بحث هذه المدونة الإلكترونية

2010/03/29

الأرض الأرض...

لن تدور الأرض أبدا دورتها الطبيعية إن لم يدر العدل فوق أديمها دورته العادلة...
ستبقى على خرابها ودمارها إن بقى ماردها الأعظم يُكبر من يشاء ويصغر من يشاء...
ستظل الأرض هي الأرض غير أنها ستظل واقفة في زمنها الحربي ومعطلة في أفقها العدائي، جامدة غير متحركة إلا بكذبتها الميتافزيقية التي تنأى بأنفاس البشر بعيدا عن الطين المبلل بالعرق والمغمّس اليوم بالدم العراقي والفلسطيني واللبناني...
يوم الأرض الذي يوافق 30 من كل مارس منذ 1976، يوم مات ستة شهداء دفاعا عن الارض ويوم قرر إسحاق رابين مصادرة قرابة 20 ألف دونم من أراضي دير حنا وسخنين وعُرابة في الجليل... لم يكن يعرف أن الفلسطيني يأكل التراب ويتوسد الحجر ليعلق بأسنانه رائحة الرحم الذي أنجب جده ووالده والذي سينجب ابنه وابن ابنه ليتسامق كزهر اللوز وأبعد ويتطاول كعريش الكرمل وأجمل ويتحلى كعرجون الزيتون وأنضج فوق الأرض المخصبة بالحرية...
منذ 1948 والأرض الفلسطينية تدهسها الآلة الحربية الصهيونية وتدعكُ ترابها بلحم أبنائها من اجل إنشاء دولة مفتعلة ركيزتها المستوطنات اليهودية وترحيل الفلسطينيين وتهجيرهم إلى أصقاع الدنيا وأطراف الأرض...
الأرض الفلسطينية التي صار مركزها الصهيوني وهامشها الفلسطيني توقفت منذ زمان عن الدوران الطبيعي لأن قانون دورانها إلى اليوم مازال يتجاذبه قانون العودة لأي يهودي في العالم وقانون الغائب لكل فلسطيني مشرّد وتغذيه منذ سنوات قليلة فكرة المنظّر اليهودي «جابوتنسكي» حول الجدار الحديدي الذي عنّه ارتفع جدار الفصل العنصري منذ عام 2003 بطول 622 كلم أي ما يقابل نصف مساحة الضفة الفلسطينية وهو إلى اليوم سائر في تقدمه حيث بلغت أشغاله 300 كلم متوغلا في أراضي الضفة الغربية...
حرية حركة الأرض ودورانها إذن انتهكت بهذا الجدار الفاصل لوأد الأرض الفلسطينية وردم العدل الإنساني تحت الاسمنت العنصري المسلح الذي ترجفه الذهنية الصهيونية معززة بالآلة الإمبريالية الأمريكية العمياء... ومع ذلك مازالت الطفلة الفلسطينية والطفل الفلسطيني يغنّيان بأعلى صوتهما أن على هذه الأرض ما يستحق الحياة... وان أرضهم ستكون فلسطينية قبل ان تكون عربية لأن دوران الأرض العادل لا يعني بالضرورة أن تكون الأرض «بتتكلم عربي» بقدر ما يعني أن تكون الأرض إنسانية متوجهة بخطوات الإنسان الذي يبني لا بخطوات الإنسان الذي يدمّر ويٌُنهك التراب بالرصاص كالصهيوني والأمريكي ولا بخطوات الإنسان الذي يفقد الأرض توازنها بجوره وظلمه ولا عدله ككل حاكم طاغ ظالم متجبّر...

2010/03/23

هوية "زرزيس" في فيلم محمد الزرن:شعرية الأمكنة بعدسة النوستالجيا


السينما عند محمد الزرن هي سينما معاشرة قبل ان تكون سينما صورة



بلادي البعيدة عني... كقلبي

بلادي القريبة مني... كسجني

لماذا أغني

مكانا، ووجهي مكان؟

(م.درويش)

جذاذة فنية/شعرية:

* جرجيس/زرزيس: مدينة تخلت عن خصائصها الجغرافية والتاريخية لتتحول إلى قصيدة شعر بها فائض من الإغواء والغواية الآسرة...

* محمد الزرن: من طين القصيدة تشكل وأوهمنا بأنه يتخفى خلف عدسة السينما لئلا نكتشف فيه مجاز العين...غبطة شاعر مسكون بلذة الأمكنة...

* الممثلون/الشخوص: أيقونات من الكلام والصمت والحركات تتعانق لتزداد تألقا واخضرارا فوق معابر الذاكرة وهي ترسم إيقاعها اليومي لتعلن ميلادها الأبدي...

* الموسيقى/أمين بوحافة: بيدر فرح في ليلة صيفية يتهادي بآلاته صعودا ونزولا ليُحرر جماد المكان من عقاله ويُشرع للحلم أجنحة لا تخفق إلا سفرا متوهجا...

* الزمان/المدى: قريب وبعيد، أفقي وعمودي، ليلي ونهاري... ماض وحاضر ومستقبل... كأنه بساط أبيض تُطرزه ذوات الاختلاف والانسجام لتُفرده على مساحة أرض لا تبدأ من السيرورة ولا تنتهي عند الصيرورة...

* المعلقة الاشهارية/Affiche : كتاب مفتوح على المطلق، معبر أزرق لأرض برتقالية الشكل لا اللون...

بعد مشاهدة الفيلم الجديد الذي أخرجه السينمائي محمد الزرن والموسوم ب"زرزيس" نسبة لمدينة جرجيس، موطن ولادته، تتأكد لنا مقولة انتقال المدينة، أي مدينة، من مدينة يسكنها الناس إلى مدينة يسكنها المعنى واللغة، ذلك أن محمد الزرن ضمن هذا العمل السينمائي الذي يبدو في ظاهره توثيقيا، يمنح المكان نفوذه وسلطته الرمزية المتعددة.

ويبدو أن هذا الفيلم مثل بالنسبة لمحمد الزرن نوعا من التحدي défit لاختبار مدى قدرته وقوة متخيله في التعامل مع السطوة الرمزية لمدينته الأم، ومع غواية المكان في سياقاته الرمزية والنفسية والحضارية والثقافية... ذلك أن كل مشهد من الفيلم الذي يدوم قرابة الساعتين من الزمن، يُقدمه لنا الزرن/المخرج على أنه "شهادة" على مدى صداقة الزرن/الشخص وعشقه للمكان...

أمكنة تنسج تاريخها من المنسي والهامشي لتعلن عن أَنسَنَتهَا وألفتها وهي تنتقل، بعدسة المخرج، من ضفة "الأكثر مصداقية" إلى ضفة "الأكثر شاعرية"... حيث صير محمد الزرن المكان أهم شخصية في فيلمه، وعبر به من وظيفته التأثيثية إلى الوظيفة المنتجة والفاعلة، بل المحركة لكل ما/من حولها، ولم يدر، ربما، كيف تورط في قطع ذاك الخيط الشفيف بين التوثيقي التسجيلي والخيالي الروائي لأنه لم يضع شخصياته في موضع الملاحظة والمراقبة ومن ثمة النقد، بقدر ما اشتغل على خلق الحي من الحي وعلى تنامي الشعور من دون مؤثرات تعسفية لا تتحملها الطبيعة التلقائية لشخوصه (الإضاءة والديكورات المفتعلة، والتصوير في الاستوديو...)...

إنه لم يُعقد الأشياء، ولم يجملها أو يشوهها، بل قدمها كما هي تلقائية ومباشرة على سجيتها، وإذا كانت الكاميرا لدى مخرج السينما، كما أشار أورسن ويلز، هي العين التي يرى من خلالها، والتي يجبرنا أن نرى نحن أيضا من خلالها، فان محمد الزرن وهو يمسك كاميراته ويتجول بها في الأماكن التي اختارها هو أو اختارته هو أيضا، يفسح لنا نحن المشاهدون أن نفضح أبعاد المكان، ونفتض حرماتها بما استطعنا إلى ذلك من حلم وخيال وتوقع... لكأن الفيلم كان بارقة حلم وبطاقة زيارة إلى داخلنا لنكتشف إمكانات المكان لا المرئية فقط وإنما الشعورية أيضا... وهي الأهم في تقديري لأنني أؤمن بأننا نحن من يحمل الأمكنة بدواخلنا لا هي التي تحملنا...

إننا نتنقل بالأمكنة التي نحبها ونشتهيها ونحلم بها ولا نتنقل فوقها فقط... لأن الحدود تزول والأسيجة لا ترتفع بداخلنا كلما كنا أحرارا... (مثلا دكان شمعون في الفيلم لم تكن له حدود رغم انتصاب جدرانه وانهمار ظلمته، وحوش الطاهر وزوجته أمريكا كان مفتوحا على مداه رغم أبوابه وسوره العالي، ومنزل الهادي الرسام كان أوسع من تأويل ألوان وخطوط لوحة واحدة...) ولذلك ربما يتميز فيلم "زرزيس" بتدفق لا محدود، لأنه يقدم مكانا يتسع للجميع ولا يقصي أحدا أو يستثنيه... انه يمنح المكان بعده الوجودي... (شخصيا لم أفكر أبدا في أن شمعون مثلا هو يهودي بقدر ما شدني التصاقه الحميم بالمكان وبناسه).

فيلم "زرزيس" اثبت أن السينما عند محمد الزرن هي سينما "معاشرة" قبل أن تكون سينما "صورة"... فكل "التقنيات" التي يمكن أن نلاحظها في الفيلم تفضح تورط محمد الزرن في عشق "زرزيس" من العشوائية المتعمّدة في الانتقال من مشهد إلى آخر، ومن كسر الحكايات قبل أن تنتهي والانتقال إلى مشهد مفاجئ أو غير منتظر، والتحول من زاوية نظر إلى زاوية أخرى... وغيرها تُعري لهفة الزرن، وتجعله ككل عاشق فاقد لأية عقلانية مقيتة، ومتخلي عن أي أسلوب أو منهج للبوح واستنطاق قلبه...

لقد ألغى كل مسافة ممكنة بينه وبين "زرزيس"... وتقاطعت عدسته مع تفاصيل الناس الذين كبر معهم وأثثوا حياته... ألغى المسافة بين التصوير والموضوع... وهو يعتمد على الذاكرة الاسترجاعية لكل صوت ينطق في فيلمه، حتى الموسيقى التصويرية لأمين بوحافة، وصوت البحر والحصان... كلها تتذكر حرارة اللقاء مع المكان وترى تحققها خارج تخومه استحالة (الهادي الرسام العائد من باريس الأنوار، السائحة المتشبثة بالرقص، أمريكا المتهكمة على الشباب المهاجر سرا...)...

هوية جرجيس أيضا مثلما رسمها محمد الزرن فلتت من عقالها البسيط، باعتبارها مدينة جنوبية، تعيش على اليومي المستهلك ولا أفق لها ولسكانها إلا ما تمنحه خيوط الشمس، ذلك أن "الرسائل" المُلقاة على قارعة الصورة استعاضت عن شيفراتها "السياسية" المباشرة ببداهة سكان زرزيس وروح طرافتهم وفائض الفطنة لديهم: العولمة، علاقة الجنوب بالشمال، الرأسمالية، الاستغلال، الإرهاب... التعددية السياسية، مفهوم المثقف والثوري/المتمرد/ الرافض، التطرف الديني، جميعها وغيرها تناثرت شُهبا على ألسنة الشخصيات (خاصة الطاهر والهادي) وتقافزت منمنماتها من عمق المشاهد المقدمة في الفيلم...

زرزيس لم تكن "لقطة فنية" في فيلم "زرزيس" رغم أن المُشاهد سيحاول تأويل هذا العمل السينمائي كذلك، مستندا (مثلا) إلى مشهدي البداية والنهاية. فالبداية كانت بالظلمة المنبثقة من فضاء داخلي (دكان شمعون) والمشهد النهائي كان أيضا بالظلمة وفي نفس الفضاء الداخلي (دكان شمعون) رغم أنها تنفتح على فضاء خارجي من خلال صورة الطفل الصغير والضوء المتكسر على طول الزقاق، وكأن المخرج يوهمنا بأنه قدم لنا دائرة مغلقة ورؤية مكتملة لعالم جرجيس مثلما أرادها هو أو مثلما يريدها أن تكون... وهو ما لن يصدقه أحدا بعد مشاهدة زرزيس، لأن الفيلم يكسر كل طوق مشهدي ويُسقط كل الحواجز التي قد ترتفع مع جنيريك النهاية... ليتركك في مهب التأويلات والأحلام في مدينتك أنت أو قريتك... التي لا يعرفها محمد الزرن ومع ذلك نفض الغبار والأتربة عنها في قلبك... ودلك عليها في ذاكرتك...

هكذا أتى محمد الزرن في هذا العمل السينمائي مخرجا متأنيا ليرفع "أهل زرزيس" من الدرك الأسفل للحياة إلى الدرك الأعلى للكلام بحساسية مفرطة، وهو يُقدم لنا المكان المألوف من زوايا غير مألوفة.

2010/03/20

مهرجان أولاد أحمد



لا موعد لفعالياته يُعلن عنه مسبقا في ندوة صحفية...

لا نزلا فخما بغرف شاسعة وأسرة زائدة عن الأحلام لاستقبال المشاركين والمدعوين والضيوف...ومن بهم فائضُ نكد...

لا ملفا صحفيا ولا شارة دخول ولا بطاقات دعوة أو برنامج مضبوط الفقرات والمواقيت...

معه تدخلُ في الحكاية ولا تخرج من أتونها...

يُقيدك بلين الأفكار وبما شف من الاستعارات والمجازات وهو ينثر الشعر والحركات مثلما تنثر فراشة قزحية لونها على أعتاب الربيع...

لا يترك لك فسحة للكلام، ومع ذلك تستنفر حاسة السمع لديك لتجمع نثار المعاني والأفكار... ولا تضطر لاستيراد حكمة الإنصات البشري...

رجل يتربع على عرش الكلمات مثل أمان ترفعك لسماء اللامتوقع لتتركك على أرض زرقاوية الشكل تنوس برائحة الليل...

انه لا يكتب الشعر فقط، بل هو يحياه في أدق التفاصيل الحياتية... هو الذي وُصف بأنه صاحب الاسم الطويل والجسم النحيل، ذاك المتدثر بسلاطة قلمه دائما ولسانه دوما...

مفرط في بهجته...في سخريته وهو يُغازل الحواشي ويُراود كل إمكانات الدخول إلى المتن...يدخل من الباب... ينط من النافذة... يتسلل من الكوة... ليرسم وقع صوته دون سواه...

لامتناه في حكمته... وهو المُدجج دائما بالفطنة والبداهة، وبإخراج الحي من الحي، غير عابئ بالتأريخ وبمشتقات كنا وفعلنا وقلنا وذهبنا... ولم نعد...

رجل يمشي على لسانه وبلسانه بفائض من الجرأة والتحدي...

انه يمشي في الكلام العالي... لا تجرحه الفواصل ولا تخدشه النقاط... كأنه الأفكار...

انه مهرجان لوحده...

هكذا يبدو لي الصغير أولاد أحمد كلما قابلته أو جالسته...

................


"لكلّ طرقته في افتتاح الكلام

وطريقتي المشي

داخل نفس الحذاء أسير

فأين الأين؟"

2010/03/16

حَيَاتَان وحيتَانٌ

عندما ألمحُ واحدة منهن أو واحد منهم تتسلق جمجمتي فكرة واحدة وتتلبس بها. فكرة أن أصف الحياة برمتها، فلا أرى سوى غرفة ضيقة حُشرت بين جدرانها ملايين الأجساد البشرية.

للغرفة باب واحدٌ ومئات النوافذ. أحصي على عدد أصابعي أولئك الذين يخرجون من الباب باتجاه الحياة الأخرى، وأرى الجموع المتدافعة باتجاه النوافذ أكثر من شعر رأسي، وهي تُفلت من وضع الحشر إلى حياة أخرى أيضا...

ولكل حياة مقومات خاصة وشروط مخصوصة...

حياة الأنفار الأخرى لها مقومات وشروط، وحياة الملايين كذلك لها مقومات وشروط مخصوصة هي الأخرى، وبين الحياة الأولى والحياة الثانية يعبر خيط العمر شفيفا بين السعادة والتعاسة...

تتكاثر الحيتان بين الحياتين وتتفاوت قدرة كل حوت في التهام الحياة.

تتسع الحدائق وتضيق القبور. حدائق تبتلع كل أشعة الشمس وتتهادى أشجارها الوارفة تحت ضوء القمر فلا تترك إلا الرطوبة اللزجة تمتزج بالظلال والعتمة المبهرة فوق القبور، القبور المتكومة فوق ظهر الأرض لا في جوفها.

يتقلص عدد "الفائزين" بالحياة السعيدة، وتتناسل أعداد البشر المنذورين لشقاء الأيام المتتالية في الحياة التي حُشروا فيها وما اختاروها.

بعينين زائغتين، مُغرورقتين في "الواقعية"، يمكننا اليوم أن نرى بكل وضوح الخط الفاصل بين حياة مُترفة، بل جد مُترفة، لمجموعة صغيرة من الناس، ونرى بالمقابل الحياة الكئيبة لملايين البشر الهائمين فوق الأرض، ولا حاجة لنا للرجوع إلى المفاهيم الكبرى والمصطلحات الفلسفية التي تحدد الطبقات الاجتماعية والفروق بينها وظروف نشأتها واضمحلالها، إذ يكفي أن نلاحظ شساعة الاختلاف بين الحياتين، في الموقع الذي تشغله في النسق الاقتصادي والاختلاف في الدخل والمنزلة الاجتماعية وأسلوب الحياة وكذلك الاختلاف من حيث النصيب في ملكية وسائل الإنتاج، إضافة طبعا إلى عنصري القوة والضعف.

وحتى ما كان يسمى "طبقة وسطى" أي الحياة بين بين، فإنها اليوم تُسحق بلين لتتحلل رويدا رويدا وتذوب في الحياة السفلى، حياة ملايين البشر... لأن الحيتان الشرهة لم تشبع بعد ويبدو أنها لن تشبع أبدا من السباحة في بحيرات العرق والدموع... العرق والدموع التي لم تعد اليوم حكرا على العاملة والعامل ولا على الفلاحة والفلاح بل صارت تتصبب من جبين وعيون الموظفين وحتى الإطارات المختنقين بالقروض والديون حد الموت الذي ما بعده موت...

2010/03/09

حَيَاتَان وحيتَانٌ

عندما ألمحُ واحدة منهن أو واحد منهم تتسلق جمجمتي فكرة واحدة وتتلبس بها. فكرة أن أصف الحياة برمتها، فلا أرى سوى غرفة ضيقة حُشرت بين جدرانها ملايين الأجساد البشرية.
للغرفة باب واحدٌ ومئات النوافذ. أحصي على عدد أصابعي أولئك الذين يخرجون من الباب باتجاه الحياة الأخرى، وأرى الجموع المتدافعة باتجاه النوافذ أكثر من شعر رأسي، وهي تُفلت من وضع الحشر إلى حياة أخرى أيضا...
ولكل حياة مقومات خاصة وشروط مخصوصة...
حياة الأنفار الأخرى لها مقومات وشروط، وحياة الملايين كذلك لها مقومات وشروط مخصوصة هي الأخرى، وبين الحياة الأولى والحياة الثانية يعبر خيط العمر شفيفا بين السعادة والتعاسة...
تتكاثر الحيتان بين الحياتين وتتفاوت قدرة كل حوت في التهام الحياة.
تتسع الحدائق وتضيق القبور. حدائق تبتلع كل أشعة الشمس وتتهادى أشجارها الوارفة تحت ضوء القمر فلا تترك إلا الرطوبة اللزجة تمتزج بالظلال والعتمة المبهرة فوق القبور، القبور المتكومة فوق ظهر الأرض لا في جوفها.
يتقلص عدد "الفائزين" بالحياة السعيدة، وتتناسل أعداد البشر المنذورين لشقاء الأيام المتتالية في الحياة التي حُشروا فيها وما اختاروها.
بعينين زائغتين، مُغرورقتين في "الواقعية"، يمكننا اليوم أن نرى بكل وضوح الخط الفاصل بين حياة مُترفة، بل جد مُترفة، لمجموعة صغيرة من الناس، ونرى بالمقابل الحياة الكئيبة لملايين البشر الهائمين فوق الأرض، ولا حاجة لنا للرجوع إلى المفاهيم الكبرى والمصطلحات الفلسفية التي تحدد الطبقات الاجتماعية والفروق بينها وظروف نشأتها واضمحلالها، إذ يكفي أن نلاحظ شساعة الاختلاف بين الحياتين، في الموقع الذي تشغله في النسق الاقتصادي والاختلاف في الدخل والمنزلة الاجتماعية وأسلوب الحياة وكذلك الاختلاف من حيث النصيب في ملكية وسائل الإنتاج، إضافة طبعا إلى عنصري القوة والضعف.
وحتى ما كان يسمى "طبقة وسطى" أي الحياة بين بين، فإنها اليوم تُسحق بلين لتتحلل رويدا رويدا وتذوب في الحياة السفلى، حياة ملايين البشر... لأن الحيتان الشرهة لم تشبع بعد ويبدو أنها لن تشبع أبدا من السباحة في بحيرات العرق والدموع... العرق والدموع التي لم تعد اليوم حكرا على العاملة والعامل ولا على الفلاحة والفلاح بل صارت تتصبب من جبين وعيون الموظفين وحتى الإطارات المختنقين بالقروض والديون حد الموت الذي ما بعده موت...