بحث هذه المدونة الإلكترونية

2008/03/31

زيارة...


كثيرا ما زارته على غير موعد داخل غرفته الصغيرة. بعد أن يأس من استمالتها. دخلت عليه هذه المرة، عارية تماما من المساحيق اللزجة والملابس الشعشاعة. متمنعة، كعادته بها، سقطت بين يديه مثل ورقة بيضاء.
فتح آلة التسجيل لينساب منها صوت فيروز كندى أول الربيع وهي تشدو "عندي ثقة فيك"... وتبلل قلبه فرحا بهطول المطر داخل صندوق اللحم الذي يحمله...
أجلسها فوق مكتبه بعد أن أزاح عنه كل الأوراق المتراكمة في غير ترتيب وأسقط الأقلام الجافة والحبرية والأقراص الليزرية، فظلت متمنعة غير راغبة. قام من على كرسييه واتجه نحو السرير الملقى تحت اللوحة الزيتية التي تغطت بالغبار وبخيوط العناكب. تركها تستلقي فوقه، فلم تلن ولم تبد أي اهتمام بلهفته وتحرّقه لها. حاول أن يخاصرها مثلما كان يفعل ذلك مع كل فتاة يصطادها من الشارع فلم تتركه.
شاهدها تجري نحو الغرفة الثانية التي يرصف على مساحة جدرانها الثلاثة مئات الكتب والمجلات والصحف القديمة المهترئة الأطراف، والمحشوة كيفما اتفق فوق المحامل الخشبية، فجرى خلفها مثل طفل صغير يلهث وراء كرة تسبقه. حاول أن يحاصرها في ركن من أركان الغرفة المظلمة غير أنها أفلتت من قبضته، وعادت مسرعة الى الغرفة الثانية .
وقفت متكئة على حافة النافذة المفتوحة على الشارع الطويل الممتد أمام بيته. تركها واقفة وذهب ليعد لها فنجانا من القهوة الممزوجة بحبات الهيل على ناره هو لا على نار الموقد... عندما كان البن يفور على رسله كانت أصابعه ترتب لها طبقا من الثمار والفواكه: تفاحة، اجاصة، عنقود عنب، حبتي مشمش، برتقالة، تينتين، حبات كرز، سفرجلة، حبات فراولة، حفنة توت ورمانة مفركة...
سمع طرقات خفيفة تنقر الباب الخارجي. نهض ليفتح ويعرف من الطارق. كانت جارته العجوز جاءت لتسأله إن كان بإمكانه أن يترك لها البيت غدا للمعزين لأن زوجها المٌقعد مات البارحة في منتصف الليل. أجابها بنعم وهو يجهد ذاكرته ليتذكّر آخر مرة شاهد زوجها... حين يئس من تعقل ملامح وجهه ترحّم على روحه وأوصد الباب على حزن العجوز وصوت المرتل الذي بدأ في اختراق أغنية فيروز.
أطرق برهة وغاب رأسه بين يديه كمن استهلكته الحركة... مالت عينه تلاحق... ما تبقى من بياض الغيمة التي خلّفتها الطائرة... رحلت... كانت الفكرة تدخل في الحلم... كانت تلك الفكرة التي زارته في جراب الوحدة والإفلاس العاطفي قد رحلت من النافذة... رحلت وتركته لفنجان القهوة وطبق الثمار والفواكه ولعزاء المعزين... رحلت عنه بعد أن أسرت بيته بلعنة الحنين وضمخت مخدعه برائحة العطش...

2008/03/29

خطوة القط الأسود (٭)


عندما انتهت معزوفة «خطوة القط الأسود» عن السريان الهادئ في الأرجاء الدافئة، كان قد نهض وتقدم بخطوات واثقة من المدرج المفضي إلى الأسفل. اعترضه النادل وهو يحمل بين يديه دلوا نحاسيا مملوءا بمكعبات الثلج، فلم يترك له فرصة ليثنيه عن إسقاط وجهه وسط الدلو وترك وجنتيه وأرنبة أنفه تتمسح بلذة فوق المكعبات الباردة ذات الأطراف الحادة مثل قطع البلور. عندما رفع رأسه امتلأ فمه بمكعبين من الثلج كانا قد عقدا لسانه برودة ولذة عن أي كلام. همهم بكلمات غير مفهومة، دفعها دفعا عسيرا من فرط طراوة الثلج وليونته، ثم ترك قدميه تنزلقان بحنو فوق الدرجات الرخامية المفضية إلى الأسفل.
عندما انتهت معزوفة «خطوة القط الأسود» عن السريان الهادئ في الأرجاء الدافئة، كان قد مزق بعضا من أوراق الكتاب الضخم الذي لم يفارق نظره منذ أن جلس إلى طاولته المحاذية للمدرج المفضي إلى الأسفل ذي الخمس درجات. كان الكتاب رواية للكولومبي غابريال غارثيا ماركيز، وكان يحمل عنوان «أن تعيش لتحكي». لم يكن رواية خيالية، بل هو السيرة الذاتية لماركيز. مزق بعضا من أوراقه وشرع يلف في كل ورقة نوعا من السَُلَطَات التي طرحها النادل أمامه مع أول زجاجة نبيذ طلبها قبل ثلاث ساعة تقريبا. لف بقايا السلطات ودسها داخل جيب سترته السوداء بعد أن ألقى الكتاب الممزق وسط سلة الفضلات التي يمر بها النادل بين الفينة والأخرى. ضحك بأدب واضح عندما لاحظ دهشة النادل الممسك بسلة الفضلات من حركته الغريبة. قال له بنبرة هادئة ورصينة، أن متعته الحقيقية هي عندما يلقي بالكتاب الذي يقرؤه في سلة فضلات أو وسط بالوعة مياه قذرة، أو في مصب نفايات عمومي، وأنه يفعل ذلك حتى لو تطلب منه الأمر أن يمشي عدة كيلومترات بحثا عن مصب نفايات مفتوح. انصرف النادل بضحكته وسلته، وظل هو بنصف ابتسامة اجتهد أن تأخذ صبغة أرستقراطية. ضحك وهو يتذكر تلك العقوبة التي حرمته من استعارة الكتب من مكتبة الكلية طيلة مدة دراسته، والتي مُني بها لما اكتشف عميد الكلية مجلد «الرسائل الأدبية» للجاحظ يسد تلك البالوعة القذرة المسدودة أصلا خلف قسم العربية. أقيم حينذاك مجلس تأديب لا يزال يتحدث عنه الطلبة إلى الآن، وأستدعي هو ليدلي بأقواله بشأن التهمة الموجهة إليه والمتمثلة في إلقاء مجلد الجاحظ وسط بالوعة القاذورات. أجاب وقتها أمام المجلس الجامعي بأنه ألقى المجلد وسط البالوعة لارتباكه من حشود الطلبة القادمة نحوه في مسيرة ضخمة، ولأنه خاف أن يعنفوه لأنه لم يشاركهم هتافاتهم.
عندما انصرف النادل حاملا السلة، وقد تغطى غلاف الكتاب الأنيق ببقايا القواقع والصٌدف الفارغة، وبالهياكل الشوكية للأسماك التي استقرت في بطون الزبائن، ومأخوذا بدهشته، كان هو واقفا أمام المدرج المفضي إلى الأسفل وجيب سترته ينز بقطرات الزيت مثل مزاريب السطوح التي تغمرها مياه الأمطار المفاجئة. ظلت قطرات الزيت تلتمع فوق الدرجات الرخامية التي خلفها وراءه.
عندما كانت معزوفة «خطوة القط الأسود» تبعث في الأرجاء مسحة من الشرود على كل الوجوه المتناثرة وسط المكان، كان هو ملكا في مملكته ذات الغطاء الأحمر. كان ملكا وهو يرفع كؤوس النبيذ بطريقة رفيعة ورشيقة تنم عن أصله الأرستقراطي. كانت الطاولة ذات الغطاء الأحمر بما حملت من أطباق وملاعق فضية وبمطفأتها المصنوعة من العاج الإفريقي الأصيل وبمزهريتها المصنوعة من الكريستال الخالص التي ترتشق وسط عنقها وردة حمراء هي مملكته، وكان هو ملكا أمامها يشرب نخب مُلكه ويطالع سيرة غابريال غارثيا ماركيز. كان منفردا بملكه، لا أحد يقاسمه فيه. طاولة واحدة وكرسي واحد. لا منافس ولا معارض ولا حاسد. وحده ذاك الجندي الثابت فوق حصانه يقابله ولا يتكلم. انه تمثال من البرنز الخالص، منحوت بصورة جد متقنة، حتى أنه خمن أن يكون الجندي يرتدي جوربين من القطن المبطن تحت حذائه المتدلي على جانبي بطن الحصان. لم يشغله كثيرا تمثال الجندي المنتصب أمامه ، لأنه كان يترصد أيا كان صاعدا من المدرج المفضي إلى الأسفل ليرفع الكأس بذات الحركة الرشيقة والرفيعة ويسكب ما فيه داخل جوفه، وعندما يكون المدرج خاليا من وقع الخطوات الصاعدة، كان يلتهم السَُلَطَات بنهم ويتوقف عن شرب النبيذ، فقط كان عندما يلمح ظل شخص ما قادما من الأسفل يستعد للحظة الحاسمة. لشرب النبيذ بذات الطريقة الأرستقراطية، رغم أنه كان مقتنعا تمام الاقتناع أن الشرب هو الشرب أيَُا كان شاربه، لولا هذه البشرية الحمقاء التي جعلت من هذه المتعة الحياتية مقسمة تقسيما طبقيا، واخترعت لها طقوسا مخصوصة وآداب بعينها تميز الشاربين عن بعضهم البعض... (الجاحظ واحد ممن كتبوا حول هذه الآداب والطقوس المخصوصة في رسائله الأدبية)...
عندما انتهت معزوفة «خطوة القط الأسود» عن السريان الهادئ في الأرجاء الدافئة، كان قد وضع آخر متعلقاته داخل جيب سترته بعد أن ترك قليلا من النبيذ في القارورة الرابعة التي طلبها قبل ساعة تقريبا حسب ما تقتضيه آداب الشرب في الأوساط الأرستقراطية. عَدَُلَ نظارته. وضع هاتفه وعلبة سجائره والولاعة. لم يستطع أن يترك المطفأة العاجية التي أعجبته منذ جلس إلى طاولته. دسها مع علبة السجائر في جيب سترته الداخلي، ورغم أنه ظفر بالمطفأة العاجية إلا أن حسرته على المزهرية الكريستالية ظلت تنخر أصابعه لئلا تتراجع عن قطفها بوردتها الحمراء. لم يترك أي شيء فوق الطاولة ذات الغطاء الأحمر. حمل كل شيء ووقف أمام المدرج المفضي إلى الأسفل وهو ينظر إلى ساعته اليدوية بعين ويتابع بالعين الثانية حركة النادل.
عندما انتهت معزوفة «خطوة القط الأسود» عن السريان الهادئ في الأرجاء الدافئة، بعد أن كرَُرت لازمتها الوترية للمرة الخامسة، كان قد استنفذ كل الحيل الممكنة للهرب من الحانة الأرستقراطية دون أن يدفع حساب ما ألقاه داخل جوفه، وباءت بالفشل كل مخططاته في النفاذ ببطنه الممتلئة من قبضة نادل تلك الحانة الأرستقراطية، ولم يتوقع أبدا أن يطلب منه زجاجة نبيذ خامسة في تلك الساعة المتأخرة، ومعها كأس جديد مثلما تقتضي ذلك الطقوس الأرستقراطية.



(*) معزوفة موسيقية للتونسي أنور ابراهم.

2008/03/24

وَقْعُ حذَائهَا...


لم تسعفني ذاكرتي في استحضار اسم ذاك الشاعر المشرقي الذي قال: «طنَّشَتْني.... أي لم تكلّمني... لازلتُ أذكُر وقْع كعب حذائها صاعدا على درجِ الرّوح... كلبة هذه السيدة...» لم أذكر اسم القائل ولكن مقولهُ الشعري هذا ظلت كلماته تتقافز ككريات الدّم داخل شراييني كلّما ألفيتُ نفسي أطاردُ كعابَ أحذية بطلات المجموعة القصصيّة الحديثة للكاتب التونسي الأسعد بن حسين والتي مهرها بوقع حذائها....
ضيفة خالد، ريم، مومس سيدي سالم، سلوى، لودميلا، أماني، نبيلة، سعيدة، نعيمة... كلهّن حرّضن الأسعد بن حسين على الإفلات من ذكوريّته والتوّرط حدّ «البكاء» في تقاطُب حبريّ وتشابك سرديّ محا معها كل إمكانية لإقامة تلك المسافة التي تقتضيها قواعد الحكي بين أنا الكاتب وأنا الراوي وأنا البطلة في النصّ... ليُلفي أي قارئ نفسه أمام نص «وقع حذائها» للأسعد بن حسين في ورطة تصنيف انتماء الضمائر في عالم الذوات حتى وان بدت واضحة.... فالكاتب وان كان مالكا لمفاتيح متنه السرديّ، عليما بخبايا شخوصه فإنّه تحوّل بدوره إلى «ذات نصيّة» قلبت المسافة الشكليّة إلى مسافة شعريّة مكثفا وقع الأحداث والمجريات دافعا القارئ ليعيش بشكل روائيّ مثل «مجدي» بطل قصة «سجين الروايات» من المجموعة القصصيّة...
عندما تورّطت أكثر في نساء الأسعد بن حسين نشُطت ذاكرتي فتذكّرت مقولة فرنسوا جاكوب المقرّة بأنه «إذا كان ذلك الذي نتوجّه إليه قد اتخذ شكل ضمير المخاطب أنت، فأنت هذا هو أنا» ذلك أن قصص الأسعد بن حسين أكّدت أن الرجل استعمل كل الأسلحة لقتل ذاته الذكوريّة وذهنيته البطريركيّة من أجل حياة بنات قلمه ولو حتّى حبريّا فقط...
مجموعة الأسعد بن حسين «وقع حذائها» مجموعة تفريغ ومجموعة ترميم داخلي... رأبٌ لشرخ أنطولوجيّ... مجموعة تَمَرْئِي (من المرآة) تتهشّم فيها ضلوع الجنسين كما أدوات الحكي والسرد لا ضوابط تلجمها ولا أدوات بعينها ترفع أوتادها...
«وَقْعُ حذائها» هي أيضا ضربٌ للاسمنت الايديولوجي المسلّح لأنها ببساطة كُتبت بصوت مسموع... أو هي بالأحرى نموذج لما أسماهُ أندري جيد «الحكي المقعّر» (Récit abyme).....
يذكرني الأسعد بن حسين مرّة ثالثة... وأخيرة... بذاك الاسكافيّ الرابض خلف صندوقه الأزرق في كل شارع يُصلحُ أحذية العالم ولا يملك لساقيه حذاء لـمّاعًا... على الأرض يمشي الأسعد صافيّا... لتكون الكتابة انسانيّة...

2008/03/18

رجل الكلمات المتقاطعة


رجل صامت. واثقا يقفز الدرجات الخشبية الممتدة أمام الباب. ينزوي في ركن خافت الإضاءة. يوزع ملله داخل خانات الكلمات المتقاطعة، ويرش لحيته بنثار القهوة ليعبأ انتظاره بالوقت والنظر هنا وهناك داخل مقهى "التام تام".
لا أعتقد أنه ينتظر أحدا ما من الخارج. جلسته لا توحي بأنه على موعد أو على عجل. القلم بين أصابعه يتحرك عموديا وأفقيا كالبهلوان المحترف، راسما الحروف كيفا اتفق، أو هكذا يبدو. يظهر أنه رحالة تقاطعات، ولكني لست واثقا من ذلك مثله. ربما يشتغل... لا... لا أعتقد هذا مطلقا. أظن أن لحيته توحي بأنه يمتهن حرفة الصيد. هل يمكن أن يكون صيادا ؟. صيادا ماهرا.
انه صامت وواثقا مثل صياد. لابد أنه كان يمارس لعبة الصيد مع الأيائل البرية في أدغال أفريقيا. جسمه يبدو منهكا من رقصة التام تام... من رائحة عرق الزنجيات... ربما كان فعلا صيادا ماهرا... ربما...
صامت وواثق أمام الكلمات المتقاطعة، ولكنه يبدو مهزوزا ومتوثبا الآن أمام هاته العطور النائمة تحت أعناق البيضاوات داخل مقهى "التام تام".
هناك في الركن الأيمن من الطابق العلوي لمقهى "التام تام"، قبالة تمثال العاج المنتصب في شموخ أسطوري، وحذو الاباجورة الكريستالية المتبرجة بالأشعة الضوئية منعكسة على حوافها الحادة، وذات الأشكال الغريبة، جلست وحيدة تسرح شعرها والأحلام على إيقاع حركة الملعقة وسط الفنجان.
لم ينتبه لوجودهما الحزين في ذاك الصباح البارد داخل المقهى، لولا الصوت الذي أحدثه سقوط قلم الراوي، لما كان يرصد وجودهما من خلف.
تقاطعت العيون ببعضها البعض لحظة ارتطام القلم ببلور طاولة المقهى. التقط الراوي القلم اللعين والحنق باد عليه. شطب كل الكلام الذي كتبه فوق الورقة البيضاء.
دفع حساب ثلاثة فناجين قهوة للنادل الذي ظل فاغرا فاه، وانصرف خارجا تاركا وراءه ذاك الرجل الصامت وتلك الفتاة الوحيدة منعجنين ببياض وحبر القطع الصغيرة للورقة الملقية وسط مطفأة السجائر التي ملأها بأعقاب السجائر المبتلة وبأعواد الكبريت في ذاك الصباح بمقهى "التام تام".

2008/03/17

مدير المعهد العالي للموسيقى الدكتور محمدزين العابدين :


هذه بعض الفرضيات لادارة مهرجان الموسيقى...

* أجرى الحوار ناجي الخشناوي

داخل مبنى المعهد العالي للموسيقى الكائن بشارع باريس بقلب العاصمة عندما كنت باتجاه الطابق الثالث حيث مكتب مدير المعهد لم أكن أتوقع أني سألتقي بكل تلك الطاقة والشحنة والحماسة التي لمستها في حركات وسكنات الرجل وفي كلامه وصمته..
مدير المعهد هو الاستاذ الدكتور محمد زين العابدين، أستاذ التعليم العالي للعلوم الثقافية بجامعة تونس مختص في سياسات التنمية الثقافية والتحليل الاجتماعي والسياسي للثقافة وفي علوم الموسيقى وهو متحصل على 3 أطروحات دكتوراه من 3 جامعات فرنسة ومتحصل على الدكتوراه الموحدة في الجماليات والجغرافيا السياسية من السربون والدكتوراه الموحدة في علم الاجتماع السياسي والثقافي والعديد من الشهائد الاخرى من نفس درجة الدكتوراه وهو عضو بالمجلس الاعلى للثقافة كما انه مدير بحوث علمية في مستوى الدكتوراه والتأهيل الجامعي بجامعة السربون منذ سنة 2000 وهو يشرف على سلسلة اصدارات علمية وبحوث دولية حول السياسات الثقافية ومؤسس المجلة التونسية للعلوم الموسيقية ومجلة تضافر الابداع بالمعهد العالي للموسيقى بسوسة. مع الدكتور محمد زين العابدين هذا الفرد في صيغة الجمع كان لنا هذا الحوار بمكتبه .
* ما رأيك في تعدّد الاستشارات الوطنية في مجال الابداع الفني ومنها الاستشارة الوطنية حول الموسيقى؟
ـ بصفة عامة الاستشارة مهما كان نوعها تحاول مواكبة الواقع سواء كان مسرحا او سينما او موسيقى من حيث قرارات الدولة وانعكاساتها على الواقع، أي بين التنظير والممارسة واعتقد أن الاستشارة مهمة جدا لأنها تعبير عن التفاتة لقطاعات حيوية واستراتيجية وهي تتعامل مع مطالب المبدعين لتعاين الأسباب السالبة او الشادّة الى الخلف وتدعّم النقاط المضيئة والايجابية.
الاستشارة الوطنية ظاهرة صحية لانها تعطي الكلمة وتتيحها للجميع من مبدإ ديمقراطيتها ـ اي الكلمة ـ وتشريك الفئات المهنية لتحديد مصيرها والتعامل مع مطالبها واستحقاقات مرحلتها واستشراف افاقها.
* ألا ترى انه من الضروريّ مثلا في الاستشارة الوطنية حول الموسيقى يجب اخذ رأي المستمع / المتقبل الى جانب أهل الاختصاص؟
ـ انا معك في تحديد مسؤوليات القطاع الفنّي، ذلك أنه متعدد ولا يعني المبدع وحده ولكن كذلك النقاد ووسائل الاعلام والجمهور المستهدف باعتباره هو الذي يقدم على العروض ويتابعها وهو بالتالي طرف قار ورئيسي.
وأعتقد أن الجهات المسؤولة عن التنظيم من وزارة ثقافة وسياحة وتعليم عال كلها تضع في اعتبارها قيمة المستمع والمتقبل عموما ثم ان وزارة الثقافة ترصد ميزانيات مهمة للجهات لتنظيم التظاهرات ولا بد من تحسيس القطاع الخاص لكي يقوم بدوره اما بالاستثمار الثقافي او تدعيم التظاهرات ولم لا استحداث بنك للتنمية الثقافية ولكي نقارب الموضوع بصورة بنّاءة ولكي لا نحمل الدولة وحدها المسؤولية لابد للمبدع ان يكون لديه هاجس البناء والحفاظ على رؤيته ومشروعه الذي هو بالاخير ليس شخصيا صرفا بقدر ماهو يصب في الرؤية الوطنية.
* كيف ترى اليوم واقع تعليم الموسيقى الذي تتجاذبه الاصالة من جهة والتغريب من جهة ثانية ان صحّت العبارة؟
ـ في تاريخ وتقاليد تعليم الموسيقى هناك سعي إلى توطيد معاني وملامح الموسيقى التونسية الاصيلة بالاحتكام الى آلاتها وقوالبها ومقاماتها وايقاعاتها وهناك ذائقة عربية ولو أنها في تحوّل دائم ولكن يبقى الأساس هو تعليم الموسيقى التونسية المغاربية الاندلسية كالمالوف والطبوع والاوزان التي أسست لمراجع قيمة وهذا متوفر في جميع مستويات التكوين والتربية والثقافة والتعليم العالي ولكن هذا لا يمنع من التفتح على المعاهد الموسيقية الكلاسيكية الغربية ولنا شواهد عديدة في هذا الاطار حيث ان لدينا العديد من الطلبة المختصين في الات غربية وانماط موسيقية غربية وكونيّة، وإلى جانب هذا ندرّس موسيقى الجاز والموسيقات الجديدة بالنسبة للقرن العشرين والقرن الحادي والعشرين.
* هل توضّح لنا أكثر معنى الموسيقات الجديدة وهذا التوازن في التكوين الموسيقي؟
ـ ان التكوين يعي جيّدا أهمية الثقافة الموسيقية العربية والاسلامية من جهة ويدعم تجذّر الطلبة في محيطهم الثقافي والحضاري ولكنه في الان نفسه يأخذ بناصية العلوم والمناهج المتقدمة في الدول الغربية أي ان هناك تضافرا بين ماهو محليّ وماهو آخر بوعي وادراك لضرورة المحافظة على تعابير الهوية التونسية والعربية بتعدد اشكالها التقليدية والكلاسيكية والشعبية والمعاصرة.
* بمعني أن باب الاجتهاد الموسيقي مفتوح للطلبة؟
ـ في صلب معاهد التكوين نحاول ان نفتح ابواب الاجتهاد امام الطلبة لكي تكون نظرتهم للموروث نظرة محافظة وتجديد فلا يمكن فقط أن نحافظ على التراث بل معه لابد للابداع ان يحفظ حق التجديد الابداعي والفني لكي تتغذى مستقبلا المدونة الموسيقية التونسية من دون الاقتصار على حقبة تاريخية معينة أو لون ابداعي بعينه فالتاريخ البشري تراكم لاثار البشر دون اقصاء او تهميش ولكن لابد أن يكون لكل ثقافة شأن تُطوّر من خلاله مضمونها اخذا بمبادئ الاصالة وتجديدا لها وبحثا فيها وهذه سمة الحياة، أي التواصل والاثراء.
ونحن حين نتحدث عن الموسيقات الجديدة فهي تلك التي نُدرك معها حرية دنيا لدور المبدع في التعبير عما يريد من دون تواكل أو التعويل على ظرف تاريخي وحيد او لغة وحيدة او مرجع وحيد وأعتقد أن هذه النظرة المتجذرة والمتفتحة تركز بصورة واعية مآل التنمية، تنمية الاذواق، الافكار، الفكر النسبي، التواصل والبناء...
* لنأخذ مثلا آلة العود، هل تعتقد انها ستصمد أمام زحف الالات الغربية واستئثارها بأذن المستمع اليوم؟
ـ المبدأ الصحيح هو البحث في سُبل تطوير مضامين الفنون بصفة عامة مهما كانت الذريعة أو الآلة وأعتقد أن في ثمانينيات القرن الماضي برزت ظاهرة العزف المنفرد على العود ولكن للاسف هذه الظاهرة لم تعمّم على عدّة آلات أخرى بنفس الحضور والاشعاع وتبقى القضية الخاصة بهذا المعول على تطوير اللغة الموسيقية في تونس وفي الاقطار العربية هو الجدية في مقاربة تاريخية صحيحة واستغلال واع للآلات والقوالب والمضامين والتعامل بذكاء مع روح العصر وأن لا يكون بالانخراط الاعمى فيما هو غريب عن ثقافتنا، يكون بتثقيف المبدع وحضوره الفكري لكي لا يتحول بدوره الى آلة يمكن ان تستغل فيما لا يفيد الثقافة في تونس أو خارجها.
* هل هذا يهم العملية الابداعية كلها وجميع المبدعين من دون استثناء؟
ـ طبعا، فالعملية الابداعية عملية واعية تستقيم بفكر وبوجدان وبمشروع وان غابت هذه العناصر تغيب معها اهداف كل عملية حضارية، والموسيقى تنتمي الى هذه الشاكلة من أنماط التعبير الانساني الذي يؤسس من خلاله لحاضره ومستقبله.
ولعل القضية الكبرى هي اعطاء نظرية واسناد فكر لما يمكن ان يبدو كأنه من مكملات الحياة فالعود كآلة تستغل للترفيه والتسلية اتخذت من الكندي في القرن 9 ميلادي لتأسيس نظرية تقنية فلسفية سميت انذاك «المدرسة العودية» وواصلها الفارابي من خلال «المدرسة الطنبورية» وبعده صفيّ الدين الأُرموي من خلال «المدرسة المنهجية» في القرن 13 وقد اتخذت هذه المدارس أبعادا مهمة جدا في تحديد علاقة الموجود بالمنشود استنادا الى المدرسة الاغريقية القديمة وتطويرا لها في مضامين فكرية وجدانية اتخذها الغرب فيما بعد كسبيل لمناهجه الفنية لعصرالنهضة والعصر الكلاسيكي، فمن المفهوم الكوني الزماني ومبدأ التأثير الوجداني للموسيقى وصولا الى النظرية الوجدانية للايتيقا نجد ان الآلة الموسيقية العربية اضطلعت بدور حضاري تنويري في القرون الوسيطة وهي قرون أوج الحضارة الاسلامية لتفاعلها الحيوي بين ماهو حسي وفلسفي وديني وعلمي ولا بد ان نعود لهذه الاعتبارات ولا أن نعتبر الموسيقى جزءا من التسلية والترفيه خارج سياق الفكر والحضارة والمدنية فالشعوب والتاريخ والحضارات بوجدانها، والموسيقى تعبير لهذا الامتداد الذي يستأنس به الانسان للتعبير عن ملكاته التأسيسية والبناءة للحضارة الانسانية.
* ألا ترى أن موازين القوى بين الحضارات اليوم تعرقل عملية التثاقف والتواصل؟
ـ الغرب استلهم من الموسيقى العربية من موقع القوة، من موقع المستعمر والمستوطن والغازي، ولكن نحن يمكن ان نستلهم من الغرب ولكن بمنطق الندية وبالوعي بالخصوصية والمميزات وذلك خير من ان ننسحب تماما لكي لا نبقى في موقع التبعية الثقافية للغرب وهو ما يجعلنا في موطن التثاقف العقيم، وكما سبق أن قلت الاهم هو أن نواصل بين ماهو كامن في الشخصية التونسية على تنوعها واختلافها وامكانيات التفتح المشروط الذي يقوم على مبدأ الاخذ والعطاء والتأثر والتأثير..
* ما رأيك في تكاثر معاهد الموسيقى الخاصة؟
ـ هي ظاهرة صحية جدا، لان تعليم الناس الموسيقى ضروري لصقل شخصية المتعلم وتعويده على الابداع منذ الصغر وتطويع ملكاته للعلم والعمل
والصناعة بلغة فنية وجدانية واعتقد أنه من الضروري دعم مراكز التكوين لانها تخلق طاقات وابداعات من شأنها ان ترسم ملامح المستقبل.
* ولكن ألا ترى أن هذه المعاهد تؤثر في سوق الشغل؟
ـ يمكن ان تؤثر في توازن سوق الشغل ولكن أعتقد في هذا المجال أن الاهم هو تواصل العملية الابداعية وتكوين الموسيقيين والملحنين والاستئناس بالشعر والاداء وطرق التلفظ...
* ما رأيك في مهرجان الموسيقى؟
ـ مهرجان الموسيقى من المواعيد التي يمكن ان توفّر حضورا لاهل الاختصاص مع تنافس شريف وهو موعدٌ مهم من جملة المواعيد التي تحرص وزارة الثقافة والمحافظة على التراث على اقامتها تشجيعا للابداع والمبدعين.
* ما رأيك أيضا في مسألة إلغاء جوائز المهرجان ؟
ـ القضية ليست قضية جوائز، القضية قضية أهداف عامة ماذا نريد من المهرجان؟ تحفيز المبدعين؟ أم تشجيع الموسيقيين؟ أم اقامة التظاهرة في حدّ ذاتها؟
التظاهرة في حد ذاتها مهمة لانها فرصة لجمع العازف بالمغني بالشاعر والنقاد والمستمع... ولكن بقي ان نتساءل هل لابد أن نحدّد محورا سنويا لكل دورة يتنافس فيها أصحاب كفاءات تتجانس وتتقارب؟ هل يمكن الاستئناس بفكرة أساسية كتشجيع المواهب الجديدة؟ أم هل يجب الاقتصار على الأسماء المعلومة واعطاء المهرجان ما يستحق للتنافس؟ أم... أم... كلّّها فرضيات لادارة المهرجان لتنظر فيها لتتمكن من الوصول الى اطار يكون اكثر وضوحا وعمليا.
* لك أن تنهي هذا الحوار كما تشاء؟
ـ أملي أن تتضافر الجهود بين جميع الاطراف على جميع المستويات لكي نأخذ الموسيقى مأخذ الجد فننهض فعلا بسبل الابداع خاصة أن الموارد التي توفرها مختلف المؤسسات وسلطات الاشراف عديدة وسخية، بقي ان نحسن توظيفها ونسخّرها تسخيرا يطوّر فعلا من مضامين الابداع الفني الذي يبقى هو الفيصل في حكم التاريخ على الشعوب.

2008/03/13

بمناسبة اليوم العالمي للمرأة

التاريخ المؤنث (*)
* بقلم: يسرى فراوس (محامية)

* السؤال عن الكينونة يجلب الدوار
"لا يمكن أن نفهم إنسان المستقبل ما لم نفهم إنسان الماضي"، قياسا على هذه المقولة لــ لوروا غورهانLeroi – Gourhan يمكن أن نجزم أنه لا يمكننا فهم امرأة المستقبل إذا كنا لم نفهم بعد امرأة الماضي، ولكن حتى نفهم علينا أولاأن نعرف امرأة العصور السالفة. تلك هي المسألة.
يبدأ التشكيل الفني من تمثل الذهن لخطوط ودوائر وتكعيبات هي حتما أطياف موضوعات محسوسة نراها ونلمسها في الواقع ثم نخزنها في الذاكرة، فحتى نشكل صورة لامرأة من الزمن الغابر لابد من طيف مختبئ في ثنايا الذاكرة.
استفزاز الذاكرة يفترض أن السبيل الأقرب للوصول إليها هو قراءة التاريخ، وهنا نكتشف المعضلة المعرفية حيث تؤكد آمنة بن ميلاد ضمن كتابها "هل للتونسيات تاريخ ؟ " أنه على مدى أكثر من ألفي سنة من التاريخ المكتوب لا وجود للحديث عن حياة النساء".
لا يمكننا إذا أن نعول على ما وصلنا من التاريخ حتى نرسم ملامح النساء عبر التاريخ البشري. وهنا يأتي السؤال التالي هل يعني غياب النساء من الخارطة الزمنية المحبرة أن كل النساء هن أميرات نائمات على مدى ألفي سنة من التاريخ المكتوب على الأقل؟ هل تخلفت النساء عن الفعل الإبداعي والإنتاجي؟ وهل أن كل ما وصلته البشرية من حضارة هو من صنع الذكور فحسب؟ هل اقتصر دور النساء طيلة قرون على توليد البشر والحفاظ على بقاء الإنسان دون أن يسهمن في الثقافة والصناعة والفلاحة وغيرها من بقية أسباب البقاء؟ هل أن النساء دونا عن الرجال قد ألهاهن التكاثر عن لعب بقية الأدوار التي صنعت ما آلت إليه الإنسانية اليوم من تقدم؟
إن كل هذه الأسئلة تذكرنا بعبارة ديكارت "السؤال عن الكينونة يجلب الدوار". هذه الأسئلة هي أسئلة كينونة فهي تطرح إشكالات متعلقة بالوجود النسائي على امتداد قرون. وهذا الدوار يجعلني أستحضر صورة جدتي تلك التي كنت اسند رأسي إلى ركبتيها وتروي لي حكايات مدهشة عن الجازية الهلالية والعارم والسيدة المنوبية وغيرهن من النساء القادرات الفاعلات المؤثرات، أنام وأنا أستحضر صورهن فكبرت وكبرن معي. في ذاك الوقت كنت أسألني لماذا لا تروي كتبي المدرسية حكايات مدهشة عن بطلات جدتي.
اليوم وأنا الشاعرة والحقوقية والنسوية أسألني بذات الحيرة لماذا لا تحدّث كتب التاريخ عن نساء جدتي؟ إذا لا يمكن الاطمئنان لهذا التاريخ المتنكر في ثوب الحياد والمنكر لأمجاد النساء ولحياتهن الإيجابية. لا بد من مساءلته عن الدور الذي لعبته النساء في كتابته ووضع فواصله.
في هذه الورقات تتملكني رغبة في البحث الأركيولوجي عن ملامح النساء اللواتي تملكن طفولتي كي أجزم مسبقا ومصدقة جدتي أن النساء قد غُيّبن من تاريخ يصنعنه لكنه يغفلهن. انهن أقصين من ذاكرة ينحتنها ويكتبها الرجال. المسألة هي من قبيل ما تسميه لطيفة الأخضر في كتابها امرأة الإجماع "تتبع تاريخ المظالم". ولكي لا أتهم بالإسقاط والتجني الإبستيمي فإنني أقترح هذه الورقات كمحاولة لتعرية حياد التاريخ من خلال البحث أولا في أسباب وآليات تهميش النساء من التاريخ للتطرق فيما بعد إلى البرهنة على أن التاريخ البشري صنيع النساء والرجال بذات الكيفية.
بادئ ذي بدء ثمة مسلمات يمكن أن ننطلق منها للتوصل إلى معرفة الكيفية التي تم بها إقصاء النساء من التاريخ أو تحديدا من مجهر التاريخ لتلفهن الحجب وتبتلعهن الظلال، أول هذه المسلمات هي تلك التي اعتبر فيها ميشال فوكو بأن "كل شكل معرفة ينجر عن علاقة نفوذ وسلطة" إذا فالتاريخ كشكل من أشكال المعرفة هو نتاج علاقة نفوذ وسلطة ولكن المسلمة الثانية هي تلك التي عبرت عنها سيمون دي بوفوار Simone de Beauvoir في le deuxième sexe الجنس الثاني بقولها:" كان المجتمع مذكرا على الدوام، لقد احتكر الرجال السلطة، والسياسة كانت بأيديهم على مر التاريخ ".
انطلاقا من هاتين المقولتين تتضح معالم اللوحة نسبيا إذ يتبين لنا أنه ثمة سلطة من يحتكرها هو وحده من يظل متربعا على عرش التاريخ وهو ما عبرت عنه إليزاباث بادنتار في كتابها l’un est l’autre بقولها "إن مسألة السلطة هي وحدها المحدد ".
* الهرمية الجنسية
إن استبعاد النساء من دائرة النفوذ هو الذي جعل الصمت يلف تاريخهن. ولكن كيف تم التوصل إلى هذه الآلية، منذ متى والرجال ينفردون بالسلطة والتسيير والنفوذ؟ هل أن فجر الإنسانية قد اقترن بتوزيع للمهام على نحو يكون فيه الذكور هم المسيرون والنساء مسيرين؟
كثيرون هم الذين طرحوا مثل هذه الاستفهامات في محاولة لتقصي أصل المظلمة ونقصد أصل التهميش ولعل الإجابة الأقدم كانت إجابة فريديريك انقلز، فهذا المفكر الألماني قد بين أنه بعد ولادة الملكية الخاصة صار الرجل مالكا لوسائل الإنتاج ومن ثمة نشأت هرمية جنسية مبنية على السيطرة وهكذا " تكونت أسس النفوذ المطلق للذكور في مقابل احتقار النساء والحط من أدوارهن. ومن حينها ونحن نشهد "الفشل التاريخي الذريع للجنس الأنثوي". فقد تحولت المرأة إلى "عبدة للذة الرجل...بل مجرد آلة إنجاب".
عندما ظهر كتاب انقلز سنة 1881 كان محاولة أولى للإجابة عن استفهام طرحه وحاول الإجابة عنه العديد من معاصريه وممن شغلهم السؤال: هل ساهمت النساء على نحو إيجابي في بناء التاريخ؟
باشوفان Bachofen هو أحد طارحي الإشكال في منتصف القرن التاسع عشر لكن إجابته في مؤلفه La condition feminine كانت أكثر تفاؤلا فقد اعتبر أنه كان للنساء ثلاثة أشكال من النفوذ:
(1) نفوذ تمارسه على مستوى عائلي.(2) نفوذ تمارسه على مستوى اجتماعي.(3) نفوذ نسبومي أي أن البنوة والتنظيم الاجتماعي يؤخذ فيه بعين الاعتبار النسب الأمومي" (المنهل)matrilinéaire وجد في عدد من المجتمعات غير الغربية والتي كانت تسمى في ذاك الوقت بالبدائية. لقد بنى "باشوفان" ثالوث النفوذ النسائي على فرضية أن المجتمعات البدائية تخضع للنساء ولا تخضع للرجال. وأنه فقط عند تقدم البشرية في السن والحضارة بدأت تتشكل ملامح السلطة الذكورية المطلقة.
حسب باشوفان تمكن الرجال من الاستحواذ على السلطة والممتلكات والمناصب التي كانت تشغلها النساء. لقيت المقولات المتفائلة لباشوفان صدى واسعا لدى الكثيرين من مؤيديه ولكن خاصة لدى النسويات اللاتي ركزن على نظرية السلطة النسائية في فجر التاريخ من خلال دراسة نماذج من الشعوب الإفريقية التي حافظت على نظامها ذاك إلى اليوم أو من خلال تسليطهن الضوء على الدور الذي لعبته النساء في توليد الأعراف والعادات الثقافية وهي التي ساهمت في الدخول بالأفراد إلى الحياة المجتمعية. وهو ما أكده بريفولت Brifaul صلب كتابه الأمهات The mothers مبينا أن النساء هن اللواتي مكن الأفراد من اكتساب أركان الحياة المجتمعية المشتركة بفضل أمومتهن الطبيعية وأنه على حد تعبيره "الجانب البيولوجي وهو البدائى قبل الاقتصادي كان الأساسي قبل الاقتصادي".
لكن نظرية السلطة الأمومية لم تبين معالم هذه السلطة ولم تحدد الأدوار التي اضطلعت بها النساء فعليا ثم إنها لفرط ما أقصت الرجال حتى صار المشهد كاريكاتوريا أقرب للحلم صعب التحقيق أو التصديق حتى على سبيل الفرضية. لذلك كانت مقولات إنقلز أقرب للتصديق مبينا أنه بمجرد دخول البشرية في مرحلة الحضارة حتى اختفت ملامح أي سلطة نسائية ليحل محلها نفوذ ذكوري مطلق.
لذلك ناقض انقلز هذه المقولات مبينا أنه بمجرد دخول البشرية في مرحلة الحضارة حتى اختفت السلطة النسائية البدائية، إن هذه السلطة النسائية قد استوعبتها الحضارات فاختفت لتحل محلها وبشكل مطلق سلطة الذكور.
إذا كانت نظرية السلطة الأمومية محل نقد لاذع وشديد فالمنتصرون لنظرية السلطة الأبوية هم الأغلب، فإدغار موران في كتابه "الأصول التائهة: الطبيعة البشرية" الذي يصور فيه المشهد كالآتي: "طيفان يظهرنا في المشهد البشري: طيف الرجل المنتصب، سلاحه إلى أعلى، مواجها الحيوان الضروس، وطيف لامرأة تحبو على طفلها بصدد جمع وجني الأعشاب"
فئة الرجال قد استحوذت على السلطة والرقابة. رقابة المجتمع. وفرضت على النساء والشباب نفوذا سياسيا لا يزال قائما إلى الآن. إن التأرجح بين نظريتين يجعلني أخلص إلى فكرتين:
(1) أنه على رأي إليزابات بادينتار " مسألة توزيع الأدوار بين الجنسين لم تتم بشكل كلي ونهائي. لقد اختلف التوزيع عبر العصور وعبر الأمكنة أيضا ". وبالتالي فان التسليم بشكل دغمائي أن النساء لم يبذلن أي مجهود لبناء التاريخ يكون تجنيا مطلقا.
(2) نستنتج أن إقصاء النساء من مجهر التاريخ وذر الغبار على دورهن كان فعلا ثقافيا بحتا، بمعنى أن ما تركه أسلافنا من آثار لم ينكر تواجد النساء فهن اللواتي وفرن النباتات لتغذية العائلة وبالتالي هن اللواتي سمحن بالتوازن الغذائي للمجتمعات البدائية. لكن هذا التوازن في الأدوار لم يتخذ حقه على مستوى المعرفة. هاهنا يتدخل الفكر البشري لكي يتحول الصيد والجني إلى فعلين اقتصاديين يميزان كل جنس على حده.
إذا بدأ تهميش النساء من خلال احتكار السلطة بصفة عامة ثم من خلال قصرها على أدوار معينة ثم تأتي الآلية الأهم والتي كانت فعل الفكر البشري الذي ارتكز لتقزيم أهمية النساء في التاريخ على تأليه دور الرجال مقابل التحقير من شأن الفعل الإنتاجي للنساء.
يحلل إدغار موران ما يمكن أن نطلق عليه "التفخيم مقابل التقزيم" معتبرا أن الصيد قد ساعد الرجال على تطوير ملكة الذكاء، على توظيف الجانب الحسي بمواجهة الحيوانات الأدهى وإتباع استراتيجيات خطرة لملاحقتها والحصول عليها. كل هذه العناصر حولت المجتمع ذكوريا، فالصيد يجمع الرجال للتعاون والتبادل والتوزيع على عكس النساء اللواتي لا يساهمن إلا نادرا في الصيد لانشغالهن بتربية الأطفال وجني النباتات والثمار فتحولن إلى "قاصرات اجتماعيا وثقافيا " والعبارة لإدغار موران .
* التحولات الثقافية
إذا وحدها "التحولات الثقافية" قد قلبت علاقات النفوذ بين النساء والرجال بل وذهبت إلى اكسائها تبريرا نابعا من الطبيعة البشرية وميتافيزيقية لكي تكون بذلك حتمية.
سنخرج قليلا عن مرحلة مفترضة وغير معاشة، تقترب من التاريخ الحديث وكذلك من الخارطة الزمنية حتى نصل إلى أرسطو الذي ولّد أفكار طبعت كل مريديه فيما بعد والتي كانت التعبيرة الثقافية عن إقصاء النساء كليا من الحقل العام وإعادتهن إلى الفضاء الخاص. مع أرسطو صار الرجل سيد المرأة وعلتها واجب طاعته فلا وجود لتبادل للأدوار أو ندية أو معاملة بالمثل حين يؤكد أرسطو في كتابه "السياسة" على أن:" بين الذكر والأنثى توجد علاقة تبعية دون أي تناوب أو انقطاع " لأنه بالنسبة إليه: "خلقت الطبيعة كائنا قويا وكائنا ضعيفا" بل انه كائن ناقص وهو جغرافيا وثقافيا ليس بمنطق بعيد عنا نحن نتاج هذه الثقافة العربية الإسلامية المكرسة منذ أكثر من خمسة عشر قرنا.
تؤكد أمنة بن ميلاد على كونية ظاهرة إقصاء النساء من التاريخ لكنها تؤكد على تمييز آليات إقصاء النساء العربيات أو المنتميات للفضاء العربي الإسلامي من التاريخ. في كتابها "امرأة الإجماع" قامت لطيفة الأخضر بتقصي آليات التصحر النسائي على مدى التاريخ معترفة بصعوبة المهمة ولضرورة البحث عن الموقع الحقيقي للمرأة في التاريخ الإسلامي من خلال التوزيع الذي أراده الرجل. فكان سبيل لطيفة الأخضر هو النبش في "مفاهيم دينية ثقافية بعيدة عن الحياد الذي تدعيه بمقتضى أنها صيغت ورتبت في سياق هيمنة الجنس الرجالي على الجنس النسوي وهو حياد مستحيل" على حد تعبيرها. هذا النبش جعل المفكرة تخلص إلى أن سلطة الخطاب الديني في فضاء المقدس المفلت بصفته هذه من قوانين التاريخ قد وحد أشكال النظر إليها وحكم على "أزمنتها بالتشابه" .
هنالك صورة نمطية رسمت عبر الحقب التاريخية بإحكام على نحو يجعل المرأة المسلمة تخرج بذات الصورة ولا تفلت منها رغم تحول الأزمنة وتغير المعطيات للبرهنة على التوحد في الفكرة رغم اختلاف الأزمنة، تتناول لطيفة الأخضر بالتحليل والنقد والمقارنة نماذج متباعدة تاريخيا ومن المفترض فكريا، من المفكرين العرب وهم ابن قيم الجوزي صاحب أحكام النساء وابن أبي الضياف ورسالته الشهيرة في المرأة ورشيد رضا في تعمير المنار.
فابن قيم الجوزي هو الذي ينطلق من مسلمات ادانية تجعله يرى - والحديث له - "فكرت في سبب إعراض عامة الناس عن الآخرة... إلا أنني رأيت النساء أحوج إلى التنبيه من هذه الردفة من الرجال لبعدهن عن العلم وغلبة الهوى عليهن بالطبع " وللتدليل على آرائه يرتكز ابن الجوزي على أحاديث مختلفة تجعل من جسد المرأة مركزا للفتنة والهوى لابد من مداراته بل وعزله لكي لا يسمح للمرأة بالتحكم فيه أو العيش من خلاله، وهنا تذكر المؤلف أحد الأحاديث التي يستند إليها ابن الجوزي والتي رويت عن الأعمش عن...عن... أن نسوة من أهل حمص دخلن على عائشة فقالت: لعلكن ممن يدخلن الحمامات؟ قلن نعم. قالت أما إني سمعت رسول الله يقول: "ما من امرأة وضعت ثيابها في غير بيت زوجها إلا هتكت ما بينها و بين الله عز وجل" من هنا يأتي الحصار ومن مركزية الجسد تنبع عبودية المرأة المكرسة لواحد أحد هو زوجها.
بعد قرون يأتي أحمد بن أبي الضياف ابن منطق النهضة والإصلاح ليصرح أن" الذكر أفضل من الأنثى وأبو البشر، أول مخلوق ومنه ولدت حواء أم الشبل والأصل أفضل من الفرع، فالذكر أهله الله للنبوة والخلافة في الأرض والقضاء بين الناس والإمامة في الصلاة ومباشرة الدفاع عن الدين والعرض والوطن..." تراتيبه مفسرة تذكر بالقرآن" وللرجال عليهن درجة" لكنها تذكر برواية الخلق عند اليهود، فهو إذن اتفاق اللاهوت على هذه الصورة، أي تلك التي تجعل النساء مسخا للرجال وبناء عليه تكون التبعية واجبة وحق. هكذا يبدو أن قدر المرأة أمام السلطة، من نبوة إلى قضاء إلى دفاع عن العرض والوطن، حكرا على الرجال.
إذا بعد قرون يتوحد ابن أبي الضياف مع ابن الجوزي في التصور التمييزي للمرأة وكذلك يجمع معهما رشيد رضا على ذات التصور رغم قربه الزمني من نهضة أوروبا ومعاصرته لها.
نتبين بهذا الشكل أن التاريخ مذكر أولا لأن الرجال احتكروا الصيد وتنصلوا من تربية الأبناء تاركين للنساء هذا الدور الذي أعتبر طبيعيا وقصر وجود النساء على تلك الوظيفة وجعلهن رهينات الفضاء الخاص حتى يجد ذلك تبريراته في كتب الفلاسفة وفي إجماع الأديان وفي تضخيم الجنسي في الإسلام مقابل تحجير الاجتماعي على المسلمين.
هذا العرض لتاريخ الأفكار الاقصائية يجعلنا من جديد ننتبه إلى أن الإجابة عن سؤال" بأي ذنب وئدت " لا يمكن أن يكتسب معناه الأجل إذا ما فهمنا أن السلطة والانفراد بها هو دافع بناء تاريخ تمييزي يوظف النساء ولا يكرمهن.
* الموازنة التاريخية
ولكن كيف يمكن إعادة الموازنة التاريخية؟ هاهنا لابد من الاعتراف للنسويات بدورهن في كشف النقاب عن تاريخ نحيا به، هو رواسبنا الكامنة فينا بل هو مسير لردود أفعالنا الباطنة دون أن نعلم انه تاريخ النساء، تاريخ البشرية. فبفضل أبحاث النسويات وبفضل " تتبعهن لتاريخ المظالم" صار من الممكن أن نجزم بأنه للنساء سلطات تسللت الى كتب التاريخ في غفلة من كاتبيه.
كان لابد من انتظار القرن العشرين كي تكون المساواة بين الجنسين مطلبا وأولوية للبشرية، ولتحقيق المساواة ثمة عمل أركيولوجي قامت بها النسويات بداية في أمريكا للكشف عن ذكورية الفكر البشري والتمييز الجنسي الذي بنيت عليه المعارف لتصير اقصائية كما التاريخ.انه صوت Ben Sadon في كتابها " حقوق النساء من الجذور إلى أيامنا" الذي يرن في أذهاننا حين تهمس.
" أن نكتب تاريخ النساء؟ طويلا كانت المسألة غائبة متروكة للصمت هل للنساء فقط تاريخ... إنهن المياه الراكدة حينما يطفو الرجال ويتحركون قالها القدماء وجميعهم يكررون ذلك. آثارهن لا تظهر إلا إذا تخلف الرجال عن بسط نفوذهم على المدينة. بناء الذاكرة وتسيير الأرشيف وتسجيل ما تفعلنه وما تقلنه مبثوث إعلاميا ولكن وفق غربال السلطة. عندما تلج النساء الفضاء العام، يعتبر الرجال ذلك كفوضى عارمة."
المسألة إذا تكمن في تحريك نساء التاريخ في الفضاء العام، إخراجهن من حيز الذاكرة ورسم ملامحهن لترسيخ صورهن من جديد. إن المحو الذي مورس بآليات متعددة ومعقدة لا يمكن أنم يواجه إلا من خلال إبراز دور النساء الايجابي، وهنا تكون الكتابة عن تاريخ النساء منفذا إلى جعل التاريخ مؤنثا.
وحدها إذا كتابة تاريخ النساء تجعلنا نفلت من الإقصاء والتهميش بل وحدها تحرمهم فرصة تشويه تاريخنا وتحويله إلى خرافات تتناقلها الجدات على نحو يجعل التداخل بين الواقعي والأسطوري سبيلا إلى تكذيب حقيقة وجودنا كفعل حي ونابض في التاريخ.
هكذا يكون من الجدير بنا أن نصغي إلى صوت Gabriel Camps في كتابها "شمال إفريقيا المؤنثة" وهي تحرك شخوصا متباعدة زمنيا كي تروي حكاياتهن وتغمز إلينا بسلطتهن ونفوذهن قائلة:" متواضعات، مزارعات أو بطلات بشخصيات أساطير أو شخصيات الحقيقة والتاريخ، لقد لفتن انتباهي، شددن خاطري، أنتن يا ظلال التاريخ أو مخلوقات خيالي، لقد أعدتكن إلى القرون الغابرة وتركتن لي شغفا لا ينتهي."
للانطباع بهن لابد من محاورتهم ومرة أخرى من Gabriel Campsنجد أنفسنا أمام هذا الإصغاء لنبضهن المتعالي والمختنق بين طيات كتب تاريخ تمييزي يجعلنا نتحدث عن آليات لإعادة التوازن للتاريخ ومثلما توافقنا مع Gabriel Camps نحتاج إعادة كتابة ورسم ملامح نساء متجذرات في وعينا ولا وعينا.
أما الآلية الثانية للمعرفة والتعريف بالتاريخ المؤنث للنساء هي تلك الأقل براءة من مجرد الكتابة الانتقائية. والمقصود عندي بالكتابة التاريخية الانتقائية هي تلك التي تستفز تاريخ البشرية في اتجاهين:
أولا: انتقاء نماذج تبين الخصوصية النسائية في صناعة التاريخ، فعلى سبيل الذكر لا الحصر انه لمن المستفز بل والمربك أن تختار لطيفة الأخضر شخصية كأم سلمى وهي هند بنت أبي أمية التي تجرأت على التعبير على نوع من الاحتجاج المطلبي على الرسول سائلة إياه:" ما للنساء لا يذكرن مع الرجال في الصلاح؟" فعلاوة على أهمية ذكر الحادثة للتدليل على البرهنة لدى النساء معاصرات الرسول وتشبعهن بالفكر النقدي حتى للنص القرآني بل وقدرتهن على الخروج من صمتهن و مواجهة الرسول فان لهذه الحادثة دورها في تغيير مجرى النص القرآني لأنه بعد احتجاج أم سلمى نزلت الآية القرآنية من سورة آل عمران(آية195 )"فاستجاب لهم ربهم ...لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر وأنثى والمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والصادقين والصادقات" حادثة كهذه قد تنمي الحس النقدي عند النساء وهو ما يجعلنا نخلص إلى أهمية الترميز بالشخصيات النسائية من أجل بناء وعي نسوي متأصل الجذور التاريخية.
ثانيا اختيار نماذج تاريخية معبرة عن الخصوصية النسائية، فمثلا وفي تاريخ الأدب العربي من المهم أن نذكر الخنساء بما لها من فصاحة وشعرية جعلتها تفوق بنثرها الرجال السابقين واللاحقين بها لكن الخنساء وهبت حياتها للبكاء على صخر، أوليس مهما إذا أن نذكر إلى جانب الخنساء أنخدوانا ذلك أنها عاشت سنة 2300 ق م وهي التي كتبت كل قصائدها مناهضة للحرب داعية إلى السلام والصفاء. فهي التي قررت إنذار البشرية بشعرها: "هلعا من رياح الجنوب العاتية، يعولون أمامك وينتحبون في الطرقات في غمار الحرب، كل شيء تكوم حطاما"...
الآلية الثالثة لكتابة التاريخ المؤنث هي كتابة اللحظة فالغياب وحده يسمح للذكور بالاستحواذ والتسلط واحتكار المشهد، في حين على النسويات أن يرسيين ذاكرتهن من خلال التأريخ لما يحدث، من تفاصيل النساء الصغيرة، من مساهمة النساء في الزراعة والفلاحة والصيد البحري إلى جميلة بو حيرد وسهى بشارة و لويزة حنون وما سيأتي من مؤنث الصوت في حلق التاريخ.

(*) جزء من مداخلة قدمت في الجامعة الشبابية الأولى بنزل أميلكار في صيف 2007 .

2008/03/11

قصة قصيرة


Game over
انضممت إلى حلقة حسن وسعيد وعبودة الحلاق بعد أن صرت أوفر لهم علب السجائر التي اختلسها من دكان والدي. في السابق كنت اذهب إلى محل عبودة مرة واحدة في الشهر. أحلق شعري ثم أعود إلى البيت الذي لم يكن بعيدا عن المحل. لم يكن سني آنذاك يتجاوز السادسة عشرة. أمر كل يوم أمام محل عبودة وأنا أتجه إلى المعهد. ألمحه خلف الواجهة البلورية يرتشف قهوة الصباح وهو يرتب المقصات والأمشاط وينشر المناشف فوق المحمل الحديدي أمام الباب. في المساء عندما أكون عائدا من نفس الطريق تتناهى إلى مسامعي ضحكات حسن وسعيد وعبودة تتكسر داخل جدران محل "الحلاقة الأنيقة".
تعمدت يومها أن اذهب في المساء لحلاقة شعري.علقت معطفي على المشجب الخشبي المثبت وسط الجدار المقابل للمرآة ثم جلست فوق كرسي الجلد وسلمت رأسي لأصابع عبودة ومقصه.
كان فضولي اكبر من خوفي وخجلي فلم أتردد ولم أرتبك عندما اقترحت الانضمام لحلقتهم المسائية. تركت عبودة ينهي تجفيف شعري ودهنه بالكريم المثبت ثم أدرت كرسي الجلد لحسن وسعيد وقلت لهما في نفس واحد وأنا انظر إلى عبودة الواقف حذوي:
_ اسمعوا ياجماعة بصراحة ارغب في الانضمام إليكم كل مساء، وان وافقتم سأوفر لكم يوميا لكل علبة سجائر "مارس ليجار".
من يومها بدأت اشتري الحكايات من محل "الحلاقة الأنيقة" بسجائر والدي، بل صرت أعدو داخل الحكايات وأستلذ تفاصيلها وهي تخدش ذاكرتي وتحفر أثرها عليها.
كانت حكايات المساء ترسخ بذاكرتي أكثر من دروس الصباح، وبدأت أخبار القرية تزهر داخل محل عبودة مع حسن وسعيد. حكايات تعبرني الآن، بعد عشرين سنة من الغياب، مثل الأغاني العتيقة التي كانت تؤنس مساءاتنا في القرية.
كانت حكايات القرية وبناتها تسيل داخل جسدي مثل الماء. عرفت أسرار جسد عفاف وسلاف وأختها مريم. وداعبت حلمتا مروى في خيالي من خلال مغامرات سعيد التي لا يمل من روايتها لنا كل مساء. أغلب الحكايات كانت تفتتح بالحديث عن بنات حينا وبنات الأحياء المجاورة لنا، وعن مقابلات كرة القدم بين الترجي والإفريقي أو عن الطالبات اللواتي يسافرن للدراسة بالعاصمة وما تلبث أن تفوح إشاعات مغامراتهن قبل عودتهن، أو عن الأساتذة الذين يفدون على معهدنا... وعن الأعراس في فصل الصيف، وغالبا ما كانت تنتهي تلك الحكايات بالحديث عن ارتفاع ثمن قنطار السميد مثلا أو انخفاض وزن الخبزة، وفي العطل كنا نحصي عدد الطلبة الذين سيتخرجون من الجامعات ثم يعودون إلى القرية ليزاحموا آباءهم في مقهى الرياضيين. ياه كم سمعت حكايات في مخزن الكلام ذاك.
لم تحترق حكايات حسن وسعيد وعبودة مثلما احترقت سجائر والدي رغم مرور عشرين سنة بحالها. إلى الآن ما زال وهج كلماتها يلفحني ويستفزني أمام هذا الصمت اللعين الذي دفعني إليه هذا الحلاق البدين.
دخلت عليه منذ ساعة تقريبا وظللت مرميا في حضن الصمت والسجائر. كنت ضاجا بالحكايات وبي رغبة جامحة للانفجار بالكلام مع أي كان. كل دقيقة أقول انه سينهض وينتبه لوجودي، غير أن الدقائق ظلت تتعاقب علي أثقل من الصمت ومن طعم التبغ، وهو جامد في مكانه.
التفت على يساري فألفيت مجلة أزياء مركونة فوق الطاولة. التقطتها وشرعت أتصفح ورقها من دون تركيز، وظللت بين الفينة والأخرى أترصد جهاز الأتاري ليظهر على شاشة التلفاز عبارة Game over فتنتهي لعبة مقابلة كرة القدم الافتراضية بين الحلاق البدين وصانعه فيستحي واحد منهما وينتبه لشعري الأشعث ولحكاياتي التي يكاد يحلقها خرس المحل وتخنقها خيوط السجائر.

2008/03/05

سليم... دو...لا...


سليم ... دو... لا...

رغم بريق عينيه الذي يغذي تماسكي كلما التقيته...رغم " أهلا حبيبي" التي يستبقني بها كل مرة....فقد أحسست مذ عرفته أنه منذور للخلاء والوحدة...للألم والسواد والحزن...فالحزن " يكاد يكون سلاليا والألم أيضا إذ يقترن المعنى في حياتنا بالمحنة اقتران الشفاه بالأسنان"...وفي المنتظمات الماقبل حضارية يزدهر " التبذير المفرط للعنف..." وتتنازع الشوارع صفتي" الكسموفاجية" – أكلة الكون- و"الأنتروبوفاجية" – أكلة الإنسان-
منذ عرفته وهو يردد لازمته " وشحلة الوطن على الشوارع" فيطوقك بوابل من نقاط الاستفهام وهو يوشحك بحكمته: " وايش حالك يالشوارع ؟ واش حالك يالوطن؟" فلا تلبث أن تجيبه بأن احتياطي العداء المفرط لحرية المشي فوق الأرصفة الآهلة بالأرجل والأعين قد تضخم حتى تورم فصار ورما يوميا لا يترك سليما يتحرك في دولته ...في شارعه...في مقهاه وحانته...في مكتبته أو بيته...
هي ذي شوارعنا صارت تنوء بعبء الإنسان السليم...تستنكف من مشيته وهو يتأبط كتابه أو محفظته أو حتى جريدته...الإنسان الذي لم يتدرب قط على إيقاع اللكمات والركلات والكدمات المباغتة أحيانا والمقصودة دائما من الكلاب السائبة التي لا تفارق عاداتها في " التملق ولعق الأحذية العسكرية المتنكرة في الجلود المدنية والإقتباس من السلوك الحربائي بأناقة فائقة المكر لقلة الجهد فتمارس التلصص والتلوص واصطياد الفرص وكل أشكال تدبير الرأس على الطريقة التونسية الخالصة...
و"لأنه أندر من الكبريت الأحمر" ومن " أكثر الكائنات تمرسا بالألم " وفقا للمعجم النيتشوي فقد كان على جاهزية استثنائية لتحمل الخسارات الفادحة في نظر العامة وذوي القربى من أحفاد سقراط الموظف ولأنه – مثلما كتب عنه صديقه الشاعر آدم فتحي- " الوحيد الذي يصاب في ماله وجسده فيفكر في تلاميذه لعلهم لا يعاقون عن برنامجهم الدراسي...وفي كتابه الأحدث لعله لا يكون الأخير"...
لأنه كذلك وتماما لم يفاجئني وأنا أزوره في بيته مع الشاعرة يسرى فراوس وباق نرجس وهو يغمرنا بابتسامته الساخرة ويقول لي: " كادت تصدق نبوءتك يا فتى"..." ديلانو شقيق الورد" كتابه الأحدث والذي لعله لا يكون الأخير...قلت له في بيتي الصائفة الفائتة : " وكأنه الكتاب الأخير في حياتك يا سليم"
ولأن الفلسفة شكل من أشكال دق العنق وفق عبارة لويس ألتوسير فإني بت أشك في أن ديلانو بورده وسواده وسخريته وتلامذته هو المقصود بدق العنق ذاك أن " الطوفان اليومي وفائض القذائف التلفزية" وفي " لحظة تطبيع العنف" وفق عبارة آدم فتحي كلها تدجج أسلحتها البدائية والحداثية لدق عنق حرية المشي على رصيف المحطة وسط زحمة العيون الذاهبة في اللآمبالاة والفرجة ...في ساحة برشلونة ...لتصطف جميعها أحرفا في " حكايا منامات تونسية"...
سألت زميلتي عن حصانات النواب في مجلسهم فقالت: هي جمة وهم بالأخير يختارهم الشعب ...وسألت نفسي عن امتيازات حصانة المثقف في شوارع البلاد فهمست لي : هي أوهام ولكنهم بالأخير هم الذين يختارهم التاريخ...
مالذي يعني يا سليم أن يترصدوا خطواتك في شارع المحطة ويهرسوا جذعك ويزفوك لخراب المستشفيات العمومية وتعود لك بطاقة هويتك كما سلمتها ؟؟؟
مالذي يعني هذا أمام اتهامك في عقلك ودينك وديانتك؟؟وأمام سرقة كتابك ومكتبتك ...مالذي يعني هذا في ظل القرف العمومي من الشأن العمومي ؟؟
مادمت شامخا في دولتك التي أسميتها " لن " ...هل ينام في أصفر الورد بعيدا عن بياض ديلانو وحمرته:
فقد تجيء الطعنة الأولى من التمساح
قد تأتي من الأفعى أو الحرباء
حاذرهم إذن...
واحذر الكلب السلوقي أعز الأصدقاء...

2008/03/03

حوار مع عميد المحامين البشير الصيد



نطالب بإعفاء المحامين المتمرنين من أداء الضريبة الحكومية مدة تمرينهم

مثلت الأيام القليلة الماضية فترة انتقالية في تاريخ المحاماة التونسية بعد أن تمكن عميد هيئتها الحالية الأستاذ البشير الصيد من تحقيق أهم مكسب للقطاع الذي ناضل من أجله منذ أكثر من ثلاثين سنة والمتمثل في إحداث صندوق للضمان الاجتماعي خاص بالمحامين، إلى جانب العديد من المكاسب الأخرى المتعلقة بمعاليم طابع المحاماة وتسعيرة التساخير وصلاحيات نيابة المحامين وملكية نادي المحامين وتنظيم التربصات والدورات التدريبية وغيرها من مشاغل القطاع...
عن تفاصيل وحيثيات هذه المكاسب خصّنا السيد العميد بهذا الحوار المطوّل الذي أنجزناه على يومين بمكتبه بتونس العاصمة وللعلم فقد استعاد الأستاذ البشير الصيد عمادة هيئة المحامين في مؤتمرها الأخير 2007 بعد أن كان عميدا لها في دورة 2001/2004 وهو رئيس لجنة الدفاع عن العراق ورئيس منظمة مناهضة التطبيع مع العدو الصهيوني وعضو بالمكتب الدائم لاتحاد المحامين العرب وعضو مؤسس لمنظمة العدالة الدولية ببروكسيل وقد استقال الأستاذ البشير الصيد من سلك القضاء سنة 1973 بعد أن باشره مدّة ست سنوات أسس أثناءها بمعية ثلة من القضاة جمعية القضاة الشبان وانتخب أول كاتب عام لها كما انتخب عضوا بالمجلس الأعلى للقضاء ثم التحق في نفس السنة أي سنة 73 بسلك المحاماة وكان واحدا من بين الذين رافعوا في قضية الاتحاد العام التونسي للشغل يوم26 جانفي 1978 وفي قضية قفصة سنة 1980 وجل القضايا النقابية والسياسية...

* كيف يقيم السيد العميد المكاسب التي تحققت للمحامين؟
ـ الصندوق تأسس منذ عشرات السنين للمحامين وتضمن قانونه ان يشمل امرين هما تولي دفع جرايات التقاعد والتعويض عن الحيطة الاجتماعية اي التأمين الصحي، غير ان في التنفيذ اشتغل الصندوق من طرف مجلس الهيئة بخصوص التقاعد ولكن بقي منقوصا بالنسبة للتغطية الاجتماعية، وكان قانون المهنة قد نصّ على ان يصدر امرا ينظم الصندوق في مهمتين: دفع جرايات التقاعد للمحامين ولعائلاتهم عند الوفاة وتكاليف العلاج، الا ان هذا الامر لم يصدر وبقي المحامون محرومين من التغطية الاجتماعية وقد طالبت هيئات عديدة وناضل المحامون من اجل تحقيق هذا الهدف الاجتماعي السامي لعشرات السنين واخيرا تحصلوا على مبتغاهم في عهد هيئتنا وعليه فاني اؤكد اني واعضاء مجلس الهيئة وهياكل المهنة نعتبر اننا قد حققنا انجازا كبيرا في هذا الصدد لطالما انتظره المحامون وذلك باصدار سيادة رئيس الجمهورية للامرعدد 355 المؤرخ في 11 فيفري 2008 المتعلق بتنظيم وتسيير صندوق الحيطة الاجتماعية والتقاعد للمحامين الذي أسسّ منظومة التأمين الصحي للمحامين وكذلك بإصدار الأمر عدد 359 المؤرخ في نفس التاريخ المتعلق بضبط طابع المحاماة وكيفية اصداره وتوزيعه والترفيع في معلومه بحيث إن احداث التغطية الاجتماعية لفائدة المحامين يعد انجازا كبيرا ومطلبا عظيما قد تحقق خاصة ان المحامين كانوا محرومين من ذلك ثم ان هذا الامر قد جاء بضمانات هامة بخصوص الناحية الصحية والتأمين الاجتماعي.
* هل يُفصّل السيد العميد للقراء هذه الضمانات؟
ـ في الحقيقة الضمانات هامة ومتعددة جاء بها الامر المتعلق بتنظيم وتسيير الصندوق منها التعويض مائة بالمائة (100) عن تكاليف العلاج المتعلق بالامراض الثقيلة والمزمنة والعمليات الجراحية وشمولية لتكاليف العلاج كافة وعن الفحوص والعيادات والزيارات والكشوفات والتحاليل الطبية والادوية والعمليات الجراحية والاقامة بالمستشفيات والمصحات والتنقل الصحي ومؤسسات العلاج الطبيعي وتقويم الاعضاء واستعمال الالات وتركيبها للتعويض أو المساعدة والاعمال شبه الطبية وكل الوسائل الهادفة للعلاج.وكذلك منح المنح الوقتية في صورة المرض والولادة والحوادث والوفاة، وأيضا وجوب اسداء جراية التقاعد لكل محام أو محامية كاملة من ذلك أنه في صورة ما إذا كان المحامي قد اشتغل قبل التحاقه بالمهنة في ادارة اخرى مدة 10 سنوات مثلا فمن حق الصندوق أن يطالب هذه الادارة بان تدفع له جراية التقاعد عن تلك المدّة.
* لماذا اصررتم على ان يكون التأمين الصحي للمحامين في اطار صندوق خاص بقطاعكم؟

ـ الحقيقة لعدة اسباب منها أن صندوق المحامين الخاص هو مطلب قديم جدا قد تم تأسيسه منذ عشرات السنين وهو يشتغل ويؤدي جرايات التقاعد للمحامين غير أنه بالنسبة للفرع الثاني المتعلق بالتأمين الصحي بقي معطلا ثم ان الصندوق الخاص نرى أنه يحافظ عن استقلالية مهنة المحاماة كما ان هذا الصندوق أقرب الى المحامي بحيث تكون الخدمات أسهل اليه وأقرب عندما تديره هيئته وأعتقد انه سيعطي خدمات افضل من الخدمات التي تعطيها الصناديق الاخرى وهذا في الحقيقة يرجع الى أن الجهات الرسمية عموما ووزارة العدل وخاصة رئيس الجمهورية قد استجابوا جميعا الى مقترحاتنا بنسبة 90 بالمائة وهم مشكورون على ذلك।
* ... وماهي بقية المكاسب التي تحصلتم عليها هذه الايام؟
ـ اضافة الى المكسب الكبير المتمثل في احداث التغطية الاجتماعية للمحامين، فقد تحصلنا على مكاسب اخرى على غاية من الاهمية كانت هي الاخرى بمناسبة استقبالي كعميد للمحامين من قبل رئيس الجمهورية يوم 19 فيفري 2008 الذي تفضل أولا بتحويل ملكية نادي المحامين بسكرة الى الهيئة الوطنية للمحامين وثانيا بتوسيع مجال عمل المحامي اذ قرّر: (أ) ان تكون نيابة المحامي وجوبية لدى محكمة التعقيب في جميع القضايا الجزائية ج (ب) ان تكون كذلك نيابة المحامي وجوبية لدى المحكمة العقارية في قضايا التحيين ومطالب التسجيل وثالثا بالترفيع في منحة التسخير، كما طلب مني سيادة الرئيس ان ارفع له مذكرة شاملة لكل الاصلاحات المنشودة في قطاع المحاماة وبهذه المناسبة، وباسمي وباسم مجلس الهيئة الوطنية للمحامين اتوجه لسيادته بشكري وتقديري على استجابته لهذه الاصلاحات الهامة والكبيرة التي تحققت للسان الدفاع كما لا يفوتني ان أشكر الاستاذ البشير التكاري وزير العدل على المجهودات الهامة التي بذلها هو ومساعدوه من السادة القضاة والموظفين السامين بوزارة العدل من أجل تحقيق الانجازات المذكورة لفائدة المحامين.
* بالنسبة للتأمين الصحي فقد تحقق بصدور الأوامر التي ذكرتها، لكن متى سيتم تنفيذ هذه القرارات بخصوص ملكية النادي والتوسيع في مجال عمل المحامي والترفيع في منحة التسخير؟

ـ أنا أعتبر أنه طالما أذن بها رئيس الدولة فقد تمّت ولا يمكن تأخير تنفيذها।
* ولكن هناك ايضا مطالبٌ اخرى ينتظر أهل القطاع تحقيقها؟
ـ لا شك ان مطالب المحامين عديدة ومتراكمة والقطاع يشكو من كثير من الاشكاليات وينتظر اصلاحات شاملة وعميقة من ذلك الوضع المادي والادبي للمحامين المتمرنين الذين اصبح عددهم مرتفعا حيث بلغ قرابة 1800 محامية ومحام متمرنين فالمتمرنون يشتكون من تدهور ظروفهم المادية بالدرجة الاولى وهم ضمان مستقبل المحاماة إذ يعانون من الخصاصة نظرا لعدة اسباب منها كثرة عدد المحامين لان المحاماة الان تستوعب أكثر مما تستوعبه مؤسسات الدولة مجتمعة من اصحاب الشهادات العليا اذ يقوم مجلس الهيئة للمحامين بترسيم حوالي700 محام ومحامية سنويا من أصحاب الشهائد العليا الذين يُقبلون على مهنة المحاماة وفيهم الكثيرون الذين يضطرون لهذا الالتحاق لعدم حصولهم على وظائف بمؤسسات أخرى، ولذلك فإن المحاماة تشغّل عددا هاما من أصحاب الشهائد العليا يفوق بكثير ممّا تشغّله المؤسسات العمومية والخاصة في البلاد ولذلك كان من أولويات اهتمامات مجلس الهيئة الوطنية الاعتناء بالمتمرنين إذ بادرنا بالعناية بهم من ذلك أننا أسسنا في دورة سابقة صندوق دعم المحامي التمرين وحرصنا على تشغيله في هذه الدورة وأسسنا المجلس العلمي الذي سيعتني بتطوير وتحديث مضامين وأساليب محاضرات التمرين وتنظيم دورات تدريبية وتنظيم دورات للاعلامية والانترنات والحلقات التكوينية التي تقوم بها الفروع، الا أن مجهود الهيئة الوطنية لا يكفي ولذلك تقدمنا للجهات الرسمية وخاصة وزارة العدل للمطالبة باصلاح أوضاع المحامين المتمرنين الذين هم في حاجة الى اصلاحات خاصة بهم زيادة على الاصلاحات المنشودة لعموم المحامين من ذلك طلبنا تأسيس منحة خاصة للمحامين المتمرنين يتقاضونها مدة تمرينهم (سنتين)واعفائهم من اداء الضريبة الحكومية مدة التمرين ومساهمة الدولة في تكاليف الملتقيات والندوات العلمية بتونس أو بالخارج وغير ذلك من المطالب التي رفعناها لوزارة العدل في مذكرات مكتوبة...
* هل هناك نيّة لاعفاء المحامين المتمرنين من أداء معاليم الانخراط في الصندوق على الاقل مدة التمرين؟
ـ مراعاة للوضع المالي للصندوق لم نستطع اعفاء المحامين المتمرنين اعفاءا كاملا من دفع الاشتراك السنوي للتغطية الصحية ولكن يسّرْنا عليهم ذلك بأن خَفّضْنا معلوم انخراطهم الى 100 دينار فقط وهو مبلغ يتماشى ووضعهم كمتمرنين خاصة بعد الترفيع في منحة التسخير، وأملنا بأن الدولة ستحسن أوضاعهم المالية عما قريب الى جانب حرص هياكل المهنة على توفير التوزيع العادل لقضايا التّسَاخير والاعانة العدلية بين المتمرنين।

* من أين ستتأتّى مداخيل صندوق التقاعد والحيطة الإجتماعية للمحامين؟
ـ المورد المالي الاساسي للصندوق سيتأتّى من مداخيل طابع المحاماة مع اضافة اشتراك سنوي رمزي قُدّر بـ 300 دينار بالنسبة للمحامي لدى التعقيب و250 دينارا للمحامي لدى الاستئناف و100 دينار للمحامي المتمرن، وحتى تكون الخدمات الصحية التي يسديها الصندوق للمحاميات والمحامين وعائلاتهم وابنائهم محترمة ومتميّزة تم الترفيع في معلوم طابع المحاماة كما ورد بالامر عدد 359 المؤرخ في 11 فيفري 2008 على النحو التالي: 6 دنانير لاعمال محكمة الناحية و12 دينارا لمطالب تسعير الاتعاب والاعمال أمام الدوائر الابتدائية للمحكمة الادارية والمحاكم الابتدائية العدلية والعسكرية و18 دينارا للعقود المتعلقة بالعقارات المرسمة بادارة الملكية العقارية والاعمال امام الدوائر التعقيبية والاستئنافية للمحكمة الادارية ومحكمة التعقيب ومحاكم الاستئناف العدلية والعسكرية علما أن تنفيذ دفع معاليم الطابع بالنسبة للمحامي أو المحامية وفق تسعيرة الترفيع المذكورة سيكون بداية من 1 ماي 2008.
* هل سيبقى معلوم طابع المحاماة من مشمولات وزارة المالية أم سيعود إلى مجلس ادارة الصندوق؟
ـ إن النصوص القانونية المنظمة لطابع المحاماة قد أعطت صلاحية لطبعه وترويجه منذ سنة 1993 لكل من وزارة المالية بواسطة القباضات المالية ولهيئة المحامين، لكن في الحقيقة منذ ذلك التاريخ فإن وزارة المالية متكفلة بالطبع والبيع واحالة المداخيل الى صندوق التقاعد والحيطة الاجتماعية، وأرى حاليا أن الامر سيبقى كذلك، غير أن عملية الطبع والبيع تتطلب مزيدا من التنظيم والأحكام خاصة أن مداخيل الطابع بعد ترفيع معلومه ستتضاعف بنسبة كبيرة.
* هل يرى السيد العميد أن هيئة المحامين مؤهلة للتسيير الاداري والمالي للصندوق، بمعنى هل لديها الكفاءة التقنية اللازمة لذلك؟
ـ أرى أن مجلس الهيئة الوطنية مؤهل كل التأهيل لإدارة الصندوق وتسييره والقيام بمهامه على أحسن وجه وذلك بناء على النقاط التالية:
(1) لنا كفاءات وخبرات من المحامين أنفسهم إذ فيهم من اشتغل سابقا بصناديق الدولة والصناديق الخاصة والذين اكتسبوا خبرة مهمة يمكن الاستعانة بهم.
(2) إن مجلس الهيئة الذي هو مجلس إدارة الصندوق يعتمد حسب الفصل 11 من أمر التنظيم على إدارة فنية وإدارية ومالية تتكون من إطارات وأعوان مختصين في الميدان يباشرون مهامهم تحت سلطة وإشراف مجلس الإدارة.
(3) يعتمد مجلس الإدارة أيضا على خبراء «إكتواريين» تابعين لوزارة المالية والشؤون الاجتماعية وهم دوليون ويعول عليهم خاصة في تقارير الدراسات والمحاسبة يمكن لمجلس الإدارة بمقتضى اتفاقية أن يكلف الغير بإنجاز بعض أو كل خدمات الصندوق ومعنى ذلك أن مجلس الإدارة يمكن له أن يتعاقد مع مؤسسة مختصة في ميدان التغطية الاجتماعية مثل الصندوق القومي للضمان الاجتماعي أو الشركات الخاصة لكي تقوم بالمهام الفنية والمالية والطبية المختصة كما يمكن أيضا لرئيس المجلس أن يفوض حق الإمضاء لأحد إطارات الصندوق المختصين وبذلك نرى أن كل الإمكانيات مفتوحة أمام مجلس إدارة الصندوق الذي هو في نفس الوقت مجلس إدارة الهيئة।

* هل هناك بالفعل مشروع لتسهيل شروط الحصول على القروض لفتح مكاتب المحاماة؟

ـ هذا الموضوع يتعلق ببناء علاقات مع البنوك التونسية حتى يمكن أن يحصل المحامون على قروض لقضاء الاحتياجات مثل فتح المكاتب على اثر ترسيم المحامين بالاستئناف أو لأغراض أخرى كقروض بناء المساكن وغير ذلك، ومن بين اهتماماتنا الحوار والتفاوض مع بعض البنوك قصد إبرام اتفاقيات تمكن المحامين من الحصول على قروض ميسّرة।* هل هناك جديد بخصوص المعهد الأعلى للمحاماة وتوحيد المدخل للمهنة؟
ـ من مطالب المحامين الهامة التي مازالت محل تفاوض وحوار مع وزارة العدل المعهد الأعلى للمحاماة الذي تم إحداثه منذ مدّة وذلك لأن قانون هذا المعهد والأوامر والقرارات التطبيقية لم تعط لهيئة المحامين دورا أساسيا في تسيير المعهد وفي مناظرات الدخول للمعهد والتخرّج وفي المجلس العلمي... وقد بيّنا إلى وزارة العدل النقاط السلبية بهذا الصدد وطالبناها بتنقيح هذه النصوص بما يُمكّن هيئة المحامين من دور فاعل وأساسي في هذا المعهد الذي هو معهد محاماة وليس كلية وليس مدرسة عليا في القانون والحوار مازال متواصلا بهذا الصدد.
* ستنعقد الجلسة العامة الانتخابية للمحامين الشبان يوم السبت القادم 8 مارس 2008 فكيف ترون آفاق هذه الجلسة وحظوظ المرشحين؟
ـ بالنسبة لي كعميد للمحامين لستُ منحازا لأي مترشح ومن سيفرزهم الصندوق أهلا وسهلا بهم فستتعامل معهم الهيئة وتدعمهم ،وما أحرص عليه أنا ومجلس الهيئة هو أن تتوفر في هذه الانتخابات الموضوعية والشفافية بحيث تكون شفافة ونزيهة في إطار ديمقراطي بين كل المترشحين وحتى لا يقع الطعن في الصندوق الانتخابي. وقعتم مؤخرا اتفاقية مع المجلس الوطني لنقابات المحامين بفرنسا فما هو فحوى هذه الاتفاقية؟ـ الاتفاقية التي وقعناها مع مجلس هيئات المحامين في فرنسا هامة جدا لأنها تتضمن عدة مواضيع تتعلق بالتعاون بين الطرفين مثل إجراء التربصات للمحامين وتنظيم ندوات ودورات تكوينية وقانونية وكذلك يتعلق التعاون بالمسائل الإدارية والمعلوماتية التي تساعد المحامين التونسيين على تطوير وتحديث مهنة المحاماة وتجعلها مواكبة لعصرها.
* ألا ترى أن تفاوضكم وإتباعكم لأسلوب الحوار مع السلطة يخلّ باستقلاليتكم واستقلالية المهنة؟
ـ خلافا لم يروجه بعضهم انطلاقا من خلفية ليست سليمة فإني متشبث باستقلاليتي كمحام أولا وكعميد لهيئة المحامين ثانيا ومتشبث باستقلالية الهيئة وأدافع عنها دفاعا مستميتا والحوار والتفاوض لا ينال من أية استقلالية، بل بالعكس عندما يكون جديا وفي إطار الاحترام فهو يمثل الاستقلالية الكاملة، وليست الاستقلالية عنوانا للتشنّج أو الخصام أو التزيّد أو التهجم على الطرف المقابل أو رفض الآخر بل هي ثبات على المبدأ ومقارعة الحجة بالحجة والدفاع عن المطالب المشروعة، وأنا كعميد للمحامين متمسّك بقناعاتي وتوجهاتي।

* في الدورة السابقة للعمادة استعملتم أساليب وآليات العمل النقابي من اضرابات ورفع للشارة الحمراء واعتصامات... لكن في هذه الدورة توخيتم منهج الحوار والتفاوض فما الذي يبرّر هذا التحوّل؟
ـ هيئة المحامين هي في الحقيقة نقابة تدافع عن حظوظ منخرطيها ماديّا وأدبيا وأنا أؤمن بالعمل النقابي وكنت في الدورة السابقة أول عميد في تاريخ مهنة المحاماة التونسية لجأ إلى استعمال الأساليب النقابية في الدورة السابقة واعتبر نفسي مؤسسا للأسلوب النقابي في قطاع المحاماة إذ قمنا في الدورة السابقة بإضرابات واعتصامات ورفع الشارة الحمراء من اجل تحقيق مطالب المحامين ولكن الذي يخطئ فيه البعض أو يتجاهله أن الأسلوب النقابي يتكون من فرعين اثنين: الفرع الأول يتمثل في أن ممثل النقابة يقوم بالحوار والتفاوض مع الجهات الرسمية لتحقيق مطالب منظوريه وينبغي أن يكون هذا الحوار مركّزا وثابتا ومستمرا ولا يمكن التخلي عنه إلاّ إذا سُدّت الأبواب ولم يأت بنتيجة، آنذاك يقع الانتقال إلى الفرع الثاني والمتمثل في استعمال الآليات والنضالات النقابية السلمية والقانونية مثل الإضراب والاحتجاج والاعتصام إلى آخره، وعندما يقع استعمال هذه الأساليب النضالية تقع العودة إلى الفرع الأول أي الحوار والتفاوض وإذا أثمر الحوار والتفاوض عن نتائج ايجابية لا مبرّر للانتقال إلى الفرع الثاني أي لا فائدة في استعمال الاحتجاجات النقابية عندما تحقق أية نقابة مكاسب جدية ونحن في هذه الدورة طالبنا بالحوار مع الجهات الرسمية ففتحت وزارة العدل الحوار معنا على مصراعيه وشرعنا في التفاوض حول مطالب المحامين فور انتخابنا ومرت جلسات عديدة سادها الاحترام وتهدف إلى تحقيق الحلول لإصلاح قطاع المحاماة وفعلا أثمر الحوار والتفاوض نتائج ايجابية جدية وكسب المحامون مكاسب هامة وهي التي سبق بيانها في هذا الحوار.

حوار مع الفنان عادل سلطان


مع المبدأ تغيب التجارة... وأنا أغني للانتماء القومي والعالمي...
دقيق في موعده وفي كلامه... تضطرم بداخله هواجس من الواقع المؤلم وحماسة لمن يحضن القلم والمبدأ... خفيف كالفكرة ومشرئب نحو تخوم الجغرافيا البعيدة وجذوره ضاربة في الأرض التي تحمله هو صفوان وصفاء... هو ذا ملمح خاطف تركه عندي الفنان عادل سلطان بعد جلسة لم يسوّرها زمن معلوم...
عادل سلطان الذي اصدر اكثر من 50 اغنية اغلبها من كلماته وكلها من ألحانه وأنتج العديد من العروض المتكاملة التي خوّلت له الحصول على وسام الاستحقاق الثقافي في سنة 2003... جلس إلينا وخص قراء «الشعب» بهذا الحوار الذي يكشف فيه عن انتاجاته الجديدة وعن موقفه من طوفان النشاز الفني...
* لنبدأ هذا الحوار بتقديم عملك الجديد الذي وسمته بشموع؟
ـ شموع «عمل فني» نزل منذ أيام إلى الأسواق وهو في جزأين ويحتوي على 17 أغنية كلها من ألحاني وجلها من تأليفي إذا استثنينا النصوص الخمسة التي ألفها الشاعر المهاجر حمادي زعيبط، أما مدار الاهتمام لهذه الأغاني فهو مختلف ومتعدد ولعله من اللافت للانتباه أن محورها وجوهرها هو قضايا الإنسان في علاقته بذاته ومحيطه ومجتمعه والكون عموما، قضايا تبدأ من النواة أي العائلة لتتفرع إلى الانتماء القومي والعالمي وهذا الجوهر لم يمنع عادل سلطان من الاهتمام بمواضيع أخرى كتلك التي تتغنى بالتراث وتنزله مكانة خاصة في المجتمع مثل أغنية «السفساري» أو بالوجدان والأحاسيس الرومانسية مثل أغنية «تثبت» إلى جانب الأغاني التي فيها دعوة للطرب والذوق الرفيع، أما القضية العربية فقد عبرت عن جزئياتها في «شموع» بأربع أغان ومن المفاجآت التي احتواها هذا العمل هو تقديم أغنية ثنائية بعنوان «سيدي» مع ابني صفوان في طرح للقضية الفلسطينية.
* لماذا غامرت بنشر ألبومين في نفس الوقت والحال ان منطق الربح يقتضي ان تصدر ألبوما أول ثم بعد مدة تصدر الثاني؟
ـ بالنسبة لي الاسطوانتان تعبران عن حفل حي مباشر ومتكامل يضم مثلما قلت لك 17 أغنية، ولو فكرت تفكيرا تجاريا وبترت الجزء الأول عن الجزء الثاني فحتما سوف أبتر الفكرة برمتها، وأنا تهمني الفكرة قبل كل شيء واحرص على مدى وصولها للمتلقي حتى لو اقتضى الأمر إصدار ثلاثة أو أربعة أجزاء كاملة، فمع المبدأ تنتفي التجارة ويغيب تماما منطق الربح المادي أمام الكسب الرمزي الذي يهمني بدرجة أولى وهو المتلقي لأعمالي ولمجمل إبداعاتي الفنية.
* على ذكر العملية الإبداعية، كيف تتحقق لديك؟
ـ ليس لي وقت أضيّعه فيما هو أجوف... أنا أشاهد وأسمع وأقرأ كل ما له علاقة وثيقة بالواقع وخاصة المؤلم منه، فأكتب متفاعلا مع واقعي فتتحرك كلمة «لا» في داخلي فتملي عليّ ملهمتي فتكتب يدي بفضل قلمي ويكتسي ما كتبت لحنا مناسبا بفضل عودي ويغنى او ينشد ما وقع بفضل صوتي فيستمع الآخر فيتعرّف عليّ فيشاطر الفكرة والإحساس ويتنفس فتحصل الغاية من الغناء والعرض بصفة عامة... هي ذي العملية الإبداعية تتكامل فيها حواسي بعقلي ويمتد فيها جسر التواصل بيني وبين المتلقي... وأشكر بالمناسبة وزارة الثقافة والمحافظة على التراث لأنها همزة الوصل ولم تتخلف عن دعمي في كل مرة...
* ولكن حتى الرداءة اليوم صارت تسوّق تحت عنوان الإبداع ذاته؟
ـ أقول لمن رمت بهم رياح الرداءة في مجال الغناء بصفة خاصة والإبداع بصفة عامة أن يصمتوا يوما بل ساعة بل دقيقة، لا ترحما على روح فلان أو فلانة بل دقيقة صمت ترحما على روح الفن والإبداع... دقيقة صمت منهم توفر تنظيفا لمسامعنا وأبصارنا من التلوث، ثم يعودون أن شاؤوا ذلك، فالدقيقة سوف تمكننا من تحملهم لثلاثين سنة أخرى قد تتغير خلالها الأمور فيصمتون نهائيا...
* عن أي تغيير تتحدث والفضائيات تتناسل كل دقيقة ومعها تتناسل الرداءة؟
ـ أقول لبعض المختصين في الطبخ والذين يطلون علينا من خلال بعض الفضائيات العربية مستعرضين عضلاتهم علينا بأن يصيروا دلاعة زهرة او من خروف شكلا هندسيا رامين بكل ذلك في القمامة اثر نهاية حصصهم، أقول لهم أطفال فلسطين والعراق وافريقيا وغيرهم ممن يجوعون كل يوم لن يغفروا لكم صنيعكم، وأقول للفضائيات التي تبث ذلك إنها فضائيات تائهة في الفضاء...
حينما أقرأ او اشاهد التلفاز او السينما او حينما اسمع جهاز البث الاذاعي او جهاز التسجيل ما هو ليس بجدير ان يستهلك أتحسر جدا على القلم بل الاقلام وعلى الصفحة البيضاء التي كانت تنعم ببياضها والكاميرا وما يتبعها من صدمة من الاسلاك والآلات اللالكترونية والنساء والرجال وغيرهم ممن يسمونهم جنود الخفاء والذين لا يعملون فيما يشاركون... والمصادح المنتصبة امام المذيعين رغم أنوفهم تنتظر ان تحمل عبر جوفها فكرة مفيدة وممتعة وقاعات البث البدائي والنهائي حتى يذهب بصري في السماء الى هذا القمر الاصطناعي الذي يحمد الله عن كونه اصطناعيا ومن دون روح والا لكان له موقف واضح ولرفض ان يلتقط الا ما هو حق وجدير بأن يلتقط...
* هل تنتظر فعلا مواقف واضحة من تجار الثقافة؟
ـ أعتقد شديد الاعتقاد في ان من له الكفاءة ويريد ان يعمل في حقل الابداع ان يسلح نفسه بالعلم والثقافة وان يواكب كل صغيرة وكبيرة من الاخبار في العالم حتى لا يكون متخلفا فنتخلف معه وبسببه، وبكل بساطة أخذ الموقف والدفاع عنه حد الاستماته يضمنه العلم والثقافة وترشحه الاخلاق والقيم الانسانية...
* كيف ترى حالة النشاز الفني الذي يحوطنا من كل الجهات؟
ـ أقترح على مجلس النواب المصادقة على مشروع قانون أقترحه أنا وغيري ممن يغيرون على الحق، أقترح مشروع قانون يتيح لنا الاحتفال باليوم الوطني بلا نشاز مرة في السنة على الاقل تنكس فيه اصوات الفقاقيع ممن يدعون الاطراب او حتى الغناء وتخدّر فيه أغاني السراب المفلسة وتهدأ فيه عواصف شركات الدعاية والتطبيل للباطل الفني...اقول لشركات الوهم الفني أنتم تقتلون أنفسكم بعد كل عقد تمضونه مع فقاع من الفقاقيع التي تصنعونها، أقول لهم أولادكم بل أحفادكم بل احفاد احفادكم الذين سوف يهدرون الثروة الزائلة التي تجمعونها على حساب الشرف والصدق والابداع.
* كيف ترى ظاهرة العروض الفنية التي تتكاثر من دون عناوين؟
ـ من يقدم عرضا فنيا دون عنوان هو بالضرورة لا يحمل مضمونا وموضوعا فالعنوان التزام منذ البداية بالموضوع وعدم الحياد عنه، اما اذا كان العنوان فلانة او فلان فهذا دليل على ان العرض سيمضي في التعبّد، نعم تعبّد أناس لانسان مثلهم وهو ما لا يجوز ومما يؤكد ما أدّعي ما حصل من اضرار مادية جسيمة ومعنوية بالغة حينما نسي المتعبدون من المراهقين والمراهقات انفسهم وحدث ما حدث في صفاقس।

* بعد عمل «شموع» ما الذي يعده عادل سلطان لجمهوره؟
ـ عندما أتحدث عن أعمالي القادمة فاني لا أعني التفكير فيها وفي نيّة انجازها كما نسمع ذلك عند البعض ثم تتبخر مع الايام، أعمالي القادمة هي الانتاجات الجاهزة للتوزيع والدليل على ذلك انني بدأت انشر صور الاشرطة القادمة وعناوينها وستكون هذه الاعمال الجديدة بين أيدي الجمهور بعد ما يأخذ عملي الحالي «شموع» حظه من الدعاية والترويج.من انتاجاتي القادمة نسخة مصورة مرئية (D V D) لشموع من حفل مهرجان المدينة 2006 والعمل الثاني «ربّاه» وهو ايضا عمل سمعي بصري سوف يصدر في الاسواق بمناسبة المولد النبوي الشريف وهو مُهدى لإذاعة الزيتونة.أما العمل الثالث الذي عنوانه «ارجع الى الله» وهو كذلك سمعي بصري فهو مخصص لشهر رمضان وهناك ايضا «الدنيا جنة» وهو عمل غنائي تمثيلي في شكل سلسلة رمضانية في 15 حلقة.
* وماذا عن عرض عائدون؟
عرض عائدون يعود الفضل في عنوانه الى صديقي العزيز الشاعر البشير عبيد الذي أهداني قصيدة «عائدون يا صلاح الدين» وقد قمت بتلحينها وسوف تكون في افتتاح العرض واختتامه، وعرض عائدون أدعو فيه الآخر الي العودة، والعودة في معناها المطلق عمل ايجابي حتما في كل الاحوال فكأن نقول عاد المذنب عن ذنبه والله يقول «وان عدتم عدنا» والعودة غير العوْد وهذا من فضل اللغة العربية علينا.كما اني أعد عرض «زيتونة» لرمضان 2008 وهو عرض صوفي جديد سميته «زيتونة» لحبي الشديد لاذاعة الزيتونة وحبي الشديد للزيتون خاصة اذا رافقته طابونة بدوية ساخنة...
* شكرا لك على هذه الصراحة؟
ـ لمن يدعي انه يمارس الصراحة أقول كفانا عبثا بالصراحة وكفانا بأحاسيس الناس ذبحا وإطاحة فلقد زدنا الطين بلة، أهلكنا الحرث وأفسدنا النسل ولم تخرج من أفواهنا جملة مفيدة فيها فعل وفاعل وصراحة ما عدا ضحكة لا يقاسمنا فيها الا مغفل تاه وراح... ولو أكلف ببرنامج عنوانه بصراحة لقمت بتصوير حلقة واحدة بمفردي أقول فيها بكل صراحة عن نفسي المشحاحة وعن كونها لم تمارس يوما قط صراحة فيقبض علي من طرف جنود المراوغة بتهمة عدم تعاطي الصراحة مع سبق الاضمار والترصد وعدم ترك المواطن في راحة!!!
كما أودّ أن أقول لمن يضيعون سويعاتهم بل أيامهم بل أسابيعهم بل أعمارهم وأجيالهم في الحديث عما بعد المباراة، أقول لهم فِقْ يا حنيني واسمع لوغات ليست لوغات أم الحسن كما يقول نص ناعورة الطبوع من المالوف التونسي، بل لوغات الثورات، ثورات الانترنات والتقنيات الحديثة وعلم الذرة وغزو الفضاءات وما أُعد لنا من مفاجآت تجعلنا دوما فـي سبـات نـائميـن ونـائمات نحلــم بالـكــرة الـمـصـنـوعـة من الـجــلــد و «الجوّارات»...
أقول... ماذا أقول... أقول وقد ناحت بقربي حمامة... أيا جارة لو تشعرين بحالي...