بحث هذه المدونة الإلكترونية

2009/08/29

تاكسي خالد الخميسي (2)

إن اللغة، كما نعلم جميعا، هي المادة التعبيرية التي تنهض عليها الرسالة الإبداعية والإيديولوجية التي يروم أي كاتب إرسالها إلى المتلقي، حيث يصوغ الكاتب مادته اللغوية من خلال عدة تمظهرات سردية ووصفية ومشهدية وبلاغية وحرفية... ويشتغل على ناصيتها وقواميسها الحرفية والمجازية لاستثمارها ضمن السياقات التواصلية والتداولية المراد تبليغها، وقد عرفت اللغة تطورا جوهريا خاصة مع الشكلانيين الروس وتحديدا مع ميخائيل باختين الذي تجاوزت معه اللغة الكلمات القاموسية والألفاظ المفردة إلى تعدد الأصوات والمنظورات السردية والأجناس وتداخل الخطابات والأساليب اللغوية، وهي التي تتوفر في الرواية "البوليفونية" إلى جانب الحوار الداخلي والوصف والحوار الخالص والرسالة والسرد بمختلف تمظهراته واستعمال اللهجات المحلية وسجلات مختلف الشرائح والفئات المجتمعية، وما يعنينا ههنا ضمن نص أحمد الخميسي البعيد كل البعد عن جنس الرواية – وعن أي جنس أدبي آخر - من حيث الشكل ومن حيث المضمون، ما يعنينا، هو استعمال اللهجة المحلية المصرية في جميع المقامات التخاطبية التي قدمها الكاتب على ألسنة سائقي سيارات الأجرة (التاكسي) وخاصة ضمن الحوارات التي تدور بين السارد/الكاتب/ الراكب وبين سائقي التاكسي/الشخصيات، ومعلوم أن الحوار الجيد هو ما حسن تركيبه وسهل قوله واتضح معناه وانداحت فيه الكلمة ذات الجرس والرنين لحساب الكلمة المحددة والقوية.

وقد تعددت مستويات استعمال اللهجة المصرية حيث نجد المفردات من قبيل:(حواديت/حهرب/وسطينا/برضه/جوز/العربية/بالتلاتة/وش/كمان/بقة/غلاسات/طرمخوها/لبش/دول/يجيصوا/أونطة/البوجودي/كدابة...).

والجمل التامة من قبيل:

* وح القى العيال مش واكلة وامهم حايسة ولايصة (ص27)

* وبيسألو الاقتصاد بايض من ايه؟؟ (ص29)

* واحد ماشي معاه موبايل وفي بقة سيجارة (29)

* الكلام اللى ولابيودي ولا بيجيب (32)

* لخبطة جامدة بتخللي الواحد يتمخول (ص93)...

كما أدرج الكاتب جملة من المصطلحات الدخيلة على المحكي المصري والعربي عموما من اللسانين الانجليزي والفرنسي – وهما من مخلفات الاستعمار الغربي – من قبيل:(بيزنس/البروجرام/الشوز/الدش/النيون/بربريز/تيرموماتر/الفيتيس/موبايل/

البوكس/فيفتي فيفتي/يتكود/الكلوب/جاتوه...).

هذا التعويل على اللهجات المحلية وعلى الكلمات الدخيلة من شأنه أن يهمل القيمة النصية التي تتأتى - كما أسلفنا الذكر - من المحمل اللغوي بدرجة أولى، إلى جانب مختلف المكونات التقنية والجمالية الأخرى لأي نص سردي واضح المعالم مثل الرواية والقصة القصيرة والأقصوصة والنص المفتوح، فما بالك إذا كان النص الذي يطرحه علينا الكاتب أحمد الخميسي لا يندرج في أي جنس من هذه الأجناس السردية.

ولنا أن نقف على الهنات التي قد تلحق المعنى المراد إبلاغه من خلال توظيف مثل تلك المفردات المحلية والدخيلة والجمل. فكلمة "عربية" التي يقصد بها المصريون السيارة قد يفهمها قارئ غير مطلع على المحكي المصري العامي بأنها تعني اللغة العربية، وكذلك كلمة "كمان" التي تعني في العامية المصرية "أيضا" قد تٌفهم في النص على أنها اسم الآلة الوترية المعلومة للجميع، أما كلمة "دول" التي ترادف ضمير "هؤلاء" قد يفهمها القارئ على أساس أنها جمع لكلمة دولة، وكذلك كلمة "كدابة" التي تعني في النص "كاذبة" قد تٌفهم على أساس تركيب "مثل دابة"، وقس على ذلك عشرات المفردات العامية الموظفة في النص.

أما المفردات الدخيلة فهي أكثر تأثيرا خاصة على المستوى الإيقاعي لأي نص، وكان على الكاتب أن يكتب كلمة برنامج بدلا من "البروجرام"، و اللاقط الهوائي بدلا من "الدش" والمحرار بدلا من "التيرموماتر" والشاحنة بدلا من "البوكس" و الفرامل بدلا من "الفيتيس" والنادي عوضا عن "الكلوب"...



2009/08/26

تاكسي خالد الخميسي (جزء 1)

يؤكد بول ريكور ضمن مؤلفه "من النص إلى الفعل" على أهمية انتصار الأثر الأدبي عن ظروف إنتاجه النفسية والاجتماعية ليحقق بذلك انفتاحا لامتناهيا على سلسلة لا محدودة من القراءات المقيمة بدورها في سياقات سوسيو ثقافية مختلفة، إذ يقول :"على النص أن يكون قادرا على إزالة السياق على نحو يسمح بإعادته في حالة جديدة." مضيفا أن الكتابة تجد تأثيرها الأهم عند "تحرر الشيء المكتوب من الشرط الحواري للخطاب، ويترتب عن ذلك أن العلاقة بين الكتابة والقراءة لم تعد أبدا حالة خاصة للعلاقة بين التكلم والإصغاء".

استنتاج بول ريكور _ البسيط والمهم _ نستنجد به في مستهل هذه المقاربة التي نروم من ورائها الوقوف على "فشل" الكاتب المصري خالد الخميسي في الانتصار على ظروف إنتاج نصه الموسوم بـ:"تاكسي:حواديت المشاوير" في مستواه اللغوي بالأساس، لأنه _ في تقديرنا _ أهم محمل ينهض عليه أي منجز مكتوب نثريا كان أم شعريا، فمن المفردات والكلمات المنتقاة تتحدد وتتضاعف شحنة الفكرة أو الأفكار والمواقف المراد تقديمها والمنافحة عنها ضمن أي إصدار.

"تاكسي" خالد الخميسي "نص" ينهض أساسا على أيقونتي الصوت/الاصغاء أو المتكلم / الناقل، ويأخذ الصوت/المتكلم صفة التعدد (سائقي سيارات التاكسي) في حين يتسم المصغي/الناقل/الراكب/ الكاتب بصفة الواحدية من اول النص الى آخره، ويبدو أن الكاتب أحمد الخميسي واقع تحت سطوة النظرية القائلة ان في العمل الادبي " ترتهن الصفة الفنية والتعبيرية للغة الراوي والشخوص بالمفردات التي تتكون منها هذه اللغة" التي تنصص على ان استخدام تراكيب ومفردات لا تتناسب وطبيعة شخوص المتن السردي ومكانتهم الاجتماعية ولا تساير العصر الذي يعيشونه، ينتقص من القوة التعبيرية لأداتهم اللغوية ومن مستواها الفني... ولذلك استأنس أحمد الخميسي باللهجة المحلية المصرية وللحياة التي تسكن كلمات البسطاء من الناس الذين أهداهم كتابه كما ينصص على ذلك في الصفحة الخامسة منه.

وان كنا نتفق مع الكاتب على أن للغة وظيفة حكائية تهبها تلك القدرة الناقلة وتضفي عليها سمة التواصلية حتى تكون ترجمان الانسان عن نفسه أولا وعن الوجود ثانيا مثلما يقول الدكتور عبد السلام المسدي، لئن نتفق معه في ذلك، فاننا نختلف معه في أن الانسان/المتقبل/القارئ ليس بالضرورة متقبلا مصريا محضا، وليس قطريا بل هو عربي _ أي اقليمي _ وهو ثانيا كوني مثلما هو النص ينبثق من نقطة ما ليتسع على أوسع مدى لأن الفكرة ليست حبيسة الجنسيات على نسبيتها التي تثبتها طبيعتها الاجتماعية.

قدم أحمد الخميسي في بداية "نصه" تصنيفا واضحا لمَ كتبه حيث كتب في الصفحة التاسعة "يضم هذا الكتاب بين دفتيه بعض القصص التي عشتها وبعض الحكايات التي جرت لي مع سائقين من أبريل 2005 الى مارس 2006 ..." ويضيف في نفس الصفحة والتي تليها "حاولت أن أنقل هذه القصص كما هي بلغة الشارع، وهي لغة خاصة وحية وفجة وصادقة تختلف تماما عن لغة الصالونات والندوات التي اعتدنا عليها." ويوضح دوره ككاتب فيقول:" ودوري هنا ليس بالتأكيد مراجعة دقة ما قمت بتسجيله وكتابته من معلومات، فالمهم هنا هو ما يقوله فرد في المجتمع في لحظة تاريخية بعينها حول موضوع محدد، فالسوسيولوجي يفوق المعرفي في مرتبة أولويات هذا الكتاب."

جملة هذه الاشارات البيانية تلتقي حول عدم تصنيف الكاتب لم أنجزه بشكل مدقق، ولان كانت هذه مهمة الناقد بالأساس، الا أن العتبة التي كتبها الخميسي تفترض منه ابانة لصنف مكتوبه، أهو رواية أم هو يوميات أم مجموعة قصصية أم هو حكايات متناثرة أو نص مفتوح...

كما أن الخميسي يقر بأن لغة كتابه هي "لغة الشارع" وليست "لغة الصالونات والندوات" وكأن للشارع لغة بعينها مما يفترض _حسب الخميسي _ أن نمنح لكل فضاء "لغة" مخصوصة كالجامعات والمقاهي والحانات والادارات والمحلات والمواخير والمقابر، والأصح أن لكل فضاء خطابه/كلامه المخصوص وقاموسه المتداول بين من يتحرك في مجاله من المتكلمين، وعنه يمكن أن نَسمَ الكلام بالفاضل المحمود أو الهجين المذموم ولا يمكننا وصف اللغة بالحية والفجة والصادقة، ولا داعي هنا للرجوع الى الفرق بين اللغة والكلام والخطاب، ولكن يجدر بنا التذكير بالفرق بين الفصحى والعامية، فآما الاولى، أي الفصحى، فهي تلك التي تستخدم في الكتابات الأدبية والعلمية وفي المقالات والبحوث في الصحف وفي المجلات وفي أغلب وسائل النشر والاعلام والاتصال، أما الثانية، اي العامية، فهي تلك التي تجري على ألسن الناس في تسيير شؤون حياتهم العامة، فالأولى تقابل الثانية، ومجالها غير مجال الثانية، ولكل واحدة منهما نظامها الصوتي المخصوص وإيقاعها وجرسها الذي يميزها عن الأخرى.

2009/08/21

قَهْرَجَانَاتْ 2009 !

تَهبُنا اللغة ما لا يَطاله الخيال في بعض الأحيان، وتمنحنا فسحة أرحب لامتلاك ناصية بعض الأفكار التي يزفها لنا حدث ما عشناه أو عاشه غيرنا وروى لنا تفاصيله.

مجرد حرف واحد يحوّل مفردة مهرجانات الى مفردة "قَهْرَجَانَات" فيفتح لي باب التأويل على مصراعيه من خلال «القهر» ذاك الاحساس البغيض الذي يسعى كل فرد الى تفاديه...

مهرجاناتنا الصيفية الدولية منها والوطنية، الجهوية والمحلية تحولت في أكثر من مناسبة الى ما أسميته «قَهْرَجَانَات» من خلال بعض الممارسات التي يأتيها البعض في حق البعض الآخر فلا تترك الا الاحساس بالقهر والحسرة والتألم... ممارسات لم يسلم منها لا مسؤولو المهرجانات ولا فنانوها ولا الاعلاميون ولا حتى الجمهور العريض، ففي كل مرة نندهش بل نُصدم أمام فعل لا ثقافي وممارسة قهرية تُؤتَى فوق مدرج هذا المسرح الأثري أو داخل كواليس ذاك الفضاء الثقافي أو بأحد نقاط بيع تذاكر الحفلات أو... أو... أو...
مهرجانات صائفة 2009 لم تخل، ككل سنة، من تواتر أكثر من «قهرة»، وإن رغبنا في تعداد أو التذكير «بقهرجانات» 2009، وفي غير ترتيب زمني أو أفضلية مهرجان على آخر، يمككنا أن نعود الى «قهرة» سمير بالحاج يحيى مدير ما قبل أيام معدودة للدورة 45 لمهرجان قرطاج الدولي... فقهرة الشاعر حاتم القيزاني في حقوق تأليف فكرة «الصباح الجديد» التي افتتح بها مهرجان قرطاج من دونه، فقهرة الفنانة أمينة الصرارفي وفرقة العازفات بعد إلغاء عرضها بقرطاج دون مبرر... فقهرة المسرحي توفيق الجبالي من جمهور «ملحم الراس» حسب وصفه، لم يفهم «مانيفستو السرور» وهو يفتتح بها الدورة 45 لمهرجان الحمامات الدولي تكريما لعلي الدوعاجي، وعنها ايضا «قهرة» جمهور «المانيفستو» عن تلاشي مائتي مليون بين طلبة وأضواء التياترو... وفي نفس المكان، أي الحمامات، لا ننسى «قهرة» الأسعد بن عبد الله مدير المهرجان اثر إلغاء العرض المسرحي «تكتيك» بعد الضجة الاعلامية التي سبقته... وغير بعيد عن الحمامات وتحديدا على ركح مسرح رادس، وفي اطار حفله الافتتاحي أصيب الفنان محمد الجبالي بقهرة بائع الشاي ينط فوق الركح ويفسد عليه تجلياته الفنية...

نعود مرة أخرى الى مهرجان قرطاج، والى «قهرات» الزميلة هالة الذوادي من قناة حنبعل في كل ليلة أمام الكواليس الموصدة في وجهها وهي المستميتة من أجل حقها في المعلومة...

أما في استديوهات حنبعل فإن «القهرات» تتناسل، فواحدة للزميل وليد الزراع بعد أن أفسد القرع الأرعن لطبول عرس بأحد نزل بنزرت أين كان يتم تسجيل أحد حلقات برنامج «بدون مجاملة» و»قهرة» للزميل لطفي العماري من الفنانين الذين ضربوا نقابة المهن الموسيقية يوم تشكلت... فقهرة الفنان مقداد السهيلي يعلنها بكل حرقة بعد أن حُرم من المهرجانات الصيفية هو وعدنان الشواشي وغيرهما من الفنانين...

في بنزرت أيضا أصيب جمهورالمهرجان الدولي بقهرة جماعية بعد أن انسحب فضل شاكر من الركح بعد ساعة والنصف فقط ليلتحق بأحد الحفلات الخاصة بمدينة الحمامات... قريبا من بنزرت وتحديدا في طبرقة أصيبت ادارة مهرجان طبرقة الدولي للجاز بقهرة كبيرة بعد أن تركهم نبيل خمير في نصف الطريق.

أما «قهرة» «قهرجانات» هذه السنة فكانت بثلاثة رؤوس، استأثر بها الفنان الفرنسي شارل آزنفور، الأولى «قهرة» صحفية اشتعلت قُبَيل أن يحل بيننا ويبدو أنها لن تهدأ، والثانية «قهرة» مائية كادت تلحق آزنفور بأمينة فاخت فينبطح على ركح قرطاج انزلاقا لا رغبة وجنونا، و»القهرة» الثالثة شارة دخول الصحافيين الخاصة بحفله، اذ ارتأت ادارة المهرجان أن تمنح شارة دخول يتيمة لكل مؤسسة صحفية فهل يُعقل أن يحضر مثلا صحفي بجريدة دون مصور، أو يحضر «كاميرامان» دون صحفي تلفزي للحفل!!!

هذه بعض القهرات التي عشت بعضا منها أو سمعت عنها من بعض الزملاء وَسَمَت بعض حفلات مهرجانات صائفة 2009 والأكيد ان الكثير من القهرات الاخرى مرت في الخفاء ولن تختفي في قادم السنوات مادام الالتباس لا يزال يخلط أوراق التسيير الاداري بالأفق الثقافي.

2009/08/16

كرسي قرطاج


للكرسي حكمته الأزلية وسحره الأبدي، فأما حكمته فهي تقتضي أن من يصله أولا يستأثر به ولا تهم الوسيلة التي أوصلته، وأما سحره فيتمثل في أسر من يجلس عليه ويمنحه صفة الالتصاق النهائية فوق جلده الأثير وسيقانه البرنزية...

وقلة قليلة من الكراسي التي لا نلهث وراءها للفوز بامتيازاتها، لعل أقربها إلى أذهاننا ومخيلتنا الجمعية، كراسي الصف الأول بالمدارس والمعاهد والجامعات، فهذا الصنف من الكراسي لا يتطلب قوة مال ولا قوة عضلات ولا حتى قوة دهاء ومكر، بقدر ما تتطلب قوة علم وحب للمعرفة، وهي قوة نادرة وباتت غير متوفرة اليوم بشكل كبير...

وللجلوس على كرسي ما والاستئثار به طقوس معلومة وسياسة كاملة في فن الجلوس لا اعرف كيف سها الجاحظ عن ذكرها في رسائله...

المهم، ما يعنيني في هذه المساحة، من أصناف الكراسي وأنواعها ما وصفته بكرسي قرطاج، واعني تحديدا تلك الكراسي المصففة في نصف الدائرة المخصصة لما يناهز ثلاث مائة شخص يشاركون كل ليلة الآلاف المؤلفة من جماهير مهرجان قرطاج، أولئك الذين تكاد تلتصق مؤخراتهم كل ليلة، بالحجر الأملس للمسرح الأثري الروماني الذي تنتظم على ركحه منذ 45 سنة حفلات مهرجان قرطاج الدولي، ومنهم نحن الصحفيون المجبورون كل ليلة، في إطار عملنا، على مواكبة سهرات المهرجان وحفلاته...

أصحاب وصاحبات كراسي مهرجان قرطاج، لا تعنيني صفاتهم ولا مراتبهم الوظيفية أو الاجتماعية ولا ثرواتهم، بقدر ما تعنيني تلك الممارسات التي لا تليق بهيبة الكرسي الذي يجلسون عليه ولا بحكمته أو سحره...

أصحاب الكراسي يتعمدون دخول المسرح متأخرين، ففي كل حفل أحضره ألاحظ حلول معاليهم المكان عند اعتلاء الفرقة الموسيقية خشبة المسرح أو تماما بعد موسيقى استقبال النجم وفي أحيان كثيرة بعد استقبال الجماهير الغفيرة لهذا الأخير وتقديمه لشيء من أعماله... حينها يتناسلون بين الكراسي البيضاء، ينتشرون ببدلاتهم الأنيقة وفساتينهن الناعمة يوشحون المكان بعطورهم الثمينة غير عابئين بالمغنى والمُغنّي ولا المغنّى لهم، مع أنهم في الغالب يملكون سيارات تودعهم بأمان في الوقت المناسب بالمسرح ولا يمنعهم عن احترام الفنان وفنه تأخر وسائل النقل العمومي ولا اكتظاظها ولا رائحة العرق المعتق داخلها.

ثم أراهم كل ليلة يرفعون الكراسي فوق رؤوس الجالسين وكما لو أنهم على رقعة شطرنج يوزعونها مستسمحين الموجودين أو غير مستسمحين.. وفي أحيان كثيرة أراقب أياديهم ترتفع غضبا على أعوان التنظيم محتجين على التوزيع الغير العادل للكراسي متحججين بتذاكرهم حاجبين عنا رؤية المطرب، شاغلين إياه بحركاتهم المستعلية.

هم نفسهم الذين يأتون متأخرين كأنما يختبرون نجوميتهم الاجتماعية، يغادرون المسرح قبل انتهاء السهرة. يحبذّون الخروج في الظلام، فنراهم ينسحبون واحدا خلف الواحد أمام أنظارنا وأنظار المطربين والعازفين فلا يفلحون إلا في إحباط المبدع الساهر لأجلهم وإقلاق الجمهور العريض...

هذه بالفعل ظاهرة اجتماعية جديرة بالدراسة من طرف علماء الاجتماع وعلماء النفس وأهل الاختصاص، وهي تتكرر أيضا بالمسارح البلدية مثلا وفي قاعات السينما بشكل متواتر ومستفز خاصة للمبدع الذي يشعر لا محالة بنوع من الإهانة أو الاحتقار من خلال تلك الممارسات التي يأتيها أصحاب الكراسي.

بالأخير لا يمكنني إلا أن أقول بان الغاية تبرر الوسيلة وبأن أصحاب الكراسي ليسوا هم دائما أصحاب الكراسي...