بحث هذه المدونة الإلكترونية

2012/12/31

نواقيس قديمة لسنة جديدة

عمتم مساء أيها المدعوون إلى حفلات رأس السنة الميلادية الجديدة... عمتم صباحا، أنتم أيها السكارى المنثورين فوق إسفلت المدن/الملاهي وأرصفتها... مرحى لكم جميعا وأنتم تصلون ليلكم بنهاركم وسنتكم بلاحقتها... بالشمع المعطر والخمر المعتق... بنكات السنة الماضية وقبل السنة القادمة... مرحى لكم وأنتم تخيطون النصف بالنصف بحكايات حذاء سندريلا ونواقيس الملاعق الفضية... مرحي لكم أيها السكارى الساهرون داخل مخيمات الورد... أيها الآمنون بحسن الأمن... مرحى لأصدقائي القدامى وهم يلفون قطع المرطبات بين أوراق صحيفة وشحت صفحتها الأخيرة بمقاطع من قصيد "ثلاث أمنيات على بوابة السنة الجديدة" لمظفر النواب... مرحى لأصدقائي القدامى وهم يتدافعون أمام بائع البطاقات البريدية يرسلونها مضمونة الوصول إلى نيويورك... أو إلى نيو أصدقائهم... مرحى لهم وهم يفعلون كل هذا ويتذكرون _ فقط يتذكرون _ مقطعا شريدا من أغنية "بنت الباي" للأزهر الضاوي : "... لا وسكي في الري فيون ..." مرحى لكم بالوسكي الأمريكي... عمتم صباحا مساء وكل رأس سنة جديدة أيها العروبيون، الوطنيون، التقدميون، الأبيقوريون حد الموت... الموت... صباح الموتى... مساء الموتى... كل عام وأنتم موتى... عمتم مساء أيها الساقطون في اللهب... عمتم صباحا أيها الصاعدون من اللهب... كل سنة وأنتم ناهضون من اللهب... قادمون من اللهب... سائرون باللهب إلى الأمام... أعلى من اللهب... عمتم مساء أيها الفلسطينيون المشردون في مخيمات الريح... عمتم صباحا أيها العراقيون المذبوحون بين المشانق والزنابق... كل عام وأنتم مقاومون... صامدون... عائدون... محتفلون بالقوارير والشمع شظايا في وجه الأمريكيين... الإسرائيليين... العروبيين... الوطنيين... التقدميين... الأبيقوريين حد الموت... صباح المجازر... مساء الجَنَائز... كل عام وأنتم ناهضون من المَجَازر... كل عام وأنتم عائدون من الجنائز... كل عام وأنتم مُقاومون أيها الفلسطينيون... كل عام وأنتم مقَاومُون أيها العراقيون... كل عام وأنتم مُقاومون أيها السوريون... كل عام وأنتم صَامتُون أيها العروبيون... مَرحَى لكم أيها الفلسطينيون بالقذائف، بالمدافع، بالحرائق، بالمعتقلات، بالمذابح والمجازر... مَرحَى لكم بالسنابل والكرمل والبرتقال... مَرحَى لكم بهويتكم توقعونها كل رأس سنة بالحجر... مَرحَى لكم أيها العراقيون بحزن النخيل، بسجن أبو غريب، بقبضة الطوائف، بالعرق العراقي، بالحفل الأممي الذي دُعي له النفط ولم يدعَ له العراق... مَرحَى لكم بهويتكم توقعونها كل رأس سنة جديدة بالمتفجرات... كل عام وأنت وطن أيا عراق... كل عام وأنت وطن أيا فلسطين... كل عام وأنت وطن أيا سوريا... كل عام وأنت مستعمرة أيا جغرافيا المنافي... كل عام والفلسطيني لا يخطئ عد السنوات :1948... 1948... 1948... 1948... 1948.. كل عام والعراقي لا ينسى عد السنوات :9 أفريل 2003... 9 أفريل 2003... 9 أفريل 2003... 9 أفريل 2003... كل عام والعروبي يتقن عد السنوات:...2003...2004...2005...2006...2459... كل عام وأنا أكتب بالحبر الأسود... كل عام وأنت تقرأ بالنظارة السوداء...

2012/12/27

المأتم السياسي

تعرف الانتخابات في ظل الأنظمة الدكتاتورية حالة من التوتر والتشنج تصل حد العنف والقتل، وتغذي هذه الحالة النزعة القبلية والعصبية المتشددة التي تشرع كل أنواع التعدي على المرشحين والمنتخبين على حد السواء، ويتغلب منطق القوة و"الفتوة" و"الرشوة السياسية" على قانون الانتخابات وعلى البرامج الانتخابية، ويبدو أننا في تونس سنعيش الانتخابات القادمة، إن حصلت، تحت مظلة الدكتاتورية الناشئة خاصة أن عديد المؤشرات بدأت تطفو بشكل علني منذ مدة لعل أبرزها غموض القرار السياسي من قبل الحكومة المؤقتة في علاقة بتفعيل الهيئة المستقلة للانتخابات وهي الهيئة التي من شأنها أن تضمن حدا أدنى من الشفافية ونزاهة العملية الانتخابية، إلى جانب التراخي المفضوح في كتابة الدستور والتعجيل بالانتهاء منه في ظرف سنة مثلما تم الاتفاق على ذلك قبل الانتخابات الفارطة، هذا فضلا عن حرب النيابات الخصوصية بالبلديات وتغليب المصلحة الحزبية على حساب الكفاءة والمصلحة الوطنية في تسيير دواليب الدولة وهياكلها التنظيمية باستعمال النفوذ السلطوي، إلى جانب استعراض القوة في أكثر من مرة... والإصرار على الإقصاء الجماعي تحت مسمى قانون "التحصين السياسي للثورة" والسعي إلى فرضه دون حوار، وطبعا المحاولات المتكررة للسيطرة على وسائل الإعلام وتوجيهها للطرف الماسك بالسلطة الآن خاصة بعد تعليق أعمال الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام... هذه المؤشرات وغيرها التي لا تخدم المسار الديمقراطي والعملية الانتقالية من مرحلة الديكتاتورية والانتخابات المزيفة إلى مرحلة الشفافية والديمقراطية، تضاف إليها اليوم أساليب موغلة في الهمجية والاستهتار بحلم هذا الشعب في حياة ديمقراطية، أساليب بدأت تطفو على المشهد السياسي منذ أن سقط رأس الديكتاتورية، حيث أصبحت جل الأحزاب المدنية تحديدا مُستهدفة بشكل مباشر سواء في قياداتها أو في قواعدها ومقراتها، وفي كل مرة تتحول التظاهرات العامّة، إلى ما يُشبه "المأتم"، خاصة بعد أن بلغ الأمر إلى حد القتل العمد، كما أن اغلب الاعتداءات المتكررة على أهل الفكر والثقافة والفن وعلى النقابيين والحقوقيين كانت كلها في خدمة السياق السياسي العام المراد إقراره بالقوة، وهو نسف لكل إمكانات الانتقال الديمقراطي السلمي. العنف السياسي بلغ ذروته يوم 4 سبتمبر عندما استبيحت بطحاء محمد علي، وما شهدته سيدي بوزيد كذلك من اعتداء بمناسبة احياء الذكرى الثانية لانطلاق ثورة الحرية والكرامة، وكانت الاعتداءات في جربة يوم 22 ديسمبر 2012 الجاري أخر حلقاتها، ودون الإحالة على القيادات النقابية والسياسية والوطنية المستهدفة والأطراف التي تمارس التحريض السري والعلني والتي باتت معلومة، فان "المبررات" المطروحة من قبيل "الثغرات" الأمنية داخل الجهاز الأمني وتساهله في أكثر من حادثة، وتسريب السلاح من ليبيا أو الجزائر، وكذلك إطلاق سراح عديد المساجين جميعها وغيرها كان يمكن تداركها وإيجاد الحلول المناسبة لها حتى لا نصل إلى نقطة اللاعودة بعد أن صارت تونس في القائمة السوداء للدول، غير أن الإرادة السياسية غائبة ولم نشهد إلى حد اليوم سوى الاستهتار الكامل والمخجل من قبل من يمسك بدواليب الحكم أمام هذا العنف الذي يتواتر بشكل يومي ومُمنهج يضرب في العمق منسوب الثقة بين الفاعلين السياسيين، ويستنزف بالدرجة الأولى "الطاقة الثورية" التي من المفترض أن تغذي المسار الانتقالي الديمقراطي، ويكرس قناعة مفادها ان العنف تحول إلى أسلوب إدارة الفشل لا غيره.

حكومة "المايباخ" وثورة "التكتك"

سيُحشر الشعب التونسي في علب "التكتك" ليتنقل بها بين الحفر والطرقات المهترئة، مجازاة له على دمائه التي سالت على الطرقات نفسها، وسينعم بعضهم بسيارة "المايباخ" ليتنقلوا بها من قصورهم الفخمة إلى المطارات، ليتمتعوا بنعم الثورة التي لم يشاركوا فيها أبدا... فبين سرعة أفخم سيارة على وجه الأرض "المايباخ"، (300 كلم في الساعة) والتي أهدى واحدة منها القذافي لبن علي، تلك المعروضة الآن بمعرض كليوبترا بضاحية قمرت، وبين سرعة "التكتك" (لا تتجاوز 50 كلم في الساعة) وسيلة النقل المزمع توريد 21 ألف واحدة منها إلى الطرقات التونسية، بين السرعتين يمكننا أن نقف على الهوة العميقة بين مطالب الثورة الشعبية وبين "الحلول" التي تطرحها الحكومة الحالية... ويمكن أن نتبين الصورة الكاريكاتورية التي نحن بصددها... أما سيارة "المايباخ" تلك المركونة تحت أضواء معرض قمرت، إلى جانب عشرات السيارات المماثلة فخامة وغلاء، في انتظار من سيظفر بها ويدفع سعرها الذي قد يفوق الثلاثة مليارات من مليماتنا، فضلا عن الإضافة الرمزية لسيارة "الطاغيتين"، وهو مبلغ يمكن أن يفتح أكثر من شركة قد تضمن أكثر من مائتي موطن شغل، ويمكن للمبلغ عينه وأكثر أن تضمنه الدولة لو جعلت من معرض كليوبترا بقمرت معرضا سياحيا مفتوحا دائما للزوار مثل المعرض الملكي بالأردن الذي يدر أرباحا محترمة للدولة من خلال عائدات الزيارات اليومية له... خاصة أن معرض الأملاك المصادرة شهدت زيارة 451 زائرا في اليوم الأول و385 زائرا في اليوم الثاني وهذا الرقم يوفر 11 مليونا و550 دينارا باعتبار أن تذكرة الدخول 30 دينارا للزائر. ويمكن أيضا استغلال آلاف القطع والتحف والوثائق التاريخية والنادرة للفترة البورقيبية، تلك المنذورة للتلف والغبار والنسيان داخل القصر الرئاسي، وعرضها في فضاء آخر يمكن أن يكون هو أيضا موردا من موارد الدولة وفضاء يشغل أكثر من شخص... غير أن فن إتلاف الذاكرة ونسف التاريخ يبدو انه الفن الأكثر امتهانا لدى الحكومات المتعاقبة، فمثلما "مسح" نظام بن علي سجن 9 أفريل من فوق الأرض، هاهي الحكومة الحالية "تبيع" التاريخ في المزاد العلني تحت الأضواء الكاشفة والابتسامات المجانية... إن مثل هذه الأشكال لا تساهم إلا في تعميق الفجوة الاجتماعية والاقتصادية بين ملايين الشعب المفقرة والمسحوقة من جهة وبضع مئات من "الرأسماليين" الذين يمتصون عرق العمال ليقتنون سيارة بأكثر من مليار ونصف المليار... وأما "سيارة التكتك" التي أعلن رئيس الحكومة المؤقتة أنه سيتم توريد قرابة العشرين ألف وحدة منها بداية من السنة القادمة في إطار "مشروع نموذجي"، فهو مشروع مثلما انتقده سواق التاكسي يهدد أكثر من 60 ألف موطن شغل، هذا فضلا عن كون المدن التونسية تعيش حالة اختناق كبيرة، ولا يمكن أن تكون هذه السيارات مواطن رزق دائمة وحقيقية... ومن المفارقات المضحكة أن يتزامن رواج خبر توريد واستغلال حوالي 21 ألف عربة تكتك، مع تدشين الصين لأطول خط للقطارات فائقة السرعة في العالم يربط بين بكين في الشمال وكانتون في الجنوب في رحلة طولها 2300 كلم وتستغرق ثماني ساعات، ثلث المدة التي يستغرقها القطار العادي...

2012/12/24

التحوير الوزاري والمحاصصة الحزبية

لم يعد خافيا على أحد أن "تنصيب" و"تعيين" الوزراء لم يعد خاضعا لمبدأ المسؤولية بقدر ما ارتبط بالمحاصصة الحزبية وبتوزيع الحقائب حسب الولاءات، والتعامل مع هذه المسؤولية بمنطق الغنيمة، كما أن عملية التحوير الوزاري باتت تشبه البالونة الفارغة ما أن تحدث أزمة في البلاد إلا وتطفو من جديد معلومات تفيد بأن تحويرا وزاريا مرتقبا سيتم الإعلان عنه وهو ما يحدث هذه الأيام... ولئن طالبت عديد الأحزاب والشخصيات السياسية ومنظمات من المجتمع المدني بضرورة تقليص العدد الكبير للوزراء والمستشارين، إلا أن دعواتهم ذهبت أدراج الريح، غير أن الخطاب الأخير للرئيس المؤقت عقب أحداث سليانة الأليمة، الذي دعا فيه إلى تقليص عدد الوزراء أثار جملة من الردود التي انسجمت تقريبا كلها حول ضرورة تقليص العدد واختيار الكفاءات وتحييد وزارات السيادة، وظلت حركة النهضة بمفردها "مستنفرة" من خطاب رئيس الجمهورية، هذا فضلا عن أن رئيس الحركة لا يتوانى في كل مرة على التصريح لوسائل الإعلام بموعد "افتراضي" لتحوير وزاري مرتقب... ولكن قبل هذا التحوير الوزاري الذي لم يحصل بعد، انتظر جزء كبير من الشعب في أكثر من مرة أن يُعلن وزير ما عن استقالته مثلما يحدث في الأنظمة الديمقراطية، أو تتم إقالة وزير ما "تخاذل" في أداء واجبه الوزاري مثلما تقتضي ذلك أيضا الشروط الدنيا للديمقراطية، غير أن مثل هذه القرارات لم تكن واردة بالمرة في التوجه العام لهذه الحكومة رغم أن ما حصل مثلا في سليانة كان يستوجب فعلا إقالة أكثر من وزير، هذا فضلا عما يحدث من ارتباك وتعثر واضحين في سياق الانتقال الديمقراطي وفي منظومة العدالة، وتراجع واضح في مستوى الديبلوماسية التونسية، وضبابية التوجه الاجتماعي والاقتصادي وجمود الحركة الثقافية... وهي كلها سياقات مرتبطة بالأداء الوزاري... إن عملية التحوير الوزاري تفترض قاعدة أساسية ترتبط أساسا بكيفية الأداء الوزاري لا بمن يمسك حقيبة الوزارة، لكن يبدو أن هذه القاعدة معطلة اليوم باعتبار أن ما يتوارد علينا من أخبار وتسريبات تدور كلها في فلك الأسماء والانتماءات الحزبية، وضمن سياق تقسيم الأدوار وفقا لقاعدة "الأغلبية" النيابية داخل الترويكا، ليتم اختزال "البديل" السياسي والاجتماعي والاقتصادي في الأسماء والأشخاص والأحزاب... بديلا لا نرى مؤشرا واحدا لنقطة نهايته. إن الحوكمة الرشيدة تقتضي وجوبا قلب القاعدة العمودية للتسيير والإدارة، لأنها تنبني أساسا على قاعدة المشاركة في اخذ القرار وتفعيله وفي رسم الخطط الكبرى والتوجهات العامة، كما أن هذه الحوكمة المنشودة اليوم في تونس تقتضي وجوبا أن يكون الأداء الوزاري "ثوريا" بأتم معنى الكلمة حتى ينسجم مع الشعار الذي وحد كل التونسيات والتونسيين: "شغل، حرية، كرامة وطنية".

2012/12/10

ديمقراطية الهراوات تدفعنا الى الاضراب العام

في الوقت الذي انتظرنا فيه أن يحمل الناس باقات الزهور لرجل ضحى بدمه من أجل تونس اسمه فرحات حشاد، وفي الوقت الذي انتظرنا فيه احتفالا رسميا وشعبيا بذكرى استشهاد زعيم وطني ونقابي أهدى لتونس وللوطن العربي عموما أول منظمة نقابية ساهمت في دحر المستعمر عن ارض تونس، وفي الوقت الذي انتظرنا فيه أن تقدم وسائل الإعلام برامج تعرف بمسيرة وتاريخ هذا العلم التونسي... لم يجد النقابيون والنقابيات سوى الهراوات والعصي والجحود والنكران من ناس احترفوا العنف لغة وفعلا... وشهدت بطحاء محمد علي يوم الثلاثاء 4 ديسمبر فصلا جديدا من فصول الديكتاتورية الناشئة... والالتفاف على الثورة... حشاد مفخرة تونس... والعالم إن الذين تسلحوا بالهراوات والعصي والآلات الحادة واقتحموا بطحاء محمد علي للتهجم على الاتحاد العام التونسي للشغل في يوم احتفاله بذكرى اغتيال فرحات حشاد يمكن تصنيفهم إلى صنفين، الأول يُعادي العمل النقابي تماما لأنه في نظره بدعة وحرام ومرجعهم في ذلك الأنظمة الديكتاتورية الخليجية، والجزء الثاني هم المُغرر بهم، أولائك البسطاء من الشباب الذين تحولوا إلى أداة ووسيلة لا تتقن سوى ممارسة العنف في كل مناسبة وطنية ولعل أحداث 9 أفريل الأخيرة خير دليل على هذا المسار الغريب عن شعب توحد ضد النظام السابق، غير أن المصالح الحزبية الضيقة ضربت هذه الوحدة باسم الدين ثم اختلقت "هيكلا" لتشريع العنف اسمه "رابطات حماية الثورة" وراهنت فيه على منطق القوة والفتوة من المصابين بتصحر ثقافي وفكري لتدفعهم في وجه النقابيين والحقوقيين والمدنيين العزل الا من مطالبتهم بالعدالة الاجتماعية... ولأن الوجوه التي شاهدناها تتهجم على بطحاء محمد علي لا تعرف من هو فرحات حشاد فإننا نذكرهم بأن هذا الرجل مثل شوكة حقيقية في حلق المستعمر الفرنسي الذي بدأ بالتفكير في عدة خطط لإزاحته من الطريق منها وضعه في السجن أو تحديد إقامته في منزله أو حتى قتله، وقد أنشأت فرنسا آنذاك منظمة كاملة مهمتها الوحيدة اغتيال فرحات حشاد فكانت المنشورات الموقعة من منظمة اليد الحمراء التي كانت تعمل إلى جانب المستعمر الفرنسي مع المخابرات الألمانية إلى جانب عمليات التخريب والتهديد ضد منزل فرحات حشاد وأسرته والأصوات المطالبة برأسه مدخلا ممنهجا لاغتياله صبيحة اليوم الخامس من ديسمبر 1952 وعندما أعلن نبأ اغتياله في الإذاعات اجتاحت المظاهرات مدن العالم من كازابلانكا إلى القاهرة ودمشق وبيروت وكراتشي وجاكارتا مرورا بميلانو وبروكسال وستوكهولم... وغيرها من العواصم الأوروبية. انتفض العالم بأسره من أجل دم فرحات حشاد الذي كرس حياته إلى جانب أحرار تونس لرفع ظلم المستعمر عن الشعب التونسي وبناء دولة مستقلة ديمقراطية نبراسها العدالة الاجتماعية، وظلت كل المنظمات النقابية تحتفل بذكرى فرحات حشاد وتفتخر بتاريخه المجيد، إلى أن عشنا احتفالات الستينية بطعم مر سيظل وصمة عار في تاريخ تونس ما بعد الثورة... الثورة التي أجج سعيرها الاتحاد العام التونسي للشغل... الاتحاد: تونس قبل السلطة ما يحصل اليوم من طرف حركة النهضة تحديدا، يعيدنا بالذاكرة إلى الأيام الأولى للاستقلال لنتبين مدى ترفع الاتحاد العام التونسي للشغل عن "الاستئثار" بالسلطة يوم كانت بيده، فالتاريخ يذكر أن مؤشرات الخلاف بين الحركة النقابية والحبيب بورقيبة بدأت شرارتها بعيد إبرام اتفاقيات الاستقلال الداخلي، فبعد الزج بالزعيم النقابي فالحبيب عاشور في السجون والمنافي إلا أن القيادة النقابية آنذاك كانت مؤهلة لإدارة دواليب الحكم والاضطلاع بالدور الرئيسي في قيادة معركة الشعب التونسي للقضاء على التخلف الاقتصادي والاجتماعي وتحقيق النهضة والتقدم خاصة أن التناقض الرئيسي في ظل معطيات تلك المرحلة الانتقالية الحاسمة هو التناقض بين الطبقة العاملة وسائر الفئات الشعبية من جهة، وبين الطبقة الإقطاعية والبورجوازية التقليدية من جهة أخرى، غير أن الحزب الدستوري آنذاك سعى بكل جهده إلى التحريض على الاتحاد وتشويهه واتهامه بالتحريض على التطاحن الطبقي وبالعمل على تفريق وحدة الأمة، فما كان من القيادات النقابية إلا أن تقوم بتعديل خطابها وإعلاء المصالح المشتركة في عهد الاستقلال لكنها أبدت تشككها في إمكانية ذلك وأكدت على ضرورة أن تتحول الوحدة القومية إلى وحدة شعبية أما بعد "انقلاب" 7 نوفمبر 1987 فالتاريخ يذكر جيدا كيف رفض الطيب البكوش الأمين العام آنذاك للاتحاد، رفض الانخراط في الحلّ المقترح من السلطة الجديدة لأزمة الإتحاد العام التونسي للشغل (المكتب الشرعي والمكتب الانقلابي الذي عرف بتسمية الشرفاء في أواخر حكومة مزالي)، ومع ذلك حاول بن علي أكثر من مرة مغازلة الطيب البكوش واحتوائه وإغرائه بمنصب وزاري فلم يتزحزح عن موقفه، ويذكر التاريخ أيضا أنه بمناسبة الاستفتاء على الدستور في 26 ماي 2002 صرّح الطيب البكّوش بأن "على رئيس الدولة ألا يتجاوز العشر سنوات في الحكم" وهو ذات الموقف الذي نادى به في إتحاد الشغل منذ ثلاثين عاما، لتنطلق المضايقات والملاحقات للنقابيات والنقابيين، وحتى التزكية التي يتشدق بها اليوم عديد "الوجوه السياسية" من حزب حركة النهضة تحديدا، فالكل يعلم أن أغلب أعضاء الهيئة الإدارية الوطنية المنعقدة في شهر جويلية سنة 2009 رفضت ترشيح بن علي لرئاسية رابعة وكانت بطحاء محمد علي تعج بالقواعد والقيادات النقابية الرافضة لتزكية بن علي... النهضة: الحزب قبل تونس... بعد الثورة، تجند أعداء العمل النقابي منذ مؤتمر طبرقة للاتحاد العام التونسي للشغل، حيث سعت حركة النهضة جاهدة لا للتموقع داخل المكتب التنفيذي بل ذهب بها الطموح إلى حد الاستحواذ على كامل المكتب التنفيذي الوطني للاتحاد العام التونسي للشغل، وبعد أن فشلت في ذلك فشلا تاريخيا انتهجت طريق السابقين، فتتالت حملات التشويه لقيادات نقابية وتم تعنيف أكثر من نقابية ونقابي وتم إلقاء الفضلات أمام المقر المركزي للاتحاد وسعت بعض الأطراف إلى حرق المقرات الجهوية والمحلية لاتحادات الشغل، إلى أن أبانت حركة النهضة عن عدائها للاتحاد بعد أن رفضت المشاركة في مبادرة الحوار الوطني من أجل التوافق الذي نظمه الاتحاد العام التونسي للشغل بغاية تحقيق أهداف الثورة واستحقاقاتها، وانسجمت مواقف قياديي حركة النهضة حول حصر دور الاتحاد في مربع المطالب المهنية، بل بلغ الأمر إلى أن دعت الحركات السلفية إلى إنشاء نقابات إسلامية... إن الهجوم المدروس على الاتحاد العام التونسي للشغل من طرف حزب حركة النهضة، والى جانب طابعها الديني، فأنه يندرج ضمن سياق خدمة البورجوازية والرأسمال اللاوطني وخدمة الشركات الأجنبية والقوى الاستعمارية الامبريالية التي تسعى لسرقة خيرات بلادنا والتي تقدم لهم النهضة كل التسهيلات وتبيع لها أرض تونس وسمائها... كما أن حركة النهضة، التي تستأثر بحكومة الترويكا، ساهمت بشكل كبير في احتقان الشعب التونسي بسبب تراخيها في حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية بالأساس، هذا فضلا عن ازدواجية خطابها وممارستها تجاه التجمعيين، إلى جانب الالتفاف على عدة وزارات لعل أهمها وزارة العدل، وكذلك تعثر مسار العدالة الانتقالية وتحديدا قضية شهداء وجرحى الثورة، وتلاعبها بالهيئة المستقلة للانتخابات والهيئة المستقلة لإصلاح الإعلام... هذا فضلا عن التحامل المجاني على منظمات المجتمع المدني وتحديدا الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات... وطبعا محاولاتها الدؤوبة لتدجين وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة... ولم يعد خافيا أن هذه المعطيات باتت بمثابة الحقائق خاصة بعد أن بدأ حزبا المؤتمر من اجل الجمهورية والتكتل من اجل العمل والحريات في التعبير عن قلقهما إزاء سياسة الهيمنة داخل الترويكا من قبل حركة النهضة، وهو ما تجلى بشكل واضح بعد الخطاب الاخير لمنصف المرزوقي الرئيس المؤقت للجمهورية التونسية... النهضة وديمقراطية الهراوات... لم تتنصل حركة النهضة من إطارها الحقيقي والتاريخي الذي انطلقت منه عندما كان اسمها "حركة الاتجاه الإسلامي"، وبدأ الوجه الحقيقي لهذا الحزب ينكشف بشكل تدريجي، فانطلقت الحركة في ضرب الأسس المدنية والجمهورية للدولة التونسية ومحاولة تنميط وقولبة الشعب التونسي، ضاربة عرض الحائط الخصوصيات الثقافية والفكرية والحضارية المتعددة والمتنوعة لتونس، ولم يسلم من هذا المخطط لا الفنانون ولا المبدعون ولا الطلبة ولا الحقوقيون ولا النقابيون ولا الإعلاميون، وجندت حركة النهضة كل ما في وسعها لترسم شرخا عميقا بين المواطنين باسم الدين، بتصنيفها البدائي بين العلمانيين والإسلاميين، ولئن بدأت هذا التقسيم قبل انتخابات 23 أكتوبر في شكل أقاويل وخطب في المساجد وفي المنابر الإعلامية وحملات على المواقع الاجتماعية ـ بلغ مداها بتلك الصفحات التي تحرض على صنع "المولوتوف"ـ فإن الأمر أخذ منعرج العنف والصدام بعد أن اعتلت الحركة سدة الحكم، ولم يعد احترام قانون التعايش المشترك موجودا في عرف قياديي الحركة وأنصارها، بل بات منهج التهديد والتعنيف حد القتل والسحل والدفاع عن ما يسمى "رابطات حماية الثورة" هو المنهج السائد بغاية تأسيس ديكتاتورية جديدة... مواصفات حكومة النهضة... في الأشهر القليلة الماضية غيرت حركة النهضة من خطابها المتعنت، وصرح عدد من قيادييها بأن "السلطة أغرتهم"، وبأن وجودهم في مواقع التسيير والحكم لم يَخلُ من بعض الارتباك والهنات، غير أنهم لم يعتذروا مطلقا، بل عادت سياسة المكابرة والمعاندة خاصة بعد أحداث سليانة، حيث قرن رئيس الحكومة إقالة الوالي باستقالته هو، كما تجند كل قياديي النهضة وقواعدها لاتهام الاتحاد الجهوي للشغل بسليانة وكل من شكري بالعيد وحمة الهمامي عن الجبهة الشعبية وكذلك حركة نداء تونس بالوقوف خلف أحداث سليانة المأساوية، وبلغ التعنت بحركة النهضة أن صرح نجيب الغربي المسؤول عن الإعلام بالحركة من أن النقابيين اعتدوا على أنفسهم في بطحاء محمد علي يوم الثلاثاء الفارط في الوقت الذي أكد فيه الصحبي عتيق رئيس كتلة النهضة في المجلس التأسيسي أن العديد من القيادات المحلية والجهوية لحركة النهضة قد تنقلوا "للاحتفال بذكرى فرحات حشاد"... وفي نفس التوجه لم يخجل وزير الفلاحة محمد بن سالم من محاولة استبلاه التونسيين وتأليبهم على الاتحاد العام التونسي للشغل عندما قال في احد المنابر التلفزية أن الزيادات في الأجور هي التي ساهمت في تعطيل مشاريع التشغيل... هكذا إذا "تفوز" حركة النهضة بأهم مواصفات الحكومات الفاشلة تلك التي تعتمد في إدارة الشأن العام على افتعال واختلاق الأزمات وإلقاء التهم الجزاف على غير المسؤولين... واعتماد سياسة الهروب إلى الأمام... غير أن هذه السياسة تعجل بنهاية سياسة حركة النهضة، فشماعة "السلفيين" تم استعمالها وانكشفت، وهاهي شماعة رابطات حماية الثورة تُسقط ورقة التوت عن الحركة في انتظار أن تكون الشماعة الثالثة والأخيرة حزبي المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل من أجل العمل والحريات، لتجد حركة النهضة نفسها في مواجهة مصيرها وهو المواجهة المسلحة مع الشعب التونسي الأعزل لفرض الديكتاتورية من جديد...