بحث هذه المدونة الإلكترونية

2007/09/29

أفكار متقاطعة 33

نَشَازُ الكَمَنْجَة

مثلَ المرآة المشرُوخَة التي تَفشَل في عكس الملاَمح الحقيقيَّة للوَاقف أمامَها، تفشَل أوتار الكمنجة المُقطَّعة الأوصال في تأثيث حلم مستمع واحد فما بالك لو كان المستمعون يفوقون العشرة ملايين... مستمعون لا تجمعهم كمنجة عازف وسط المسرح البلدي مثلا أو في المسرح الأثري بقرطاج أو في الجمّ، وإنّما هم مستمعون متناثرون فوق ركح ترابي مساحته 164 ألف كيلو متر، حيث الأحياء الشعبية والأرياف والقرى والمداشر...
ما يجمعهم هو كمنجة الكاتب علي اللواتي والمخرج حمادي عرافة كل ليلة على مدى 15 يوما ضمن البرمجة الرمضانية لصندوق العجب المسمّى تونس سبعة...
كمنجة سلاّمة هو عنوان المسلسل التونسي الذي ألّفه الاستاذ علي اللواتي وأخرجه حمادي عرافة وضم نخبة من وجوه الدراما التونسية مثل يونس الفارحي وعلي بالنور ومحمد علي بن جمعة ولطفي العبدلي ودليلة المفتاحي...
وهو يعالج فيما يعالج مظاهر تحلّل وتفككّ البرجوازية في تاريخ المجتمع التونسي الحديث، وهو مبحثٌ مهم جدّا وشديد الحساسية والخطورة باعتباره يتطلب قراءة تاريخية وتحديدا جغرافيا ومرجعيّة ايديولوجيّة ووجهة نظر فنيّة وجمالية مخصوصة، والأهم من ذلك الأفق النَّظري الذي سيُحدّد مستقبل فئة / طبقة البرجوازية إن انهيارا أو صعودا مثلما فعل بلزاك في رواياته مع الطبقة الأرستقراطية عندما كانت في طور الضُّمُور حيث تنبأ بحتمية انهيارها واتخذ منها موقفا نقديا كالذي اتخذه من المجتمع الرأسمالي عموما...وما من شك أن الفن عموما لا يمثل بديلا للايديولوجيا بقدر ما يعكس الواقع من خلال التعبيرات الفنية المُعْتَمَدَة، والتي لا محالة تُصنّف ضمن الواقعية النقدية التي تَتَطَلَّبُ حرصًا شديدًا في انتقاء المادة الحياتية وحرصًا أشدّ في كيفيَّة حَبْكهَا وتقديمها وتمرير الموقف التَّقَدمي المَنُوط بالفنان صانع ذاك الفن... واعتقد أنّ الكاتب علي اللواتي مع ممثلي مسلسل كمنجة سلاّمة ومُخْرجُهُ قد نجحوا الى حدّ بعيد في تجسيد «محنة» البرجوازية وتمكنوا من كسب تعاطف وجداني من قبل المشاهدين والمستمعين لعزفهم ونشيد انهيارهم.
ولكن «كمنجة سلاّمة» لم يَنْجُ عزفها من نشاز طال عدة جوانب مهمة في اعتقادي، فالمسلسل إجمالا يصوّر تحلّل البرجوازية ومظاهر تفككها ولكنه أغفل تحديد طبيعة هذه الطبقة التي تظهر لنا في المسلسل على انها فئة، فعائلة «للاَّ عقيلة عبد المقصود» لا تمتلك وسائل إنتاج وابنها موظّف سام مثلما هو الشأن لزوجته وكذلك الحال لدى المهندسة المعمارية أو لدى موظفة البنك، كما أن الصّراع القائم في المسلسل هو صراع نفسي وأخلاقي بالدرجة الأولى وليس صراعا اجتماعيا واقتصاديا رغم عديد الاشارات المحيلة على ذلك، ثم إن تشخيص أي تغير في بنية المجتمع يتطلب ضرورة الإشارة إلى إرهاصاته وأسبابه الجذريّة التي مهَّدت لذلك التغيّر...
وأعتقد أن تحميل أحداث المسلسل خطابا ايديولوجيا أعمق ممّا نستمع له في كل حلقة وبلغة أكثر رقيّا مثلما نشاهد في المسلسلات العربية الجادة كان يمكنه أن يدفع أكثر بالعمل نحو شُرْفَة درامية نَفْتَقدُهَا كثيرا في تلفزتنا ومن كُتَّابنَا ومُخْرجينَا وممثلينا... ولكنّ...

2007/09/24

حوار مع الشاعر كمال بوعجيلة

الشعر فعل مستقبلي تزداد لذّته كلّما توغّل الشاعر في تفاصيل الحياة

استعمال بعض مصطلحات التكنولوجيا في القصيدة لا يعني حداثتها

ترك البلاد ذات صباح ممطر أواخر الخريف لبائع الجرائد وهو يؤثث منضدته لتوزيع الاخبار المتشابهة في منحى رصيف بليل... وترك الناس يلهثون سعيا الى الرغيف ليعلق قنديلا كالأيقونة في خطواته المتموجة وسط شوارع باريس وحاناتها وداخل فضاءاتها الثقافية متصفحا كتاب العمر وسط الوحشة والعذابات... فظل طيلة عشر سنوات يهذي تحت سماء باردة لعله يتمكن من تفسير دهشته وكتابة أغنية من حرير الكلام...
الشاعر كمال بوعجيلة، المولود بتطاوين سنة 1957 والمقيم منذ 1998 بعاصمة النور باريس، صاحب المجموعة الشعرية «ترى ما رأيت» (1994) و «حبيبتي تتركني لليل» (1996) و «هذيان تحت سماء باردة» (2006) و «كيف أفسر دهشتي» (2006)... لا يزال يبحث عن نص العمر رغم تمنّع اللغة وجحودها... كعادته التي تربى عليها لا يزال يمر على رصيف الاشتهاء كالندى فيبلل الازهار اليانعة دون ان يخدش عطرها، ويعبر كالفراشات الواحات الوارفة دون ان يترك اثرا لخطاه...كمال بوعجيلة، ذاك الطفل الوحيد، المستوحد في سنواته الخمسين، لا يزال متوغلا في الصباحات القديمة وهو يتكئ على لغة الشعر ليعيد الاغنيات ويرتب الاحلام فوق أرض تهرع للذيول...
منذ ثلث قرن تقريبا وأنت تكتب الشعر، فهل وصل كمال بوعجيلة الى القصيدة من أجلها وُلِدَت؟
ـ هل مرّ كل هذا الزمن!!!لعل فعل الكتابة يقتل الوقت كما يقال...وأنا أقرأ سؤالك أدركت انه يمكننا ـ فعلا ـ ان نتذكر المستقبل... بل لعله الزمن الوحيد الذي يمكن ان نتذكره بكل تفاصيله وجزئياته... نتذكره كمؤشرّ أساسي للكتابة الادبية بكل اجناسها شعرا ونثرا، الكتابة كشرط من شروط بقاء اللغة حية متجددة ونابضة بآلام وآمال الانسان...وقد يبدو السؤال من الوهلة الاولى بسيطا، ولكن لنسأل معا:هل هناك للكاتب نص متميز بشكل فاضح وواضح عن نصوصه الاخرى بحيث يمكننا ان نسميه، «نص العمر»... من وجهة نظري لا أتصور ذلك مطلقا... فحين تتصفح وتدقق في اعمال الكُتاب والشعراء الذين بقوا في ذاكرة التاريخ (وهذا لدى كل الشعوب) ستلاحظ خيطا شفافا يربط كل نصوصهم بحيث يمكن ان نتحدث عن مشروع متكامل قد تحدث خلال تبلوره «اشراقات» متميزة ومُبهرة، وقد يصيبه في لحظات اخرى بعض الوهن والسقوط.ولكن ان نقول قد وصل كاتب او شاعر ما الى القصيدة التي من أجلها وُلد فمعناه ان يغلق الكتاب ويصمت الى الابد... الكتابة حسب رأيي فعلٌ مستقبلي، تزداد لذتها الساخرة وأتعابها غير المحتملة كلما تقدمت السنوات، وكلما توغل الشاعر في تفاصيل الحياة واصطدم بتمنع اللغة الرهيب وحتى جحودها احيانا. ولا اتصور ـ وهذا يهمني شخصيا ـ أنني بلغت الى مرحلة الرضا عن النفس والاطمئنان الى ما كتبت... أنا بعيد كل البعد عن هذا، وواع تمام الوعي بجسامة وخطورة الامر.حين تمر بما كتب لدى كل الحضارات والشعوب تصيبك رجفة وتسأل: ألا يمكن ان يكون ما أفعله وقاحة وعدم اكتراث بالمسؤولية؟! انظر معي جيدا الى الأفق وتعال نسأل معا ما الذي سوف يبقى امام هدير الحياة؟!!...
من يقف على مجموعتك الشعرية «هل أفسّر دهشتي» يلمس شدة تشاؤمك ويأسك، كيف تفسر هذه الحالة، أهي حالة الشعر أم حالة الشاعر أم الاثنين معا؟
ـ قد يكون الحزن في احيان كثيرة مشابها او مقاربا للتشاؤم... واذا اعتبرنا الحزن حالة نفسية يمر بها الانسان قد تتصاعد وتيرته أحيانا وقد تخفت احيانا اخرى، واذا كان التشاؤم موقفا من الحياة تحدده رؤية الشخص الى الحياة والكون، فان ما يصح قوله ـ حسب رأيي ـ هو الحزن المبثوث في القصائد، والحزن يقارب في لحظات ما الفرح والزهو الحزين يمكن ان يطرب ويغني ويرقص... وهي علامات فرح... ولكن الامر يتجاوز هذه الوقفة السريعة والتلميح الخاطف للمسألة... لنعد الآن الى السؤال: هل التشاؤم حالة الشعر ام الشاعر؟! ام حالة الانسان عموما وخاصة انسان هذا العصر؟ ألا ترى معي ما يحدث، إن الصورة التي وحدت العالم وجعلته يعيش في نفس الوتيرة تقريبا... فالاحداث التي نعيشها جميعا في نفس اللحظة تقريبا جعلت المشهد المأسوي (حروب، مجاعات، كوارث طبيعية...) يسيطر على ذاكرة الانسان ومخيلته، وبالتالي اصبحنا نعيش حالة إحباط وقنوط ويأس من كل المشاريع... انها الحالة التي تحدثت عنها في سؤالك... فهل يُعاب على النص ان يحمل بعض خلجات الواقع وان كان في مرارة العلقم؟!!...
تعوّل كثيرا في مجاميعك الشعرية على معجم الطبيعة بمكوناتها وحالاتها وتحولاتها في حين ان الكثير من الشعراء يتجهون اليوم الى معجم التكنولوجيا وصرنا نتحدث عن القصيدة الافتراضية؟
ـ سؤالك هذا يذكرني بسطحية القائلين بضرورة نقل الواقع كما يبدو للعين المجردة. هذا التبسيط لعلاقة الواقع بالنص يضر بالنص ويجعل منه في احسن الاحوال «ريبورتاجا» او مقالا صحفيا سمجا... حسب رأيي الامر اكثر تعقيدا وعمقا... فلا يعني استعمال بعض أدوات التكنولوجيا الحديثة التي دخلت حياة الانسان في السنوات الاخيرة ان النص حديث ومعاصر... والحداثة شيء اخر لا يسمح مجال حديثنا هنا التورّط في تفاصيله، ولكن لا بأس ان أوضح أمرين هامين:1 ـ ان التكنولوجيا بكل أدواتها وبرامجها جُعلت بالاساس لخدمة الانسان، ولم تنف الطبيعة ولم تُخرج الانسان من محيطه البيئي وان تدخلت وضيقت كثيرا مجالات عديدة، ولكن هذا حدث عبر مرور الزمن السريع واستوعب الانسان خطورة الامر. ألا ترى معي هذا المشروع الكبير الداعي الى حماية البيئة والمناخ والمحيط عموما، انظر الى الجمعيات والاحزاب التي تُولد يوميا في كل أرجاء الارض والتي جعلت همها الاساسي ترشيد الانسان وتوعيته الى مخاطر انهاك الطبيعة واستنزاف مواردها وثرواتها، من هنا يمكن للنص ان يكون حديثا وبطريقته الخاصة في الدفاع عن الحياة وعن الانسان والطبيعة طبعا... دون الاسفاف والافتعال في استعمال كلمات تسقط اسقاطا سمجا... فتكون نصوصا مفبركة لا علاقة لها بالحياة ولا بالحداثة.2 ـ إن النص يكون حديثا باشتغاله العميق والجاد في اللغة أولا احتكاكا ومناقشة للنصوص الاخرى، وثانيا بانغماسه الواعي والمدروس لقضايا الانسان وهمومه سواء في قضايا وجودية كالموت والحب... او في برامجه الآنية ـ الآن وهنا ـ ومخططاته للمستقبل ضمانا للحياة... طبعا لا يمكن للنص ان يُفلت من شروطه التاريخية... رغم إلحاح بعض المنفلتين من كهوف التاريخ على قدسية بعض النصوص... النص هو تفكير باللغة ولذلك هو تاريخي، وليأت من حيث شاء.
في قصيدتك «مرثية لغزالة الضوء» من مجموعتك «هل أفسر دهشتي» قلت ان اللغة انتهت، فهل يعني هذا انك مؤمن بمقولة موت اللغة والشاعر والشعر استتباعا لموت الايديولوجيا والمثقف والكاتب؟
ـ أنا لست مؤمنا بشيء ما... ثابت ومقدس... الاشياء متحركة لانها حية، والحياة هي الحركة، قد تكون لولبية، أفقية، صاعدة، او نازلة ولكنها تتحرك، وحين اقول ان اللغة انتهت، يجب ان يؤخذ هذا السطر او البيت الشعري في سياق النص. فأنا لست معنيا بتفسير شعري، ولكن دعني أصارحك بأن هذا السطر يرمز الى المعاناة التي يعيشها الشاعر وهو يزود ويُنازل اللغة... طبعا العلاقة ليست حداثية ولكنها في احيان كثيرة نزالية، اي ان الشاعر يفتك ما يريده من براثن اللغة المترهلة والمتكلسة والممزقة. إن النص هو ثمرة مجهود انساني شاق ومضن ولذلك حاولت ان أرسم بعض الصعوبات التي تعترض سبيل الشاعر ومنها تمزّق اللغة...أما ما ذهبت اليه في سؤالك من ميتات فهو موضوع فلسفي واجتماعي بالاساس ويمكن مناقشته ولكن دون تعجل وانبهار بالمقولات الرنانة والفاضحة لنفسها في حقيقة الامر... ما فائدة البكاء على الموت اذا كان سيأتي فانه لم يحن وقته بعد... أليست الحياة هي المنبعثة دوما من رماد الموت؟!
هل يصنّف كمال بوعجيلة مجاميعه الشعرية كتجارب منفصلة أم ان كل نتاجك الشعري هو تجربتك الوجودية التي لا تزال تنحت ملامحها؟
ـ لقد أجبت عن سؤالك بنفسك في شطره الثاني، واجمالا أنا لا أتصور الكتابة الا كمشروع متكامل، وما النصوص الا محطات داخل ذاك المشروع. سأعطيك مثالا: أحيانا تتداخل بدايات النصوص بشكل مربك ولا تدري اي نص سيكتمل وأيها سيبقى مشرعا الى مالا نهاية... إن الكتابة بالاساس ـ مثلما ألمحت في بداية حديثنا ـ هي عمل مفتوح ومشرع على المستقبل.
هل كمال بوعجيلة موغل في وهم من سبقوه الى الماء... مثلما كتبت في احدى قصائد مجموعتك الموسومة بهذيان سماء باردة؟
ـ الماء هو احد تغييرات الحياة، من منا يمكن ان يفهم هذا السطر؟ لا أحبذ كما قلت لك سابقا تفسير شعري واعترف انها مهمة شاقة وصعبة، وسأجوز القول ان التوغل في هموم ومشاغل الانسان واحلامه وآماله وطموحاته هي احد مكونات الشعر واحدى مهام الشاعر.
عندما تقرأ اليوم ـ بعد عشرين سنة ـ قصيدتك المهداة الى أبي القاسم الشابي «مرثية الارض السراب» هل تصنّف نفسك بمرتبة الشاعر النبيّ؟
ـ إذا كان الشاعر كما ألمحت هو المتذكر للمستقبل والسابح في تفاصيله، واذا كان النبي هو الحامل لأسراره فلا يمكن للشاعر الا ان يكون نبيّا... ولعل النبي يكون شاعرا... من يدري.
هل يعتقد كمال بوعجيلة ان تجربته الشعرية لم تحظ بما تستحق من النقد والقراءة؟
ـ لابد من توضيح الامر التالي: أنا لا أكتب لأجل النقد ـ أرجو ان يُفهم كلامي هذا ـ اي ان الحادث الذي جرّني الى فعل الكتابة لا يسمح لي بمغازلة مقاعد الدرس... والتصنيفات... ولا أشتكي عادة من غياب النقاد وعزوفهم عن دورهم الاساسي...التجربة تستفيد جدا من النقد، اي نص يستفز الناقد ويحرّك فيه رغبة الكتابة هو نص يحمل بالضرورة ما يستحق القراءة... ولكن اين نحن من هذا؟! لقد اصبحت الكتابة النقدية عندنا نوعين بعيدين عن النقد: فإما المصافحة الاخوانية المجاملة والمتزلفة لغاية في النفس او الكتابة الحاقدة والشامتة المتلصفة لعلة في نفس الكاتب والناقد وليست لعلّة في النص...بودي ان يرتقي النقد بشكل عام الى مصاف الابداع والعلم... وان لا يظل حبيس الاخوانيات والمجاملات او الاحقاد والكراهية...
ألا تظن ان كمال بوعجيلة كاسم أكبر من كمال بوعجيلة كنص شعري؟
ـ هذا السؤال لا يوجّه إليّ... هناك مختصون في مثل هذه المسائل يمكن ان تجد لديهم الجواب. هل ساهم
وجودك في باريس منذ 1998 في تأثيث تجربتك الشعرية وإثرائها؟
ـ وجودي في فرنسا منذ عشر سنوات ساعدني في فهم الكثير من الامور، اضافة الى الافادة الكبرى من الاطلاع على تجارب حديثة جدا في كل مجالات الفن والادب، علاوة على ما يمنحه السفر من انفتاح على العالم ومتعة استنشاق روائح القرى والمدن والنساء وسماع الاصوات المختلفة والتجوال عبر الامكنة وكأنك تسافر في الزمن... ان للرحيل مزايا على الكاتب لا تحصى ولا تعد.
وأنت البعيد في فرنسا كيف تقيم المشهد الشعري في تونس نتاجا وحركة؟
ـ احدى سلبيات هجرتي الى فرنسا ابتعادي عن الساحة الشعرية والادبية عموما في تونس... أكاد لا أعرف الا ما عرفته قبل سفري... الان العودة ممكنة... سأحاول الاطلاع على كل ما نُشر اثناء مدة غيابي للاستفادة منه ومواكبة الحركة الادبية في تونس وأرجو ان يساعدني الاصدقاء على ذلك.
في السنة القادمة سنحتفل بمائوية ابي القاسم الشابي، فهل لك ـ باعتبارك شاعرا ـ ما تقترحه بشأن هذا الحدث الشعري؟
ـ المنشطون والمختصون في شؤون الاحتفالات والمهرجانات يمكن ان تكون لهم مقترحات واراء صائبة ومفيدة، اما انا فلي نصّي ويسعدني ان احضر هذا الاحتفال بشاعر تونس الكبير.
في زمن الحروب وعودة الاستعمار بمختلف اشكاله هل يمكن للشعر ان يعود لجماهيريته مثلما كان في أربعينات وخمسينات القرن الماضي؟
ـ الجماهيرية. جماهيرية الشعر والفن عموما هي قضية مطروحة على وجه الخطأ... لست أدري متى كان الشعر جماهيريا ومتى كفّ عن ذلك، ولكن الذي أعرفه هو ان الشعر ظل موجودا ومبثوثا في كل أرجاء الدنيا، هذا ما ألاحظه من خلال تجوالي عبر قارات العالم ومدنه، لم أجد مكانا خاليا من الشعر، إطلاقا لم يحدث معي هذا.اما قضايا الشعوب المستعمرة والمضطهدة فقد يخدمها الشعر في حدود امكانياته دون ان نبالغ في ضرورة هذا الاستعمار والظلم لانتشار الشعر.أقول ختاما أننا لسنا في حاجة الى كل هذا الدمار والخراب كي يظل الشعر حاضرا.

2007/09/17

أفكار متقاطعة 31

حنظلة الذي لا يموت

قد تُقرأُ علاقة قلم الرصاص بالممحاة وجوديا كعلاقة الحياة بالموت من حيث المعادلتين الموضوعيتين ولادةٌ / كتابةٌ من جهة وقبرٌ / محوٌ من جهة ثانية، وقد تُقرأُ سياسيا كعلاقة المقاومة الفلسطينية بالاستعمار الصهيوني من خلال المعادلة الموضوعية للصراع الأبدي بين القاتل والضحية أو من خلال فعلي البناء والهدم أو بين الرسم والطمس، ولكنها مع ناجي العلي لن تقرأ إلا ضمن سياق متجانس ومتناغم، من حيث المعادلتين الاستثنائيتين حياةٌ / حياةٌ ومقاومة / مقاومة ذلك أنه المشرّد، إبن المخيمات مثّل «وحدة عضوية شمولية تكاملية للفعل المقاوم « منذ أن حمل بحنظلة فكرة فوق رمل الصحراء العربية الملتهبة الى أن باغته المخاض بمخلوقه الشكليّ وهو منفي في صقيع الشوارع الأوروبية القارس، ليظل «حنظلة كأيقونة تحفظ روحه وتحفظه من الانزلاق» محققا بذلك خلودا وجوديا في ذاكرة الورقة البيضاء التي سترسم فوقها خريطة فلسطين المستقلة من الداخل والخارج ... ومُحققا خلودا ميتافيزيقيا بعد أن محا بقلم رصاصه كل ما خططت له الممحاة الصهيونية لما رسم منشوره الكاريكاتوري بالأبيض والأسود : « فلسطين ثورة وبركان من داخل الخيمة»...
يقول الكاتب السوري عبد الله أبوراشد عن تمفصلات مسيرة الشاهد والشهيد ناجي العلي : «ثلاثة مفاصل تاريخية رئيسية رافقت مسيرة الأحزان الفلسطينية في حياة الشاهد والشهيد ناجي العلي : الأولى مترافقة لمرحلة الولادة وما قبل عام التشرد في حروب النكبة 1948 .وواقع الغربة ما بين عامي 1948 ـ 1974 الثالثة شاهدة على يوميات الجراح الفلسطينية الدامية والانهيارات المتوالية ما بين أعوام 1974 ـ 1987 «. ومنذ أن وُلد ناجي العلي في قرية الشجرة بالجليل الأعلى بفلسطين سنة 1936 الى أن اغتيل بلندن يوم 29 أوت 1987 لم يكفّ قلم رصاصه عن التحريض والتعبئة ضد الاستيطان الصهيوني والتواطئ العربي حيث كانت كل رسومه رسائل مفتوحة واضحة الشيفرات والرموز ... الاستقلال التام لفلسطين وحق العودة للمشردين المتناثير في أصقاع الدنيا قسرا...ترحاله الجغرافي قسرا من أرض لأخرى لم يدخله في ترحال إيديولوجي أو تنقل مبدأي... بل كان مع كل محطة جديدة يُطوّر طاقته الابداعية ويطوّع الورقة البيضاء وقلم الرصاص لتغذية روح المقاومة والدفع بجذوتها نحو الذّرى ... كان يرفض «الحياء» باعتباره قيمة اجتماعية وبالمقابل يذهب بعيدا نحو «الوقاحة الفكرية» ليضمن عدم أكل قلمه الرصاص أو قضم لسانه مع ورقة الرسم ... إنه بعبارة سليم دولة «لم يكن وقحا فقط وإنما كان سعيدا بتلك الوقاحة، متحملا لتبعاتها»... كان مؤمنا ـ مثل محمود درويش ـ أن : «في عنف السلاسل ... مليون عصفور على أغصان قلبي ... يُخلَقُ الحنظل المقاتل»...الذكرى العشرون لإغتيال ناجي العلي تنطلق كفراشة قزحية مثقوبة برصاصة على ذاكرة النسيان والتجاهل، ذاكرة الصمت والخوف التي استحالت الى كيس من الرمل يعسُر معه السير، مثلما وصفها (الذاكرة) الكاتب الجزائري الطاهر بن جلون ، ذاكرتنا المسكونة بأشباح الامبريالية الأمريكية والصهيونية العنصرية... الذكرى العشرون لإغتيال ناجي العلي الذي مشى الى قبره بلا وجل لتحيا فلسطين مستقلة ويفك حنظلة يديه المعقودتين الى ظهره، تنطلق اليوم رصاصة حيّة تُخرج القيم والمفاهيم من قمقم اللغة الرثة الى عظمة الفعل الحي المنبثق من المعادلة الوجودية : الحرية تساوي الموت والموت يساوي الحياة... آلاف الرسومات الكاريكاتورية التي تركها لنا ناجي العلي ستظل شوكة في حلق أولئك الواقفين على الربوة يلوكون الوقت ويمضغونه جيئة وذهابا في الشوارع الفسيحة، والمترصدين لابتسامات مضيفات الطائرات التي تقلهم نحو وهم السلام ووهم المفاوضات...

2007/09/11

أفكار متقاطعة 30

اغتصاب التاريخ

بعد اغتصَاب الأرض العراقيَّة وانتهَاك حُرمَات جغرافيا ما بين النهرين، وبعد اعدام الرئيس الشرعي لجمهورية العراق العربية صدام حسين جاء الان دور اغتصاب التاريخ بعد السّرقات والنّهب وطمس معالم حضارة بلاد الرافدين في اطار مشهدي سينمائي...صدّام حسين برؤية صهيوأمريكية هي ذي الآن ورقة بريطانيا وامريكا... ورقة الثقافة الغازية... ذلك ان هيئة الاذاعة البريطانية BBC ستنتج قناتها الثانية فيلما عن حياة ومسيرة صدام حسين وقد اختارت هذه القناة ممثلا صهيونيا لتقمص شخصية الرئيس العراقي ويدعى الممثل «يغال ناؤور» (48 سنة) بعد ان كان سيتقمص شخصية الرئيس ممثل امريكي الجنسية، والفيلم سيكون بعنوان «بين النهرين».
طبعا هذا الانتاج الصهيو -أمريكي لن يخرج عن اطار التشويه والتزييف لمسيرة الرجل وحياته اثناء حكم العراق ولن تكون قراءة الواقع والتاريخ العراقيين وفقا لمعطيات وحقائق الواقع والتاريخ العراقيين إلا بما سيخدم الآلة الصهيونية والعقل الصيهوني لتعزيز استحواذه على مستقبل المنطقة بعد ان امّن ماضيها المنغرس في فلسطين ولبنان وما جاورهما... وسيكون فيلم «بين النهرين» مثل رواية «أرض الميعاد». ولن يضاهي دور الممثل الصهيوني «يغال ناؤور» في «بين النهرين» دور «أنطونيو كوين» في فيلم «عمر المختار» الذي أخرجه المخرج العربي/ العالمي مصطفى العقاد والذي أُغتيل هو الآخر عن طريق الموساد الصّهيوني..إن توظيف الثّقافة كسلاح حربي يمثل استراتيجية قديمة وهي مستمرة الى الآن لنجاعته وفاعليته، وهو أيضا مستمر هناك، عند الآخر المستعمر ويكفي أن نذكر مدخل نابليون بونابارت لمصر... أما عندنا نحن فالثّقافة كسلاح وجود، هي مقبورة بأيادينا نحن... أيادي السلطة الرجعية والسلطة المتواطئة مع الاستعمار....فالفيلم السياسي والمسرح السياسي والرواية السياسية والشعر السياسي... كله مُصادر ومُطارد من قبل السّلطة السياسيّة فلا غرابة أن يُغتيل غسّان كنفاني وناجي العلي، ولا غرابة ان يجنّ محمد شكري ويُنفى عبد الرحمان منيف، ولا غرابة أن يُغتال سعد الله ونوس وأن يُحاكم عاطف الطيّب ويُحاصر مظفر النواب وأحمد عفيفي مطر ومنوّر صمادح...وفي المقابل تنخرط الآلة الثقافيّة الرسميّة في تمجيد وأسْطَرَة السيد الرئيس الحاكم بأمره وتمجيد وأسطرة الحزب الحاكم الواحد الأوحد وتوظف كل مدّخرات شعبها وبلادها لترويج فلكلور مشوّه وشعوذة بائسة، وتكرّس ثقافة منبتّة لا تمتلك أفقا ولا استراتيجيا، ويكفي أن نقف على الموجة الجديدة للسينما المصرية أو الإطار العام لمسلسلاتنا التونسية ولبرامج المسابقات والاغاني لنلاحظ عمق الهوّة الفاصلة بين الرؤيا الصهيونية والأمريكية في مجال استثمار الثقافة والرؤيا الثقافية العربية في مجال طمس وردم الثقافة...هل تحرّك المثقف العربي أمام انتاج هذا الفيلم عن الرئيس العراقي صدام حسين قبل أن يتم انجاز الفيلم وعرضه؟! أبدا إنه لن يبدي ساكنا، فهو منخرط في ولائمه ومآدبه وفي مشاريعه الثقافية الشاحبة، وحتى نقابة المهن التمثيلية بمصر لم تتحرك إزاء هذا الفيلم ـ الذي ستصوّر مشاهد منه في تونس ـ الا ليُحقّق مع ممثل مصري (عمرو واكد) كان سيشارك في هذا الفيلم... تحرّكٌ لم يخرج ـ كعادتنا ـ عن اطاره الاني والمصلحي الضيّق، فما يهم نقابة المهن التمثيلية هو عدم مشاركة عضو منها في الفيلم وليس انتاج الفيلم في حد ذاته... هذا موقف نقابة المهن التمثيلية بمصر فلنبكي كثيرا وطويلا عن موقف من ليست لهم نقابة تمثلهم... ولنبكي أبد الدهر عن موقف المثقف العربي قبل أن يتم إخراجه نهائيا في الزي الصهيوني بعد حين قريب...