخطاء الفادحة في اختياره وترتيبه.
كما أن إطالة العديد من المشاهد أثرت سلبا على وتيرة الفيلم، مما يجعل المتقبل يغرق في دقائق طويلة من الزمن الميت الذي لا يخدم نسق الأحداث بقدر ما يجعلها متقطعة ومتباعدة، هذا فضلا على الإقحام المجاني "لترسانة" من المفردات الجنسية التي لم ترفد شعرية النص المفترض أن تكون متوفرة، بل إن هذه المفردات التي يتوفر عليها معجم الهامشيين، جاءت مُسقطة بشكل عشوائي ومُبالغ فيها إلى جانب المشاهد المحيلة على عالم الجنس، فرغم أن حياة المهمشين تقوم في جانب كبير على الفعل الجنسي باعتبار فائض الكبت الذي يسور حياتهم، فان مخرج الفيلم لم يحسن توظيف تلك المشاهد فقدمها على عواهنها دون إدماجها بشكل فني تمحي فيه حدود الأخلاقي والفني، وهو ما قد يفتح مجالا واسعا لبعض الأطراف السياسية (خاصة منها اليمينة ذات المرجعيات الدينية) لشن "حرب" على هذا الفيلم وعلى السينما التونسية عموما باعتبار أن منظورهم لا يخرج عن السياق الأخلاقي والتأويل القيمي لأي عمل فني.
من خلال المشاهدة الأولى لهذا الفيلم، ومقارنة بالفيلمين السابقين لجيلاني السعدي، "خرمة" و"عرس الذيب"، يمكننا القول بأن هذا المخرج قد تراجع بشكل كبير في مستوى كتابة السيناريو وفي مستوى حركة الكاميرا، رغم أنه لم يخرج من السياق العام الذي اختاره، أي عالم الهامشي والمهمشين، وهذا الرأي اجتمع عليه عدد كبير من الإعلاميين الذين شاهدوا العرض الأول واعتبروا أن الفيلم لا يدخل إلا ضمن التراكم الكمي لا أكثر ولا أقل، وهو ما لم يعد يرضي انتظارات المشاهد التونسي خاصة بعد الثورة التي صنعها والتي ينتظر أن تلحقها ثورة حقيقة في عالم الثقافة والإبداع.
هذه المسلمة أو البديهية يمكن أن نسحبها على "السينمائي" التونسي الجيلاني السعدي بعد مشاهدة آخر انتاجاته السينمائية ونعني به الفيلم الروائي الطويل "وينو بابا" (أين أبي؟) الذي عرض لأول مرة مساء الاثنين 16 جانفي 2012 بقاعة المونديال .
الفيلم الذي سبقته حملة إعلامية كبيرة لترويجه لم يكن في مستوى انتظارات الإعلاميين الذين خصهم المخرج الجيلاني السعدي بأول عرض إلى جانب حضور عدد مهم من أبطال عمله، فهذا المنجز السينمائي الذي يُعرض سنة 2012، أي سنة بعد الثورة التونسية، لم يرق إلى الحد الادني لا في مستوى معالجة الفكرة المُراد إيصاله ولا في مستوى شكل تقديمها سينمائيا (التصوير والإضاءة والموسيقى...).
"وينو بابا" الذي يأتي بعد فيلمين للمخرج الجيلاني السعدي هما "خرمة" و"عرس الذيب" يواصل من خلاله المخرج معالجة نفس الواقع الاجتماعي للمهمشين والملفوظين على قارعة الحياة، محاولا كتابة تفاصيلهم اليومية بعدسته وبلغته السينمائية التي تجتهد في أن تكون شبيهة بموضوعها من حيث حركتها وزاوية التقاطها الصورة وتوزيع الضوء على المساحات المقتنصة.
فهذا الشريط الذي كتبه الجيلاني السعدي على غرار الأعمال السابقة، هو من صنف الكوميديا السوداء، والذي يجمع بين جمال المداني في دور "حليم" وبوراوية مرزوق في دور "خيرة" وميلة بن يوسف في دور "أنس" وكل من محرز قلوز ومهى بوعفيف وحاشد ازموري وخالد قسمي وهادي هذيلي وحبيب أفلي، في حين أن الشخصية التي يحيل عليها عنوان الفيلم، أي الأب، جسدها صوتا الممثل محمد قريع، باعتبارها شخصية حاضرة بالغياب، هذا الشريط يصوّر حياة أرملة اسمها "خيرة" ابنها الذي تجاوز الأربعين دون زواج اسمه "حليم" تعيش من أجل تحقيق حلم تزويج ابنها من "أنس"، غير أن طبيعة الشخصية المحورية، باعتبارها متمردة ورافضة لرتابة الواقع، تأبى أن تنصاع إلى مؤسسة الزواج ظاهريا وتستمر في تأثيث أيامها بالتفاصيل التي اختارتها وهي أساسا الاستماع إلى أغاني عبد الحليم حافظ وزيارة والده في المقبرة والالتقاء بأصدقاء الشارع من المهمشين مثلها، وتمعن شخصية حليم في الانغماس عميقا في عالم اللانظام بعد أن ترفض زوجته المحتملة حضور حفلة زواجها مما يدفع "حليم" إلى أن يعتكف في منزله لبضعة أيام ثمّ يقرّر اعتزال الحياة الاجتماعية والانضمام لجماعة من المُـهـمّـشين، ثم تتطور أحداث السيناريو بعد أن تتم معاقبة "انس" من قبل أهلها لكنها تنجح في الفرار لكي تتسكع في المدينة على غير هدًى حتى تلتقي مع حليم فيواصلا سوية حياة الـتّـيـه.
نلاحظ من خلال سيناريو الفيلم أن هذا المنجز السينمائي يُبشر المتقبل بالتحول من السؤال السوسيولوجي للآخر المختلف، إلى السؤال السيميولوجي الذي تتحرك ضمنه مدلولات الصورة بالدرجة الأولى عبر خصوصية التعبير السينمائي، غير أن مخرج الفيلم الجيلاني السعدي يبدو أنه فَقَدَ القدرة على التحكم في حركة الكاميرا بعد أن فقد نسق السيناريو توهجه الأول وسقط في الرتابة المشهدية من ناحية وفي بساطة النص الملفوظ من ناحية أخرى، مما أربك باقي العناصر السينمائية، خاصة منها لعبة الضوء وتوزيع المشاهد وترتيبها، بل ان الديكور لم يسلم من الأخطاء الفادحة في اختياره وترتيبه.
كما أن إطالة العديد من المشاهد أثرت سلبا على وتيرة الفيلم، مما يجعل المتقبل يغرق في دقائق طويلة من الزمن الميت الذي لا يخدم نسق الأحداث بقدر ما يجعلها متقطعة ومتباعدة، هذا فضلا على الإقحام المجاني "لترسانة" من المفردات الجنسية التي لم ترفد شعرية النص المفترض أن تكون متوفرة، بل إن هذه المفردات التي يتوفر عليها معجم الهامشيين، جاءت مُسقطة بشكل عشوائي ومُبالغ فيها إلى جانب المشاهد المحيلة على عالم الجنس، فرغم أن حياة المهمشين تقوم في جانب كبير على الفعل الجنسي باعتبار فائض الكبت الذي يسور حياتهم، فان مخرج الفيلم لم يحسن توظيف تلك المشاهد فقدمها على عواهنها دون إدماجها بشكل فني تمحي فيه حدود الأخلاقي والفني، وهو ما قد يفتح مجالا واسعا لبعض الأطراف السياسية (خاصة منها اليمينة ذات المرجعيات الدينية) لشن "حرب" على هذا الفيلم وعلى السينما التونسية عموما باعتبار أن منظورهم لا يخرج عن السياق الأخلاقي والتأويل القيمي لأي عمل فني.
من خلال المشاهدة الأولى لهذا الفيلم، ومقارنة بالفيلمين السابقين لجيلاني السعدي، "خرمة" و"عرس الذيب"، يمكننا القول بأن هذا المخرج قد تراجع بشكل كبير في مستوى كتابة السيناريو وفي مستوى حركة الكاميرا، رغم أنه لم يخرج من السياق العام الذي اختاره، أي عالم الهامشي والمهمشين، وهذا الرأي اجتمع عليه عدد كبير من الإعلاميين الذين شاهدوا العرض الأول واعتبروا أن الفيلم لا يدخل إلا ضمن التراكم الكمي لا أكثر ولا أقل، وهو ما لم يعد يرضي انتظارات المشاهد التونسي خاصة بعد الثورة التي صنعها والتي ينتظر أن تلحقها ثورة حقيقة في عالم الثقافة والإبداع.
2012/01/26
من الضحية الى الجلاد
شهدت تونس منذ أن نالت استقلالها بفضل دماء شهدائها قبل ستين عاما، تقسيما مجحفا بين أفراد هذا الشعب، فمنذ الحكم البورقيبي سعت الحكومة الأولى التي مسكت دواليب الدولة إلى تقسيم أفراد الشعب التونسي إلى وطنيين (البورقيبيين) وخائنين (اليوسفيين أساسا والشيوعيين) وهو التقسيم الذي فتح الباب على مصراعيه لتشريع شتى أنواع التعذيب والتنكيل بالمواطنين من نفي وتصفيات جسدية وتشريد وتخوين...
ثم تواصلت نفس الطريقة مع النظام النوفمبري، بعد الانقلاب الذي حصل على بورقيبة ليلة السابع من نوفمبر 1987، فبعد أن ثبت بن علي نفسه في سدة الحكم، وبعد عامين فقط، أبان عن وجهه القمعي والسلطوي، فشرع في تقسيم الشعب التونسي إلى صنفين، صنف وطني وثان عميل يتآمر على امن الدولة واستقرارها ويستقوي عليها بالأجنبي، فتكررت نفس الأساليب لقمع أي رأي مخالف وتتالت المحاكمات الجائرة والسجن والملاحقات والمداهمات خاصة للنقابيين ولليساريين والإسلاميين والطلبة، وتجندت الآلة الإعلامية لتأبيد سياسة التفريق بين الشعب الواحد، بعد أن أحكم البوليس قبضته الأمنية وحاصر سدنة النظام السابق من رأسماليين الشعب التونسي بالقروض...
اليوم، وبعد أن أطاح نفس الشعب برأس الدكتاتورية، وخال نفسه أنه على درب استكمال الإطاحة ببقاياها على أمل تأسيس جمهورية مدنية تمنحه شروط مواطنته وتوفر الحد الأدنى من الحياة الكريمة، ها هو يلفي نفسه وجها لوجه مع تقسيم جديد هو الأكثر خطورة والأشد بؤسا مقارنة بما سبق، فإلى جانب تقسيم الشعب التونسي بعد 14 جانفي إلى شق وطني وثان خائن، ظهر التقسيم الجديد القديم، ذاك الذي يصنف الشعب الواحد إلى جزء مؤمن وجزء كافر، فأما المؤمن فهو ذاك الذي وافق ويوافق ويدافع بشراسة واستماتة لا متناهية عن مسار الحكومة المؤقتة، التي رغم نواياها الحسنة فان المؤشرات الأولية لبرنامجها تدعو إلى الحيرة والاستغراب (ارتباك في القرارات، اتهامات مجانية، استضافات لا مبرر لها، قروض عشوائية، وعيد وتهديد، تراجع في الخطاب...).
وأما الكفار من هذا الشعب، فهم العمال الذين نفذ صبرهم من وعود طال أجلها، وهم الإعلاميون الذين يريدون أن يفتكوا ما أمكنهم من هامش الحرية والاستقلالية، وهم الطلبة والأساتذة الذين يدافعون عن حصون كلياتهم وجامعاتهم، وهم النقابيون المستميتون في دفاعهم عن حقوق العمال، وهم القضاة والمحامين المطالبين بتطهير إدارتهم من الفاسدين، وهم المواطنين والمواطنات المدافعين والمدافعات عن حرية معتقداتهم...
ولئن كان الطرف الذي يسعى لتقسيم البلاد في الآونة الأخير غير معلوم بدرجة كافية لعموم الناس، فان الأحداث الأخيرة التي جدت بالبلاد كشفت "النقاب" عن ملامح هذا الطرف، وصار معلوما لنا وللحكومة، ولئن تواصل كل الأطراف "المتضررة" نضالها ورفضها لهذا التقسيم القروسطي، فان الحكومة مازالت تتلكأ في موقفها وفي وضع حد لهذه الأفعال التي لا يمكن تصنيفها إلا ضمن مسار إعادة إنتاج الدكتاتورية، وهنا لا يمكننا إلا أن نسأل الحكومة المؤقتة عن نواياها الحقيقية بين القطع مع منظومة الاستبداد أو التمهيد لتأبيدها وتكريرها؟.
ولو فرضنا أن هناك من يستبطن القمع فهل يعني هذا أن من كان ضحية بالأمس سيصير اليوم جلادا؟؟
ثم تواصلت نفس الطريقة مع النظام النوفمبري، بعد الانقلاب الذي حصل على بورقيبة ليلة السابع من نوفمبر 1987، فبعد أن ثبت بن علي نفسه في سدة الحكم، وبعد عامين فقط، أبان عن وجهه القمعي والسلطوي، فشرع في تقسيم الشعب التونسي إلى صنفين، صنف وطني وثان عميل يتآمر على امن الدولة واستقرارها ويستقوي عليها بالأجنبي، فتكررت نفس الأساليب لقمع أي رأي مخالف وتتالت المحاكمات الجائرة والسجن والملاحقات والمداهمات خاصة للنقابيين ولليساريين والإسلاميين والطلبة، وتجندت الآلة الإعلامية لتأبيد سياسة التفريق بين الشعب الواحد، بعد أن أحكم البوليس قبضته الأمنية وحاصر سدنة النظام السابق من رأسماليين الشعب التونسي بالقروض...
اليوم، وبعد أن أطاح نفس الشعب برأس الدكتاتورية، وخال نفسه أنه على درب استكمال الإطاحة ببقاياها على أمل تأسيس جمهورية مدنية تمنحه شروط مواطنته وتوفر الحد الأدنى من الحياة الكريمة، ها هو يلفي نفسه وجها لوجه مع تقسيم جديد هو الأكثر خطورة والأشد بؤسا مقارنة بما سبق، فإلى جانب تقسيم الشعب التونسي بعد 14 جانفي إلى شق وطني وثان خائن، ظهر التقسيم الجديد القديم، ذاك الذي يصنف الشعب الواحد إلى جزء مؤمن وجزء كافر، فأما المؤمن فهو ذاك الذي وافق ويوافق ويدافع بشراسة واستماتة لا متناهية عن مسار الحكومة المؤقتة، التي رغم نواياها الحسنة فان المؤشرات الأولية لبرنامجها تدعو إلى الحيرة والاستغراب (ارتباك في القرارات، اتهامات مجانية، استضافات لا مبرر لها، قروض عشوائية، وعيد وتهديد، تراجع في الخطاب...).
وأما الكفار من هذا الشعب، فهم العمال الذين نفذ صبرهم من وعود طال أجلها، وهم الإعلاميون الذين يريدون أن يفتكوا ما أمكنهم من هامش الحرية والاستقلالية، وهم الطلبة والأساتذة الذين يدافعون عن حصون كلياتهم وجامعاتهم، وهم النقابيون المستميتون في دفاعهم عن حقوق العمال، وهم القضاة والمحامين المطالبين بتطهير إدارتهم من الفاسدين، وهم المواطنين والمواطنات المدافعين والمدافعات عن حرية معتقداتهم...
ولئن كان الطرف الذي يسعى لتقسيم البلاد في الآونة الأخير غير معلوم بدرجة كافية لعموم الناس، فان الأحداث الأخيرة التي جدت بالبلاد كشفت "النقاب" عن ملامح هذا الطرف، وصار معلوما لنا وللحكومة، ولئن تواصل كل الأطراف "المتضررة" نضالها ورفضها لهذا التقسيم القروسطي، فان الحكومة مازالت تتلكأ في موقفها وفي وضع حد لهذه الأفعال التي لا يمكن تصنيفها إلا ضمن مسار إعادة إنتاج الدكتاتورية، وهنا لا يمكننا إلا أن نسأل الحكومة المؤقتة عن نواياها الحقيقية بين القطع مع منظومة الاستبداد أو التمهيد لتأبيدها وتكريرها؟.
ولو فرضنا أن هناك من يستبطن القمع فهل يعني هذا أن من كان ضحية بالأمس سيصير اليوم جلادا؟؟
2012/01/24
التحالفات السياسية في تونس قبل الانتخابات وبعدها: من الميكيافلية الانتخابية إلى فوبيا حركة النهضة
إبان سقوط نظام بن علي وفراره من تونس يوم 14 جانفي 2011 شهدت الساحة السياسية في تونس طفرة كمية في عدد الأحزاب الجديدة التي تكونت مع الأيام الأولى لما بعد الثورة، حيث بلغ عدد الأحزاب المرخص لها بالنشاط ما يقارب 105 حزبا، توزعت مرجعياتها الفكرية وأرضيتها السياسية بين الليبرالية والماركسية والقومية والإسلامية في عمومها، وقبل الدخول في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي التي جرت يوم 23 أكتوبر 2011 دخلت عدة أحزاب في تحالفات وجبهات انتخابية لعل أبرزها:
القطب الديمقراطي الحداثي الذي جمع كل من حركة التجديد والحزب الاشتراكي اليساري والحزب الجمهوري وصوت الوسط وشخصيات مستقلة سياسية وحقوقية وفنية خاصة منهم السينمائيين مثل النوري بوزيد ومنى نور الدين وإبراهيم لطيف وسلمى بكار والمنصف ذويب.
الائتلاف الديمقراطي المستقل الذي جمع بين عبد الفتاح مورو احد مؤسسي الاتجاه الإسلامي بتونس ثم حركة النهضة وثلة من الشخصيات المعروفة مثل مصطفى الفيلالي وحمودة بن سلامة وصلاح الدين الجورشي وعدد من الأحزاب ذات التوجه الإسلامي على غرار حزب التحالف الوطني للسلم والنماء لصاحبه رجل الأعمال اسكندر الرقيق وحركة اللقاء الديمقراطي لصاحبها خالد الطراولي وحركة العدالة و التنمية لصاحبها مراد الرويسي.
ائتلاف 23 أكتوبر الذي تشكل على أرضية الجدل الذي دار في تونس حول مسالة الهوية وكيفية التعبير عنها في الدستور وضم هذا التحالف في البداية حزب حركة النهضة والمؤتمر من اجل الجمهورية والإصلاح والتنمية وحركة الوحدة الشعبية وحركة البعث وحركة الشعب الوحدوية التقدمية قبيل عقد مؤتمرها، ولما خفت وهج الصراع من اجل الهوية، انسحب البعض من التحالف وأعاد البعض الآخر تشكيل التحالف في أفق الاستحقاقات السياسية ما بعد الانتخابات، وأصبح يضم أربعة أطراف هي: النهضة والمؤتمر والإصلاح والتنمية وحركة الوحدة الشعبية.
تحالف الأربعة الذي يضم كل من حزب العمل الوطني الديمقراطي وحزب العمال الشيوعي التونسي وحركة الوطنيين الديمقراطيين وحزب الطليعة العربي الديمقراطي.
هذه تقريبا أهم التحالفات والجبهات السياسية التي تشكلت في الفترة التي سبقت انتخابات المجلس التأسيسي، التي أسقطت نتائجها عديد الحسابات والانتظارات من هذه التحالفات، إذ كانت على النحو التالي: حركة النهضة (90 مقعد) يليها حزب المؤتمر من اجل الجمهورية (30 مقعد) فالتكتل الديمقراطي (21 مقعد) فقائمة العريضة الشعبية (19 مقعد) ثم الحزب الديمقراطي التقدمي (17 مقعد) فحزب المبادرة والقطب الديمقراطي الحداثي وحزب آفاق تونس (5 مقاعد لكل واحد منهم) أما حزب العمال الشيوعي التونسي فحصل على (3 مقاعد) وتوزعت 12 مقعدا على المستقلين وبعض الأحزاب الصغيرة.
الآن وبعد أن أخذت حركة النهضة بزمام الأمور في تسيير الحكومة والتأثير على نقاشات المجلس الوطني التأسيسي باعتبار أغلبية المقاعد التي بحوزتها، رغم دخولها في تحالف ثلاثي يجمعها بحزبي المؤتمر والتكتل، وبعد أن بدأت بوادر المشروع اليميني تظهر في تونس من خلال تداخل الديني بالمؤسسات المدنية (الجامعات والكليات والوزارات وبعض الهيئات)، بدأت تتشكل في تونس عدة تحالفات سياسية جديدة على أرضية باتت اليوم واضحة وهو الوقوف أمام المد الديني لحركة النهضة والدفاع عن مدنية الدولة التونسية،فبعد أن أعلنت الأمينة العامة للحزب الديمقراطي التقدمي في تونس مية الجريبي عن دمج حزبها مع حزب آفاق تونس والحزب الجمهوري في إطار حزب موحد بمناسبة انعقاد المؤتمر المقبل للحزب الديمقراطي التقدمي أيام 17 و18 و19 مارس القادم والذي من المنتظر أن يكون هذا المؤتمر توحيديا بين هذه الأحزاب وباقي القوى الديمقراطية الوسطية الراغبة في الالتحاق بهذه المبادرة، وفي انتظار أن يتم الإعلان عن تكوين جبهة وطنية تقدمية تجمع كل القوى القومية الناصرية منها والبعثية المتمثلة في حركة الشعب وحركة الشعب الوحدوية التقدمية وحركة الوطنيين الديمقراطيين وحزب العمل الوطني الديمقراطي وحزب الطليعة العربي الديمقراطي وحركة البعث، وفي إطار السعي المشترك للتقدّم في اتجاه تأسيس الحزب الديمقراطي الموحد الذي يجمع بين القوى والأحزاب الديمقراطية الوسطية من أجل خلق توازن جديد يعكس حقيقة موازين القوى السياسية والاجتماعية في البلاد، التقى وفدان من حركة التجديد ومن حزب العمل التونسي تركّبا من السادة عبد الجليل البدوي وماهر المظفّر ومحمد الأمين الزقلّي ومحمد بوحديدة عن حزب العمل التونسي ومن السادة محمود بن رمضان وحاتم الشعبوني وجنيدي عبد الجواد عن حركة التجديد وأمضى كل من عبد الجليل البدوي، المنسق العام لحزب العمل التونسي وجنيدي عبد الجواد، عضو أمانة حركة التجديد بيانا مشتركا بين الحركة والحزب يوم 16 جانفي 2012 أكدا فيه على الضرورة الملحّة لتجميع القوى الديمقراطية في إطار سياسي موحّد يتجاوز الأطر الحزبية الحالية ويكون قادرا على التأثير في مجرى الأمور وعلى تقديم البديل السياسي والاجتماعي المقنع الذي يستجيب فعلا لطموحات الفئات الواسعة من الشعب ولتطلعات الشباب ولمطالب الثورة في الحرية والعدالة الاجتماعية، ويفسح المجال للتداول السلمي والديمقراطي على السلطة.
مؤكدين في نفس البيان على أهمية عامل الوقت وعلى ضرورة الإسراع في عملية البناء المشترك، دون تسرّع أو ارتجال، حتى تتوفّر أسباب النجاح لهذا المسار التوحيدي على أساس مشاركة كل الأطراف المعنية بصفة فعلية وجديّة.
كما دعا الحزبان إلى بعث لجنة مشتركة ومفتوحة لكل الأطراف الوسطية المنخرطة في هذا المشروع الوطني التأسيسي، تكون مهمتها متابعة الأحداث والتطورات والاتصال بكل القوى الديمقراطية الموافقة على نفس التمشي والعمل على تركيز لجان عمل من الآن لتحضير المؤتمر التوحيدي في كنف التآلف والانسجام بين المسارات المختلفة.
وتوجهوا بنداء إلى كافة الإطارات والهياكل الجهوية لحركة التجديد ولحزب العمل التونسي للانخراط الجماعي في هذا التمشي البنّاء واتخاذ المبادرات اللاّزمة من أجل إنجاح هذا المسار التوحيدي، جهويا ووطنيا.
هذه تقريبا أهم التعبيرات الجبهوية التي تشكلت في تونس ما بعد انتخابات المجلس التأسيسي وهي تعبيرات قد تأتي ثمارها على عكس التحالفات الظرفية التي تشكلت قبل الانتخابات واتسمت في مجملها بنزعتها البراغماتية المتمثلة في الفوز بأكبر عدد ممكن من المقاعد، في حين أن التحالفات الجديدة هي تحالفات إستراتيجية ذات عمق سياسي ورؤية بعيدة المدى تبرز جليا من خلال مبادرات الانصهار والاندماج بين أكثر من حزبين، رغم أنها تنطلق من اشتراكها في هاجس "الاسلاموفوبيا".
القطب الديمقراطي الحداثي الذي جمع كل من حركة التجديد والحزب الاشتراكي اليساري والحزب الجمهوري وصوت الوسط وشخصيات مستقلة سياسية وحقوقية وفنية خاصة منهم السينمائيين مثل النوري بوزيد ومنى نور الدين وإبراهيم لطيف وسلمى بكار والمنصف ذويب.
الائتلاف الديمقراطي المستقل الذي جمع بين عبد الفتاح مورو احد مؤسسي الاتجاه الإسلامي بتونس ثم حركة النهضة وثلة من الشخصيات المعروفة مثل مصطفى الفيلالي وحمودة بن سلامة وصلاح الدين الجورشي وعدد من الأحزاب ذات التوجه الإسلامي على غرار حزب التحالف الوطني للسلم والنماء لصاحبه رجل الأعمال اسكندر الرقيق وحركة اللقاء الديمقراطي لصاحبها خالد الطراولي وحركة العدالة و التنمية لصاحبها مراد الرويسي.
ائتلاف 23 أكتوبر الذي تشكل على أرضية الجدل الذي دار في تونس حول مسالة الهوية وكيفية التعبير عنها في الدستور وضم هذا التحالف في البداية حزب حركة النهضة والمؤتمر من اجل الجمهورية والإصلاح والتنمية وحركة الوحدة الشعبية وحركة البعث وحركة الشعب الوحدوية التقدمية قبيل عقد مؤتمرها، ولما خفت وهج الصراع من اجل الهوية، انسحب البعض من التحالف وأعاد البعض الآخر تشكيل التحالف في أفق الاستحقاقات السياسية ما بعد الانتخابات، وأصبح يضم أربعة أطراف هي: النهضة والمؤتمر والإصلاح والتنمية وحركة الوحدة الشعبية.
تحالف الأربعة الذي يضم كل من حزب العمل الوطني الديمقراطي وحزب العمال الشيوعي التونسي وحركة الوطنيين الديمقراطيين وحزب الطليعة العربي الديمقراطي.
هذه تقريبا أهم التحالفات والجبهات السياسية التي تشكلت في الفترة التي سبقت انتخابات المجلس التأسيسي، التي أسقطت نتائجها عديد الحسابات والانتظارات من هذه التحالفات، إذ كانت على النحو التالي: حركة النهضة (90 مقعد) يليها حزب المؤتمر من اجل الجمهورية (30 مقعد) فالتكتل الديمقراطي (21 مقعد) فقائمة العريضة الشعبية (19 مقعد) ثم الحزب الديمقراطي التقدمي (17 مقعد) فحزب المبادرة والقطب الديمقراطي الحداثي وحزب آفاق تونس (5 مقاعد لكل واحد منهم) أما حزب العمال الشيوعي التونسي فحصل على (3 مقاعد) وتوزعت 12 مقعدا على المستقلين وبعض الأحزاب الصغيرة.
الآن وبعد أن أخذت حركة النهضة بزمام الأمور في تسيير الحكومة والتأثير على نقاشات المجلس الوطني التأسيسي باعتبار أغلبية المقاعد التي بحوزتها، رغم دخولها في تحالف ثلاثي يجمعها بحزبي المؤتمر والتكتل، وبعد أن بدأت بوادر المشروع اليميني تظهر في تونس من خلال تداخل الديني بالمؤسسات المدنية (الجامعات والكليات والوزارات وبعض الهيئات)، بدأت تتشكل في تونس عدة تحالفات سياسية جديدة على أرضية باتت اليوم واضحة وهو الوقوف أمام المد الديني لحركة النهضة والدفاع عن مدنية الدولة التونسية،فبعد أن أعلنت الأمينة العامة للحزب الديمقراطي التقدمي في تونس مية الجريبي عن دمج حزبها مع حزب آفاق تونس والحزب الجمهوري في إطار حزب موحد بمناسبة انعقاد المؤتمر المقبل للحزب الديمقراطي التقدمي أيام 17 و18 و19 مارس القادم والذي من المنتظر أن يكون هذا المؤتمر توحيديا بين هذه الأحزاب وباقي القوى الديمقراطية الوسطية الراغبة في الالتحاق بهذه المبادرة، وفي انتظار أن يتم الإعلان عن تكوين جبهة وطنية تقدمية تجمع كل القوى القومية الناصرية منها والبعثية المتمثلة في حركة الشعب وحركة الشعب الوحدوية التقدمية وحركة الوطنيين الديمقراطيين وحزب العمل الوطني الديمقراطي وحزب الطليعة العربي الديمقراطي وحركة البعث، وفي إطار السعي المشترك للتقدّم في اتجاه تأسيس الحزب الديمقراطي الموحد الذي يجمع بين القوى والأحزاب الديمقراطية الوسطية من أجل خلق توازن جديد يعكس حقيقة موازين القوى السياسية والاجتماعية في البلاد، التقى وفدان من حركة التجديد ومن حزب العمل التونسي تركّبا من السادة عبد الجليل البدوي وماهر المظفّر ومحمد الأمين الزقلّي ومحمد بوحديدة عن حزب العمل التونسي ومن السادة محمود بن رمضان وحاتم الشعبوني وجنيدي عبد الجواد عن حركة التجديد وأمضى كل من عبد الجليل البدوي، المنسق العام لحزب العمل التونسي وجنيدي عبد الجواد، عضو أمانة حركة التجديد بيانا مشتركا بين الحركة والحزب يوم 16 جانفي 2012 أكدا فيه على الضرورة الملحّة لتجميع القوى الديمقراطية في إطار سياسي موحّد يتجاوز الأطر الحزبية الحالية ويكون قادرا على التأثير في مجرى الأمور وعلى تقديم البديل السياسي والاجتماعي المقنع الذي يستجيب فعلا لطموحات الفئات الواسعة من الشعب ولتطلعات الشباب ولمطالب الثورة في الحرية والعدالة الاجتماعية، ويفسح المجال للتداول السلمي والديمقراطي على السلطة.
مؤكدين في نفس البيان على أهمية عامل الوقت وعلى ضرورة الإسراع في عملية البناء المشترك، دون تسرّع أو ارتجال، حتى تتوفّر أسباب النجاح لهذا المسار التوحيدي على أساس مشاركة كل الأطراف المعنية بصفة فعلية وجديّة.
كما دعا الحزبان إلى بعث لجنة مشتركة ومفتوحة لكل الأطراف الوسطية المنخرطة في هذا المشروع الوطني التأسيسي، تكون مهمتها متابعة الأحداث والتطورات والاتصال بكل القوى الديمقراطية الموافقة على نفس التمشي والعمل على تركيز لجان عمل من الآن لتحضير المؤتمر التوحيدي في كنف التآلف والانسجام بين المسارات المختلفة.
وتوجهوا بنداء إلى كافة الإطارات والهياكل الجهوية لحركة التجديد ولحزب العمل التونسي للانخراط الجماعي في هذا التمشي البنّاء واتخاذ المبادرات اللاّزمة من أجل إنجاح هذا المسار التوحيدي، جهويا ووطنيا.
هذه تقريبا أهم التعبيرات الجبهوية التي تشكلت في تونس ما بعد انتخابات المجلس التأسيسي وهي تعبيرات قد تأتي ثمارها على عكس التحالفات الظرفية التي تشكلت قبل الانتخابات واتسمت في مجملها بنزعتها البراغماتية المتمثلة في الفوز بأكبر عدد ممكن من المقاعد، في حين أن التحالفات الجديدة هي تحالفات إستراتيجية ذات عمق سياسي ورؤية بعيدة المدى تبرز جليا من خلال مبادرات الانصهار والاندماج بين أكثر من حزبين، رغم أنها تنطلق من اشتراكها في هاجس "الاسلاموفوبيا".
2012/01/02
صندوق الزكاة والتفقير المنظم
ناجي الخشناوي
أذكر أني كتبت أكثر من مرة، تصريحا وتلميحا، في السنوات الماضية حول طبيعة صندوق التضامن (26 ــ 26) الذي خلقه النظام السابق، وأشرت أن هذا الصندوق لا يمثل إلا شكلا من أشكال تعميق التفاوت الطبقي بين أفراد الشعب التونسي باعتبار أن القاعدة التي اعتمدها هي بالأساس قاعدة اخلاقوية (رغم إن التضامن يبقى قيمة إنسانية كونية) غلفها سدنة النظام السابق بغلاف متين من الشعبوية الساذجة، التي صدقها، للأسف، أغلبية الشعب.
ولان غايته الأساسية هي تأبيد الفقر من خلال خلق وهم العدالة الاجتماعية والاقتصادية، كان النظام السابق يمارس كل أشكال التعسف والابتزاز على العمال والموظفين من خلال اقتطاع مبالغ متفاوتة من الأجراء وصغار التجار والحرفيين بعنوان التضامن مع العائلات المعوزة وذوي الاحتياجات الخصوصية وتقليص التفاوت الجهوي، وبالمقابل كان النظام السابق يغدق على رؤوس الأموال كل الامتيازات بدءا من الإعفاءات الجبائية وصولا إلى التسهيلات الأمنية، حيث كان الجهاز الأمني في خدمة مصالح أصحاب المال بحمايتهم من جهة وحرمان أبسط بائع متجول من لقمة عيشه من جهة ثانية.
لقد كان النظام السابق يأخذ بكل بساطة من جيب المفقرين ليضع في جيب الأكثر فقرا بعض الملاليم وعلب الزيت والعجين والأغطية البالية لينتزع من الفئتين مزيدا من الخوف هنا والولاء الأعمى هناك، وها نحن اليوم، ورغم سقوط النظام السابق، ها أننا نجد أنفسنا مرة ثانية وجها لوجه أمام نظرية تأبيد الفقر ولكن بشكل أكثر سذاجة وبطريقة مفرطة في الشعبوية والاخلاقوية المقيتة، فها هو رئيس الحكومة المعينة، السيد حمادي جبالي، يستبدل اسم صندوق التضامن (26 ــ 26) بصندوق الزكاة؟؟؟ فليتهيأ كل موظف مشنوق بالقروض البنكية وليتهيأ كل أجير متعاقد بعقد عمل هش وكل حرفي أو تاجر صغير ليأتيه رئيس الشعبة، الذي صار رئيس مكتب محلي، ويطلب منه "ألف درهم لبيت مال المتضامنين ".
هل هي استمرارية الدولة والمؤسسات بمفهومها المدني أم هو استمرار لنهج النهب المنظم؟
إن الزكاة فريضة دينية يؤديها الإنسان المسلم لأخيه المسلم في إطار تعاليم الإسلام السمحة تحت رقابة الخالق وحده، غير أن المتكلمين باسم الإسلام اليوم، وهم يستوون على كراسي السلطة، يأخذون مكان خالقهم ويجعلون من هذه القيمة حلا سهلا لرتق عيوب النظام الاقتصادي القائم الذي جعل أفراد هذا الشعب متسولين بامتياز، وربما الخطورة الأشد على تخريب المنظومة المدنية أن مثل هذا الصندوق، صندوق الزكاة، ليس إلا مدخلا منظما لا للاستيلاء على ملاليم الفقراء فقط بل للاستيلاء على حريتهم الفردية ومصادرة اختيار علاقتهم بخالقهم، تلك التي جعلها هو اختيارا لا إكراه فيه، ومن تجرأ اليوم على مثل هذه الخطوة لن يتوانى عن مواصلة السير في هذا السبيل، ولن نستغرب أن تحول الدولة مؤسساتها المدنية الواحدة تلو الأخرى إلى مؤسسات للنهي عن المنكر والأمر بالمعروف ومؤسسات للأوقاف وأخرى للمظالم ومحاكم تفتيش.
هذه أولى الثمار المؤساساتية لثورة تونس، تلك التي سالت لأجلها جداول الدماء وامتلأت لأجلها غرف المستشفيات وتناسلت فوق أرضها الثكالى واليتامى.
أذكر أني كتبت أكثر من مرة، تصريحا وتلميحا، في السنوات الماضية حول طبيعة صندوق التضامن (26 ــ 26) الذي خلقه النظام السابق، وأشرت أن هذا الصندوق لا يمثل إلا شكلا من أشكال تعميق التفاوت الطبقي بين أفراد الشعب التونسي باعتبار أن القاعدة التي اعتمدها هي بالأساس قاعدة اخلاقوية (رغم إن التضامن يبقى قيمة إنسانية كونية) غلفها سدنة النظام السابق بغلاف متين من الشعبوية الساذجة، التي صدقها، للأسف، أغلبية الشعب.
ولان غايته الأساسية هي تأبيد الفقر من خلال خلق وهم العدالة الاجتماعية والاقتصادية، كان النظام السابق يمارس كل أشكال التعسف والابتزاز على العمال والموظفين من خلال اقتطاع مبالغ متفاوتة من الأجراء وصغار التجار والحرفيين بعنوان التضامن مع العائلات المعوزة وذوي الاحتياجات الخصوصية وتقليص التفاوت الجهوي، وبالمقابل كان النظام السابق يغدق على رؤوس الأموال كل الامتيازات بدءا من الإعفاءات الجبائية وصولا إلى التسهيلات الأمنية، حيث كان الجهاز الأمني في خدمة مصالح أصحاب المال بحمايتهم من جهة وحرمان أبسط بائع متجول من لقمة عيشه من جهة ثانية.
لقد كان النظام السابق يأخذ بكل بساطة من جيب المفقرين ليضع في جيب الأكثر فقرا بعض الملاليم وعلب الزيت والعجين والأغطية البالية لينتزع من الفئتين مزيدا من الخوف هنا والولاء الأعمى هناك، وها نحن اليوم، ورغم سقوط النظام السابق، ها أننا نجد أنفسنا مرة ثانية وجها لوجه أمام نظرية تأبيد الفقر ولكن بشكل أكثر سذاجة وبطريقة مفرطة في الشعبوية والاخلاقوية المقيتة، فها هو رئيس الحكومة المعينة، السيد حمادي جبالي، يستبدل اسم صندوق التضامن (26 ــ 26) بصندوق الزكاة؟؟؟ فليتهيأ كل موظف مشنوق بالقروض البنكية وليتهيأ كل أجير متعاقد بعقد عمل هش وكل حرفي أو تاجر صغير ليأتيه رئيس الشعبة، الذي صار رئيس مكتب محلي، ويطلب منه "ألف درهم لبيت مال المتضامنين ".
هل هي استمرارية الدولة والمؤسسات بمفهومها المدني أم هو استمرار لنهج النهب المنظم؟
إن الزكاة فريضة دينية يؤديها الإنسان المسلم لأخيه المسلم في إطار تعاليم الإسلام السمحة تحت رقابة الخالق وحده، غير أن المتكلمين باسم الإسلام اليوم، وهم يستوون على كراسي السلطة، يأخذون مكان خالقهم ويجعلون من هذه القيمة حلا سهلا لرتق عيوب النظام الاقتصادي القائم الذي جعل أفراد هذا الشعب متسولين بامتياز، وربما الخطورة الأشد على تخريب المنظومة المدنية أن مثل هذا الصندوق، صندوق الزكاة، ليس إلا مدخلا منظما لا للاستيلاء على ملاليم الفقراء فقط بل للاستيلاء على حريتهم الفردية ومصادرة اختيار علاقتهم بخالقهم، تلك التي جعلها هو اختيارا لا إكراه فيه، ومن تجرأ اليوم على مثل هذه الخطوة لن يتوانى عن مواصلة السير في هذا السبيل، ولن نستغرب أن تحول الدولة مؤسساتها المدنية الواحدة تلو الأخرى إلى مؤسسات للنهي عن المنكر والأمر بالمعروف ومؤسسات للأوقاف وأخرى للمظالم ومحاكم تفتيش.
هذه أولى الثمار المؤساساتية لثورة تونس، تلك التي سالت لأجلها جداول الدماء وامتلأت لأجلها غرف المستشفيات وتناسلت فوق أرضها الثكالى واليتامى.
2011/12/22
هدنة الرئيس المؤقت والشعبوية المفرطة
استأثر مصطلح "الهدنة" بالنصيب الأوفر من الخطابين الرسمي والشعبي منذ أن طلب رئيس الجمهورية المؤقت المنصف المرزوقي هدنة لمدة ستة أشهر على الأقل في أول لقاء تلفزي له ـ نتمنى أن لا يكون الأخير ـ بعد انتخابه لهذا المنصب من قبل أعضاء المجلس التأسيسي الوطني.
وبغض النظر عن التفسير اللغوي لمصطلح "الهدنة" (الذي يُناقض تماما التفسير الشائع، ذلك أن من بين تفاسير ابن منظور في لسان العرب لهذا المصطلح ما يفيد عدم إيفاء شخص ما بوعد قطعه على نفسه) بغض النظر عن هذا التفسير، وفي سياق الفهم الشائع والمتداول لمفردة "هدنة" في علاقتها بحالتي الحرب والسلم، فإن السؤال البديهي الذي يمكن طرحه على السيد الرئيس المؤقت هو لمن تتوجهون بطلبكم هذا تحديدا؟ هل تطلبون هدنة ممن يُعلن الحرب منذ عقود ويواصل بطولاته إلى اليوم؟ أم تطلبونها ممن اكتوى بنار الحرب منذ عقود ولا يزال إلى اليوم يتلظى بلهيبها؟.
اعلم أيها الرئيس المؤقت والمثقف والحقوقي أن هذا الشعب الذي بت تُطل عليه من ربوة قرطاج منقسم إلى طبقتين لا يلتقيان أبدا إلا لماما فوق الأوراق بين بعض السطور المرتبكة والمترددة أمام مصطلح "الطبقة" وفي تسمية الأسماء بمسمياتها...
اعلم أيها الرئيس أن هناك طبقة أولى ضئيلة العدد استأثرت بثروة البلد وكسرت عنق قانون البلد وصيرت كل ما فوق أرضه وتحتها قابلا للبيع والشراء، بما في ذلك "المواطن" الذي حولوه إلى سلعة في علب بعقود فاقدة للصلوحية. وهناك طبقة ثانية وفيرة العدد فاقدة لكل سند مشنوقة إلى الأبد بقروض قوانين هذا البلد، فممن تطلب الهدنة يا ابن البلد؟
عمال مسحوقون بهمومهم وموظفون مكبلون بقروضهم ولا شيء موزع بالعدل بينهم سوى وهم السعادة... تراهم بالملايين يتراصون في الحافلات الصفراء ويتدافعون في المستشفيات والمدارس ويتقاسمون غرف النوم الضيقة ورغيف الخبز اليابس، ويتناوبون على مغازلة أحلامهم البسيطة...
وهناك على الضفة المقابلة حيث تنتصب الواجهات البلورية يجلس بضع مئات من هذا الشعب مصابون بتخمة تكديس المليارات يوزعون وقتهم في التنقل بين غرف قصورهم وفي الجلوس على مقاعد الدرجة الأولى من الطائرات المتجهة إلى عواصم العالم هم وأبنائهم متسربلين بأفخم أنواع العطور... ماداموا معفون من دفع كل الأداءات الضريبية للدولة، التي استفردت بالمواطن المستضعف وأشبعته نهبا مقننا لملاليمه المعدودة، وها هي لا تتورع بكل صفاقة في مواصلة إيلامه اليوم بما تطلبه من جيبه المثقوب باسم الوطن والوطنية؟؟؟ فعلى من يجوز طلبك أيها الرئيس المؤقت؟ هل تطلب هدنتك من الموظف والعامل البسيط الذي تقتطعون كل أشكال الضرائب من أجرته الهزيلة غصبا عنه دون أن يتمتع بأدنى شروط المواطنة فوق هذه الأرض؟ أم تطلبون هدنة ممن منحتهم الدولة مفاتيح خزائنها وكدست فوق مكاتب شركاتهم ومصانعهم كل أنواع القوانين الضاربة لأبسط الحقوق وهاهي تواصل غيها مع ملح هذه الأرض ورائحتها وتعلن ولائها التام لرؤوس الأموال؟
أيها الرئيس، كف عن الإفراط في الخطابات والقرارات الشعبوية، وتذكر أن لك رصيدا من الفكر والثقافة والنضال لا يترك لك مجالا إلا لتحترم نفسك وموقعك وبالتالي مواقفك، وفي الآن نفسه أن تحترم ذكاء هذا الشعب...
وبغض النظر عن التفسير اللغوي لمصطلح "الهدنة" (الذي يُناقض تماما التفسير الشائع، ذلك أن من بين تفاسير ابن منظور في لسان العرب لهذا المصطلح ما يفيد عدم إيفاء شخص ما بوعد قطعه على نفسه) بغض النظر عن هذا التفسير، وفي سياق الفهم الشائع والمتداول لمفردة "هدنة" في علاقتها بحالتي الحرب والسلم، فإن السؤال البديهي الذي يمكن طرحه على السيد الرئيس المؤقت هو لمن تتوجهون بطلبكم هذا تحديدا؟ هل تطلبون هدنة ممن يُعلن الحرب منذ عقود ويواصل بطولاته إلى اليوم؟ أم تطلبونها ممن اكتوى بنار الحرب منذ عقود ولا يزال إلى اليوم يتلظى بلهيبها؟.
اعلم أيها الرئيس المؤقت والمثقف والحقوقي أن هذا الشعب الذي بت تُطل عليه من ربوة قرطاج منقسم إلى طبقتين لا يلتقيان أبدا إلا لماما فوق الأوراق بين بعض السطور المرتبكة والمترددة أمام مصطلح "الطبقة" وفي تسمية الأسماء بمسمياتها...
اعلم أيها الرئيس أن هناك طبقة أولى ضئيلة العدد استأثرت بثروة البلد وكسرت عنق قانون البلد وصيرت كل ما فوق أرضه وتحتها قابلا للبيع والشراء، بما في ذلك "المواطن" الذي حولوه إلى سلعة في علب بعقود فاقدة للصلوحية. وهناك طبقة ثانية وفيرة العدد فاقدة لكل سند مشنوقة إلى الأبد بقروض قوانين هذا البلد، فممن تطلب الهدنة يا ابن البلد؟
عمال مسحوقون بهمومهم وموظفون مكبلون بقروضهم ولا شيء موزع بالعدل بينهم سوى وهم السعادة... تراهم بالملايين يتراصون في الحافلات الصفراء ويتدافعون في المستشفيات والمدارس ويتقاسمون غرف النوم الضيقة ورغيف الخبز اليابس، ويتناوبون على مغازلة أحلامهم البسيطة...
وهناك على الضفة المقابلة حيث تنتصب الواجهات البلورية يجلس بضع مئات من هذا الشعب مصابون بتخمة تكديس المليارات يوزعون وقتهم في التنقل بين غرف قصورهم وفي الجلوس على مقاعد الدرجة الأولى من الطائرات المتجهة إلى عواصم العالم هم وأبنائهم متسربلين بأفخم أنواع العطور... ماداموا معفون من دفع كل الأداءات الضريبية للدولة، التي استفردت بالمواطن المستضعف وأشبعته نهبا مقننا لملاليمه المعدودة، وها هي لا تتورع بكل صفاقة في مواصلة إيلامه اليوم بما تطلبه من جيبه المثقوب باسم الوطن والوطنية؟؟؟ فعلى من يجوز طلبك أيها الرئيس المؤقت؟ هل تطلب هدنتك من الموظف والعامل البسيط الذي تقتطعون كل أشكال الضرائب من أجرته الهزيلة غصبا عنه دون أن يتمتع بأدنى شروط المواطنة فوق هذه الأرض؟ أم تطلبون هدنة ممن منحتهم الدولة مفاتيح خزائنها وكدست فوق مكاتب شركاتهم ومصانعهم كل أنواع القوانين الضاربة لأبسط الحقوق وهاهي تواصل غيها مع ملح هذه الأرض ورائحتها وتعلن ولائها التام لرؤوس الأموال؟
أيها الرئيس، كف عن الإفراط في الخطابات والقرارات الشعبوية، وتذكر أن لك رصيدا من الفكر والثقافة والنضال لا يترك لك مجالا إلا لتحترم نفسك وموقعك وبالتالي مواقفك، وفي الآن نفسه أن تحترم ذكاء هذا الشعب...
2011/12/15
الاعتصامات ونصف الكأس الفارغة
عندما انفرط عقد الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي وتناثر جشع الرأسماليين على الملأ، فغرت الأفواه واتسعت العيون التي لم تكن تسمع بفظاعة استغلال العاملات والعمال، أو هي كانت تغض النظر والسمع عما يعانيه العامل التونسي في المعامل والمصانع والحظائر وفي قلب المؤسسات الحكومية التي تنتمي إلى "المنظومة الاقتصادية" وفقا للنظام النوفمبري هذا النموذج المصغر من النظام الرأسمالي المستميت في وحشيته.
ومعلوم أن كل التحركات الاجتماعية التي كانت تُخاض في السابق يقع ضربها من لَدٌنِ السلطة الحاكمة بإعانة الإدارة وطبعا الأعراف من خلال منظمتهم، إلى جانب التعتيم الإعلامي عن كل الاحتجاجات والصرخات المكتومة من الطبقة الشغيلة، إذ لا يسمع المواطن في وسائل الإعلام إلا عن المؤشرات الايجابية للاقتصاد التونسي بفضل حنكة " السياسة الرشيدة لصانع التغيير" وظل المجتمع التونسي لا يرى من وضعه الاقتصادي والاجتماعي إلا النصف المملوءة من الكأس، حتى عصفت الثورة التونسية بالمكتسبات الوهمية والانجازات الخيالية التي وُصفت فيما مضى بالمعجزة الاقتصادية، لنجد أنفسنا وجها لوجه مع الحقيقة المرة والصورة البشعة لدولة بلغت أسوأ الأنظمة الاقتصادية إرضاء لنزعات الأسواق العالمية وصندوق النقد الدولي على حساب الحد الأدنى لمواطنيها.
إذِ اندلق اليوم النصف المملوء بالماء من الكأس ولم يبق منه غير النصف الفارغة، النصف الذي أظهر البؤس الحقيقي لهذا الشعب المسكين الغارق نصفه في سداد القروض الإجبارية والمستميت نصفه الثاني في الفقر المدقع، ومع ذلك وأمام هذه الحقيقة ظلت الحكومة السابقة تتحدث عن الدور التاريخي للإدارة في منح الأجور وفي صمود الاقتصاد التونسي إبان الثورة وبعدها ولم يتجرأ سياسي واحد على الإصداع بهذه الحقيقة رغم أن كل البرامج التلفزية التي اكتشفت مغاور المواطنين ووديان شربهم والمزابل التي كانوا يأكلون منها كانت أبلغ الرسائل للوقوف على بشاعة الحياة فوق أرض من سراب ووهم...
اليوم، تتواصل الحملات المسعورة من قبل السياسيين بإيعاز طبعا من الرأسماليين وشق واسع من وسائل الإعلام لإدانة الاعتصامات العمالية واتهام الطبقة الشغيلة بتعطيل حركة الاقتصاد والتشويش على المسار الديمقراطي والزج بالبلاد في الهاوية (وكأنها كانت في القمة!).
تتواصل إدانة الجوعى والمعطلين عن العمل وكأنهم المسؤولون عن اختلال الخارطة الاجتماعية والاقتصادية، ويُتهمون بإسقاط المؤسسات الاقتصادية وكأنهم هم الذين يكدسون المليارات ويبنون القصور ويركبون أفضل السيارات ويسافرون إلى أصقاع الدنيا للاستجمام؟
هناك صورة بسيطة دائما ما تقفز إلى مخيلتي، تلك التي نرى فيها أكداس الأكل والغلال واللحوم والأسماك يلقيها عمال النزل السياحية كل مساء للكلاب السائبة أمام النزل، وبالمقابل نجد في ذات النزل المراقبين المكلفين بتتبع ورصد أي محاولة لذاك العامل أو تلك المنظفة وهي تقضم تفاحة أو برتقالة من مطعم النزل... فهذه الصورة لم يتغير من تفاصيلها الكثير بعد الثورة...
هذا فيما يخص الاعتصامات الاجتماعية، أما فيما يتعلق بالاعتصامات السياسية فيبدو أن بن علي لم يغادر البلاد يوم 14 جانفي، ذلك أن اليوم طلع علينا من يشبه اعتصام باردو مثلا بريح السموم بل إن نائبا بالمجلس التأسيسي عن "كتلة الأغلبية!" وصف المعتصمين بالحثالة! (لا أجد أي كلمة لتفسير أو قراءة مثل هذه المواقف خاصة إذا علمنا أن من يطلقها هو من كان يرفع شعارات الديمقراطية وحرية التعبير؟) وكعادة النظام القديم تجندت كل وسائل الإعلام لتشويه صورة اعتصام باردو وإخراج المعتصمين في لَبٌوس المارقين أو الشرذمة الضالة التي لا تعمل إلا على تنغيص حياة التونسيين (وأي حياة هي!؟) وهذا طبعا يدخل في باب الشعار الذي التصق بالتونسي أكثر من التصاق جلدته بعظمه ونعني به شعار "يٌنصر من صبح" حتى ولو كان هذا الذي أصبح سيكون أبشع من سابقيه...
لا أظن أني أحرض من خلال هذه الكلمات على الاعتصامات والاضرابات ولكن أريد فقط أن ألفت النظر إلى ضرورة قراءة الأحداث بقليل من الموضوعية وبكثير من الإنسانية على الأقل في جانبها الاجتماعي وبكثير من الديمقراطية في جانبها السياسي.
ومعلوم أن كل التحركات الاجتماعية التي كانت تُخاض في السابق يقع ضربها من لَدٌنِ السلطة الحاكمة بإعانة الإدارة وطبعا الأعراف من خلال منظمتهم، إلى جانب التعتيم الإعلامي عن كل الاحتجاجات والصرخات المكتومة من الطبقة الشغيلة، إذ لا يسمع المواطن في وسائل الإعلام إلا عن المؤشرات الايجابية للاقتصاد التونسي بفضل حنكة " السياسة الرشيدة لصانع التغيير" وظل المجتمع التونسي لا يرى من وضعه الاقتصادي والاجتماعي إلا النصف المملوءة من الكأس، حتى عصفت الثورة التونسية بالمكتسبات الوهمية والانجازات الخيالية التي وُصفت فيما مضى بالمعجزة الاقتصادية، لنجد أنفسنا وجها لوجه مع الحقيقة المرة والصورة البشعة لدولة بلغت أسوأ الأنظمة الاقتصادية إرضاء لنزعات الأسواق العالمية وصندوق النقد الدولي على حساب الحد الأدنى لمواطنيها.
إذِ اندلق اليوم النصف المملوء بالماء من الكأس ولم يبق منه غير النصف الفارغة، النصف الذي أظهر البؤس الحقيقي لهذا الشعب المسكين الغارق نصفه في سداد القروض الإجبارية والمستميت نصفه الثاني في الفقر المدقع، ومع ذلك وأمام هذه الحقيقة ظلت الحكومة السابقة تتحدث عن الدور التاريخي للإدارة في منح الأجور وفي صمود الاقتصاد التونسي إبان الثورة وبعدها ولم يتجرأ سياسي واحد على الإصداع بهذه الحقيقة رغم أن كل البرامج التلفزية التي اكتشفت مغاور المواطنين ووديان شربهم والمزابل التي كانوا يأكلون منها كانت أبلغ الرسائل للوقوف على بشاعة الحياة فوق أرض من سراب ووهم...
اليوم، تتواصل الحملات المسعورة من قبل السياسيين بإيعاز طبعا من الرأسماليين وشق واسع من وسائل الإعلام لإدانة الاعتصامات العمالية واتهام الطبقة الشغيلة بتعطيل حركة الاقتصاد والتشويش على المسار الديمقراطي والزج بالبلاد في الهاوية (وكأنها كانت في القمة!).
تتواصل إدانة الجوعى والمعطلين عن العمل وكأنهم المسؤولون عن اختلال الخارطة الاجتماعية والاقتصادية، ويُتهمون بإسقاط المؤسسات الاقتصادية وكأنهم هم الذين يكدسون المليارات ويبنون القصور ويركبون أفضل السيارات ويسافرون إلى أصقاع الدنيا للاستجمام؟
هناك صورة بسيطة دائما ما تقفز إلى مخيلتي، تلك التي نرى فيها أكداس الأكل والغلال واللحوم والأسماك يلقيها عمال النزل السياحية كل مساء للكلاب السائبة أمام النزل، وبالمقابل نجد في ذات النزل المراقبين المكلفين بتتبع ورصد أي محاولة لذاك العامل أو تلك المنظفة وهي تقضم تفاحة أو برتقالة من مطعم النزل... فهذه الصورة لم يتغير من تفاصيلها الكثير بعد الثورة...
هذا فيما يخص الاعتصامات الاجتماعية، أما فيما يتعلق بالاعتصامات السياسية فيبدو أن بن علي لم يغادر البلاد يوم 14 جانفي، ذلك أن اليوم طلع علينا من يشبه اعتصام باردو مثلا بريح السموم بل إن نائبا بالمجلس التأسيسي عن "كتلة الأغلبية!" وصف المعتصمين بالحثالة! (لا أجد أي كلمة لتفسير أو قراءة مثل هذه المواقف خاصة إذا علمنا أن من يطلقها هو من كان يرفع شعارات الديمقراطية وحرية التعبير؟) وكعادة النظام القديم تجندت كل وسائل الإعلام لتشويه صورة اعتصام باردو وإخراج المعتصمين في لَبٌوس المارقين أو الشرذمة الضالة التي لا تعمل إلا على تنغيص حياة التونسيين (وأي حياة هي!؟) وهذا طبعا يدخل في باب الشعار الذي التصق بالتونسي أكثر من التصاق جلدته بعظمه ونعني به شعار "يٌنصر من صبح" حتى ولو كان هذا الذي أصبح سيكون أبشع من سابقيه...
لا أظن أني أحرض من خلال هذه الكلمات على الاعتصامات والاضرابات ولكن أريد فقط أن ألفت النظر إلى ضرورة قراءة الأحداث بقليل من الموضوعية وبكثير من الإنسانية على الأقل في جانبها الاجتماعي وبكثير من الديمقراطية في جانبها السياسي.
2011/12/13
النهضة و"الهندي المقشر"

هناك مثل شعبي سيار تتناقله الألسن التونسية يقول نصه "يحب ياكل الهندي المقشر بيد غيرو" وأعتقد أن هذا المثل المثقل بالدلالات ينسحب تماما على حزب/حركة النهضة (الاتجاه الإسلامي سابقا) في علاقته (ها) بطرفي الائتلاف الثلاثي الأغلبي في المجلس التأسيسي واعني بهما حزب التكتل من أجل العمل والحريات وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية.
ويكمن وجه الشبه بين حركة النهضة والمثل الشعبي في أن النهم اللامشروط لأكل "الهندي المقشر" هو تلك التخمة التي أصيبت بها الحركة بعد أن استأثرت بالعدد الأكبر من مقاعد المجلس التأسيسي الوطني، ذلك أن ما قُدم لها من حظوظ وافرة لهذا الفوز الساحق، وان كان يعود فيما يعود اليه من دعم أمريكي وخليجي واضح، هو أيضا يعود بالأساس إلى تاريخ غير بعيد من تاريخ النضال السياسي في تونس الحديثة واعني به تحالف 18 أكتوبر من أجل الدفاع عن الحريات العامة (حريّة التعبير والصحافة، حريّة التنظم الحزبيّ والجمعويّ، وتحرير المساجين السياسيين وسنّ قانون العفو العامّ) وقد تزامن تشكل التحالف مع القمة العالمية لمجتمع المعلومات سنة 2005 بين أحزاب وشخصيات يسارية ويمينية، حتى لا نقول علمانية وإسلامية، وهذه المحطة النضالية منحت شقا واسعا من الاتجاه الإسلامي فرصة هامة للتشكل من جديد ة والظهور على الساحة السياسية كطرف فاعل.
طبق الثمار (الهندي المقشر) الذي "غطست" فيه حركة النهضة بدأ يفيض أيضا أثناء الحملة الانتخابية للمجلس التأسيسي من خلال استثمار كل النقاط السلبية للحركة التقدمية في تونس ودحرجة كرة الثلج حتى تكبر بين الناخبات والناخبين من خلال العودة إلى لعبة الكفر والإيمان، حيث علق كل الشوك بالمناضلين والأحزاب التقدمية ولهفت حركة النهضة الثمرة مستعينة في ذلك "بقوتها التعبوية" وتجييش المشاعر لا أكثر ولا أقل من خلال التصريحات الإعلامية وتوظيف الفضاءات الدينية وممارسة الترهيب من قِبَلِ أنصارها المنتمين إلى حزب آخر تتبرأ منه في العلن وتخطط معه في السر...
وليمة "الهندي المقشر" المنصوبة أمام حركة النهضة تتواصل اليوم في إطار التحالف الثلاثي بينها وبين التكتل والمؤتمر، فالمنطق يفترض أن الإرث الديمقراطي والتقدمي من خلال الايدولوجيا والبرامج والممارسة لكل من حزب بن جعفر وحزب المرزوقي والتكتيك السياسي (على الأقل) يقول بأن النهضة هي في حاجة أكيدة إلى الحزبين الآخرين غير أن العكس هو الظاهر للعيان، ولعل في تصريح المرزوقي إبان الحملة الانتخابية عندما طالب الناخبين بالتصويت إما للنهضة أو له أو لحزب العمال الشيوعي خير دليل على هذا التناقض الصارخ، أو هذا الوضع الذي يحلو لي أن أشبهه بطبق "عجة بالشكلاطة"... وهو نفس التناقض الذي يتواصل اليوم، إذ لا نعثر على موقف سياسي واضح من التكتل أو المؤتمر إزاء "الهيجان" السياسي الذي دخلت فيه حركة النهضة بمساندة جميع حلفائها، وهذا يبدو أمرا مبررا خاصة عندما نلاحظ بشكل جلي تحالف اليمين الصاعد مع رأس المال الجشع لضرب كل نفس حقوقي أو نقابي أو تقدمي سيتحرك ضد منظومة الفساد السابقة (القضاء، الأمن، الإعلام...) وضد منظومة الاستبداد الجديدة (مشروع قانون توزيع السلطات العمومية مثلا).
قد يكون هذا الكلام العابر مغرقا في السطحية والبساطة، أو هو شبيه بلوحة كاريكاتورية، ولكن اعتقد أنه الأقرب إلى ذهن المواطن البسيط الذي منح صوته وهو يحلم بشربة من ماء "زمزم" غير أنه ما زال يكرع من ماء البركة و"القلتة" والوادي...
فهل سنواصل تقشير الهندي لصالح من سيؤبد جلباب الشوك والحسك؟
وهل سيأتي اليوم الذي سنخرج فيه من "الطابية" لندخل إلى المدنية؟
2011/12/07
ذاكرة الجماعة/السلطة
الذاكرة ليست ملكا شخصيا محضا. إنها مشترك جماعي بامتياز...
وإن كنا نمتلك القدرة على الاحتفاظ بصُوَر ولغة الذاكرة الشخصية، فإنَّ ذاكرة الجَمَاعَة تفلتُ من عُقَالنَا وتنسحب بلطف وبلين من كل قيد نحاول أن "نعتقل" به الأفكار والصور والأحداث واللغة في داخلنا، فهناك جهاز متماسك يقف بالمرصاد لمخزون ذاكرتنا ويتحكم في رصيدها إن ترسيخا أو إتلافا، هذا الجهاز هو ما قيل أننا اصطلحنا عليه "جميعا" بالدولة أو السلطة وخضعنا أو أُرغمنَا على الخُضوع لآلياته طواعية.
هذا الجهاز المُنتشر كالإله في كل مكان وفي كل زمان، يُتلف مسودَّاتنا القديمة ويمنحنا أوراقا بيضاء جديدة لنعيد الكرّة في كل مرّة، ومع كل مرة نتهم ذاكرتنا الفردية بالخَرَف والتَّرَهُّل ونجدد "ثقتنا" في ذاكرة الجماعة... ذاكرة السلطة.
نرمي في سلة الأيام ما نشاهده بأعيننا وما نلمسه بأيدينا مثلما نلقي الصحون والأكواب البلاستيكية في سلة المهملات... نُتلفُ تفاصيلنا ونجري كالأطفال فرحين بما تزفُّه لنا ذاكرة الجماعة/السلطة من أحداث وأخبار وصور ولغة فنصدقها تماما، ونتبناها دون تردد لأن "الجماعة" شاهدتها في تلفزة السلطة، أو قرأتها في صحف السلطة، أو سمعتها في إذاعة السلطة...
فمن منا يمتلك الجرأة على تكذيب ما يجمع عليه الجماعة؟ ومن منا قادر على تصديق ذاكرته وتكذيب ذاكرة السلطة؟
يَذكُر جاك داريدا في كتابه "حمّى الأرشيف الفرويدي" أن كلمة أرشيف "Arkhe" هي اسم يُفيد معنى البَدء "Commencement" ومعنى الأمر "Commandement" في آن، ومن هذه الإحالة يمكننا التأكد أن "الذات" كلما تَجَاسرت وحاولت "البدء" في تنظيم وترتيب أدراج ذاكرتها الفردية يأتيها "الأمر" من السلطة أن كُفي عن ذلك وامتثلي لذاكرة الجماعة، للذاكرة التي ارسم أنا حدودها واضبط سياستها.
إن السلطة لا تملك المؤسسات والإدارات والمصانع والدبابات والأدوية والطرقات والجسور... مثلما نتوهم ذلك، إنها تملك ذاكرة كل فرد منا، تلك التي تمر بها مختلف سلوكاتنا وقراراتنا المعرفية، النفسية، الاجتماعية أو الحركية... الذاكرة التي تمر بها عملية الإدراك، والتعلم والتفكير والحب وحل المشكلات والتكلم... "مخزننا" الحميمي لأحاسيسنا وانطباعاتنا وتجاربنا الحياتية التي نكتسبها من تفاعلنا مع العالم الخارجي ومع الآخر المختلف.
فمثلا لو حاول أحدنا أن يسترجع بداية تدرُّبَه على المشي لفشلَ في ذلك وستخذله ذاكرته الفردية في استحضار أهم لحظة في حياته، وفي المقابل فان ذاكرة الجماعة/السلطة تمنحنا مباشرة ذكرى أول اصطفاف في المدرسة... مثلما لن تفلح ذاكرتنا الفردية في استحضار حرارة حليب أمهاتنا في الوقت الذي تجعلنا ذاكرة الجماعة/السلطة لا نختلف حول ماركة علبة الحليب التي نشاهدها يوميا في الإشهار...
كذلك ذاكرتنا الفردية قد تكابد لتسترجع بعضا من تفاصيل أول قصة حب مراهقة، في حين تمنحنا ذاكرة الجماعة/السلطة أدق جزئيات علاقتنا الزوجية باعتبارها علاقة رسمية تخضع لنواميس المؤسسة المجتمعية... مثلما لا تتأخر ذاكرة الجماعة/السلطة في تفعيل ذاكرتنا من خلال موعد أخبار الساعة الثامنة وتحرمنا من استعادة أول الأفلام الكرتونية التي شاهدناها في طفولتنا...
ذاكرتنا الفردية غالبا ما تخذلنا عندما نرغب في استحضار فكرة ما من كتاب تعلقنا بتفاصيله، ولكن ذاكرة الجماعة/السلطة لا تبخل علينا بتذكر عناوين الكتب التي "أمرت" بنشرها في واجهات المكتبات وأدرجتها في برامج الدراسة الرسمية... وتفشل ذاكرتنا اليوم في تذكر رسوم "الغرافيتي" الثورية على جدران القصبة وفي شارع الحبيب بورقيبة وعلى جدران الإدارات والمؤسسات، تفشل ذاكرتنا لأن ذاكرة الجماعة/السلطة تدججنا بصور سيدي بوسعيد والملابس التقليدية....
ذاكرتهُ تخشى أن تتذكر أول مرة داعبت فيها شفرة الحلاقة ذقنه تاركة خدوش الارتباك والخوف من افتضاح أمره أمام والده، وذاكرتها تخشى أن تتذكر أول مرة لاعبت أصابعها ضفيرة شعرها المجدولة... ذاكرته تخشى أن تتذكر ذلك لأن ذاكرة الجماعة أطالت لحيتها، وذاكرتها تأبى أن تتذكر ضفيرتها لأن ذاكرة الجماعة ألقت حجابا أسودا بين شعرها والريح...
ذاكرة الجماعة/السلطة، تقدم لنا طقوسا "مقدسة" لموتنا الفردي، وتمنحنا "خيالا" جماعيا مُعدّا سلفا لطريقة دفن جثثنا الهامدة. إنها "تُبدع" في تذكير ذاكرتنا بعذاب القبر وأهواله وتؤلف في ذلك الكتب وتوزعها في الأسواق، وتسجل الأقراص الليزرية وتبيعها للناس، وتنتج برامج تلفزية يقدمها الأوصياء الدائمون على الذاكرة الفردية، الناطقون باسم ذاكرة الجماعة... إنها تفعل كل شيء وكأنها ستموت عوضا عنا وتُقبر مكاننا... أو كأنها تُبدي "تعاطفها" مع مواطنيها الأموات (وهل كانوا أحياء حتى يموتوا!!!)... إنها تستولي على أرضنا باسم سمائها... وتجعل كل فرد منا يردد مع تلميذ نيتشة، جول دي غولتييه، ما قله في كتابه (البوفارية) " الأنا، الأنا الذي ما هو إلا محض عنوان عام، محض تمثل مجرد، كالحاضرة أو الدولة، مأخوذ هنا على انه كائن محبو بوحدة فعلية".
إن ذاكرة الجماعة، أي ذاكرة السلطة، تلوي عنق الذاكرة الفردية وتطويها بإتقان متناه ثم تضعها تحت إبطها لتصنع منها ذاكرة "مُنضبطة"، "مُطيعة"، "وَديعة"، "مُسالمة" و"خَاضعة" بشكل "وَاع"... ذاكرة لا تُدون يومياتها إلا تحت رقابة السلطة، ولا تستحضر تفاصيلها إلا بأمر الجماعة... ذاكرة "Jetable" قابلة للإتلاف والتلف و"التتليف" متى أرادت ذلك ذاكرة الجماعة/السلطة... وهي دائما ما ترغب في ممارسة سلطتها "الناعمة" باسم "الجماعة" أكانت سياسية/اقتصادية أو دينية/أخلاقية.
وإن كنا نمتلك القدرة على الاحتفاظ بصُوَر ولغة الذاكرة الشخصية، فإنَّ ذاكرة الجَمَاعَة تفلتُ من عُقَالنَا وتنسحب بلطف وبلين من كل قيد نحاول أن "نعتقل" به الأفكار والصور والأحداث واللغة في داخلنا، فهناك جهاز متماسك يقف بالمرصاد لمخزون ذاكرتنا ويتحكم في رصيدها إن ترسيخا أو إتلافا، هذا الجهاز هو ما قيل أننا اصطلحنا عليه "جميعا" بالدولة أو السلطة وخضعنا أو أُرغمنَا على الخُضوع لآلياته طواعية.
هذا الجهاز المُنتشر كالإله في كل مكان وفي كل زمان، يُتلف مسودَّاتنا القديمة ويمنحنا أوراقا بيضاء جديدة لنعيد الكرّة في كل مرّة، ومع كل مرة نتهم ذاكرتنا الفردية بالخَرَف والتَّرَهُّل ونجدد "ثقتنا" في ذاكرة الجماعة... ذاكرة السلطة.
نرمي في سلة الأيام ما نشاهده بأعيننا وما نلمسه بأيدينا مثلما نلقي الصحون والأكواب البلاستيكية في سلة المهملات... نُتلفُ تفاصيلنا ونجري كالأطفال فرحين بما تزفُّه لنا ذاكرة الجماعة/السلطة من أحداث وأخبار وصور ولغة فنصدقها تماما، ونتبناها دون تردد لأن "الجماعة" شاهدتها في تلفزة السلطة، أو قرأتها في صحف السلطة، أو سمعتها في إذاعة السلطة...
فمن منا يمتلك الجرأة على تكذيب ما يجمع عليه الجماعة؟ ومن منا قادر على تصديق ذاكرته وتكذيب ذاكرة السلطة؟
يَذكُر جاك داريدا في كتابه "حمّى الأرشيف الفرويدي" أن كلمة أرشيف "Arkhe" هي اسم يُفيد معنى البَدء "Commencement" ومعنى الأمر "Commandement" في آن، ومن هذه الإحالة يمكننا التأكد أن "الذات" كلما تَجَاسرت وحاولت "البدء" في تنظيم وترتيب أدراج ذاكرتها الفردية يأتيها "الأمر" من السلطة أن كُفي عن ذلك وامتثلي لذاكرة الجماعة، للذاكرة التي ارسم أنا حدودها واضبط سياستها.
إن السلطة لا تملك المؤسسات والإدارات والمصانع والدبابات والأدوية والطرقات والجسور... مثلما نتوهم ذلك، إنها تملك ذاكرة كل فرد منا، تلك التي تمر بها مختلف سلوكاتنا وقراراتنا المعرفية، النفسية، الاجتماعية أو الحركية... الذاكرة التي تمر بها عملية الإدراك، والتعلم والتفكير والحب وحل المشكلات والتكلم... "مخزننا" الحميمي لأحاسيسنا وانطباعاتنا وتجاربنا الحياتية التي نكتسبها من تفاعلنا مع العالم الخارجي ومع الآخر المختلف.
فمثلا لو حاول أحدنا أن يسترجع بداية تدرُّبَه على المشي لفشلَ في ذلك وستخذله ذاكرته الفردية في استحضار أهم لحظة في حياته، وفي المقابل فان ذاكرة الجماعة/السلطة تمنحنا مباشرة ذكرى أول اصطفاف في المدرسة... مثلما لن تفلح ذاكرتنا الفردية في استحضار حرارة حليب أمهاتنا في الوقت الذي تجعلنا ذاكرة الجماعة/السلطة لا نختلف حول ماركة علبة الحليب التي نشاهدها يوميا في الإشهار...
كذلك ذاكرتنا الفردية قد تكابد لتسترجع بعضا من تفاصيل أول قصة حب مراهقة، في حين تمنحنا ذاكرة الجماعة/السلطة أدق جزئيات علاقتنا الزوجية باعتبارها علاقة رسمية تخضع لنواميس المؤسسة المجتمعية... مثلما لا تتأخر ذاكرة الجماعة/السلطة في تفعيل ذاكرتنا من خلال موعد أخبار الساعة الثامنة وتحرمنا من استعادة أول الأفلام الكرتونية التي شاهدناها في طفولتنا...
ذاكرتنا الفردية غالبا ما تخذلنا عندما نرغب في استحضار فكرة ما من كتاب تعلقنا بتفاصيله، ولكن ذاكرة الجماعة/السلطة لا تبخل علينا بتذكر عناوين الكتب التي "أمرت" بنشرها في واجهات المكتبات وأدرجتها في برامج الدراسة الرسمية... وتفشل ذاكرتنا اليوم في تذكر رسوم "الغرافيتي" الثورية على جدران القصبة وفي شارع الحبيب بورقيبة وعلى جدران الإدارات والمؤسسات، تفشل ذاكرتنا لأن ذاكرة الجماعة/السلطة تدججنا بصور سيدي بوسعيد والملابس التقليدية....
ذاكرتهُ تخشى أن تتذكر أول مرة داعبت فيها شفرة الحلاقة ذقنه تاركة خدوش الارتباك والخوف من افتضاح أمره أمام والده، وذاكرتها تخشى أن تتذكر أول مرة لاعبت أصابعها ضفيرة شعرها المجدولة... ذاكرته تخشى أن تتذكر ذلك لأن ذاكرة الجماعة أطالت لحيتها، وذاكرتها تأبى أن تتذكر ضفيرتها لأن ذاكرة الجماعة ألقت حجابا أسودا بين شعرها والريح...
ذاكرة الجماعة/السلطة، تقدم لنا طقوسا "مقدسة" لموتنا الفردي، وتمنحنا "خيالا" جماعيا مُعدّا سلفا لطريقة دفن جثثنا الهامدة. إنها "تُبدع" في تذكير ذاكرتنا بعذاب القبر وأهواله وتؤلف في ذلك الكتب وتوزعها في الأسواق، وتسجل الأقراص الليزرية وتبيعها للناس، وتنتج برامج تلفزية يقدمها الأوصياء الدائمون على الذاكرة الفردية، الناطقون باسم ذاكرة الجماعة... إنها تفعل كل شيء وكأنها ستموت عوضا عنا وتُقبر مكاننا... أو كأنها تُبدي "تعاطفها" مع مواطنيها الأموات (وهل كانوا أحياء حتى يموتوا!!!)... إنها تستولي على أرضنا باسم سمائها... وتجعل كل فرد منا يردد مع تلميذ نيتشة، جول دي غولتييه، ما قله في كتابه (البوفارية) " الأنا، الأنا الذي ما هو إلا محض عنوان عام، محض تمثل مجرد، كالحاضرة أو الدولة، مأخوذ هنا على انه كائن محبو بوحدة فعلية".
إن ذاكرة الجماعة، أي ذاكرة السلطة، تلوي عنق الذاكرة الفردية وتطويها بإتقان متناه ثم تضعها تحت إبطها لتصنع منها ذاكرة "مُنضبطة"، "مُطيعة"، "وَديعة"، "مُسالمة" و"خَاضعة" بشكل "وَاع"... ذاكرة لا تُدون يومياتها إلا تحت رقابة السلطة، ولا تستحضر تفاصيلها إلا بأمر الجماعة... ذاكرة "Jetable" قابلة للإتلاف والتلف و"التتليف" متى أرادت ذلك ذاكرة الجماعة/السلطة... وهي دائما ما ترغب في ممارسة سلطتها "الناعمة" باسم "الجماعة" أكانت سياسية/اقتصادية أو دينية/أخلاقية.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)