بحث هذه المدونة الإلكترونية

2009/04/17

رواية الأوفياء عن قافلة الوفاء

معهم نسبر تلك الرحلة التي كانت محفوفة بالأمل كما الألم أيضا، رحلة الأوفياء الذين تحملوا مشاق الطريق حبا لفلسطين وإيمانا بعدالة قضيتها وتعبيرا صادقا من النقابيين التونسيين لأشقاهم في غزة، غزة العزة والصمود الأبي في وجه آلة الدمار الصهيونية التي دكت الأخضر واليابس طيلة شهر تقريبا...

ضد التخريب والقتل وإراقة الدماء ولأجل صحة أبناء غزة شُحنت أدوية الجهاز التنفسي وأدوية خاصة بأمراض القلب وأمراض المعدة ودواء تخثر الدم ومضادات حيوية وآلتي كشف بالصدى متطورتين وكراسي متحركة وعكازات ومعدات جراحية عامة وآلات لقيس السكري وأخرى لقيس ضغط الدم....وكميات هائلة من الحليب... شحنت كلها بعد ان تم تجميعها من قبل النقابيين في كل القطاعات وسهر على تنظيمها وترتيبها وتصنيفها طاقم من النقابيين المختصين...

"قافلة الوفاء" تلك التي حملت ما بقي مما جاد به النقابيون من مختلف القطاعات من أدوية ومعدات صحية... 72 طنا كانت حمولة الشاحنات العملاقة التي طوت الأرض طيا نحو معبر رفح، كانت أيضا مشحونة بأضعاف تلك الأطنان من مشاعر الحب والأخوة والاعتزاز ببسالة من أراقوا بدمائهم تراب غزة...

"قافلة الوفاء" تلك التي ودعها الأخ عبد السلام جراد الأمين العام لاتحاد الشغل وعدد من أعضاء المكتب التنفيذي الوطني وحشد كبير من النقابيات والنقابيين بميناء رادس يوم الاثنين 23 مارس الفارط، أين رفرفت أعلام تونس وفلسطين واتحاد الشغل إيذانا بتحرك الشاحنات، بعد الحركة الرمزية للأخ عبد السلام جراد وهو يلوح بالزنار الفلسطيني أمام كل شاحنة...

وبعد أن تابعنا رحلتهم عبر الهواتف، ها نحن نستقبلهم في مكاتبنا ليرووا لنا بدقة تفاصيل الرحلة وما حف بها...

الأخوة محمد الهادي قديش رئيس الوفد والحبيب الطريفي (الغزال) ولطفي الأحول ومستوري القمودي وكمال البوزيدي وفتحي الهيشري وجمال البحريني، ومحسن السلطاني هم الذين حفظوا الأمانة التي كانت بعهدتهم وشقوا الصحاري والجبال وقطعوا آلاف الكيلومترات ودخلوا المعابر حتى بلغوا المعبر الأشهر، معبر رفح، أين أشرفوا على تفريغ أطنان الأدوية والمعدات الطبية والصحية التي كانت مشحونة بعناية داخل الشاحنات الخمس التي قادها السادة نور الدين الشمك وبشير الظاهري وعلي القاسمي ورضا الإينوبلي وكمال الجلاصي.

هكذا حدثنا الأوفياء عن قافلة الوفاء...

* في بغداد

من ميناء رادس تحركت المحركات ودارت العجلات لتمر قافلة الوفاء بشاحناتها الخمس والسيارة المرافقة لهم عبر مدينة مساكن وتصل إلى ولاية صفاقس أين اعترضهم نقابيو الجهة بكل الحب والود ويحولوا وجهتهم إلى مطعم بغداد للعشاء احتفالا بهم، ليواصلوا بعدها المسيرة نحو ولاية قابس حيث قضوا ليلتهم نياما داخل الشاحنات ومع أول خيوط الفجر انطلقوا نحو ولاية مدنين ومنها إلى بنقردان التي "أفحمت" وفد القافلة باستقبالها الجماهيري الرائع مثلما قال الأخ لطفي الأحول.

* في القلب

انتهى التراب التونسي عند بوابة رأس الجدير الليبية، ولم يعد يفصل القافلة عن معبر رفح سوى التراب الليبي، والذي كان عامرا بالحب والاحترام والتبجيل وبكل أنواع التسهيلات والحماية، ذلك أن الأمن الليبي أبلى البلاء الحسن وهو يرافق قافلة الوفاء ويرشد الوفد التونسي وهو يعبر الزاوية وزلطن وزوارة وصولا إلى طرابلس، وبالمثل عامل الأشقاء الليبيين النقابيين في كل نقطة استراحة توقفوا بها...

بل إن احترام الليبيين للقافلة جعلهم يقتحمون بها قلب العاصمة الليبية، طرابلس، رغم أنها وككل العواصم، لا تجيز جولان الشاحنات الكبيرة وسط طرقاتها، ومع ذلك شقت الشاحنات التونسية العاصمة بحماية من سيارة الأمن الليبي... بعد أن قضوا ليلتهم نياما في المعرض الدولي بطرابلس...

"خروج القافلة من طرابلس كان سهلا ومريحا والفضل في ذلك يعود إلى توصية رجال الأمن الليبيين الذين اقترحوا علينا مغادرة العاصمة قبل تحرك دوليبها واكتظاظ طرقاتها" هكذا قال الأخ الحبيب الطريفي قبل أن يصل بي إلى أول استراحة بمدينة تاجورا.

* استراحة إدارية

"كنا نقتني أساسا الخبز والجبن والحليب والتفاح في كل مرة" قال الأخ محسن السلطاني وهو يتذكر التعب والإرهاق الذي نالهم وهم يشقون الصحراء الليبية لمدة 72 ساعة دون توقف حتى بدت لهم معالم مدينة "إجدابيا" الليبية فحطوا بها الرحال وأخمدوا محركات الشاحنات وعلقوا معاطف التعب والإرهاق بليل المدينة في أحد فنادقها الصغيرة...

"بلغنا مدينة طبرق يوم 28 مارس ومنها اتجهنا نحو مدينة "مساعدة" الحدودية التي حظينا فيها باستقبال حار ومتميز من قبل أعوان الأمن والديوانة الليبية" تدخل الأخ مستوري القمودي وهو يتذكر حفاوة الأخوة الليبين وما أبدوه من كرم الضيافة ذلك أنهم قاموا بإيواء الشاحنات والسيارة في مأوى تابع للأمن وتمت استضافة كافة الوفد من قبل المدير الأمني إلى استراحة إدارية اين تقاسموا معه أطراف الحديث حول طول الطريق والاحتياطات اللازمة وعن آخر تطورات الوضع في غزة وصمود المقاومة...

* إلى الوراء در

لاحت البوابة المصرية على الحدود الليبية في الميناء البري بالسلوم فجهزنا أوراقنا وجوازاتنا لننهي جميع الإجراءات اللازمة من الإثباتات الشخصية ودفع الرسومات وختم الجوازات وأوراق الشاحنات والسيارة الخفيفة المرافقة لنا، ولم نكن نتصور أن مدة تلك الإجراءات ستطول من الصباح صباحا إلى ما بعد الرابعة بعد الزوال... ولكن من أجل عيون غزة لم نتذمر ولم نتململ في ساعات الكسل الإداري...

ضرب الأخ كمال البوزيدي كفا بكف وقال "كانت المفاجأة اكبر مما توقعنا" اذ وبعد الساعات الطوال قدم لنا وفد أمني رفيع المستوى ليطلب منا الجوازات قصد تسهيل مرورنا ففعلنا وحرك السواق الشاحنات ودارت العجلات في اتجاه كنا نعتقده التراب المصري غير أننا وفي أول مفترق أمر الضباط الكبار سواق الشاحنات بالاستدارة والاتجاه نحو البوابة الليبية والعودة على أعقابنا!!!

كيف نعود؟؟؟ والأدوية ودموع أطفال غزة وجراح المقاومين وآلاف الأميال التي قطعناها وتلك الجماهير التي ودعتنا وهذه الأمانة ماذا نفعل بها؟؟؟

أوقفنا المحركات ونزلنا نستفسر عن السبب ونذكر الأخوة المصريين بالتأشيرات المرسومة على الجوازات من طرف سفارة بلدهم ببلادنا، فأخبرونا بأنها "تعليمات عليا" وختموا على جوازاتنا، التي ما تزال عندهم، كلمة "إلغاء" بسرعة وبكل بساطة، ثم أمروا سواقا مصريين بنقل شاحناتنا إلى البوابة الليبية غير أنهم رفضوا ذلك بل منهم من أجهش بالبكاء أمامنا... فاضطررنا أن نعود ليلا إلى الأرض الليبية.

* يوم الأرض

قضينا أربعة أيام كاملة في ليبيا نترقب نتائج الاتصالات الحثيثة التي كانت تجريها القيادة النقابية مع السلطات التونسية والسلطات المصرية لتسهيل عملية مرورنا وعبورنا بوابة السلوم لتواصل القافلة مسيرتها نحو معبر رفح...

هنا حدثني الأخ فتحي الهيشري عن المعنويات المرتفعة التي تحلى بها كافة أعضاء الوفد وسواق الشاحنات، ووصف لي بالتفصيل الاحتفال الذي أقاموه بمناسبة يوم الأرض الذي يوافق 30 مارس من كل سنة، حيث كتبوا اللافتات واليافطات وغنوا للأرض والحرية وانضم لهم عدد من الأشقاء الليبيين... وكان الدخول للأرض المصرية يوم 31 مارس...

قطعت قافلة الوفاء 1200 كيلومتر دفعة واحدة بمرافقة سيارة أمن، ولم يكن لأعضاء الوفد إلا أن يتوقفوا في محطة بنزين لمدة ساعتين فقط بعد تلك المسافة الطويلة، وبعد أن اخذ منهم التعب والإرهاق مأخذه.

"في العريش قضينا أربعة أيام حيث كنا نقيم بجانب مركب رياضي أين تكدست المواد الغذائية المرسلة إلى غزة وسط الملاعب الرياضية"، قال الأخ جمال البحريني وهو يشير إلى انتظارهم المقيت لإتمام الإجراءات التي يقوم بها كل من أعضاء الهلال الأحمر الفلسطيني والهلال الأحمر المصري للتسريح للقافلة بالاتجاه نحو معبر رفح الذي تفصلنا عنه 45 كلم فقط.

بعد بوابة رفح مشينا قرابة 300 متر ليستقبلنا الأشقاء الفلسطينيون بمعداتهم ومحركاتهم ورافعاتهم وعلى مدى ست ساعات عمل تم تفريغ أطنان الأدوية من الشاحنات التونسية الخمس وشحنها على متن سبع شاحنات فلسطينية ولم تسع الأرض فرحتنا ساعتها بعد أن انزاح عنا ثقل الأمانة التي كانت بعهدتنا ولم يفزعنا هدير الطائرات التي لم نرها والذي كان يصلنا من بعيد.

خلف حواجز رفح وعلى إيقاع شعار "غزة رمز العزة" التقى الوفد التونسي بوفد من الأطباء وكان الأخ كمال البوزيدي يشرح للطبيب الفلسطيني ممثل الهلال الأحمر السيد إياد حسن نصر تفاصيل الملف الخاص بالأدوية وكل المعطيات المتضمنة به بخصوص نوعية الأدوية وصلوحيتها وكمياتها...

· مرسى مطروح

انتهت المهمة وزال كل التعب والضغط... فرغنا شحنات الأدوية وتضاعفت شحناتنا المعنوية ونحن نطوي طريق العودة مظفرين... في مدينة مرسى مطروح تعطل محرك السيارة الخفيفة فاضطررنا لشحنها على متن إحدى الشاحنات بمعاونة بعض من العمال المصريين الذين كانوا يقومون بأشغال على حافة الطريق، ورفضوا مجازاتهم عن تعاونهم معنا قائلين لنا بالحرف الواحد "أنتم كسبتم الكثير من الحسنات بحركتكم النبيلة تلك فاتركوا لنا فرصة الفوز بحسنة واحدة من إعانتكم"...

كل أعضاء الوفد أكدوا أن على طول طريق العودة من معبر رفح إلى بطحاء محمد علي بتونس العاصمة لم تخبو مظاهر الاستقبالات الحارة والحميمية من قبل المواطنين والمواطنات في كل نقطة نعبر بها...

· الرصيد الرمزي

تتوارى مشاق السفر وعذابات الطريق خلف الشحنات المعنوية والرمزية التي تدفقت لدى كل واحد من الأخوة النقابيين الذين أمنوا رحلة الوفاء على متن قافلة الاتحاد العام التونسي للشغل إلى الأشقاء الغزاويين، كما أن هذه الرحلة التي دامت في الزمن الفعلي أكثر من عشرين يوما فانه ستنضاف إلى الرصيد الرمزي الذي يراكمه الاتحاد العام التونسي للشغل منذ أن تأسس تجاه الفلسطيين وعدالة الأرض المغتصبة...