بحث هذه المدونة الإلكترونية

2010/08/27

نون الجماعة...

للاقتراب من بعض الظواهر، نلجأ في بعض الأحيان إلى اعتماد الاعتقاد بدل العلم، والاستئناس بما درج الناس على تداوله لا بما وضعه العلماء من نظريات، ولذلك سأقول بأن الحرباء تغير لون جلدتها لملائمة بيئتها مثلما يعتقد جميع الناس بدلا من التذكير بأن تغير لون الحرباء يعود لأسباب فيزيائية وفيزيولوجية استجابة لتعرضها للضوء وتغير درجة حرارة المحيط الذي تتحرك فيه إضافة إلى أن تغيير لونها يمثل شكلا من أشكال جذب قرينها لممارسة الحب معه...

أستعين بمثل الحرباء، للاقتراب من ظاهرة قديمة جديدة، تميز صنفا، أو رهطا، من الناس الذين يتلونون ويتغيرون بنسبة 180 درجة بالتمام والكمال في مواقفهم ومن مواقعهم بعد ذلك...

طبعا وحدها المصالح المادية بالأساس تكون هي الطعم المغري لاستدراج الكائنات الزئبقية أو الحربائية، تلك التي تفتقد لأدنى شروط الحصانة الشخصية فتتحول بقدرة قادر وتصير أشبه بالدرج الخشبي المخلوع الذي لا تهدأ حركته ولا تستقر على وضع واحد... فهذا الرهط المتلون بات يفوق الحرباء في خصوصيتها الفيزيولوجية بما يأتيه من مواقف متناقضة ومتضادة...

وان كان البعض منهم، يبدي موقفا ما في العلن ويحمل نقيضه في السر، في السابق، فاليوم تسقط كل أوراق التوت، وتنحدر الأقنعة إلى الأسفل، وتصير الأسرار معلنة على الملإ... بل يتحول البعض الى كهنة في معبد الاولمب ذوي عيون بصيرة وأصحاب عقول استشرافية يتكهنون بما لا يخطر ببال غيرهم من البشر ويعلنون مواقفهم بفائض من النخوة والاعتزاز...

هذا الفائض هو الذي يمنحهم جرأة مضاعفة ليسحبوا مواقفهم على الجميع دون استثناء، والنطق بألسنة الخلق جميعا دون مراعاة لا لفارق إيديولوجي أو أخلاقي أو أدبي...

وبات هذا الرهط لا يتوانى في تدبيج خطاباته بنون الجماعة تلك التي تعرف أيضا بنون العظمة ونون الكبرياء، وأصلها في اللغة أن يتحدث بها المتكلِّمُ ومعه غيرُه. وقد تكون للمتكلم وحده إذا كان معظما نفسه، ونون الكبرياء هذه أو نون التعظيم تُستعمل أيضا لأسباب منها تعظيم النفس أو إظهار أثر المُنعم على المنعَم عليه، وكأن النعمة تفيض عليه وعلى سواه فتغمرهم جميعا وادعاء شمول النعمة له ولغيره بالانتفاع.

وإذا كانت نون الجماعة محمودة في الخطابات الأكاديمية والعلمية، فإنها في غير ذلك، وخاصة في الخطابات الغوغائية، لا تؤدي إلا إلى تقويض فكرة الفرد المستقل بذاته التي بدأت مع حركة التنوير ونشأت عنها صفة المواطن، وضرب لفكرة الاختلاف والتعدّد ونسف للتوزيع العادل للكلام والمواقف... ومصادرة لوعيه وفكره...

بل إنها تصير حيلة ومطية لاستدراج الجميع نحو الوعي القطيعي تستخدمها مجموعة "تفكر" بدلا عن الجميع دون توكيل أو تفويض... وتتكلم باسم الشعب وهو أسهل من يُتكّلّمُ باسمه.

نحن لسنا نحن دائما... نحن مختلفون... نحن متعددون...

2010/08/20

مقاولات ثقافية

يبدو أن مصطلح "الثقافة المؤسسة" قد دخل طور الانقراض من أوسع أبوابه، بعد أن تم "تحرير سوق الثقافة" بشكل غير معلن، وفتح الباب على مصراعيه للأفراد والمؤسسات التجارية ذات الغطاء الثقافوي للاستثمار والاتجار في السياق الثقافي... بذهنية المرابين...

فمثلما تفيض اليوم الفضاءات التجارية الكبرى والأسواق المنظمة والموازية بالسلع القابلة للتلف والإتلاف بعد أول استعمال، تفيض سوق الثقافة بالمنتجات المعلبة في المسرح والسينما والموسيقى ومختلف الفنون الأخرى، وبلغنا ما يعرف بالطفرة الاقتصادية في الإنتاج "الثقافي"...

اليوم، وفي متحف الذاكرة الوطنية، ترقد تلك التيارات المسرحية والحركات الأدبية والمدارس السينمائية والتشكيلية التي وسمت المشهد الثقافي الوطني بميسم الحركية والإضافة النوعية في أطار التنافس الفكري والثقافي البناء والمؤسس للثقافة الوطنية في السياق الحداثي لبلاد تنفتح على الفضاءات الأخرى المختلفة والثقافات المغايرة من المشرق والمغرب...منذ ثلاثينيات القرن الماضي... لتصاب في العقدين الأخيرين بالسكتة الإبداعية...

تخفت تلك الحركة البناءة ليسري ويتأجج "النمش الثقافوي" في جسد الثقافة الوطنية وينتشر كالداء في مفاصله تشويها وتخريبا... وتدميرا...

تنتصب أكشاك الثقافة لتبيعنا معلباتها الفاقدة للصلاحية، أو المنتهية المفعول بعد أول عرض لها، وتنتصب "حضائر" الثقافة هنا وهناك فتستعر حمى المقاولات وينشط سوق البيع والشراء ويتناسل الوسطاء والسماسرة للتسريع ببيع المنتوج الوفير وعقد الصفقات دائما وأبدا... أما الشعار المركزي المرفوع فهو "ذراعك يا علاف".

ومثلما كتبت سابقا في هذه المساحة، هناك جيل تقاعد "إبداعيا" فبات يستثمر اسمه ليستأثر بكل شيء... وجيل سيخفت بريقه لشده ما ضاق به السياق... وما بينهما جيل يتهافت هنا وهناك...جيل يعتبر نفسه المتن وما سواه هامش... وجيل ينخره السوس لشدة ما هُمش... وما بينهما جيل يتأرجح على الحبلين...

فالمتأمل في "ثقافوت" هذه البلاد والممتهنين بالثقافة عموما، سينتبه دون عناء إلى وجود أكثر من فئة تصول وتجول في الحقل الثقافي كالجرذان المسعورة التي لا تكل ولا تمل من الأكل والتخريب.

فئة أولى "أكلت الدنيا وتريد أن تتسحر بالآخرة" وهي تضم أولئك الذين نضبت منابع إبداعاتهم فباتوا يستثمرون ارثهم وتاريخهم، وطبعا علاقاتهم، ويكفي أن يضع واحد منهم اسمه على أي عمل بسيط، لا إبداع فيه، حتى يلهف مئات الملايين...

فئة ثانية تضم المسيرين والمسؤولين ومنظمي "موائد الإفطار الفني والإبداعي" الذين يلهفون الأموال في السر والعلن... ولا رقابة على أياديهم المندسة أبدا في ميزانيات مؤسساتنا الثقافية... واغلب المتنفذين في المؤسسات الثقافية...

فئة ثالثة لا علاقة لها أصلا بالثقافة، قفزت إليها من نافذة رأس المال، فباتت "تغرف" ملء جشعها ما أمكنها من أموال الشعب والثروة الوطنية قفزت على الإعلام واندسّت بذلك في كلّ بيت دون استئذان تسوّق مؤثراتها الصوتية وأحدث تقنيات التقاط الصورة مستندة إلى الإبهار وأشياء أخرى أما عن المضمون فلا تسأل...

إني أرى صرحنا الثقافي يتهاوى مثلما تتهاوى تلك المباني التي يرفعها مقاولو الغش وتدك أعمدتها وتتناثر حجارتها... هكذا نكون قد بادرنا ونحن أصحاب الريادة دوما، استقبال نهاية العالم في 2012... لو صدقت نظرية نهاية العالم وفق تقويم شعوب "المايا"...

هكذا نحن أعددنا العدّة لأجمل أشكال الفناء...الفناء ثقافيا وإبداعيا وحضاريا ؟؟؟

من الصعب علينا أن نحب وطنا نلهث لامتلاك ثرواتها وتبديدها...

2010/08/10

إلى محمود درويش في ذكراه الثانية



محمود درويش، الفلسطينيُّ المعتقلُ بالذّكريات داخلَ/خارجَ الوطن المُتكرّر في المذابح والأغاني... الفلسطينيُّ الذي مازال يفكُّ طلاسمَ هويّته المُوزّعة من مطار إلى مطار...

محمود درويش مات متّهما بالتّجريد وتزوير الوثائق والصور الشّمسيّة، وهو يُصرُّ على رسم شكلَ فلسطين المُبعثرة بين الملفات والمُفاجآت... المُتطايرة على شظايا القذائف وأجنحة العصافير... فلسطين المحاصرة بين الرّيح والخنجر...

اسمُ محمود درويش السّرّيُّ هو بالكامل «محمود درويش»، أمّا اسمه الأصليّ فقد انتزعته سياطُ الشُّرطة وصنوبر الكرمل عن لحمه... وتركت له هويّة تتكئ على الرّيح... وقامة تصقلها المسافات وتذاكرُ السّفر... وممرّاتٌ تحتشدُ بالفراغ...

ظل يستجدي فلسطينَ كي تُعلن براءته منها ليكفّ عن الموت... أو تُعلن انتهاء عَقْد الشغف بينهما ليُصبح قادرا على الموت والرّحيل...

لم تمت فلسطين درويش... ولم تكن زوجة لمحمود... عاش درويش يشرحُ سُدًى للبوليس تهمة الخيانة الموصوفة التي ترجُم صوتهُ أنَّى ولَّى شعره... أو أين سرَّحَ شَعْرَهُ...

بين اتهام البوليس بالخيانة ودفاع درويش عن البراءة، طالت حالة احتضاره... وتكاثر من حوله المغنّون والخُطباء، ونبت على جثّته الشّعر والزُّعماء و"كل سماسرة اللّغة الوطنيّّة صفّقوا... صفّقوا... ولتعشْ حالة الإحتضار الطّويلة... مادام المطر يتساقط في الخارج بلا سبب... والقحط ينتشر في الداخل لأسباب كثيرة..."

طالت حالة احتضارك يا محمود... وانت تتحفّز للموت على حافة الحلم كما يتحفّز الشّهيد للموت مرّة أخرى تاركًا لحمهُ مشاعًا للجنود كسطوح المنازل، فظل، بعد رحيله، صامدا في الهزيمة وعدوّهُ صامد في النّصر...

كان درويش/الفلسطيني يرثُ السّلاسل ويمنح هويّته شكلها الطّبيعي: صوت يابسٌ كسارية العَلَم ويَدَيْن فارغتين كالنّشـيد الـوطنيّ وروحٌ منذورة لرغوة السّفن... وربطة عنق تلتفّ حول الرّقبة مثل حبل المشنقـة !!!...

هو ذا محمود درويش... هو ذا الفلسطينيُّ... سقط من رحم فلسطينيّ وحشر في نفق "اسرائيليّ" ولكن هل تمتلك الطّفولة والولادة دعوى في المكان ؟

كلّما فتّش عن شيء لم يجده في عكا، أُمٌ عادت إلى البروة، حبيبة زُفّت لرجل آخر، وفقر ٌيُلاحقه... وزنزانةٌ وضابطٌ وَقحٌ عوضًا عن أرض وشعب... عكّا كانت آخر حدود العالم وأولى المحاولات والخيبة...

بنى فوق الرّمال ما تحملهُ الرّياح... لا قشّر البرتقال فوق طبق من ورق في مقاهي باريس... ولا ملك من الوقت وقتا ، في أقبية الأندلس، ليُسرّح وقته بين الكروم...

غادرت وجهك نحو قلبك لتُعلن قصّتك والحرائق تنمو على زنبقة... غادرت لتُعلن صورتك والصّنوبر ينمو على مشنقة... أعلنت قصّتك وصورتك بعد أن سرقت من جرح الشّهيد القطن لتُلمّع أوسمة الصّبر والإنتظار... لينهمر منك الحبر خلف جداول الدّم...

غادر درويش وجهه نحو قلبه بعد أن تعلّم اللّغات الشّائعة... متاعب السّفر الطّويل... النّوم في القطارات البطيئة والسّريعة، والحب في الميناء والغزل المُعد لكل النّساء والشّوق المُعلّب... غادر وجهه نحو قلبه بعد أن تعلّم تربية الأمل ومراسم الوداع...

تعلم كل ذلك وفشل في نسيان فلسطين... إذ يتفتت وجهها حصًى في اللغة... وتتوزّع شوارعها وأديرتها كنايات واستعارات في لغته وأحرفا ونقطا... لتطرّز حقول القمح... وتُزهر الورود فوق المقابر...

وتظلّ المُدُنُ اللّقيطة تتدحرجُ على بطن الهَزيمة كل صَباح... ومابَين صباحين يُولدُ صباح جديد للفلسطيني يسميه "الوطن"...

من تحت الأظافر يُولد، من بَين الأنامل تُورقُ كرومه... وفي كََف اليَد المُحترقة تعلو بذرة القمح أعلَََى وأعلى... وبين المفاصل يُعصَر البرتقَال البرتقاليّ وفوق اللّحم الفلسطينيّ ينمو الزّيتون أخضرا... أخضَرا... ويمتزجُ الدّم مع الحبر فوق التراب/الورق... وتحت كل حجر يكتَََمل قمر. فلا تأتي إلاّ أسطورَة الفلسطيني ولا يَكون إلاّ العرس الفلسطيني حََزينا... حزينا... وللحُزن وجه الفرح في الجليل ويافا والكرمل وعكا والبروة و... ينام على شجر الذكريات ويصحو على وتر المعجزات...
ويجيؤنا درويش بلغة من رخََام وبرق... لغة له منها "وضوح الظل في المترادفات ودقة المعنى"... له منها "التشابه في كلام الأنبياء على سطوح اللّيل"... و"حمار الحكمة المنسيّ فوق التّل يسخر من خرافتها وواقعها"... لغة له منها "احتقان الرّمز بالأضداد...لا التجسيد يُرجعها من الذكرى ولا التجريد يرفعها إلى الإشراقة الكبرى"...

ظل يربّي الأمل ويسبق كل "المتعاطفين" الذين يُعدّون له قبرا مريحا "يظلّله السنديان وشاهدة من رخام الزمن" سبقهم وزغرد في "عطفهم الكلاميّ الغوغائي الخطابي... كان يُزغرد ويسألهم من مات ؟... لمن تحفرون هذا القبر ؟... وهذه الشاهدة على من تدلّ ...؟

يسألهم/يسألنا ومضى نحو النعش يجرحُ خشبه بتهاني ابنه الذي وُلد من الطلقة التي أصابت الجندي الصهيوني... ومن القصيدة التي فجرت سيّارات الغُزاة مجازا وتورية... ومزّقت أوتار عازف الكمان اليهوديّ في مسرحيّة "شالوم عاليخم"... فالشّعر لا يمزح كما التّاريخ الذي سيذكر أن الموت في فلسطين مهنة الرّضيع والشّيخ... مهنة العروس والحبيبة...