بحث هذه المدونة الإلكترونية

2008/06/30

تراتيل بحرية (قصة قصيرة)

"... ثم رأيت البيت المعمور, فإذا هو قلبي"ابن عربي

أصل الخرافات هاتف شوق... وأوّل الأساطير موعد مع اللاّمنتظر, ترتّبه مفارقات عجيبة, مخاتلة ومباغتة, لا تترك لك فرصة لاستيعاب ما سيحلّ بك ولو بعد دقيقة واحدة من الزّمن اللاّممسك. توليفة عجائبيّة تدفعك للتواطؤ مع لون الجدران مثلا,
مع رائحة الممرّات أو خذلان أزرار المصعد الآلي, مع أحذية النّزلاء وألوان ربطات العنق... ومع صوتها... صوتها هي النّازلة من سلالم الطّوابق العليا إلى بهوك السّفلي... هي الّتي تطوف بك وتجعلك تركب ظهر الصّدف المرتّبة بنظام سريالي وأنت تركض كطفل من أسفل إلى أعلى... من بهو الاستقبال إلى شرفة الغرف... من الأرضي إلى السّماوي...
صدفة تجد رأسك مثقلة بالبيرّة في قاعة استقبال أحد النّزل الفخمة, وعلى غير موعد يطفح قلبك بسكون البحر الفجريّ, وبزغب صرّتها الحليبيّة بإحدى شرفات الطّوابق العليا, حينها تفقد أصابعك واحدا واحد. لا يهمّ إن كان خنصرا أو بنصرا
المهمّ أنّه غار في الصلصال المسكون باضطراب الأنفاس وتقطّع اللّهاث... ويضيع المتبّقي من جسدك المرهق في ارتجاف الشّهقات الخجولة.
... إعترضها في الممرّ الطّويل الممتدّ من باب المصعد الآلي إلى خارج جناح النّزل بالطّابق السّادس. تركها تنهي حديث مجاملة مع أحد النّزلاء, يبدو أنّه كان داخل تلك العلبة الآلية, مثلما يحدث غالبا في مثل هذه الأماكن.
سألها عن رقم الغرفة الّتي حجزت لها من طرف إدارة النّزل, فأجابته أنّها الغرفة رقم 1711.
ابتسم وهو يقول:
ـ جيّد. إذن سيفصلنا جدار واحد هذه اللّيلة. جيّد جدّا.
ـ لماذا, هل حجزت الغرفة رقم 1710 أم 1712 ؟
ـ الأولى, الأولى. غرفة 1710 .
ناولته المفتاح وهي تهمس بدلال:
ـ دلّني على الغرفة إذن, لأرى سمك الجدار الفاصل بيننا.
تباوسا خلسة في الممرّ وهما يمدّان الخطى نحو الغرفة.
لم يضمر أيّ شيء في ذهنه. ولا هي. كان هو مشتّتا بين زجاجات البيرّة الّتي تركها فوق المنضدة ببهو النّزل حذو مضيّفه , وبين جثّة الرّجل الّذي يقاسمه غرفته رقم 1710 , وبين الفسحة البحريّة الّتي تواعد عليها معها قبل ساعة, أمّا هي فكانت سعيدة لتخلّصها من دعوة صديق لها لشرب قهوة خارج النّزل بضاحية سيدي بو سعيد, متعلّلة بالإرهاق والتّعب.
كانا هكذا, هو مشتّت وهي سعيدة, إلى أن ألفيا نفسيهما داخل عرفة مرتّبة بعناية فائقة... غرفة بابها مغلق على النّزلاء, ونافذتها البلّوريّة مفتوحة على الأفق البحري الممتدّ إلى آخر البصر... غرفة معدّة مسبقا للرّقص على خوان نحاسي من جمر الشّهوات المصهودة...
قطع الصّمت قائلا:
ـ تركت بيرّتي والأصدقاء فوق الطّاولة بالبهو.
فأجابته دون تفكير:
ـ تخلّصت من دعوة ثقيلة مع صديق قديم.
ـ والفسحة البحريّة معي. هل نسيتها أم هل ستتخلّصين منها هي الأخرى؟
ـ لو نزلنا إلى أسفل لرآني صديقي، وأنا الّتي أوهمته بتعبي ورغبتي في النّوم.
ـ إذن سأدعوك لفسحة بصريّة على البحر من نافذة غرفتك.
صمتت قليلا ثمّ سألته بصوت مغناج:
ـ وزجاجتك الطّيّبة, كيف تتنازل عنها؟
سحب الجزء المتبقّي من ستارة فستقيّة اللّون كانت تغطّي بلّور النّافذة إلى آخر ركن الغرفة, ثمّ سحب سيجارة من علبته وأشعلها وهو ينظر إلى ضوء القمر الّذي بدأ ينكسر على ماء البحر, و قال لها :
ـ سأشرب البحر بدل البيرّة. ما رأيك؟
لم تكن في حاجة كبيرة إلى فطنة استثنائيّة لتعرف أنّه الآن يستفزّ ذكائها وحواسّها معا, أو هو يراهن عليهما كما يوهمها دائما. كانت متأكّدة تماما أنّه يعني ما يقول...أنّه سيشرب البحر... وكانت هي البحر... بحره.
لم تقل شيئا. تقدّمت منه, وهو لا يزال واقفا أمام النّافذة. سرّحت بصرها في الزّرقة اللاّمتناهية وهي ترسم بأصابعها خطوطا عموديّة وأخرى أفقيّة على امتداد المساحة البلّوريّة المتاحة أمام يديها, ثمّ مسكت السّيجارة من يده. سحبت منها نفسا ممتلئ قبل أن تعجن نصفها في قعر المطفأة بتلذّذ خفيّ, ثمّ التصقت به وبدءا يسكران سويّة وهما يتطاوقان ويتمايلان وسط الغرفة كتوأمي فراش يكابدان لحظة خروجهما من الشّرنقة.
ظلاّ هكذا برهة من الزّمن إلى أن أسقطهما السّكر فوق السّرير, جذبها إليه وبدأ يغوص في أعماق البحر...وكان البحر يبتلعه مرّة... ويلفظه أخرى.
أسند قلبه على زندها الرّخامي الملمس وصار عندها كالغريق النّاجي, لا يني يمسح بلسانه طحالب صرّتها مدّا, وجزرا يهمس في أذنيها بحروف متعثّرة بلسانه, وهو يمرّر شفتيه متلمظا صدفتيها الحليبيّتين ويمزمزهما كحبّتي زبيب, ويقول لها:
ـ ملح البحر يصير سكّرا في لساني, يا بحري السكّري.
تتبسم في حياء مصطنع, وهي تسحب اللحاف الأبيض إلى حدود صدرها الناهد وتهمس له :
- كفى. كفى الآن, انك ستبتلع البحر بأكمله ولن تسكر أبدا أيها الرحمان الرجيم.
ضحك الاثنان وتباوسا من جديد ثم رفعها من خصرها إليه وعاودا الوقوف قدام نافذة الشرفة المطلة على البحر المتلألئة مياهه تحت ضوء القمر. ظلا ساكنين ينظران إلى البحر طويلا... طويلا حتى تبدت لهما خيوط الشمس مارقة عن الأفق البعيد خيطا خيطا, وتشرع في امتصاص ضوء القمر الفضي ومحو ظلمة السماء المرقطة بحفنة نجوم لا تزال منثورة هنا وهناك وكأنها تزاحم في كبرياء موهوم أشعة الشمس.
تركها لتأخذ حماما صباحيا وترتب شعرها وزينتها وتعيد لجسدها تماسكه, بعد أن تواعدا على احتساء قهوة الصباح ببهو النزل بعد نصف دقيقة.
دلف إلى الغرفة رقم 1710, غرفته المفترضة في جذاذات النزل. وجد جثة الرجل كما تركها البارحة, شخيرها يتكسر على الجدران البيضاء, وعلى النافذة الستائر الفستقية تحجب زرقة البحر.
أخذ بسرعة حماما باردا أنعش جسده ثم حمل حقيبته الجلدية وربطة عنقه في يديه ونزل خفيفا إلى بهو النزل أين ألقى جسده فوق أريكة مركونة تحت أحد الأبواق المثبتة في السقف.
ارتخى بثقله لينتظر قدومها وأخذ يدندن مع صوت فيروز المنهمر عليه من السقف - :" شايف البحر شو كبير... كبر البحر بحبك يا حبيبي...".
لم يطل انتظاره فبمجرد أن وضع النادل زجاجة البيرة فوق المنضدة الرخامية أمامه حتى تناهى له صوت شهقة مدوية تأتي من جهة المصعد الآلي للنزل.
رفع بصره فإذا هي تنظر إلى الزجاجة المنتصبة أمامه ويدها على صدرها.

2008/06/27

درجة اولى (قصة قصيرة)

هناك قاطرة للبكاء تقل المغنين والحالمين ألغيت ...* مظفر النواب
ألقى بجسده داخل العربة وهو يلهث دون أن يتثبت منها, بعد أن فاجأته صافرة القطار منذرة بانطلاق الرحلة. أنزل الحقيبة الثقيلة من فوق ظهره وركنها حذوه, فوق الكرسي الفارغ, ثم رفع رقبته إلى الأعلى حيث يندفع الهواء باردا من مكيف العربة.لما انتظمت أنفاسه شرع يتفرس ملامح المسافرين المنتشرين داخل العربة الواسعة. لم يكونوا كثرا: سائحة متوسطة العمر مشغولة بتفاصيل الطريق وأزرار آلة التصوير الرقمية تداعبها تارة أمام صواري المراكب المتناثرة فوق ماء البحر وطورا نحو قرص الشمس الذاهبة في حمرتها إلى أسفل زرقة الماء وشاب يلاحق إيقاع الموسيقى المنبعثة من سلكي آلة التسجيل المثبتين في أذنيه, وامرأة تطالع مجلة باللغة الفرنسية.كانوا ثلاثة وهو رابعهم صامتين وسط عربة القطار الواسعة والمكيفة وكانت باقي المقاعد شاغرة المقاعد كانت من الجلد الخالص وسليمة من آثار التخريب أو التمزيق وفي طرف كل مقعد ثٌبتت مطفأة سجائر.ـ إذن التدخين مسموح به في هذه العربة.أشعل سيجارة وعاد يمشط العربة ببصره عله يعثر على خربشة بالقلم فوق أحد المقاعد أو تصادفه مُلصقة اشهارية ممزقة الأطراف فوق البلور المفتوح على الخارج.توقف القطار في المحطة الأولى. انزلق باب العربة على اليمين والشمال ولم يصعد أحد, وإنما تناهى إلى سمعه ضجيج وصياح تعالى من ذيل الثعبان الحديدي.في المحطة الثانية نزلت السائحة وصعدت فتاة تحتضن بين ذراعيها جروا أبيض اللون ومن عنقه تدلت قلادة ذهبية. ظل ينقًل بصره بين صدرها الناهد وذيل الجرو الملتصق بإحدى حلمتيها برهة من الزمن ثم فتح حقيبته وأخرج سكينا ومقصا. وضعهما فوق المقعد بجانبه، وعاود النظر إلى الفتاة... ثم شرع في تجميع وترتيب زهرات الفل والياسمين و يلفها بالخيط الأبيض الرفيع، بحركات بهلواني. سريعة ودقيقة.عندما كان مشغولا بما بين أصابعه لم يتفطن إلى مراقب التذاكر وهو يدخل من الباب الخلفي للعربة ويتجه نحوه مباشرة بعد أن وزع ابتسامته للفتاة وتحيته للشاب والمرأة.ـ التذكرةـ تفضلسحبها من جيب سترته وهو يغلق حقيبته كيفما اتفق ويجمع حبات الياسمين والفل المتناثرة فوق ركبتيه.ـ ماذا تفعل هنا ؟ إنها تذكرة درجة ثانية.ـ لم انتبه, فاجأني القطار فصعدت من أول باب مفتوح.توقف القطار في المحطة الثالثة. نزل مراقب التذاكر حاملا الحقيبة المملوءة بأزهار الياسمين والفل وهو يتبعه من الخلف ويتوسله أن يخلي سبيله.بعد أن خرج من مخفر الشرطة أين حجزت حقيبته بما حوت، قطع السكة في اتجاهها العكسي. اقتطع تذكرة للعودة من حيث جاء وغاب طيفه في الضجيج المتعالي أمام العربة درجة ثانية.

2008/06/26

حوار مع عم خميس زليلة صاحب بابور زمر


...هو الذي كان يجمع أعقاب السجائر من على أرصفة الشوارع والأنهج والأزقة الباردة ليدخنها بشراهة أسطورية... وهو الذي كان ينبش المزابل والحاويات الحديدية هنا وهناك بحثا عن فتات الخبز اليابس ليقضمها رفقة القطط والكلاب السائبة... وهو الذي هرب من ثكنة الجيش الفرنسي بسيارة مصفحة ليحكم بالإعدام مرتين وينجح في الإفلات من تنفيذ العقاب...هو عم خميس كما يحلو لكل رفاقه وأصدقائه أن ينادونه... وهو أيضا المولدي زليلة مثلما هو مسجل بدفاتر الحالة المدنية ببلدية أولاد يانق بجزيرة قرقنة ذات 27 ديسمبر 1917....عم خميس هو الذي عمل كناسا بشركة السكك الحديدية ثم تطوع في الجندية سنة 37 بجيش الباي... والمولدي زليلة هو الذي ناضل في صفوف الحزب الشيوعي وأسس جريدة العامل التونسي والمهاجر بمدينة قرونوبل الفرنسية... قبل أن ألتقيه، وإلى زمن غير بعيد كنت أؤمن بأن قيمة الحياة لا تكمن في الامتداد وطول الأعوام، بل تكمن أساسا في كيفية استخدامها وتوظيف عمر الواحد منا بالشكل الأنسب لامتلاك ناصية حياته... بعد أن عرفته وجالسته لأيام معدودات لم تتجاوز الثلاثة، لم أتراجع عن إيماني هذا، وإنما تعلمت منه أيضا أن العمر الطويل هو الذي يكتنز سر الحياة ومكنوناتها...
وأنت تدخل سنتك التسعين، كيف يمكنك أن تقدّم مسيرتك لقراء الشعب ؟
ـ في ميلادي ، عندما كان عمري ستة سنوات لم أكن جميلا ووسيما فتكوّنت لدي عقدة نقص، ممّا جعلني أنعزل عن أصدقائي وصرت ميّالا لمصاحبة الرجال الكبار والذين تعلّمت من مجالستهم الكثير من خبايا الدنيا، كما أن كل الرجال الذين تعرّفت عليهم في صغري أحبّوني لأنّى كنت أروي لهم ملخصات عن بعض الكتب التي كانت تقع بين يدي مثل سيرة عنترة ابن شدّاد وسيرة سيف بن ذي يزن، فصار لدي فائض من الكبرياء والأنفة يلازمني إلى يوم الناس هذا.كما كنتُ في صغري أدافع عن الحيوانات وعن المرأة والمرضى والصغار والعمّال والفقراء والمهمّشين، فتكوّنت لدي روح نقابية منذ نعومة أظافري، ثم تشكّل وعيي النقابي بعد ثورة أكتوبر ، وبدأت الأفكار تتحرّك في إتجاهات ثلاث (الميناء والسكك الحديدية والترامواي).ثم قدمتُ إلى تونس العاصمة سنة وصرت من جلاّس مقهى الأندلس أين تعرّفت إلى أبو القاسم الشابي ومحمد زين العابدين السنوسي، ثم اشتغلتُ في السكك الحديدية أين بدأ يتشكّل لديّ الوعي السياسي باحتكاكي بالعمّال الإيطاليين، ثم انتميت إلى الديوان السياسي للحزب الحر الدستوري الذي كان يرأسه الحبيب بورقيبة، ومن الأشياء الطريفة التي أستحضرها الآن أنّني طعنتُ رفيقي محمد نصير بخنجر لأنه ظل في شق عبد العزيز الثعالبي فسُجنتُ لمدّة شهرين.أثناء ثورة الأمير عبد القادر الخطابي في المغرب اعترتني رغبة شديدة في الدخول إلى الجيش لتحريض الناس على العصيان والتمرّد على المستعمر الفرنسي وتطوّعتُ فعلا في الجيش الملكي التونسي، وإثر حوادث بباب سويقة استقلتُ من الجيش وكان ذلك قبل أفريل ، ولئن لم يقع القبض عليّ أثناء تلك الأحداث إلاّ أنّني وقعتُ في قبضة البوليس الفرنسي اثر تلك الأحداث وسُجنتُ لمدّة شهرين داخل السجن المدني، ولأنّني فُتنتُ بثورة عبد الكريم الخطابي فقد تطوّعت مرّة ثانية في الجيش الفرنسي إبان الحرب العالمية الثانية ( ـ ) لأهرب منه عندما صعدت حكومة «بيتان» وكانت آنذاك عقوبة الهروب من الجيش الفرنسي تعادل الإعدام، فظللتُ مختفيا من عام إلى نهاية .بعد ذلك انخرطت في الإتحاد النقابي للعمال التونسيين (USTT) وحينها تعرّفتُ على جورج عدّة وعلي جراد وحسين السعداوي وهم المؤسسين الأوائل للحركة الشيوعية في تونس، وقبلها سقطت عني عقوبة الإعدام بعد أن سلّمتُ نفسي للسلطات الفرنسية ووقف آنذاك إلى جانبي الحزب الشيوعي التونسي (P C T) والذي كان قويا في تلك الفترة باعتبار وجود خمس وزراء شيوعيين في حكومة شارل ديغول في فرنسا أثناء الحرب، فسُجنتُ لمدّة سنة واحدة بدلا من تنفيذ حكم الإعدام في، وهي السنة التي أُستُشهد فيها الزعيم النقابي فرحات حشّاد، حشاد الذي اختلفتُ معه على الإنتماء للإتحاد العام التونسي للشغل والإنسحاب من الحزب الشيوعي التونسي. ثم عدتُ إلى الجيش ومن الطرائف التي حصلت لي أنّني عندما كنت مُطاردا من طرف الجيش الفرنسي، كنت أمثّل في مسرحية بعنوان «البهبار» والتي ألفها حمّادي بسيّس وكانت تروي فظاعات السفاح الإيطالي موسيليني والذي تقمّص شخصيته في المسرحية الهادي السملالي.في تلك الفترة تنامى لدي الحس القومي خاصة مع بداية هجرة اليهود للإستيطان بالأراضي الفلسطينية وتملكتني الرغبة في الفرار من الجيش والإلتحاق بالثوار الفلسطينيين، وفعلا هربتُ من الجيش بعد أن استوليتُ على سيارة مصفّحة وقليلا من السلاح، ولكن قبل أن أتجاوز الحدود التونسية باتجاه التراب الليبي التحق بنا الجيش الفرنسي فقتل أصدقائي الثلاثة وهربت أنا إلى جزيرة جربة أين إلتقيتٍ بمحمّد محجوب الذي ساهم في تهريبي إلى التراب الليبي، ومنه وصلتُ إلى مرسى مطروح بمصر حيثُ تدرّبتُ هناك على نفقة الجامعة العربية ثم انتقلت إلى سوريا ومنها إلى لبنان ثم عدتُ إلى ليبيا وقضيت بها سنتين لأعود بعدها إلى تونس ولايزال حكم الإعدام قائما بشأني باعتباري هربتُ بسيارة مصفحة من الجيش الفرنسي، ومع ذلك سقط عني حكم الإعدام للمرّة الثانية وسُجنتُ لمدّة سنة واحدة قضيتها بسجن أفريل.
ثــم عشـت سـنوات الإسـتقلال وبنـــاء الـدول الـوطنـيـة ؟
قبل الحديث عن الإستقلال أودّ أن أذكّر أن الثوّار الذين أخرجوا المستعمر الفرنسي من التراب التونسي هم من الإتحاد العام التونسي للشغل وهو الذي موّل أيضا الحركة الثورية آنذاك رغم معارضة الحبيب بورقيبة.في تلك الفترة دخلتُ مستكتبا للجامعة التونسية لقدماء المحاربين، وكنت أيضا رئيسا لودادية قدماء محاربي فلسطين والتي كان مقرّها بسيدي علي عزّوز، كما بدأت أكتبُ في الصحافة، وكان أول مقال لي أثناء الحكومة المؤقتة سنة وكان قدحا في حكومة بورقيبة الداخلية، كنت قد أوردته بعنوان «قليلا من الواقعية أيها الواقعيون» ، وكانت أول مقالة لي باللغة العربية في صحيفة «الصباح» بعنوان «صاحبة الجلالة، الصحافة» وكتبت عن قضية تونس والجزائر وكتبت في جريدة العمل وقد صُنفت على أساس أنني يوسفي من شق صالح بن يوسف، وتعرضت لاعتداء بالخنجر من قبل الشق البورقيبي ومن المصادفات أني أنقذت من اعتدى علي في وقت لاحق.سافرت الى فرنسا أول مرة يوم 17 نوفمبر 1957 وهناك تعرفت على الماويين والتروتسكيين ثم تعرفت الى المناضل الهاشمي بن فرج وكان العمل مع حركة آفاق وقمنا بحركة عمالية حيث أصدرنا جريدة العامل التونسي ( عند الاشارة لجريدة العامل التونسي تدخل رفيق محاوري المناضل الهاشمي بن فرج ليؤكد على أن جريدة «العامل التونسي» بطابعها التهكمي وباقترابها من الهموم الحقيقية التونسية، كان يمكن لها أن تستمر الى اليوم لولا تدخل البعض من السياسيين التونسيين الذين رأوا أن هذا الأسلوب شعبوي ولا ينطلق من قاعدة ايديولوجية واضحة وكانوا سببا في توقفها عن الصدور!!!)كما كنت ألقي خطابات في جامعة السربون تعرفت على توفيق الجبالي ومحمد ادريس وحسن كركر ورجاء فرحات وجلبار النقاش والهاشمي الطرودي، باختصار جماعة سجن برج الرومي، وأيضا محمد فليس ونورالدين بلهوان ومحمد بن جنات وسيمون بن عثمان ... ثم كوّنا جريدة المهاجر بمدينة غرونوبل، وأيضا الاذاعة الحرة...
هذه التجربة النضالية في فرنسا، كانت استتباعا لأغنية «بابور زمّر « التي أداها الفنان الهادي قلة ، أليس كذلك؟
ـ بالفعل كتبت أغنية «بابور زمّر « وأنا على سطح باخرة «مدينة تونس» باتجاه فرنسا حيث التقيت بالفنان الهادي قلة في مدينة «فانسان» وقد كان آنذاك الهادي قلة يتعلم العزف، فلحن كلمات «بابور زمّر» وصار يؤديها في الجامعات والتجمعات العمالية وأخذت رواجا كبيرا وأنا الى الآن آخذ حقوق تأليف أغنية «بابور زمّر» من فرنسا. ...
وعلاقتك بالرسم هل بدأت في فرنسا أم هنا من قرقنة؟
ـ عندما عدت الى قرقنة سنة 1978 بعد أن خرجت الى التقاعد بسبب المرض وعدت أقوم بنحت الطين ثم صرت أرسم الكاريكاتور ثم رسمت عدة لوحات على الرمل وعلى الجبس وعلى البلور، مثل صورة فرحات حشاد وكنت قد أهديت آنذاك كل أعمالي الى متحف العباسية بقرقنة.
وكيف كانت فكرة هذا المعرض الذي تقيمه الآن بفضاء التياترو؟
ـ الفضل يعود الى المناضل الهاشمي بن فرج الذي بذل قُصار جهده لإنجاز هذا المعرض، وأيضا للمسرحي توفيق الجبالي، وأود هنا أن أشكر رفيقي الهاشمي بن فرج الذي عرفني في فرنسا على الشيخ امام عيسى والشاعر أحمد فؤاد نجم وحمادي العجيمي ومحمد بحر وهو الذي كان همزة وصل بيني أنا والهادي قلة الذي قدم له أغنيتي «بابور زمّر» . كما أود أن أشكر الدكتور حاتم بن ميلاد الذي هو الآن بصدد إنجاز شريط وثائقي حول مسيرتي.
عم خميس لاحظت في هذا المعرض انحيازك التام أولا الى فئات الشعب المفقّر وثانيا الى أسلوبك التهكّمي أو الكاريكاتوري؟
ـ أعشق فن الكاريكاتور لإنعدام القيود والضوابط ولقدرته على إخراج الفكرة بالشكل الأقرب لواقعها، وهذا العشق ليس غريبا علي لأني كنت من أصحاب محمد بيرم التونسي وجون كوكتو وسيمون دي بوفوار. أما عن انحيازي الى المهمشين والمفقرين فهذا أمر بديهي وطبيعي ولا يتطلب تعليق على ذلك . وأنا ـ مثلما لاحظت من خلال معرضي ـ منحاز بالدرجة الأولى الى المرأة المضطهدة ، ولذلك كان أول معرض لي بنادي الطاهر الحداد في الثمانينات، أنا ابن الطبقة المفقرة، هامشي ولا أجد نفسي خارجا عنها، لذلك كتبت ورسمت عن العمال والنساء والمعاقين وكل الذين ينتمون لحزب الفقر . وأيضا وهذا المهم أني وجدت نفسي في الشعر والرسم لأني أعتبرهما من الفنون الحرة والفنون المنغرسة في الارض، في الطبقة المضطهدة والمحرومة. كل المساحة المتبقية أنت حرّ في تحبيرها بما تشاء؟ـ أمنيتي أن أموت وأنا خميس زليلة، ذاك الفقير المهمش ، أمنيتي أن يكافح الشباب ويناضل لأجل الأغنية ، للوحة ، للركح وللشاشة ، أمنيتي أن يستبسل الشباب لأجل حياة أفضل...

2008/06/25

أمين عام المؤتمر القومي العربي خالد السفياني:


مشروع أمريكي لتحويل الصراع العربي الصهيوني الى صراع عربي فارسي
في إطار أحياء الاتحاد العام التونسي للشغل لذكرى النكبة الفلسطينية تمت دعوة الأستاذ المحامي المغربي خالد السفياني الأمين العام للمؤتمر القومي العربي لإلقاء محاضرتين عن القضية الفلسطينية والأوضاع العربية، حيث ألقى محاضرة أولى بالمنستير ومحاضرة ثانية بصفاقس.
وقد انتهزتا وجوده هنا في تونس لإجراء حوار معه وتقديم لمحة للقراء عن المؤتمر القومي العربي وعن مشروعه النهضوي وكذلك للتطرق لبعض التطورات الحاصلة في المنطقة العربية.
* باعتباركم أمينا عاما للمؤتمر القومي العربي، كيف تحددون مفهوم القومية العربية في هذه المرحلة خاصة بعد التطورات الجيوسياسية والتحالفات الراهنة في المنطقة العربية؟ـ في البداية كانت القومية العربية تنطلق من اعتبارها انتماء عرقيا وكانت تشكل أحد مكونات الأمة لكن في نفس الوقت المكون الذي يعتبر إن من حقه الهيمنة الفكرية والسياسية كان يعتبر نفسه أن من واجبه قيادة العمل القومي في الأمة وهذا ما أدى إلى الانشطار والى إساءة تطويق الفكرة القومية في جوهرها، بينما الآن ومنذ تأسيس المؤتمر القومي العربي بتونس منذ 19 سنة أعطي لمفهوم القومية العربية بعد جديد حيث وقع تأسيس هذا المؤتمر من طرف شخصيات تنتمي إلى مختلف مكونات الأمة العرقية والمذهبية والدينية والسياسية... وأصبحت القومية العربية ذلك الوعاء الذي يضم مختلف أبناء الأمة بمختلف انتماءاتهم التي تؤمن بالمشروع النهضوي العربي وان اختلفت رؤيتها في بعض الجزئيات أو بعض القضايا داخلية كانت ام عربية، وفي هذا الإطار كان توجه المؤتمر وهو يطمح ان يكون مرجعية فكرية عربية يطلق الحوار العميق والهادئ بين كل مكونات الأمة ويضع على عاتقه خلق آليات هذا الحوار، وقد تم تأسيس المؤتمر القومي الإسلامي، ولئن كان المؤتمر القومي العربي يضم العديد من القيادات الماركسية والليبرالية والقومية التقليدية والإسلامية فانه عمل على تأسيس هذا الإطار أي المؤتمر العربي الإسلامي من اجل خلق حوار وتنسيق الجهود بين القوميين واليساريين والليبراليين وبين الإسلاميين بمختلف مكوناتهم في الأمة وهو المؤتمر الذي لعب دورا جوهريا في ردم جزء كبير من الهوة التي كانت تفصل بين هذه المكونات التي كانت نتيجتها الطبيعية الاقتتال الداخلي واضعاف جبهة مقاومة أعداء الأمة.
* وعلى المستوى الجماهيري كيف يتفاعل المؤتمر مع هذا المكون الأساسي؟ـ عمل المؤتمر القومي العربي على تأسيس العديد من الإطارات المتخصصة والتي ضمت في صفوفها مختلف مكونات الأمة العربية ويطمح المؤتمر من خلال تجربته الطويلة إلى أن يكون مرجعية شعبية بالإضافة إلى هدفه الأساسي بأن يكون مرجعية فكرية، وهو يحرص أن يكون ضمن أعضائه فعاليات وقيادات فكرية وسياسية وميدانية حتى يستطيع تحقيق هذه الأهداف، وان كان الانتماء للمؤتمر ليس انتماء للأحزاب والمنظمات الثقافية الحقوقية والمدنية، لان العضوية فيه عضوية شخصية مع تأكيد أن المؤتمر القومي العربي ليس حزبا سياسيا ولا يطمح أن يكون كذلك ولا يمكن أيضا ان يصبح حزبا وبذلك فالمهام التي يطرحها سواء فكرية كانت أو ميدانية يبقى على أعضائه في كل الساحات والميادين العمل على تنفيذها وإنجازها.
* هل يمكن إذن أن نتحدث عن قومية حديثة متجاوزة للقومية التقليدية بعد إنجاز المؤتمر القومي العربي خاصة في المستوى التنظيري؟ـ في مستوى التنظير وفي مستوى التنظيم لا يمكن إلا أن نتجه هذا الاتجاه الحديث المتجاوز للتشرذم ويعمل على إرساء مفهوم نهضوي جامع والذي لا يتنكر للفكر القومي التقليدي لكنه لا يظل حبيسا لنظرية من نظرياته او لممارسة من ممارساته ويكفي أن نعرف ان كل مكونات العمل القومي توجد داخل المؤتمر إلى جانب بقية المكونات الأخرى اليسارية منها والليبرالية والإسلامية، ففي المؤتمر القومي العربي نجد بعثيي (سوريا والعراق) وقوميين عربا بالإضافة إلى بقية المكونات، وفي المؤتمر كذلك عرب وأمازيغ وأقباط ودروز ومسلمون شيعة وسُنة وفيه المسيحيون... وهذا التنوع والاتجاه نحو بلورة وإنجاز المشروع النهضوي العربي، وهذا الاحتضان الجامع لكل مكونات الأمة هو ما يمكن تسميته بالقومية الحديثة.
* وعلى مستوى القيادة والتوجيه هل تجاوزتم ذهنية القائد الفرد والمنظّر الواحد؟
ـ من قبل كان القائد الفرد والحزب القائد وكان التفكير والتوجيه محصور فيهما. الآن لا يمكن أن يكون العمل إلا جماعيا، ففي المؤتمر القومي العربي تجد مفكرين وسياسيين وميدانيين وإعلاميين... ومسودة المشروع النهضوي العربي وضعت منذ سنوات وأثيرت بشأنها نقاشات وحوارات متعددة فكانت المسودة الثانية وتلتها مسودة ثالثة وكل ذلك نتيجة لعملنا الجماعي، وقريبا ستطرح المسودة الرابعة لهذا المشروع في الساحات العامة لتصل إلى مشروع متكامل، فالمشروع ليس فرديا ولا يمكن تبنيه من احد ما وهذا وجه من وجوه العمل الحديثة.
* هل يمكن أن تقدموا لنا الخطوط لهذا المشروع؟ـ المشروع ينبني على أسس ستة هي التحرير والديمقراطية والتنمية والعدالة الاجتماعية والتجدد الحضاري، وهي مبادئ متكاملة وليست مجزأة لتحقيق واحدة قبل أخرى، وهو عمل متكامل لتحقيق هذه الأطراف التي نعتبرها خلاص الأمة من الاستعباد الداخلي والخارجي.
* كيف ترون واقع المنطقة العربية بين المشروع الأمريكي الصهيوني ومشروع ما يسمى بالمقاومة والممانعة؟ـ أود أن أشير في هذه المرحلة الراهنة إلى انه يجب أن نكون واعين حتى نفهم ما يجري ونتفاعل معه، فما يجري الآن هو فرز واضح بين مشروعين الأول أمريكي صهيوني والثاني المقاومة والممانعة، وكل ما يجري يدخل تحت هذين المشروعين لان هناك اصطفافا من بعض الانظمة العربية والنخب في دائرة المشروع الأول وهناك اصطفاف ثان في إطار مشروع المقاومة والممانعة وهذا ما يفسر ما يجري في فلسطين والعراق والصومال ولبنان والسودان وغيرهم من بؤر التوتر.
* كيف تنظرون لآليات وأهداف كل مشروع على حدة؟ـ إن الوضع الذي وصفته سابقا يفسر الآليات التي يحاول المشروع الأمريكي الصهيوني خلقها لتنفيذ أ هدافه سواء تعلق الأمر بافتعال وتعميق الصراعات العربية ـ العربية أو الصراعات القطرية أو الدفع بالأمة إلى صراعات مذهبية ودينية (عرب / أكراد) (عرب / أمازيغ) (سُنة / شيعة) وكذلك تحويل الصراع من صراع عربي أمريكي صهيوني إلى صراع عربي فارسي وكذلك الإيهام بأن أمريكا قدر لا مفر منه مثلها مثل الكيان الصهيوني وان على العرب الخضوع والاستسلام لهذا القدر، وكذلك محاولة قلب المفاهيم كأن تصبح مقاومة الاحتلال والدفاع عن الكرامة إرهابا ويصبح الاحتلال والاستيطان عملا دفاعيا، وكذلك محاولة الإيهام بأن رفض الاعتراف بكيان عنصري إرهابي يعتبر معاداة للسامية وما على الجميع إلا الاعتراف به والتطبيع معه، وكذلك من أهداف هذا المشروع الإيهام بأن لا مفر من اجل التحرر من الاستعباد الداخلي إلا بالاستنجاد بالقوى الخارجية وهو ما بدأنا نسمعه لدى العديد من الأنظمة والنخب العربية...
* وبالنسبة لمشروع المقاومة والممانعة، كيف ترون واقعه وآفاقه؟ـ المشروع القائم على المقاومة والممانعة يتجذر يوما بعد يوم في أعماق أبناء الأمة، فهو المشروع الذي يعتبر ان المقاومة هي الطريق إلى الخلاص (مقاومة سياسية او مسلحة) ضد المحتلين وعملائهم والذي يرى في ما تقوم به الإدارة الأمريكية والكيان الصهيوني عنوانا لمحاولة إرساء نظام إرهاب دولي، والذي يعتبر ان لا مكان للكيان الصهيوني وان فلسطين ارض للقاء كل الحضارات والأديان والأعراق، وانه لا محيد عن انهيار المشروع الصهيوني وعن بناء فلسطين، وهو الذي يرى أيضا ان أخطر ما يمكن ان يفكر فيه المواطن العربي هو التطبيع والاستقواء بالأجنبي ويؤمن ان الصراعات الوطنية تحلها القوى الوطنية بمختلف توجهاتها وانتماءاتها، وان ألف ممارسة قمعية من طرف حاكم وطني خير من صفعة واحدة من أجنبي، وهي التي ترى أيضا ان أمريكا والكيان الصهيوني ليسا قدرا ولعل اكبر دليل على ذلك انتصار المقاومة اللبنانية على الكيان الصهيوني واعتبار المنظرين الأمريكيين هزيمة سياسة دولتهم في العراق هي بداية الانهيار.
* تحدثتم عن مشروعين فقط في المنطقة، في حين أود ان أذكركم بأن هناك مشروعا ثالثا وهو المشروع الاورو متوسطي الذي يستهدف بصفة خاصة المنطقة المغاربية وبصفة عامة المنطقة العربية، فكيف ترون هذا المشروع؟ـ المشروع الاورمتوسطي هو وجه آخر للمشروع الأمريكي الصهيوني وهو تكرار لآليات سابقة ولدت ميتة لأنها حملت نفس الأهداف (الاستعمار ونهب الثروات) مثل مشروع برشلونة والشرق الأوسط الاقتصادي والشرق الأوسط الكبير والشرق الأوسط الجديد وكل هذه الآليات هدفها وضع حد للتفكير في جسم عربي واحد ووحدة جغرافية واقتصادية وقيمية واحدة وإدخال الكيان الصهيوني الى الجسم العربي من خلال تشبيك العلاقات معه وتعميق الهيمنة الغربية على العرب.
أوروبا تدخل موحدة والعرب يدخلون أجزاء وأقطارا مقطعة الأوصال ولذلك فقد كان موقفنا واضحا من رفض أي مشاركة في هذا الاتحاد إذا حضر الكيان.

2008/06/23

بين الانتداب والخبرة: شرط العازب

من المفارقات العجيبة الغريبة تلك التي تمرّ أمام أعيننا كلّما تصفّحنا صحيفة ما أو كلّما اشرأبّت أعناق الجيش العرمرم من المعطلين عن العمل الى شاشة التلفاز تلاحق عروض الشغل والِــجَة من اليمين هاربة من اليسار أسفل صندوق العجب. فأغلب عروض الشغل والانتداب المعروضة والمتوفّرة في مختلف الأطر كالصحف والتلفزة والإذاعات والدوريات وفي مكاتب التشغيل... كلّها تنصُّ على شرط أساسيّ لا رجعة فيه، إنّها الخبرة المطلوبة والتي تنصّ على وجوب أن تضاهي خبرة طالب الشغل ما لا يقلّ عن السنوات الخمس!!!
من هذه المفارقة السريالية فعلاً يمكن لأيّ واحدٍ عاقل أن يستشفّ ما به يقضي على تلك الخطوات التي تفصله عن الجنون حدّ الخَبَلِ.. أقول جنونًا لأنّه من المفترض أن تكون هذه الحقائق المُعلنة حافزًا للمزيد من النضال والاستبسال حدّ الموت من أجل حقّ يحقُّ لنا أن يتمتّع به ويحتفل به كل من نذَرَ عمره لبطاقة خلاص شهريّة بعد أن أحرقت منابة الابتسامة على شفاه أولئك المعطوبين الذين تهْرُسهم طواحين السوق الحرّة والعولمة كل لحظة على الأرصفة الباردة...إنّ التنصيص على وجوب توفّر شرط الخبرة بما لا يقلّ عن السنوات الخمس لا يمكن أن يدلّ إلاّ على الرغبة الدفينة لدى عارضي الشغل وبما لا يدع للشكّ والريبة وحسن النيّة ـ في أنّ باب الشغل موصدٌ دائما وأبدا أمام مستحقيه، فببساطة إلى حدّ السّذاجة من يتوفّر لديه هذا الشرط المجحف هو لا محالة يشتغل في مكانٍ ثانٍ، ثمّ انّ من لديه خبرة خمسة سنوات ويطلب شغلا جديدًا هو بالضرورة قد أُطرد من عمل سابق وهو بالتالي ضحيّة لنفس نظام الانتداب...أتذكّر قياسًا لهذه الوضعيّة الشرسة مثلا سيّارًا على كلّ الألسن ذاك الذي يقول «شرط العازب على الهجالة» أتذكّره ولا أدري متى تنتهي مواسمُ ا ستبلاه العقول ومواسم كنس الحقوق التي يتدحرج فيها آلاف المتخرّجين وآلاف المؤهلين لتأمين جيل آخر من عمر البناء.

2008/06/19

وصية جان جونيه


مهداة إلى روح محمد شكري


قالت وأبدت صفحة
كالشمس من تحت القناع:
بعت الدفاتر وهي
آخر ما يباع من المتاع
فأجبتها ويدي على
كبدي وهمت بانصداع:
لا تعجبي مما رأيت
فنحن في زمن الضياع
علي بن محمد الخولاني



"ما عادت أصابعه ترتعش, وزالت تلك الرّجفة العنيدة الّتي كانت تتملّكه في السّابق. صار يتحرّك بخفّة ومن دون توتّر ولا ارتباك, رشيق الخطوات كالبهلوان المحترف. يتنقّل بين الأروقة باطمئنان كبير وبصره يقلّب الرّفوف الخشبيّة المملوءة كتبا, بدراية جيّدة كمن ألف المكان بعد أن أصبح يستأنس بالمكتبي... عين على أكداس الكتب وعين على صاحب المكتبة.
بمرور الوقت أصبح مثل رجل أعمال كبير يضبط برنامج عمل يومي بشكل رسمي ويرتّب التّفاصيل والجزئيّات الحافّة بكلّ عمليّة: الكتاب الّذي سيحتفظ به, الكتب الّتي سيبيعها, ثمّ الحانة الّتي سيسكر فيها. لم يعد يعوّل على الحظّ أو المصادفة.
هكذا العمل أفضل يا معلّمي, فالأمر لم يعد يحتمل التردّد. إمّا أن أكون لصّا ناجحا أو لصّا فاشلا. إمّا أن أسكر وأملأ بطني الخاوية وأقرأ كتابا جديدا, وإمّا أن أنام جائعا كالكلب. عليّ أن أكون مثلك يا معلّمي جان جونيه أو أظلّ مشرّدا بائسا لا يهتمّ بي كاتب ولا يذكرني التّاريخ, وأغوص في لُجّة النّسيان مثل آلاف المشرّدين والبوهيميّين.".
نتف سالم أمين حبّتين من عنقود العنب وألقاهما في فمه, ظلّ يداعبهما بلسانه برهة من الزّمن بين فكّيه ثمّ ابتلعهما الواحدة تلو الأخرى. شرد ببصره في صورة "جان جونيه" المرسومة على غلاف روايته الأشهر "سيّدتنا – سيّدة الأزهار" الّتي حرّر صفحاتها الخمسين الأولى على ورق الأكياس, في زنزانة بسجن لاسانت بفرنسا، ثمّ نظر إلى الفقرة الّتي كتبها على نسخة مستعملة من جواز سفره وبدأ يقرأها بصوت مرتفع للمرّة العاشرة تقريبا. توقّف عند جملة " عليّ أن أكون مثلك يا معلّمي جان جونيه" كرّرها أكثر من مرّة ثمّ أمسك زجاجة البيرّة من عنقها وألصقها بشفته السّفلى وظلّ السائل الأصفر ينسكب في بلعومه إلى آخر قطرة في الزّجاجة وعيناه ثابتتان على المرآة المعلّقة وسط الجدار المقابل تماما...
كان يبحث عن انسجام ما مع ملامح وجهه المنعكسة على بلّور المرآة... على صفاء روحي يمكّنه من الانسلاخ عن أيّة حساسيّة أخلاقيّة مقيتة تثنيه عمّا يجول بخاطره... في الحقيقة كان يبحث عن أيّ شيء يعيد ترتيب حياته ويخرجه من حالة التشيء والعدميّة الّتي صارت تطوّقه منذ أن أنهى دراسته الجامعيّة...
المكتبة منتصبة بكتبها الألف على جانبه الأيسر وصكّ الكتبيّ ملقي فوق الطّاولة حذو صحن العنب والقرار لا يزال معلّقا في ذهنه بين الرّفض والقبول.
هل فعلا طنجة أثمن من مكتبتي؟ هل التسكّع بين أزقّتها وسوقها الداّخلي و"البولفار" والسّكر في حانة "الباراد" واحتساء كأس شاي بالنّعناع في مقهى "زاغورة" أمتع من السّفر بين ثنايا كلّ هذه الكتب؟؟
هل فعلا سينقذني السّفر إلى طنجة أو إلى أيّ مكان خارجي من ضيقي واختناقي هذا أم أنّي بحاجة إلى سفر داخلي في روحي وتصالح مع ذاتي؟؟...
يا إلهي رأسي ستنفجر عمّا قريب. طنجة والبيرّة والكتب هذا كثير على رأسي المسكين. ملعونة هذه البيرّة. لا. لا. لست ملعونة أيّتها الزّجاجة الطيّبة لقد أسعفتني بالقرار العظيم. جيّد. جيّد جدّا سأهدي كتبي الألف الّتي سرقتها على امتداد ثماني سنوات إلى المكتبة العموميّة بالقرية. هذا أفضل, لعلّ أولئك الجهلة التّعساء ينتفعون بما تحمله, ثمّ سأسافر إلى "طنجة الخيانة" دون أن اقتطع تذكرة سفر كما فعلها ذلك اللصّ الأصلع جان جونيه لمّا سافر من مدينة " مو" إلى باريس. هذا جيّد جدّا, أنا لست سكرانا ولا مجنونا. سأسافر هكذا بعد أن أصرف صكّ الكتبيّ قبل موعدي معه مساء الغد, حتما سأحتاج هناك إلى بعض الأموال في البداية لأبعد عن نفسي رائحة التّسوّل الّتي خنقتني في هذه المدينة المزبلة...
الأموال ضروريّة قبل أن أكسب بعض الصّداقات الحقيقيّة الّتي فشلت في إقامتها هنا مع هؤلاء البشر القذرين الّذين يحيطون بي كالقطط السّائبة.

2008/06/12

بالله اربح

اقتصادا في اللغة والكلام، وتجنّبا للثرثرة واللغو العقيمين اقتنيت هاتفا جوّالا مزوّدا بالاذاعة ليرافقني حديث الاثير وتصحبني أوتار الموسيقى في ذهابي وإيابي درءا للسموم التي تنفثها الالسن التونسية في الحافلات والميترو والشارع... وأيضا لألاحق عبر أثيرها تفاصيل البلاد وأخبارها مثلما تشتهي كل محطة اذاعية ان تقدّمها... يوما بعد يوم ضجّت أذناي بسيول الضجيج المخترقة من الاذاعات التي يلتقطها هاتفي: الاذاعة الوطنية، اذاعة الشباب، إذاعة تونس الدولية وإذاعة موزاييك... فأربعتهم يتناوبون على مسامعي بالقرْع والطبل من تباشير الفجر إلى آخر ساعات الليل...
لغة يندى لها الجبين سمجة ووقحة... اخطاء في التركيب وركاكة في النطق والتعليق تنثال على مسامعي أينما نقلتها في مربّعي الاسود مربّع الاذاعات... برامج اذاعية تتشابه وافكار تتوالد من بعضها البعض في دائرة مغلقة... دائرة التمجيد... الشكر... الامتنان... ودائرة المرور العابر على الهموم الدائمة..هذه الدائرة المفرغة والمغلقة صارت تيمتها الاذاعية وميزة تفرّدنا الاثيريّة اعتاد عليها المستمع التونسي حتى نفر من الاذاعات بمواصلة الاستماع اليها هكذا سبهللا كما يقول العرب قديما...ولكن الاكتشاف الجديد الذي منّ عليّ هاتفي الجوّال به وجعلني أقف عليه في المحطات الاربع من دون استثناء هو ذلك الالحاح العجيب من مذيعي برامج الترفيه والتنشيط على المستمعين لربح الجوائز والفوز بها.طبعا برامج التنشيط عالميّة ولها مقاييس وضوابط وشروط علمية واخلاقية وأدبية.. ولكن شروط ومقاييس مسابقات اذاعاتنا عجيبة وغريبة ذلك ان الجوائز مثلا تتمثل في تذكرة حفل مثلا او تبّان سباحة وفي أقصى الحالات خمسون دينارا... هذه من ناحية ومن ناحية ثانية فان طبيعة الاسئلة المدرجة في هذه المسابقات هي من قبيل كم من ساق للكرسي!!! وهل التفاح ثمرة صيفية ام شتوية!! وهل غنت فيروز في لبنان!!! طبعا انا قلت ان الاسئلة من هذا القبيل لاني لا استحضرها حرفيا ولكن سذاجتها المفرطة وتفاهتها المغرقة في الاسفاف لا يمكن ان انساهما ولكن مرة اخرى ما يصيبك بالجنون حدّ الخبل هو ان المستمع المشارك في هذه البرامج وأمام حيرته امام تلك الاسئلة لا يخجل من طلب مثلا ثلاثه مقترحات تسهيلا له او يطلب سؤالا آخر اقل تعقيدا من البحث عن عدد سيقان الكرسيّ!!! هذا طبعا الى جانب المطالبة بحقه في مهلة زمنية للتفكير والتثبّت لئلا يخطئ في معرفة فصل التفّاح!!!من قاعات البث الاذاعي ومن وراء المصدح يتناغم البؤس المعرفي للمذيعة او المذيع مع البؤس المعرفي المضاعف لدى المستمعين فلا يجد المذيع أو المذيعة بدا من اطلاق صرختها عاليا او الاكثار من الالحاح على المستمع بان يربح الجائزة القيّمة... باللّه اربح... هكذا تتكرّر لازمة التجهيل في إطار رسميّ بكل جرأة وأحقيّة!!!

2008/06/09

سياحة تونسية

ونحن في مفتتح الموسم السياحي الصيفي ارتأيت أن أدوّن هذه البطاقة منذ البدء علّها تجدُ صدى لدى القائمين على هذا القطاع وخاصة لدى أصحاب النزل، ولئن يخص الموضوع الذي سأتطرّق إليه فئة غير كبيرة من السياح وروّاد النزل إلاّ أنّه قد يمسُّ الجميع باعتباره يمثّل ذهنيّة بشريّة وممارسة صارت تميّز أغلب أصحاب النزل التونسية والعاملين فيها وأقصد بها خدمة استعمال الانترنت داخل النزل...
فهذه الخدمة الجديدة في نزلنا لم ترتق بعدُ إلى المستوى المأمول أو حتى إلى مستواها العادي ذلك أن أغلب نزلنا من جربة إلى الحمامات مازالت تتعامل مع هذه الخدمة على أساس أنها امتياز بل على اعتبار أنها سلعة تجارية تُباع وتشترى وتتحدّد أسعارها وفقا لرغبة صاحب النزل والحال أنّها غير ذلك بالمرّة ذلك انه في الدّول المتقدّمة صارت مثل هذه الخدمة أمرا عاديا تتوفّر في المقاهي والفضاءات العمومية وفي بعض الدول تجدها في الشوارع... وهي طبعا مجانية وحتى إن كانت بثمن ما فإنّك تجده ضمن تسعيرة المشروب الذي تستهلك...
غير أنّ في تونس مازالت النزل ـ حتى تلك التي من فئة خمسة نجوم ـ تعتبر خدمة الانترنت امتيازا وسلعة، وقد عشتُ مؤخرا بأحد النزل هذه الحادثة المتمثلة في مطالبتي بما قيمته عشرة دنانير عن الساعة الواحدة إذا ما رغبت في استعمال الانترنت!!!
وإذا كانت هذه الخدمة تخص عددا قليلا من التونسيين فإنني أعتقد أنها تخص جل السياح الأجانب، حتى أولئك الذين لا يحملون حواسيبهم المحمولة والانترنت كما هو معلوم صارت لدى الكثيرين أهم من الماء والأكل وبغيابها عن نزل ما قد تُنفر منه السياح وان وجدت في نزل وبمثل تلك التسعيرة المتداولة فإنها ستساهم أيضا في تنفير الرواد وفي تكوين صورة سيئة عن هذا القطاع ولذلك أعتقد أنّه من الضروري الوقوف بحزم أمام هذه الممارسات الاستغلالية واللاقانونية ولم لا سن قانون يجرّم كل نزل يطلب معلوما عن استعمال الانترنت من قبل نزلائه وروّاده...

2008/06/06

قصة قصيرة


حكمة السمكة
لم يدر من أين انهالت عليه كل تلك المعلومات حول أنواع الأسماك وفوائدها, وفي أي البحار توجد أنواع بعينها بكثافة دون غيرها, وما هي مواسم تكاثرها وتزاوجها, وأشهر طرق طهيها وشيها...
كان يسرد على مسامعهم المعلومات بثقة كبيرة أمام انشغالهم الشديد بما أمامهم وهمهمتهم المتقطعة التي تلفظها أفواههم كلما كفت عن حركتها المركزة.
حتى طريقة ممارسة الحب بين جنسي السمك شرح تفاصيلها و"حميميتها" تحت الماء.
بيٌن لهم كيف أن الفم الذي نحركه نحن في أغلب الأوقات لنبصق به أو نسب ونشتم أو نثرثر فيما لا يعني، هو ذاته الذي ينجب لنا كائنا جميلا وذا فائدة نسميه سمكا.
وحدها أوقفت فمها عن الحركة و أصاغت السمع لمعلومته الأخيرة بانتباه جلي. رفعت حاجبيها مندهشة وقالت له :
– ونحن أيضا نفتتح الحب بالقبل وبها ننجب.
ثم استأنفت تحريك فمها بنفس النسق المتسارع، بعد أن أرخت جفنيها على الطبق الماثل أمامها
أعجبته ملاحظتها وكأنها شجعته أكثر على الاستمرار في الثرثرة والانشغال عما أمامه.
رفع كأس البيرة إلى شفتيه وقبل أن يسكبه في جوفه قال لها :
- صحيح أننا نفتتح الحب بالقبل ولكننا الآن صرنا نمارس الجنس أساسا ولا نأبه لفعل الحب.
ألقى بمحتوى الكأس في جوفه وواصل حديثه الذي صار ثنائيا بينه وبينها تحديدا.
قال :
– الواحد منا صار مهووسا باللهاث وبأفضل الأوضاع المريحة في إتمام عملية الجنس وينسى حتى أن يهمس في أذن من معه بكلمة حب واحدة أو حتى إطالة قبلة حالمة.
رفع بصره إليها، بعد أن أشعل سيجارة ونفث دخانها بعيدا عن الطاولة، فوجدها منهمكة بما أمامها, ولما أجاله بينهم واحدا واحدا ألفاهم هم أيضا منشغلين عن ثرثرته بأطباقهم التي بدأت تنفذ, فانتهى إلى السمكة الممددة وسط طبقه هو. نظر إليها مليا وإلى قطعة الليمون بجانبها.
نظر إليه مليا، ثم شرع يلتهمها بعينيه فقط تماما مثلها يلتهم كتب علوم الأحياء وروايات الحب, وظلت الشوكة والسكين نائمتين حذو الطبق لم يلمسهما حتى بطرف أصابعه خجلا من مضيفيه لئلا يفطنوا إلى أنه لا يجيد أكل السمك بالشوكة والسكين مثل أغلب الناس البسطاء.