ربّما تكون عبارة "قتلنا دكتاتوريّة" مُفرطة في طوباويتها، ذلك أنّ هروب بن علي وحلّ حزبه المافيوزي بفروعه الثلاثة، الحزب والبوليس السياسي وأمن الدولة، جميعها لا تُنبئُ باجتثاث الدكتاتورية النوفمبريّة لأنّها تحوّلت إلى هويّة شخصيّة يحملها كلّ من قمع هذا الشعب ونهب ثرواته وكتب "أمجادهُ" الزائفة... وهم كُثّْرٌ.. كُثْرٌ لأنّهم تناسلوا من ابن "العُمدة" إلى ابن "الكاتب"...
فحلُّ "التجمّع" لا يعني انتهاء "التجمعيين"، وحلّ "جهاز البوليس السياسي" و"أمن الدولة" لا يعني انتهاء القمع وغلق باب الانتهاكات، فما حدث منذ 14 جانفي وإلى اليوم هو انتهاء الدكتاتور وبعض رموزه، أمّا الدكتاتوريّة، ذهنية ضربت بجذورها في أعماق البلاد وتغلغلت في صدور "الدكتاتوريين" أكثر من ثلاثة عقود ...
هذه ديكتاتورية أولى قتلناها رمزيّا وعلينا أن نستمرّ لنقضي عليها واقعيّا ونجتث جذورها المتعفنة من أرضنا المبتلة بعرقنا وأفكارنا...
أمّا الدكتاتورية الثانية، فهي قادمة من جلباب الأولى، متلحفة بأساليب ربيبتها و"متحجبة" بغطائها، لأنّها وجه من وجهها، هي دكتاتورية رأس المال.. دكتاتورية نهب الثروات وتعليب عرق العمّال... فهذه الدكتاتورية تركها بن علي جاثمة بكلكلها على الشعب التونسي، تنهب ثرواته وتستنزق قوته وتُقبرُ أحلامه وطموحاته وهي تتجلّى للعيان في المؤسسات العمومية قبل المؤسسات الخاصة، وعاملات وعمّال هذا الشعب الأبي يعرفون جيّدا من يمتص دماءهم ويقتل أحلامهم هنا وهناك في الشرڤية وبن عروس ومساكن وغنوش وصفاقس ومقاطع الرخام وضيعات العنب و.. و... وفي كلّ شبر من أرض تونس، وما فعلته حكومات ما بعد بن علي، أنّها ركزت الضوء على النسخ الرديئة من مؤسسات بن علي، بما فيهم "الطرابلسيّة" وشيبوب ولطيف... وتجاهلت عن قصدٍ أنّ صاحب مقهى مثلا يشغل النادل دون حدٍّ أدنى للأجر الصناعي (الذي يجب مراجعته مراجعة جذريّة) ودون تغطية اجتماعية ودون توفير أبسط شروط السلامة المهنية.
وحتى لا نتجنّى على البرجوازيّة الوطنية التي تمثّل سندًا حقيقيّا في معركة الديمقراطية والحرية وفي توازن الاقتصاد الوطني، فإنّه يجب التنبيه إلى الفئة الطفيليّة تلك التي وفّر لها النظام السابق كلّ أسباب الفساد وتخريب الاقتصاد الوطني وهي إلى اليوم تواصل بكل بسالة الدفاع عن مصالحها الشخصية وتستميت من أجل تأبيد الظلم الاجتماعي...
أمّا ثالث الدكتاتوريّات، فهي الديكتاتوريّة التيولوجيّة بزخمها اللغوي وفائضها العقدي المُلجم لكل امكانات التفكير الحر خارج الأطر والدوائر الضيّقة المرسومة سلفًا، فرغم أنّ ثورة 14 جانفي هي ثورة اجتماعية وثقافية في عمقها استمدّت ارهاصاتها من التنويريين التونسيين ومن روّاد الحركات التّحديثية بما فيها من مقاربات دينيّة جزءًا لا يتجزّأ من الثقافة التونسية ـ لا وعاءً لها ـ رغم هذا العمق يطفو اليوم بشكل حادٍ، خطاب احتوائي تبشيري يعتبر نفسه مسؤولاً عن ايمان الناس... ويصنف الشعب التونسي بمقياس الكفر أو الايمان. هذه الدكتاتورية "المتسامحة" في ظاهرها تعلن حربًا علنيّة على مواطنة التونسية والتونسي وترمي امكانات العقلانية ومكتسباتها بحجرها الأسود.
وطبعا هذه الدكتاتورية مسنودة بسابقتها، بدكتاتوريّة رأس المال المالي من خلال الدعم السوداني والخليجي والجزائري والليبي...
في الأخير، إنّ الصراع هو الذي يتقدّم بالشعوب وبالأمم.. والكينونة لا تستقيم إلاّ بأجنحتها الأربعة: الإله، الانسان، الطبيعة واللغة... وكلّهم يتقاسمون صفة الخلق.