بحث هذه المدونة الإلكترونية

2012/10/24

لا اكراه في الاحتفال

وجوه أكل الفقر والبؤس كل محياها... خطوات متعثرة... أياد مرتعشة... وهتافات مكتومة لبضع عشرات من التلاميذ الذين انتشروا هنا وهناك للاحتفال بيوم 23 أكتوبر وسط شارع الحبيب بورقيبة... عشرات التلاميذ تركوا مقاعد الدرس والعلم والمعرفة ليلتحقوا بدعوات الاحتفال بمرور سنة على انتخاب الحكومة المؤقتة التي وعدتهم بأن تكتب دستور البلاد في ظرف سنة وتضمن جميع ممهدات الانتقال الديمقراطي السلمي من هيئات ومؤسسات ستسهر على تحقيق أهداف «الثّورة»... عشرات من الكادحين الذين تشققت أياديهم من العمل لفظتهم الحافلات العمومية ليخرجوا من منافذ شارع الحبيب... جيوبهم مثقوبة وأحلام البعض منهم مكسورة لعجزهم عن اقتناء خروف العيد... وبهم «اختلطت» بعض «الشابات» يرفعن لافتات الولاء وما تيسر من لافتات شتم وثلب من خالفهنّ الرأي... عشرات اخر من نفس الشريحة، شريحة المفقرين والمهمشين الذين سحقتهم سياسة بن علي، استقلوا الحافلات العمومية واتجهوا نحو قبة المجلس الوطني التأسيسي للتعبير عن ولائهم المطلق لحكومة مؤقتة دخلت بفضل أصواتهم إلى قبة المجلس التأسيسي بباردو وقصر قرطاج وقصر الحكومة بالقصبة وتوزع أبناء وبنات الحكومة على رؤوس الإدارات والمؤسسات الوطنية... من مدراء ومستشارين وولاة ومعتمدين... وبالمثل انتشر العشرات في هذه المدينة أو تلك الولاية تعبيرا منهم لولائهم المطلق للحزب قبل الوطن... متجاهلين «الحالة الثورية» التي اكتسحت العقل والقلب التونسي منذ أن سقط جدار الخوف، ضاربين عرض الحائط آلام عائلات شهداء نظام بن علي وشهداء الترويكا المؤقتة... متجاهلين تفاقم البطالة وغلاء المعيشة عشرات وعشرات وعشرات... ركنوا الوطن في زاوية مظلمة، وحولوا انتماءاتهم الحزبية «مقدسا» جديدا ينضاف إلى مقدّسات كنا نجتمع حولها منذ آلاف السنين فاختلفنا إلى حد التناحر والقتل حول ذات «المقدسات»... احتفل العشرات والمئات... والآلاف... بحزب طغى... وبأحزاب زكت الطغيان الجديد... احتفلوا في مأتم جنائزي بداخل كل فرد يستنكف من الاصداح بمرارة ما حلُم به ليلة هروب الطاغية بن علي... غير أن الخنوع المستتر والكامن في الأحشاء الضعيفة لم يعرف طريقه لرفض الطغيان... ولو كان مأتاه... الأب... السلطة... مهما كان مأتاه... احتفلوا وفي أذهانهم أنهم صاروا حكاما جددا سيستولون من جديد على ثروتنا وفكرنا وعقلنا وأحلامنا... وتناسوا أنهم يلوكون ذات الحكاية... حكاية “الشيطنة”... ورواية أنهم “ضحايا”... ولكنهم تناسوا أيضا أن زمن “تضحياتهم” (من اجل مشروعهم الضيق، لا مشروع تونس) كانوا يستجيرون بالاتحاد العام التونسي للشغل وبالمنظمات الوطنية المناضلة كالرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وبالأحزاب التي صاروا ينعتونها “بالعلمانية”... الاتحاد والرابطة وعشرات الصحافيات والصحافيين النزهاء و”أحزاب الصفر فاصل” هي التي كنست الدكتاتور يوم 14 جانفي ومهدت لهروبه منذ انتفاضة الحوض المنجمي... وهي التي أمنت لكم الطائرات لتعودوا على متنها من هناك... وهي أيضا التي أصرت على المرور السلمي إلى الديمقراطية عبر انتخاب المجلس الوطني التأسيسي... ولم تتجرأ على الاستهزاء بهذا الشعب و”افتكاك” السلطة يوم كانت بيدها... لم يكن “الاحتفال” يوم 23 أكتوبر وطنيا، ولم يكن فرصة للتقييم وطرح ممكنات التجاوز بقدر ما كان محاولة يائسة للاستعراض الفلكلوري غير أن الاستعراض كان باهتا شاحبا في شارع الحبيب بورقيبة... وكان استعراضا صامتا في القصبة... أما تحت قبة المجلس، وأمام الكراسي الخضراء الفارغة فكان الاستعراض الخطابي منسجما مع المثل القائل “الطير يغني وجناحو يرد عليه”... غير أن جناح الحرات والأحرار كان مدويا أمام المجلس... وفي الشوارع الخلفية للمدن التونسية المثخنة بخيبة الأمل من ترسانة الوعود المبددة في المنابر الحزبية والتلفزية... إننا نعيش الاحتفال تلو الاحتفال منذ أن آمنا بالحرية... وآمنا بأن القدر لا يستجيب إلا لإرادة الشعب... الشعب التونسي... إننا في احتفال دائم بحريتنا وبإنسانيتنا وبحلمنا... ولا حاجة لنا بحافلات عمومية ولافاتات زرقاء... وقوارير ماء... ومليشيات تلتحف الذل... إننا في احتفال دائم رغم أنهم يُكرهُوننا على الاحتفال... على احتفال الجاهلية الأولى...