بحث هذه المدونة الإلكترونية

2008/05/30

المخرج الفلسطيني نصري حجاج



حق العودة هو حق جينيٌّ وليس سياسيا ولا جغرافيّا...

بعد مشاهدتي للفلم التوثيقي «ظل الغياب» وفي انتظار مخرجه الفلسطيني نصري حجاج الذي حصلتٌ على لقاء معه أثناء مروره بتونس من مهرجان سينمائي في تطوان بالمغرب ليعبر إلى مهرجان سينمائي في ايطاليا أين سيعرض «ظل الغياب» تذكّرت مقولتين، الأولى للفيلسوف بوسويه تقول «إن اهتمام الناس بدفن أفكارهم عن الموت قد لا يقل شأنا عن اهتمامهم بدفن موتاهم» والثانية لم أذكر قائلها وهي تقول « ثمة شيئين لا يمكن أن يحدّق فيهما المرء: الشمس والموت» تذكّرت المقولتين لان نصري حجاج من القلائل ـ إن لم اقل انه الوحيد ـ الذي عالج عودة الجثث الفلسطينيّة من أصقاع العالم إلى مثواها الطبيعي، المقبرة الأعظم فلسطين ولان أيضا نصري حجاج استطاع أن ينظر إلى الموت بعدسة دقيقة جدا ومن خلالها يرنو إلى النظر في الشمس التي قد تُشرق يوما ما على الظلال الفلسطينية المتناثرة في الجغرافيا الكونية... عن فيلم «ظل الغياب» كان هذا الحوار مع نصري حجاج
* نبدأ بفكرة الفيلم، حديث المقابر المشتتة، كيف خامرتك أول مرّة؟ـ موضوع المقابر والحالات الغريبة من الدفن خامرتني تقريبا منذ سنة1958 في مخيم عين الحلوة حيث دفن ثلاثة أعضاء من الحزب السوري القومي الاجتماعي هذا الحزب الذي اتخذ آنذاك موقفا داعما للرئيس اللبناني كاميل شمعون لأنه كان ضد الناصرية ولان الأب كان في صراع وتصادم مع عدة أطراف قام الرئيس اللبناني بالاستنجاد بالأمريكان لحمايته!!!
وفي تلك الفترة لم يكن للفلسطينيين أحزاب وحركات منظمة فكانوا ينضمون للأحزاب القومية السورية والعراقية والمصرية وغيرها.. لذلك توفي الأعضاء الثلاثة ولم يتم دفنهم في صيدا ومنعوا نقلهم لأنهم اعتبروا خونة للحزب القومي السوري الاجتماعي وقد تم دفنهم في فناء بيت!!!
هذه الحادثة ظلت راسخة في ذاكرتي، ثم خرجت في أفريل 1969 مظاهرة في كل المدن اللبنانية تُطالب بحريّة العمل الفدائي وقد كنت ضمن المتظاهرين وكان عمري آنذاك 18 سنة وأمامي قُتل أربعة شبان منهم صديقان حميمان ـ بالرصاص اللبناني وتم دفنهم مع بعضهم في ساحة بمدرسة ابتدائية وتحديدا أمام الصفّ الذي درستُ به أنا!!! وأذكر أني في لندن سنة 1979 رغبتُ أن ادرس السينما لأنجز فيلما عن الحادثتين. وسنة 1999 ـ أي بعد ثلاثين سنة تقريبا ـ ذهبت إلى فلسطين لأوّل مرة في حياتي وشعرتُ حينها بضرورة الموت في الأرض الفلسطينية وتحديدا في قريتي «النّاعمة» التي ولدت فيها... والى الآن وأنا أفكّر في مكان جثتي ومثواي الأخير... أفكّر في قبري أين سيكون..
*يعني أن ذاكرتك صارت لها أعمدة فلسفية في علاقة بضرورة دفن الفلسطيني في قلب الأرض الفلسطينيّة؟
ـ طبيعي أن زخم الذاكرة والأحداث التي مرّت وتمرُّ بمخيّلتي وتداخل الأحلام معها كلها تتبلور وتصير فلسفة مثلما أسميتها أنت وأنا اعتقد أن الفلسطيني حالة استثنائية في العالم لأنه الشعب الوحيد الذي ليست له دولة، يحبها أو يكرهها هذا لا يهم ولكن المهم أن يعيش تحت لوائها، إن الفلسطيني ليس مشرّدا فقط أو لاجئا بل هو منبوذ هذا في الحياة فما بالك في مماته!!!
*إذن حق العودة هو حق للأحياء والأموات على حدّ السواء؟
ـ حق العودة هو حق جينيّ وليس حقا سياسيا أو جغرافيا فقط لذلك شعرت باحتمالات الموت... جورج عدة مثلا هو تونسي ولا يمكن أن يكون له حق العودة إلى «إسرائيل» على الأقل بتحليلي الجيني الذي آمنت به وصدّقته... الإنسان الذي يولد في تربة ما يحمل جينات خاصة بتلك التربة وبهوائها وفضائها..
*كيف كان وقع الفيلم لدى المشاهد الفلسطيني؟ـ عرضت الفيلم برام الله أوّل مرّة وقد أعجب به كل من شاهده ولكن البعض من الشعراء لم يحبّوا صوت درويش في الفيلم... وبشكل عام لاقى الفيلم صدّى واسعا في رام الله وفي لبنان وقد شاهده زكي عبّاس ممثل منظمة فتح وأعجبه خاصة من الناحية التوثيقية، الفيلم ايضا شاهده فلسطينيو صيدا وعين الحلوة وقد تم تكريمي بدرع مدينة صيدا.
*ولدى الطرف الإسرائيلي كيف تقبلوا الفيلم؟ـ عندما كنت أصوّر قبر ياسر عرفات أثناء جنازته كنا نصوّر في الليل والنهار، وقد جاءتني صحفية «إسرائيلية» متعاطفة مع الفلسطينيين اسمها عميرة هاس وهي تكتب في صحيفة «يديعوت» ولها كتب مترجمة فسألتني ماذا افعل؟ فأجبتها باني بصدد تصوير فيلم وثائقي عن المقابر فانفعلت بشدة وقالت لي أنها لا تهتم بقبرها أين سيكون فأجبتها بالحرف الواحد بأنها لا تملك موقفا وإحساسا بمكان دفنها لأنها أساسا لا تملك الأرض التي ستضمها يوم مماتها؟ قلت لها أنت قادرة على الموت في أي مكان أما أنا فأدفن في تراب فلسطين فقط.. وإذا ما طلب مني التلفزيون «الإسرائيلي» بث فيلم «ظل الغياب» فلن أمانع ولكن بشروط ثلاثة و هي، أولا ترجمة الفيلم ترجمة دقيقة إلى العبرية ولا ينقص منها فاصلة ولا من الفيلم مشهد واحد ثانيا وثالثا أن يدفعوا المبلغ الذي احدده أنا وشركة الإنتاج.
*كيف كانت ظروف تصوير الفيلم في الدول الأجنبية؟ـ لم يمنحوني تأشيرة الدخول إلى الولايات المتحدة الأمريكية والى الآن لم احصل عليها وقد تم تصوير الجزء الأمريكي من طرف شاب مصري يقيم في نيويورك ويشتغل بالسينما وقد صوّر هناك مع ابنة ادوارد سعيد الجزء المتعلق بموته...
في بلغاريا أيضا لم أحصل على التأشيرة وبنفس الطريقة نسقتها مع خالد بلخيرية فصوّر لنا الجزء المتعلق ببلغاريا حول ظروف دفن الشاب الشهيد نضال خليل.
أما بلندن فانا ممنوع من دخولها منذ سنة 1986 ولذلك انتقل مدير شركة الإنتاج الصديق الحبيب بالهادي والصديق خالد بلخيرية وقاما بالتصوير مع زوجة الرسام الشهيد ناجي العلي (أم خالد)...
عموما ظروف التصوير كانت صعبة للغاية خاصة من الناحية المادية ولولا وقوف شركة فاميليا للإنتاج وبالخصوص مديرها الصديق الحبيب بالهادي الذي آمن بالفيلم لما تم إنجازه، وللإشارة فنحن انطلقنا في التصوير منذ سنة 2003 ولم ننه تركيب الفيلم إلا في نوفمبر 2007.
*هل تعتقد أن الفيلم سيعرض في هذه الدول التي منعت من دخولها؟
ـ لم لا ولكن اعتقد أن هذه المسألة تعتمد بالأساس على التوزيع والتسويق والآن هناك إمكانية عرض الفيلم في صربيا وقد تم عرض الفيلم يوم 10 افريل الحالي في مدينة ميلانو الإيطالية ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان الفيلم الإفريقي الآسيوي الأمريكي اللاتيني في دورته 18 كما سيعرض الفيلم يوم 25 ماي في القاهرة في جمعية نقاد السينما، وسيعرض مجددا في صيدا بلبنان بمناسبة مرور ستين سنة على احتلال فلسطين..
*كيف تصنّف «ظل الغياب» بغض النظر عن جانبه التوثيقي؟ـ اعتقد أن السياسيين والمسؤولين الفلسطينيين لا يفكّرون بموضوع عودة الموتى إلى فلسطين، لان المفاوضات تعنى بما و أهم ـ في تقديرهم ـ مثل عودة اللاجئين والمستوطنات وجدار الفصل و... وفي الحقيقة المسألة جدّ معقدة لان هناك العديد من الأموات الذين يصعب إيجادهم فتصوّر مئات الآلاف من الأموات في شتات العالم، هناك فلسطينيون ماتوا في الحرب العالمية الأولى في يوغسلافيا عندما ناضلوا مع الأنصار ضد تيتو وآخرون ناضلوا ضد فرنكو... وغيرهم كثيرون... الفيلم بغض النظر ن جانبه التوثيقي أردت من خلاله أن أقول أن في كل مكان شخصية مهمة وحكاية مخصوصة.. ناجي العلي، غسان كنفاني، ادوارد سعيد، ياسر عرفات، معين بسيسو، أحمد الشقيري، أبو إياد، أبو جهاد.. كما أن الفيلم بغض النظر عن جانبه التوثيقي هو يدين القوانين «الإسرائيلية» التي تمنع دفن غير اليهودي في «أرض إسرائيل» بما في ذلك القدس إذا مات خارجها... «ظل الغياب» يفضح جبن دولة «إسرائيل» التي تخاف حتى من الموتى!!
*لماذا اخترت الشكل التوثيقي دون سواه ولم تختر مثلا فيلما تمثيليا؟ـ أنا لم أفكر أبدا في إنجاز فيلم روائي بل أفكّر في كتابة رواية وأنا الآن لديّ ثلاثة مواضيع سأحاول أن أنجزها في شكل توثيقي، لدي حلم وهاجس بضرورة كتابة رواية تكون في شكل سيرة ذاتية عن عين الحلوة وعني أنا.
أما لماذا اخترت الشكل التوثيقي فأنا أحببت أن أقدم هذا الفيلم كوثيقة للعالم الذي لا يعرف تلك الحقائق التي قدّمها الفيلم... الفيلم الخيالي قابل للدحض وتكذيب أحداثه، وبالعكس الفيلم التوثيقي يقدم الحقائق كما هي، فعندما أقول أن «الشاباك» أو «الموساد» منعا عدّة جثث من العودة إلى فلسطين فهذه حقيقة ولا يمكن أن تدحضها «إسرائيل»، كذلك العديد من الفلسطينيين لا يعرفون عدة حقائق.. عندما أقول أن مصر ترددت في إعادة جثمان معين بسيسو بسبب خلافاتها آنذاك مع أبو عمار فهذه حقيقة وهذا تاريخ لا يمكن نكرانه..
*لماذا اخترت صوت كاميليا جبران بالذات لإنهاء الفيلم؟ـ أولا كلام الأغنية كان مطابقا لموضوع الفيلم وكأنما القصيدة كتبت أساسا للفيلم مع أن كاتبها شاعر يوناني وقد ترجمها للعربية الشاعر ادونيس، ثانيا أنا أحب كاميليا جبران وأعتقد أن الموسيقى لم تكن شاذة عن الفيلم، ثم لا تنسى أن كاميليا جبران هي فلسطينية.
*هل تنوي إنجاز أفلام أخرى في هذا السياق؟
ـ سأنجز فيلما وثائقيا عن تاريخ اليأس الفلسطيني وآخر عن الإرهاب الفلسطيني وسأقارن فيه بين الستينيات والآن من خلال شخصيات معيّنة اعتبروا إرهابيين من المنظور لأمريكي والصهيوني وكذلك العربي أحيانا!!
* لك أن تنهي هذا اللقاء العابر؟ـ أنا أؤمن إيمانا مطلقا أني كنصري حجّاج قضيتُ عمري ـ ولا أزال ـ كجزء من حركة المقاومة الفلسطينية وأظـل بالأخير جزءا منها وبالتالي فإن السينما أو الكتابة القصصية أو الصحفية كلها تصب في النهاية في القضية وأنا كنصري حجّاج نموذج للقضية ككل فلسطيني.. أنا لم أحصل إلى الآن على جواز سفر... أنا حكاية الشعب الفلسطيني وكل ما أقوم به يصب في خدمة هذا الشعب المأساوي.. أحاول أن أرسم خطوة إلى الأمام لأجل أن يحيا شعبي الذي يستحق الحياة بكل مباهجها ولا أتخيل نفسي أني قمت ـ أو سأقوم ـ بأي فعل لا علاقة له بفلسطين...

2008/05/29

حوار مع المخرج محمد الزرن


ظلام قاعات السينما جزء من ظلام العقول...

نادرا ما طوّقتني حالة من الارتباك واللاتماسك اللغوي أثناء تدبيج مقدمة احد الحوارات التي أنجرتها في السابق، ومرد ذلك الارتباك يتأتى غالبا من طبيعة شخصية محاوري أو من خلال المتن الذي يقدمه ضمن أجوبته... وكنت دائما، أمام تلك المواقف النادرة، أصاب بيأس كبير من جحود اللغة وعجزها عن إفاضة تقديم المفردات والعبارات... فأراني ألوذ بسيرة محاوري تفاديا لتهدّل اللغة أمام فورة محاوري وهروبا من الحروف الشاحبة أمام نضارة نقاط وفواصل كلامه...
المخرج السينمائي محمد الزرن صاحب أفلام «كسّار الحصى» (1989) و «يا نبيل» (1993) و «السيدة» (1996) و«نشيد الألفية» (2002) وفيلم «الأمير» (2005) الحائز على أكثر من15 جائزة دولية... تناسلت فواصله وحروفه بين تعاريج اللغة... بين المصطلحات والأفكار... الجوائز... الأفلام... شارع الحبيب بورقيبة... الإرهاب... جرجيس... الموزعين... ظلمة القاعات... الكاريكاتور... أوسكار وايلد... الصغير أولاد أحمد... العولمة... التعليب... الحرية... جرجيس... الخيال... الأحلام... الطاهر وشمعون... أفريكا آر... البترول... والمفارقات...
كلها تناسلت وتقاطعت ضمن هذا الحوار مع محمد الزرن بعد إنهائه تصوير فيلمه الجديد منذ أيام.

* فيلمك الطويل الأخير «الأمير» كان ـ ولا يزال ـ له حضور عالمي وتم توزيعه بشكل كبير، وقد نلت به عدة جوائز دولية، وكان بالامكان أن يحصل على التانيت الذهبي في أيام قرطاج السينمائية لسنة 2005 لو لم يتم استبعاده في المسابقة الرسمية؟
ـ استبعاد الأمير من المسابقة الرسمية كان قرارا غير وطني لأن سنة 2005 كانت سنة الاحتفال بمرور 25 سنة على أيام قرطاج السينمائية، وبالتالي كان على مدير المهرجان ولجنة تنظيمه أن يفكروا في قيمة الحدث ويبرهنوا أكثر على حضور السينما التونسية. وبما أن الفيلم كان له حظ كبير في نيل إحدى جوائز تلك الدورة تم استبعاده وإقصاؤه لأغراض شخصية بحتة. ولأني كمخرج سينمائي كنت دائما ـ ومازلت ـ أشق طريقي بمفردي فكان سهلٌ جدا أن يستبعدوني.
ومع ذلك الفيلم تم اختياره ليمثل تونس في اغلب المهرجانات الدولية. فما رأيك في هذه المفارقة!!!
فيلم الأمير شارك في مهرجان وغادوو ونال جائزة أحسن تركيب، ونال جائزة أحسن ممثل في مهرجان وجدة وتم توزيعه في فرنسا من طرف أفضل شركة توزيع لأفلام الكتّاب العالميين مثل «فين فندارس» و«وان كارواي» وعند توزيعه في القاعات السينمائية بعد ركود عشر سنوات ورفض الموزعين التونسيين لتوزيع الأفلام الوطنية، أحدث فيلم الأمير نقلة نوعية في السينما التونسية وصارح الجمهور مع القاعات، ولن أبالغ إن قلت أن فيلم الأمير هو الذي منح الثقة من جديد للموزعين لترويج عدة أفلام تونسية كانت مركونة في المخازن.
*على ذكر فيلم الأمير لماذا قدّم محمد الزرن صورة المثقف بتلك الطريقة الكاريكاتورية الساخرة؟
ـ الكاريكاتور أعتبرها من أهم الوسائل التي ترفد الصورة السينمائية. عبر المشهد الكاريكاتوري يمكنك أن تستفز المشاهد وان تثير فيه نقاط الاستفهام التي يجب أن يثيرها. الكاريكاتور تجسد ما هو غير مرئي.
في فيلم الأمير المثقف يعاني من وطأة العولمة، والمثقف المهموم بترويج الثقافة، الثقافة التي هي أكسجين الإنسان أينما كان. الثقافة اختنقت والأكسجين انحسر. ربما لأن الثقافة لا تملك النجاعة والمردودية الآنية بلغة العولمة طبيعي أن تحتضر. أنا لا أنظر لاحتضار الثقافة أو موتها بالعكس أنا أصرخ أمام هذا الوضع في وجه كل مثقف أن ينتبه وان يتلمس النور في داخله ويفكر في أساليب مواجهة مصائب العولمة وأخطرها الدغمائية الدينية والأصولية المادية.
هناك حدود وحواجز تُرفَع بين الشعوب ووحدها معاول الثقافة القادرة على هدم الحواجز واختراق الحدود، الإرهاب اليوم صار سوقا للربح، صار موردا للتمعش من ثروات الشعوب والأمم.
*إذن هل ننتظر فلما لمحمد الزرن يعالج ظاهرة الإرهاب بشكل مباشر ان صحت العبارة؟
ـ الإرهاب! أتمنى أن أعالجه سينمائيا ولكن ليس بالصورة التي تُروّج اليوم. الإرهاب يشغلني يوميا، لأنه كظاهرة وكمصطلح تشعّب جدا، وأنا أفكر جديا في كتابة سيناريو أعالج ضمنه الإرهاب من الزوايا المستعصية على الفهم والتحليل. أريد أن اكتب ظل الإرهاب وأصور ما هو قابع في ظل ظله.
*لنعد إلى فلم الأمير الذي شرّعت فيه أبوابا واسعة للحلم، وقد قلت أثناء تقديمك لأول عرض له أن من لا يحلم لا يمكنه أن يفكر، هنا أود أن أسألك عن امكان الحلم في عالم يجهض الحلم؟
ـ نحن نعيش في عالم وفضاء كل ما هو ظاهر فيه ينادي ويستفز القوة الكامنة في الإنسان لنفض الغبار عن أحلامه رغم أن العولمة وبشكل حاد تنمّط أحلام الناس.
فيلم الأمير نادى بالحلم كمكسب إنساني فردي هو الأساس في حياته. الحلم هو أساس الحرية ومن دون حلم لا يمكن أن نكون أحرارا، ولا يمكن أن نفكر.
بطل الأمير لم يعش قصة حب بسيطة وسطحية ولكن السؤال الذي طرحه «عادل» البطل هو الإيمان بحرية الحلم وحرية الخيال. الحلم هو طريق الإبداع ومسلك الحرية، بل هو يتساوق معها، في هذا العالم الذي يسوّق كل المواد الاستهلاكية لنسأل هل الناس بإمكانهم تحقيق الأحلام في عالم معلّب.
حرب الخليج وحرب العراق جعلتنا نقف على الأيادي التي تتقن جيدا إجهاض الحرية وودئها باسم ترويج الحرية ذاتها والديمقراطية...
الحلم... الحرية... الديمقراطية كلها مشاريع مؤسسات القوى المهيمنة.
في الأمير، بطل الفيلم يُربّي حلمه فوق أرصفة شارع الحبيب بورقيبة، بل يقتنصه من الامكانات الملقاة تحت عصافير الشارع المنثورة على كراسي المقاهي وفي رحيق زهور ذات الشارع. الحلم هو الذي نكتبه بقلمنا الخاص، لا أعني قلم الكتابة... أعني مختلف وسائل الحياة... محراث الفلاح... ميزان التاجر... عجينة بائعة الخبز... مجاز الشاعر... خطوة الجندي...
*هناك مقولة ترى أن السينما هي صناعة الحقائق والأكاذيب معا وأنت صوّرت الأمير في شارع الحبيب بورقيبة... شارع الألغام الحقيقية فكيف تفاديت ألغام الواقع تلك التي يصفها المخرج البريطاني مارك كوزينس؟
ـ يقول أوسكار وايلد، الكذب هو أداة إبداع. الكذب هو مجال تخصيب الخيال ولذلك نحب المرأة الكذوب ونستمتع بكذب الطفل الصغير ونصدّق مجاز الشاعر الكاذب...
في الأمير تراءى للجمهور بأن ذاك الشارع المزدحم هو شارع الحبيب بورقيبة. هو فعلا الشارع وهو في نفس الوقت ما هو إلا الشارع الذي رسمته في خيالي... شارع الحبيب بورقيبة هو في خيالي أكذوبة وهو في ذهن المشاهد حقيقة... أكذوبة لصناعة السينما.
الألغام التي تفاديتها ورقصت كاميرا الزرن أمامها تمثلت في عُسر التحكم مثلا في حركة المرور أو في حركة جولان الملامح والعصافير. تخيل أن آلافًا من الناس العابرين في الشارع توقفوا لمشاهدة عمليات التصوير... وعندما تنهي الفلم لا تجد تلك الألغام لقد اجتهدت في صياغة خطواتي أمام ألغامه لأقدم أكثر من مائة دقيقة عن شارع أحبه واعتبره جزءا مني.
*على ذكر الواقع والواقعية، هل تعتبر السينما كتابة تاريخية في احد وجوهها وشاهدة توثق مرحلتها؟
ـ نحن محكوم علينا أن ننتج أفلاما تعبر عن دواخل الناس، أحلامهم وشجونهم، وفي نفس الوقت يجب أن يكون المخرج شاهدا على مرحلته، وبالتالي فالعامل التوثيقي موجود بل هو أساسي لحماية مخزوننا الثقافي والتاريخي، ولذلك ترى في أفلامي عمقا وثائقيا على اختلافهم وهذا ناتج عن إيماني بقيمة القيم الإنسانية، ومن فلم لآخر أمر بفلم وثائقي طويل وهو بمثابة مصالحة مع ذاتي وتعبير عن القيمة التجريدية التي تعتمل بداخلي كمخرج أو بداخل الممثل أو المكان أو الزمان...
*إذن أنت الآن في حالة مرور أو لنقل عبور فبعد الأمير ها انك تنهي تصوير فيلمك الجديد منذ أيام؟
ـ فلم «الفصول الأربعة للطاهر وشمعون» يندرج في مسار مواصلة بحثي عن حقيقة السينما وهي إنسانية الإنسان لأنها الجواز الكوني الذي يربط وجودنا ويؤسس تواصلنا.
في هذا الفلم حاولت أن أرصد بعمق التسامح، المحبة، التطوّر وهذه هي غاية الفلم، من ذلك أني أدمجت في الفلم شخصيات كلهم من اصل مدينة جرجيس، شخصيات مختلفة ومتناقضة، ثانوية ورئيسية، كلها تعبّر عن وجود إنسان اليوم وعن شكل إقامته في العالم، منهم اليهودي والمسلم والمسيحي على تعدّد أديانهم وجنسياتهم وثقافاتهم، فيه العامل والعاطل، فيه العجوز والشاب، الأمي والمثقف...
جرجيس اليوم، هذه المدينة تحضن كل هذه الملامح وكل هذه التناقضات والاختلافات وأيضا كل هذا التلاقي والتواصل... جرجيس قد تكون مدينة في نيويورك أو في الهند... جرجيس صبغتها بمسحة الكونية وهي بالفعل كذلك.
*قبل عشرين سنة كانت في تونس 90 قاعة عرض لم يبق منها الآن إلا 13 قاعة وهي لا تعرض بانتظام، فمن يتحمل مسؤولية هذا التراجع حسب رأيك، الدولة وحدها أم أهل القطاع أم الاثنان ومعهما الجمهور؟
ـ أعتقد أن القاعات التي مازالت كلها، صارت هي الأخرى جثثا مفتوحة على ظلمة الجدران وفراغ الكراسي، وأعتقد أن قاعة «أفريكا آر» وحدها الآن قد تؤسس لجسد سينمائي حيّ يتنفس ويتحرك.
ولايات كاملة لا تتوفر بها إلا قاعة سينما يتيمة وفي الغالب الأعم تجدها مغلقة!!! في جرجيس مثلا قاعة واحدة تم إغلاقها «بالياجور»، في مدنين هناك قاعتان مغلقتان وبالمثل تطاوين وبنقردان لا وجود بتاتا لقاعة سينما، في جربة هناك قاعة خاصة لا يؤمها الجمهور، آخر مرة دخلتها وجدت فيها 5 مشاهدين فقط !!!
هناك عدة عوامل خلقت ثقافة حينية، استهلاكية، نمّت البُخل بشكل فظيع، ثم الانغلاق الفكري الذي صار حاجزا سميكا، والوضع لا ينطبق على السينما وحدها بل على الشعر والمسرح والكتاب والرسم والموسيقى وكل تعبيرات الحلم...
الأولوية الأساسية التي يجب أن تتضافر من اجلها كل الأطراف، مؤسسات الدولة والمثقف والمواطن، هي بث النور في الظلمة، ظلمة قاعات السينما هي من ظلمة العقول... صحيح أننا بحاجة لطرقات سيارة وجسور وقناطر ولكن أيضا نحن بحاجة لإنسان متنوّر يعرف كيف يمشي فوق تلك المنجزات، وهذا لا يخصنا نحن كتونسيين فقط، وإنما يخص كل الدول العربية.
*لك البياض المتبقي لتنهي هذا الحوار كما تشاء؟
ـ تقفز إلى مخيلتي الآن صورة كاريكاتورية تتمثل في أن برميل النفط عندنا نحن العرب فاق المائة دولار، معمار خيالي في العواصم وخيال يرتدُ ويتراجع بشكل جنوني... يا للأسف...

"زيادة الحاكم"

يحتشد ذهننا نحن التونسيّين، عمّالا أو موظفين، طلبة أو تلاميذ، متعلمين أو أميين، مدنيين أو ريفيين، تقدميين أو رجعيين.... تحتشد أذهاننا جميعا بجملة من المعتقدات التي لا تكرّس إلاّ تأخّر إيماننا بفعل المواطنة الحقيقية، ومن بين تلك المعتقدات التي تجري على ألسننا جريان الدّم في الشرايين تلك المركبات اللغوية المعلومة لنا جميعا وكأنها حقائق ثابتة وليست أوهاما مثل قولنا «عشرة الحاكم» و »زيت الحاكم» و »ضو الحاكم» و »طريق الحاكم» وكذلك «زيادة الحاكم» وهي التي تعنيني ضمن هذه الأسطر العابرة...
تعنيني «زيادة الحاكم» لأننا نعيش هذه الأيام جولة جديدة ومهمة من المفاوضات الاجتماعية حيث تجلس يوميّا إلى طاولة التفاوض، الأطراف الثلاثة بنفس النديّة والحجم وهم الاتحاد العام التونسي للشغل ممثل العمّال والعاملات بالفكر والساعد واتحاد الصناعة والتجارة منظمة الاعراف والطرف الثالث الحكومة ممثلة في مختلف وزاراتها ومؤسساتها العمومية، ومعلوم أن المفاوضات الاجتماعية التي تُجرى مرّة كل ثلاث سنوات تنظر في مستوى عيش «المواطن التونسي» وفي سبيل تحقيق الموازنة بين مستوى الدخل ومستوى العيش وغالبا ما تنتهي تلك الجلسات التفاوضية بإقرار زيادة في الاجور لعموم العمّال والعاملات، غير ان كل المنتفعين بملاليم الزيادة تراهم في كل شبر من البلاد يتحدثون عن زيادة الحاكم!!! والحال أن الاتحاد العام التونسي للشغل هو الذي يطالب بضرورة تلك الزيادة ولأجلها يكوّن المفاوضين ويدربهم وتناضل كل طاقاته من اجل تحسين الحد الأدنى المعيشي... والحال أيضا أن الحكومة والاعراف غالبا ما يتعللون بالظرف الاقتصادي العالمي او بطبيعة تغير المناخ والطقس الذي أثرّ في موارد البلاد الطبيعيّة..
تصوّروا طبيبا أو مهندسا أو أستاذا جامعيّا يتحدّث عن زيادة الحاكم وبالمثل تلاميذ معاهدنا وطلاّب جامعاتنا تسمعهم أيام الامتحانات يتحدثون عن تحصيل «عشرة الحاكم» على الاقل.. وكأن الحاكم هو الذي يدرس ويسهر الليالي!! و جدّتي تقول لي إنّها تكرهُ «عظم الحاكم» وأنها تحب «العظم العربي»... وكل المركبات اللغوية الاخرى التي لا تؤكد الا استفحال ذهنية فقدان صيغة المواطنة تلك القيمة المكتسبة عبر جملة من الممارسات وعبر جملة من المبادئ التي يؤمن بها الانسان ولا يمكن للمواطنة أن تُهدى أو تُعطى هكذا مثلما يتوهم التونسيون أن الحاكم يمنحهم الزيادة... ويعبّد لهم الطريق...

2008/05/27

منتدى ثقافي... ثقافي

يرى الدكتور عبد السلام المسدي أنه ليس من معنى ولا من وزن لموقف المثقف العربي الذي يقول بحتمية الحدث التاريخي فيعلن تسليمه بأن العولمة شيء حاصل بالفعل ما لم يكن له وعي بأن الحاصل بالفعل لا يلغي وجود الحاصل بالقوة ألا وهو العولمة المضادة هذه الفقرة القصيرة والمكثفة التي عثرت عليها في كتاب الدكتور محمد حسين أبو العلا دكتاتورية العولمة قراءة تحليلية في فكر المثقف بدت لي وهي بالفعل كذلك كافية بل مستفيضة لتشخيص حالة اليباب التي تكتسح أرض المثقف العربي... هي أرض يباب تنوس فيها أشباح وظلال تخينة وقصيرة وشاحبة باهتة :كتّاب، شعراء ، روائيّون ، قصاصون ، نقاد، مغنون، عازفون, رسامون, سينمائيون, مسرحيون... كلهم يحملون صفة مثقف وأغلبهم يقفون فوق ربوة نائية جدا عن الأزقة والمنعطفات ... ينأون عن المعامل والمصانع ومخازن الشركات العابرة للإنسانية... كلهم بعيدون عن تفاصيل الوجع اليومي وعنه ساهون لا نراهم إلا مجازا فوق الأوراق البيضاء... فوق خشب المسارح الضيقة والمغلقة للترميم... في ظلمة قاعات السينما البالية... أو في الملتقيات الولائمية والمآدب الاحتفالية... نراهم متوارين خلف هذه الأطر يكتبون عن الظلم... عن الاستغلال... الاستبداد... يشخصون الماسي... يصورون آلام البشر... يسلطون الأضواء على عتمة الخراب المعمم في جغرافيا الأحزان التي تسمى وطنا عربيا... وأيضا يبشرون بوجه أفضل وأجمل لوجود آخر بملامح أخرى ومقومات أخرى... هل تكفي الأوراق والريشات والصور والأقلام لإيقاف تسو ناميات الاستبداد الثاوية داخل كل حاكم جائر؟ هل تكفي مثل هذه الأدوات لإيقاف تسو ناميات الاستغلال الثاوية داخل كل رأسمالي يجوع آلاف النساء ويشرد آلاف الأطفال والرضع ؟ هل تكفينا آلاف القصص والروايات والأفلام والمسرحيات والرسومات واللوحات والأغاني والقصائد للوقوف صدا منيعا أمام زحف الموت والخراب القادمين من صمتنا ومن غطرستهم ؟ هل تكفينا جميعها لنرسم بديلا حقيقيا وصيغة أخرى لحياة من سيأتي بعدنا ؟؟؟ ربما تكفينا وتكفي أجيالا قد تتناسل من جراحنا تكفينا بالقدر الذي يُتقن واضعو هذه الأعمال وخالقيها حسن توظيفها والتمسك بالمواقف المقدمة من خلال تلك الإبداعات قد تكفينا بالقدر الذي يتحمل فيه الفنان والمبدع والمثقف مسؤوليته كاملة فيما يكتب ويصور ويعبر... بالقدر الذي يمارس فيه المبدع المثقف قناعاته الحبرية على الأرض الترابية، وأظن أنه من غير المجدي أن أذكر أسماء مثل مظفر النواب، مرسال خليفة، عبد الرحمان منيف، صنع الله إبراهيم ، جان جونيه، جون كوكتو ، محمد شكري، تيسير علوني ، غسان كنف اني ، محمد علي الحامي ، الطاهر الحداد ، رضا الجلالي... الفاضل ساسي، منوّر صمادح، جليلة بكّار... إن الثقافة تكفينا بالقدر الكافي عندما تترجل وتسير مع العاملة والعامل. تسير جنبا إلى جنب مع المزارع والمزارعة ... مع المعطل والمعطلة عن الشغل ... مع المهمش والمقصي والمفرد ... تسير معهم جنبا إلى جنب فوق الأرصفة الإسفلتية للأزقة المظلمة في المدن المثخنة بآلامها... إن الثقافة تكفينا بالقدر الذي يقف فيه المثقف في الصف الأمامي لتظاهرة شعبية... عندما نراه في الصف الأمامي لمسيرة سلمية... لتجمع عمالي من أجل حق مدني أو نقابي أو سياسي ... عندما نراه يشبك ذراعيه في الصف الأول مع عضو نقابي شاب أو مع شابة حقوقية أو طالب معطل عن العمل أو مع والدة سجين أو زوجة معتقل ... تكفينا الثقافة عندما يقف المثقف في صف الشعب... تكفينا الثقافة عندما يتحرر مثقفينا من عصبية البن وتجمعات المقاهي الرديئة والحانات الموبوءة ويترجلون داخل شرايين المدينة وفي ساحاتها العامة... تكفينا الثقافة عندما يتفق مثقفونا وفنانونا ومبدعونا على ضرورة السعي نحو تشكيل منتدىً ثقافيًا عربيًا يتوج بعد العديد من المنتديات الوطنيةوالإقليمية، منتدىً ترتفع فيه الرواية والمجموعة الشعرية والمجموعة القصصية والقيثارة والعود والريشة واللوحة وكتاب النقد والصورة الفوتوغرافية والمقالة الهادفة... وعين الكاميرا الثّاقبة... عندما يتشابك كتاب المثقف وقلمه مع ريشة الرسام ولوحته بمنجل المزارع والمزارعة وبمطرقة العامل وبقبضة النقابي وهتاف الحقوقي... عندما تتشابك هذه الأدوات سيحق لنا أن نحلم بوطن يحترم مواطنيه... عندما يفيض شارع الحمرا ببيروت اللبنانية بالمثقفين والمبدعين, أو شارع طلعت حرب بالقاهرة المصرية, أو شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة التونسية أو شارع الثورة بالعاصمة الجزائرية أو شارع الرشيد ببغداد العراقية.. أو شارع عمر المختار في الجماهيرية الليبية... عندما تفيض هذه الشوارع بالمثقفين والمبدعين والفنانين يحق لنا ساعتها أن نحلم بوطن يحاكم مجرميه... عندما تنتصب خيام عملاقة في المدن الصغيرة المتوارية خلف الجبال والهضاب أو الشاردة في الصحارى والفيافي وفي المناطق النائية التي تسمى بهتانا مناطق ظل ... ساعتها يمكننا أن نحلم بوطن ينعم كل مواطنيه بخيرات حقوله ومصانعه.
بين الحاصل بالفعل والحاصل بالقوّة يقف موقف جريء وخطوة عمليّة تُسمّى منتدى ثقافي ينأى عن التنظيمات الإداريّة والبرامج الساذجة والغايات الفئويّة... منتدى ثقافي يتحدّى واقع العولمة ليؤسّس عولمة مضادّة ترتفع فيها قامة الإنسان أعلى وتتسانق فيها قيمة الحريّة نحو ذُراها...

النجاحات التونسية

تمكّنت عدة دول في العالم من تحقيق ثروتها الصناعية ونجحت دول أخرى في تحقيق اكتفائها الذاتي في الغذاء ونجحت دول في تطوير طاقتها النوويّة، ودول أخرى من الحفاظ على توازنها البيئي، ودول نجحت في تأمين أمنها الداخلي والقومي... ونجحت منتظمات أخرى في تحقيق نسبة عالية في العدالة الاجتماعية... وجميع هذه النجاحات وغيرها تعتبر المحرار الحقيقي في زمننا المعولم لتصنيف الدول والتجمعات الإقليمية ضمن خانة التقدّم الذي يحمي الوطن أولا ويجعله مهابا من باقي الدول من ناحية ثانية...
أما نحن فقد نجحنا بامتياز لا نظير له لا في الشرق ولا في الغرب في تحويل وجهة أعناق الشعب إلى المربع الأخضر... إلى المدارج الإسمنتية والخشبية... إلى الجلد المدوّر...نجاحنا هذا ندين به أساسا إلى آلتنا الإعلامية بكل تمظهراتها، قنوات تلفزية، إذاعات، صحف، مجلات، مواقع إلكترونيّة... كلها تظافرت من أجل إبدال عمرنا الإنساني بعمر رياضيّ بحت...
الاثنين الرياضي، الثلاثاء الرياضي، الأربعاء الرياضي، الخميس الرياضي، الجمعة الرياضي، السبت الرياضي، الأحد الرياضي... العمر الرياضي!!
صرنا ننام على الكرة وعليها نفتتح صباحاتنا... في البيت، في المدارس، في المعهد، في الجامعة، في مكاتب الشغل، في المقاهي، في الحافلات، في الميترو... وفي كل شبر من البلاد صار حديث الشعب التونسي عن الكرة وعن تفاصيلها...
نلوك أحذية اللاعبين وجواربهم ليلا نهارا...ونُغرق أيامنا في عرقهم وندجّج ألسنتنا بألفاظهم السوقية.. حتى صرنا نعيش داخل ملعب كرة قدم مساحته 164 ألف كيلومتر وجماهيره أكثر من عشرة ملايين...
أنا لست ضدّ الرياضة كعنصر من عناصر تكوين شخصية الفرد وملمح من ملامح مجتمع ما... ولكنّي أمقتها عندما تتحوّل إلى نشيد رسمي الكل يعزف على أوتارها... ولو كنت مُلمًّا بكرة القدم التونسية لتمكّنت من تدوين عودة العصبية الجهويّة بين جهات البلاد ومن تدوين الهبوط الصاروخي للأخلاق التي صارت مثل الكرة تتقاذها ألسن اللاعبين على الهواء مباشرة وحصريّا بكل فخر على قنواتنا الثلاثة حنبعل وتونس سبعة وقناة21...
0وصارت حركات اللاعبين مرجعا للشباب... الشباب الذي أهمل دراسته بسبب الكرة...
والذي سلّم في حقه في الشغل بسبب «حربوشة» الكرة...
وتثمينا لهذا النجاح الباهر أقترح ضمن هذه المساحة أن تتخلّى قناة تونس سبعة مثلا عن أخبار الساعة الثامنة وتعوضها بحصة رياضية، وعلى قناة حنبعل أن تستبدل برنامج زوم على الثقافة بحصة رياضية وعلى قناة 21 أن تستبدل فوروم الشباب بنقل المباريات الرياضية وإعادتها لمزيد الاستفادة منها، بل أقترح أن ندرج في جامعاتنا العلميّة والإنسانية شهادة في الرياضة.. من أجل تدعيم نجاحنا وعزّتنا أمام تلك الأمم التي تخال نفسها تقدمت بالعدالة الاجتماعية والسلاح النووي والأمن الغذائي وحقوق الإنسان وهي لا تعرف أن الكرة جوهر التقدّم...(؟)

2008/05/24

حوار مع المفكر محمد أركون


العرب و المسلمون ابتعدوا عن الفتلرة الذهبية للفكر العربي و الاسلامي

يعد المفكر العربي، جزائري الأصل محمد أركون من بين المفكرين القلائل الذين يحملون مشروعا فكريا تنويريا يحاول من خلاله أن يساهم في إثراء الفكر العربي والمعرفة الإنسانية عموما، وهو مشروع انطلقت إرهاصاته الأولى منذ نهاية سبعينات القرن الماضي ولا يزال متواصلا الى الآن تنظيرا وممارسة. ويُعتبر المفكر الجزائري محمد أركون، الى جانب المفكر التونسي هشام جعيط، أهم مفكرين عربيين فتحوا المجال أمام «العلماء المعاصرين» للخوض في مسألة الدين أو الإيمان أو الروحانيات من دون الشعور بالنفور أو الخوف، ولن نغالي إن قلنا إن نقد العقل الإسلامي أصبح يختلف، بفضلهما، عما كان عليه الحال لدى المؤمنين التقليديين المسجونين داخل «السياج الدوغمائي المغلق» كما وصفهم محمد أركون ذاته.
وكما يذكر مترجم أغلب نتاجات أركون الفكرية، هاشم صالح في تقديمه لكتاب أركون «من الاجتهاد الى نقد العقل الإسلامي» أن «الدراسة المقارنة للتجارب الروحية والتاريخية للأديان التوحيدية الثلاثة الكبرى تثبت لنا ضرورة تجاوز المفهوم التيولوجي السكولاستيكي الذي سيطر طيلة قرون وقرون».وبخوض محمد أركون لتاريخ الروحانيات تقدم أشواطا مهمة في سحب بساط الامتياز الذي كانت تحتكره فئة الفقهاء والمتدينين المتزمتين في النظر العقلي والتطبيق المنهجي وفقا لأرضية ابستيمية محض للنصوص المؤسسة للأديان السماوية ليقف في أكثر من عمل فكري على شروط ومحدودية ممارسة الاجتهاد في الفكر الإسلامي الكلاسيكي خاصة، من أجل مواجهة تحديات الحداثة العقلية والثقافية والمادية المفروضة على العقل العربي من قبل العقل الغربي منذ القرن التاسع عشر. فمن خلال استضافة الاتحاد العام التونسي للشغل وتحديدا قسم العلاقات الدولية والعربية والهجرة المفكر العربي محمد أركون لإلقاء محاضرة تبحث إشكالية العلاقة بين الفضاء الأوروبي والفضاء العربي ، سنحت لنا فرصة محاورته بشكل خاطف حيث قدم بعض الخطوط العريضة، لقراء الشعب، حول تاريخية الفكر العربي وتاريخية الفكر الأوروبي وحول صراع العقل الفلسفي والعقل التقني وحول مفهوم العنف السياسي والإرهاب والتطور...فيما يلي نص الحديث
تقدمون على منبر الاتحاد محاضرة حول العلاقة بين العالم العربي والاسلامي وأوروبا فكيف تقيمون دكتور محمد أركون مسيرة البناء التاريخي والفكري الخاصة بأوروبا؟
ـ عندما نقول العالم اليوم نشير الى أمم مختلفة في تطورها وفي ارتباطها بما يسمى الغرب، لأن تاريخ ما يسمى الغرب، والأصح بما يسمى أوروبا، هو تاريخ استثنائي بالنسبة الى جميع الثقافات المتعثرة اليوم على مستوى العالم. هذه الملاحظة التاريخية ضرورية لنفهم مثلا أن ما يعنينا كمجتمعات مرتبطة بالتعاليم الإسلامية لها خصوصيات تميزها من المسيرة التاريخية الخاصة بأوروبا. أوروبا تختص بالاعتماد على مصادر تاريخية ثلاثة، أولا الفكر اليوناني الذي يمكننا أن نختصره في مفهومي الصراع الفكري بين اللغوس والميتوس، وثانيا هو المصدر الروماني، إذ الرومان أنشؤوا مفهوم «الشيء العمومي» الذي يهم العموم ويهتم به العموم (La Républice ) وهو مفهوم أساسي ومؤسس، ثم إن الرومان أسسوا منظومة شرعية انتشرت في الفضاء التاريخي الروماني الذي يشمل الشمال والجنوب للبحر المتوسط، وشمال المغرب وشمال ما نسميه اليوم الشرق . والمصدر الثالث هو المسيحية وتحديدا المسيحية الكاثوليكية لأن الكنيسة الكاثوليكية ورثت هي الأخرى واعتمدت في تاريخها على المصادر الثلاثة، وقد أشار البابا بانوا 16 في محاضرته الأخيرة التي أثارت غضب العرب والمسلمين، أشار الى هذه النقطة العقائدية والفكرية التي تختص بالروابط المتواصلة بين ما سماه اللغوس اليوناني والإيمان الكاثوليكي. وما نسميه اليوم أوروبا، الأمم الأوروبية بنت تاريخها على هذه الأسس الثلاثة وطورت هذه الأسس تطويرا فكريا وشرعيا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا بصفة متواصلة وبصفة ثورية، والثورة المؤسسة لاستعمال العقل الجديد هي الثورات الثلاث الأنقليزية أو البريطانية في 1648 والفرنسية 1789 والأمريكية الآن. هذا هو المصدر التاريخي لما نسميه الحداثة.
وإذا ما حاولنا الوقوف على المسيرة التاريخية للفكر الإسلامي
ـ إذا ما قارنا المسيرة التاريخية للفكر الإسلامي وللثقافات المرتبطة بالإسلام بالمسيرة الأوروبية سنكتشف أن الفكر الإسلامي الذي انطلق مع الفتوحات بعد 632 ازدهر أثناء مدة طويلة الى 1258 حيث سقط النظام، نظام الخلافة وحلت محله إمارات في مناطق مختلفة حتى جاءت الإمبراطورية العثمانية بعد فتح قسطنطينية التي أصبحت اسطنبول مع الإمبراطورية المعروفة، ولكن هذه الإمبراطورية نهضت نهضة ملحوظة في الميدان السياسي والعسكري والمعمار الرسمي بينما شاهدنا في نفس النهضة الإعراض عن الثقافات والتراث الفكري باللغة العربية الذي أنتجه جماعة من الأدباء والمفكرين والباحثين فيما نسميه الحضارة الإسلامية الكلاسيكية، وعلى عكس ما أشرنا إليه بالنسبة الى المسيرة الأوروبية، بدأت الحضارة الإسلامية تبتعد وتنسى المنجزات الفكرية الأساسية الخاصة بالفترة الكلاسيكية للفكر العربي الإسلامي وتقلصت المعاجم العربية التي كانت متوفرة سابقا بسبب نسيان المؤلفات الفلسفية والعلمية وحتى المذاهب العديدة التي كانت تتناظر في جو فكري تسوده التعددية الفكرية حتى غاب كذلك عن الفكر الإسلامي ما كان يسمى علم الكلام وغابت كذلك العلوم وما تبعها من المناظرات العلمية فيما يتعلق بما يسميه الفقهاء استنباط الأحكام من النصوص.
وتواصلت أزمة الفكر العربي والإسلامي ووقفت الحضارة العربية والإسلامية عن البناء الى الآن؟
ـ نعم، هذه القطيعة الفكرية والثقافية والعلمية في تاريخ الفكر الإسلامي والتي استمرت وتعمقت في نفس القرون التي استغلتها أوروبا لبناء الفكر الحديث والمنظمات العلمية الحديثة والأنظمة السياسية الحديثة التي جعلت أوروبا تسير أمام جميع الثقافاثُ الأخرى في العالم وجميع المنظمات الأخرى، وهذا التفوق في تطوير العقل النقدي البَحّاث بفضل ما استفاده من التمرين الفلسفي في الاجتهادات الفكرية وفي الاعتماد على المنهاج العلمي التجريبي حتى تمكنت أوروبا من احتلال المناطق العالمية خارج أوروبا حيث شاهدنا بلدا مثل هولندا، ذي المجتمع المتواضع يستولي على القارة الأندونيسية، وهذه النقطة التاريخية لم نتعرض لها تعرضا تساؤليا ونقديا في المجتمعات العربية الإسلامية الى يومنا هذا، وهذا ما دفعني الى إصدار موسوعة تاريخية بعنوان «تاريخ الإسلام والمسلمين بفرنسا من القرون الوسطى الى يومنا هذا» وألححت في مقدمتي للموسوعة على الاتجاه التاريخي المعاكس بين تاريخ الفكر الإسلامي وتاريخ الفكر المسيحي وإنتاجه للحداثة وتطورات الحداثة بصفة متواصلة ومتزايدة في الانقلابات المعرفية والقفزات الثورية العلمية الى يومنا هذا، وللفجوة العميقة التي شاهدناها فيما يتعلق بانعزال الفكر الإسلامي ، منذ نشوئها دخلنا بعد ظهور الدول بعد التحرر من الاستعمار في فجوة أعظم وأشد خطرا ـ وهي الفجوة التي تفرضها علينا العولمة ـ بين المجتمعات الداعية الى النموذج الحضاري الإسلامي وبين ما نسميه دول الغرب دون أن نكون على علم بما يشار إليه من قطيعات معرفية عندما نقول الغرب من جهة والإسلام من جهة أخرى، إذ أصبح هذان المفهومان الجغرافيان السياسيان قطبين إيديولوجيان ميثولوجيان، والتصور الإيديولوجي والميثولوجي متبادل بين ما نسميه في كتب يعدمها الفكر النقدي تصدر في الساحة الإسلامية وفي الساحة الغربية.
كيف تقيمون دكتور محمد أركون انحسار العقل الفلسفي اليوم أمام الاكتساح الرهيب للعقل التقني أو لعقل الدمار الشامل ؟
ـ فيما يتعلق بدور الفلسفة اليوم، فالعقل الفلسفي قد حل محله اليوم ما يسمى télé - techno - scientifique ولهذا العقل أهمية سياسية كبرى لأن الدول الغربية تعتمد عليه لتمويل البحوث المتعلقة بالتكنولوجيا ووسائل الإعلام لتزداد قوتها هيمنة على سائر العالم، ونتيجة ذلك هو اضمحلال وتهميش دور الفكر الفلسفي في المجتمعات الغربية.
ولكن ماذا حدث للأديان وهيمنتها في هذا التطور الذي يسود العالم كله جعل المجتمعات غير الغربية تتخبط في مآزق تاريخية أمام هيمنة شاملة متزايدة من الأمم الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية ؟
ـ يجب علينا أن لا نكتفي بترديد هذا الوصف السياسي الإيديولوجي لهيمنة الغرب من جهة وضعف معظم المجتمعات المهمشة في العالم. لقد أصبح من أعجل الضرورات التاريخية على المجتمعات العربية والإسلامية أن تقوم بتاريخ ذاتي نقدي وأن تفتح المجال الى ما أسميه سوسيولوجية الإخفاق لجميع النشاطات الفكرية التحليلية النقدية في السياقات الإسلامية المعاصرة الى حد أن الخطاب الإيديولوجي طغى على سائر الخطابات ومنها الخطاب التاريخي والخطاب السوسيولوجي والخطاب الأنثروبولوجي والخطاب الالسني إذ هذه الخطابات كلها مفروضة على كل مجتمع معاصر للنصف الثاني من القرن العشرين وبالأحرى للقرن الجديد الذي دخلناه منذ قليل، وإذا بالخطاب العربي يبقى منعزلا عن هذه الخطابات ولم يتمكن من الخروج من المآزق التاريخية التي تتخبط فيها منذ استقلال جميع المستعمرات الى يومنا هذا. هناك إخفاقات سياسية، اقتصادية، اجتماعية وناهيكم عن الإخفاقات الفكرية والعلمية التي تفرضها علينا جميع القوى العاملة في تطوير العولمة وفرضها على جميع المجتمعات التقليدية المحافظة على عقائد دوغمائية والمعتمدة على شعارات إيديولوجية للكفاح ضد العدو الكبير وإبليس وإخوانه المناحيس.
كيف تفسرون دكتور محمد أركون ظاهرة العنف المنظم الممارس على الدول الضعيفة من قبل الدوائر الامبريالية باسم مكافحة الإرهاب والتطرف الديني؟
ـ نشاهد أن ظاهرة الإرهاب قد ازدادت خطورة داخل المجتمعات الإسلامية نفسها ولم توجه فقط على الغرب كعدو كبير كما يوجه الغرب حربه ضد عمود الشر والإسلام الفاشستي كما سماه الرئيس الأمريكي وهذا يدل أننا بلغنا في الجهتين قمة العنف السياسي ما بلغته الأمم في تاريخها الماضي إذ العنف اليوم في ممارسته على سطح الأرض مع الحروب الأهلية التي تشتعل في مجتمعات عديدة، هذا العنف ينبهنا الى فشل الأديان وفشل الثقافات وفشل الحداثة أيضا في التعرف الى أسباب العنف وجذوره الحضارية في تاريخ المجتمعات البشرية والمهم والعاجل بالفكر المعاصر هو أن يأخذ بعين الاعتبار ظاهرة العنف كظاهرة أنثروبولوجية لا تنحصر على دين من الأديان ولا على مجتمع من المجتمعات ولا على فكر قديم ولا على فكر عصري من المنظمات الفكرية، بل تشمل الوضع البشري برمته.أقول وكتبت الكثير عن العنف كقوة عاملة مع قوتين أخريين هما الحرام والحقيقة. فالعنف والحرام والحقيقة تشكل مثلثا أنثروبولوجيا، والمجتمعات البشرية كلها من دون استثناء، أقدمها وأحدثها، أقواها وأضعفها... خاضعة لإنتاج تاريخها داخل المثلث الأنثروبولوجي المتكون من العنف والحرام والحقيقة. صحيح أن الأديان سعت في تحديد الاعتماد على العنف في إنتاج وجود البشر ولكنها في نفس الوقت لم تمكن الانسان من الخروج النهائي من إطار «نحن /هم» حتى يصبح الانسان يعتمد على «نحن» الشامل لجميع الناس مهما كان دينهم وعقائدهم ومذاهبهم، وكذلك الحداثة لم تنجح في هذا التطوير للفكر من الأنا القومي الذي يرفض ويعادي الآخرين إلا إذا فرض عليهم هيمنته السياسية والثقافية. هذا هو التحليل الفكري والثقافي لظاهرة العنف ونرى أن هذه المقاربة تفرض علينا مراجعة الأديان ومراجعة مقدمات الحداثة اعتمادا على مقاربات انثروبولوجية لجميع المنظومات الفكرية الموروثة وهذا داخل في اجتهادات الانسان لإنتاج مشروع ونموذج موجه الى إنتاج تاريخ أنسني (Humaniste) بعيدا كل البعد عن الفكر الطوائفي والفكر القومي والفكر الداعي الى الدين الحق والأديان الخاطئة، هذا هو ما يسميه محمد أركون منذ خمسين سنة ويدعو إليه في كتبه وفي تعليمه ويختصر هذا كله في مفهوم المساهمة لنشاطات ومساعي «العقل المنبعث» أي الذي ينبعث في سياقات الصين والهند وإفريقيا وسائر القارات في أرضنا المحدودة والضيقة للأحلام التي يدعو إليها العقل المنبعث.

2008/05/23

وليمة الفئران


الأفكار لا تشبه الجثث، فهي غير قابلة لا للتعفن ولا لتّـحلّل الا متى أردنا نحن ذلك (ناجي الخشناوي)...

يُكلف طلبة جامعاتنا وكلياتنا ومعاهدنا العليا المرسمون بالسنوات النهائية،
بإعداد أطروحات بحث يشرف عليها أساتذة ودكاترة جامعيون وتتم مناقشتها بعد انجازها من قبل الطالب او الطالبة بالشكل المطلوب والمأمول الذي يؤشر عليه المشرف، وتطرح امام لجنة من الاساتذة والدكاترة الجامعيين للتأشير عليها بالنجاح.
وبعد ان يقيم الطالب او الطالبة حفلة لنيل شهادة المحصلة العلمية الاكاديمية، وبعد ان تثني على مجهوداته الفكرية تلك اللجنة المبجلة وتزهو عائلتة أو عائلتها بنجاح ابنها او ابنتها، بعد كل هذا يُركن بحث الاطروحة او الرسالة رفوف مكتبة الكلية او الجامعة مثلما يركن كل استاذ وكل دكتور من اعضاء لجنة الاشراف، النسخة التي تحصل عليها، دُرج مكتبته الخاصة، هذا ان لم يتلفها.
مثل هذه البحوث والرسائل الجامعية تفوق الالاف في السنة الواحدة في مختلف الجامعات والكليات والمعاهد العليا، فهي تطرق كل المجالات والمدارات الفكرية، حديثها وقديمها، شرقيها وغربيها، فهناك بحوث أكاديمية ذات قيمة علمية في الحضارة والآداب العربيين وبالمثل في مختلف الحضارات والآداب الغربية والمشرقية، وهناك أطروحات وبحوث في العلوم الاجتماعية و العلوم الاقتصادية والعلوم السياسية والعلوم القانونية، وفي العلوم الانسانية بصفة عامة، فلسفة وتاريخا وجغرافيا ولغات وقانون، وبالمثل هناك بحوث وأطروحات علمية في الموسيقى والمسرح والسينما، ولدينا بحوث ختم الدراسة والتكوين في الاعلامية وفي العلوم التقنية والميكانيكية والطبية...
الاف مؤلفة من المؤلفات الاكاديمية التي تصرف لأجلها الاموال، والتي غالبا ما يتكبدها أولياء الطلبة، ثم تركن في الرفوف الخشبية للمكتبات الجامعية والخاصة فتصير حواشيها وليمة دسمة للفئران والجرذان والاغبرة، وفي أحايين قليلة لأصابع مترددة ومرتبكة، عادة ما تكون لطالب أو لطالبة، تدفعها او يدفعه فضول معرفة محتوى بعض تلك البحوث وتلك الاطروحات او قد يغريها عنوان او تستفزه مقاربتها وطرحها لمسألة ما... اما عدا ذلك فان كل تلك الاوراق المصففة بعناية والموشاة بالاهداءات الحميمة فهي دائما منذورة للتلف وللائتلاف وللنسيان ولعدم الترويج ولقلة الانتفاع بما تحويه من افكار...
طبعا هنالك ما يسمى بالنشر الجامعي، ولكن جل المؤلفات والمنشورات التي صدرت في هذا الاطار هي لاسماء معلومة سلفا وغالبا ما تكون متنفذة في مجالها الجامعي، بل ان هؤلاء الجامعيين منهم من ينشر كتابا في فرنسا وثان في بيروت وثالث في تونس ورابع في اطار النشر الجامعي موصدا بذلك كل منفد لاسم جديد ولفكرة جديدة...
ان طرحي لهذه المسألة إنما هو للفت النظر الى ان تأثيث مكتباتنا لا يمكن ان يكون بالكتب الوافدة علينا فقط، كما انه لا يمكننا ان ندفع بالكتاب التونسي نحو قارئه الوطني فالاقليمي فالعربي والعالمي عبر الترجمة، ما لم نفتح افق النشر الجامعي قدر المستطاع، فالثابت والاكيد ان اغلب القراءات والتأويلات والمقاربات الوافدة على ذهنيتنا مغربا ومشرقا، لدينا نحن، التونسيون، ما يعززها او ما يدحضها، كما انه لدينا ما يكفي من الافكار ذات الصبغة الخصوصية والمتعلقة بهويتنا وبتاريخنا التونسي وأدبنا وحضارتنا وموسيقانا ومسرحنا وفلسفتنا التونسية البحتة.
وهناك معادلة حسابية بسيطة جدا تقول ان مليارا ـ مثلا ـ من مليماتنا التونسية يُمَكِّنُنَا من نشر خمس مائة كتاب على الاقل في السنة الواحدة... ولو دققنا النظر في الرقمين لألفينا ان ذاك المليار لا يساوي الكثير امام ما نهدره في امور تافهة، ولوجدنا ان تلك الخمس مائة كتاب جديد ستساوي الكثير الكثير لأنها ستحدث حركة فكرية داخل مشهدنا الثقافي الراكد وستؤمن لنا خطوات متقدمة ضمن النسق الفكري العربي والعالمي هذا فضلا عن الحركة التجارية في مستوى بيع الكتب وترويجها في الداخل والخارج...
أعتقد ان ذهنية البناء الحقيقية تبدأ بهذه الشاكلة: معادلات بسيطة فنتائج كبيرة.

2008/05/22

النشر على النفقة الخاصة

طُرحت في الأسابيع الأخيَرة علَى أعمدَة بعض الصُّحُف والمجَلات الوَطنية، مَسْألة نَشر الكتُب علَى النَّفَقَة الخَاصة بشكل لافت للانتباه، وقد تجندت أغلب الأقلام التي تناولت هذه المسألة، الى إدَانَة كل الكُتُب المنشورة على نفقة أصحابها، وتحديدًا كتب الإبداع بشكل خاص والشعر منها بشكل أخص. وقد عٌولجت ظاهرة النشر على النفقة الخاصة، من زوايا متعددة ومداخل مختلفة، مادية وأدبية، وتنوعت المقالات بشأن الظاهرة بين استقرائي وإحصائي وذاتي.
كما قٌرنت في أكثر من طرح بدور وزارة الثقافة والمحافظة على التراث في علاقة بعملية شراء الكتب المنشورة، وبضرورة إيجاد أو»خلق» لجنة قراءة في كل دار نشر لقبول الكتب أو رفضها، وضرورة الوقوف أمام «نزيف الفوضى» الذي بات يعتري حركة النشر في تونس أمام اندفاع فئة وٌصفت بأنها «لا تحترم نفسها ولا تحترم الثقافة ولا تحترم الإبداع».إن ظاهرة نشر الكتب على النفقة الخاصة، ظاهرة صحية بالدرجة الأولى، ولا يمكن إلا آن تدرج في إطار التراكم الكمي للحركة الثقافية عموما، إذ أنها فتحت أولا، الباب أمام الكثير من الكُتَّاب والكاتبات لإخراج كتَابَاتهم الى النور مهما كان مستواهم المعرفي أو الإبداعي، وقد كان هذا النشر في غالب الأحيان، إن لم نقل في جله، على حساب احتياجاتهم الحياتية. وثانيا، لأنها تمكّن متتبعي الحركة الثقافية ببلادنا، من فرز الجيد من الرديء فيما يُنشر، بل هي تفتح باب النقد على مصراعيه، لمن يروم إلقاء معوله في دفع دفة النقد الأدبي بعيدا عن حالة الانحسار والتراجع التي بات عليها، هذا فضلا عن كونها تؤمّن للمشهد الثقافي حركية ما، وهذه الحركية هي بالضرورة ليست مرتبطة بالنشر على النفقة الخاصة، فما هذه الظاهرة إلا وجها من وجوه المشهد بأسره، بل هي إفراز طبيعي لمرحلة تاريخية محددة.وإذا ما حاولنا تبين الحجج التي تُدين ظاهرة النشر على النفقة الخاصة، فإننا سنجدها واهية فعلا، بل لا تستند لأي منطق يثبت صحتها. ولست مكلفا هنا، بالبحث في صحة تلك المواقف من خطئها، وإنما أرى أنه من الضروري أن نطرح بعضا من الأسئلة ونقاط الاستفهام، بشأن هذه المسألة علّها تُنير بعضا من اللبس.
ما الذي نعنيه بالنشر على النفقة الخاصة والحال أن اغلب الكتب الصادرة دائما ما تُوَشّحُ باسم دار النشر، إما على الغلاف أو في أول صفحة من الكتاب المنشور ؟
هل فعلا أصبح الكاتب في بلادنا يتمتع بالإمكانيات المادية، التي تجعله يغامر بنشر الكتب على النفقة الخاصة؟ أليس أغلب الكُتَّاب، وخاصة منهم الشبان، ينشرون كتبهم بالتقسيط المريح حد الإماتة ؟
هل فعلا أن الكثير من الذين نشروا كتبهم على نفقتهم الخاصة، لم يكونوا مضطرين لذلك، بقدر ما سعوا للاستفادة من قوانين دعم الكتاب والكاتب ؟
ألا تمثل المجاميع الشعرية المنشورة على النفقة الخاصة، جزءا من الساحة الثقافية وليست هي الساحة كلها ؟
هل نعتبر أن من تجاوز الخمسين سنة، ولم ينشر إلا ثلاثة كتب أو أربعة، قاعدة مقدسة يجب أن لا يَشُذَّ عليها أي كاتب توفرت له ظروف معينة لينشر أكثر من عشرة كتب وعمره لم يتجاوز بعد الثلاثين ؟
أليس الذين لا يُحسنون التعامل مع الجملة نحويا وصرفيا، ويحتلون أماكن الصدارة في الأمسيات الشعرية والملتقيات الأدبية ويُفرّخُون الكتب على نفقتهم الخاصة، لديهم زعماء وقاـدة يقـودونهم لهـذا الفضـاء أو ذاك ليصيروا أعلامــا بعد ذلك ؟
لماذا كل الكتب، أو اغلبها، المنشورة على النفقة الخاصة لا يتم إلا سحب ألف نسخة منها على أقصى التقدير، ألا ترون في ذلك حكمة لقلة ذات اليد ولخوف من الخسارة في سوق لا تُرَوَجُ فيه الكتب بالشكل الأنسب ؟
هل فعلا يمكن أن نُقَيًّمَ الإبداع بمجرد تنصيب لجنة قراءات أو لجنة تثبت ؟
لماذا ندرت أو غابت تماما مسألة إعادة النشر حتى لدى كُتّابنا الكبار؟
هل فعلا أن وزارة الثقافة والمحافظة على التراث، ليس لها علم بعدد النسخ المسحوبة من كل كتاب حتى تشتري عشوائيا الكتب ؟
هل فعلا السلطة الأدبية هي التي تمثلها الوزارات ودور النشر ولجان القراءة؟
كيف نفسّر ظاهرة مئات الكتب التونسية الملقاة على قارعة نهج الدباغين ونهج إنقلترا وهي لا تزال حديثة النشر؟
هل تخلّص فعلا الناشرون لدينا من عقدة الكاتب الكبير والنص الكبير، وفتحوا احضانهم حقيقة للطاقات الابداعية الجديدة؟

روايتان عن «عيون المعاصرة» في دار الجنوب للنشر

لا يزال درب دار الجنوب للنشر يقطف النصوص السردية، الروائيّة الآبقة والمتفرّدة ويزرعها رواية اثر رواية في دروب النشر التونسي مساهمة في إثراء المدوّنة الروائية التونسية أولا والعربية ثانيا من خلال الإضافات النوعيّة التي تحرص دار الجنوب على تقديمها للقارئ ضمن سلسلتها عيون المعاصرة، التي نشرت فيما مضى لمحمود المسعدي والبشير خريف ومحمد المويلحي وحنّا مينه والطيب صالح وعبد الرحمان منيف وحسن نصر وإميل حبيبي وعلياء التابعي وصنع الله ابراهيم ومحمد الباسطي ونورالدين العلوي وعبد الجبار العش ومصطفى الفيلالي وصبري موسى وعروسيّة النالوتي وابراهيم الكوني وزهير بن حمد وكمال الرياحي وجمال الغيطاني وآمال النخيلي (تعمّدتُ تعداد الأسماء لقيمتها) وهاهي تطلّ على قرائها منذ أيّام رفقة صلاح الدين بوجاه للمرّة الثالثة وتستأثر بنصّ متميّز للروائي منير الرّقي..

خدعة العصر

صدرت رواية «خدعة العصر» عن دار الجنوب للنشر ضمن سلسلة «عيون المعاصرة» وهي لأستاذ اللغة العربية منير الرّي الحائز على جائزة بلدية قابس (مسقط رأسه) في الإبداع الأدبي عن رواية بعنوان «الدوائر المهشّمة»، وتقع رواية «خدعة العصر» في 206 صفحات من الحجم المتوسط ووُشح غلافها برسم تعبيري للمؤلف جسّد ضمنه طبيعة شخصية بطل روايته الذي عاش ويعيش حالة انفصام أوسكيزوفرانيا قيميّة ووجوديّة، وقد استأثر بتقديم الرواية نور الدين العلوي...
وضمن «بيان الكاتب» الذي مهرهُ منير الري يؤكد أنّ هذه الرواية محاولة منه لتأسيس سؤالنا نحن في زمن اللاّمعنى عن تاريخنا وحاضرنا ودعوة للفصل «بين الرجال وأشباههم»، مُنصّصا على أنّ «خدعة العصر» هي جزء من مشروع مجهد سيسائل فيه «حقبا من التاريخ استهللتها ببداية القرن الماضي واعتزم تمحيص الفترات المؤلمة التي مرّ بها عالمنا»، ولئن أوغل منير الري في بكائه ضمن «بيانه»، الذي كان يمكن أن يستغني عنه، فإنّ نور الدين العلوي ضمن تقديمه للرواية أكّد أنّ منير الري «يُجبر قارئه على أن ينهض من سرير غفلته ليتابع النص في دورانه الملغز من أين بدأ الكاتب وأين انتهى؟»« ليترك للقارئ متعة ملاحقة خيبات وانكسارات «يوسف المنصري» ومن حام حول حكايته التي ولج من خلالها منير الري إلى تاريخ الاستعمار الفرنسي وانبثق خط سرده إلى حدود التقتيل اليومي في بغداد ودارفور والجزائر وبيروت اليوم... ديدنه في الحكي أن «الحرب تأبى أن تقتلنا ويأبى العقل أن ينسى».

لــون الـــرّوح

تُعانق مطابع دار الجنوب للنشر مرّة ثالثة حكايات الرّوائي التونسي صلاح الدين بوجاه ضمن
سلسلة «عيون المعاصرة» فبعد روايته «النّخاس» التي قدّمها المنصف الوهايبي وبعد روايته «سبع صبايا» التي قدّمها محمّد الغزي، نشرت دار الجنوب ضمن سلسلتها عيون المعاصرة رواية «لون الرّوح» لبوجاه الذي سلّم متنه الرّوائي للدكتور العادل خضر ليتقصّى خطوات الراوي وعارف والمكي وأحمد والمرسي وسليم وعبد الحق ويحاول أن يتبيّن لوح الروح «السرديّة» من بين قضبان «البانبتيك» ضمن مقدّمته «الجينيالوجيّة» والفلسفية لرواية صلاح الدين بوجاه والتي وسمها ـ المقدّمة ـ بـ «لون الروح... رواية يانبتيكيّة».. وتقع رواية «لون الروح» في 188 صفحة من الحجم المتوسّط وتوزّعت وقائعها وأحداثها على فصول ثلاثة اقترنت عناوينها بأمكنة السرد وهي «المنتجع قرب البحيرة» و»الشارع الفضفاض» و»غابة الأوكاليبتوس»... هذه الأمكنة التي وردت ضمن متن صلاح الدين بوجاه، مثلما قدّمها الدكتور العادل خضر وردت كلها «تحت سطوة المخبرين وقوّة الرقابة المدججة بتقنيات هائلة وامكانات رهيبة لمتابعة حركات الأجساد والإطلاع على الأفئدة وسكنات الرّوح، وحتى لونها»... وعن مضمون رواية «لون الروح» ومتنها السردي فقد كتب الدكتور العادل خضر أنّها «تذكّر بأجواء القولاق الروسيّة والمعتقلات النازيّة وغير النازية من غوانتنامو إلى سجن أبو غريب، ومناخ جرائم ضد الإنسانية وأصداء الإرهاب وتفجيراته المباغتة..»

أسئلة الأدب التونسي للهادي دانيال:نقوش سورية على نصوص تونسية


تتدرّج الجغرافيا نحو الامّحاء كلما اكتنز الكائن بتبر الزمان، الثقافة، فتتحد كل الجهات في قلب رحى الانسان الكوني، الانسان الذي لا تسوّره الحدود أو الحواجز مهما ارتفعت وعلت، الانسان الذي يصادق الشنفرى ويتأبط جحيم رامبو لن يكون أبدا «دبلوماسيا» لاستعداده الفطري للاشتباك العاطفي مع كل قلم مارق والانخراط الجدي مع كل متن آبق... ديدنه حدُ اللسان من الحسام... ونضج روحه قبل جسده...

هادي دانيال شاعر سوري وُلد في كفرية اللاذقية بسورية ثاني ايام ذات افريل من سنة 1956 ونحت اسمه في بيروت منذ 1975 على الصفحة الاخيرة من مجلتي «الصمود» و «الهدف» ومازال هدفه الصمود وهو يقارع طواحين الجهل ويفك ازار اللغة... يقيم في تونس منذ 1982 . صدر له فيها وفي بيروت ودمشق 12 مجموعة شعرية وكتب اخرى... اخرها «أسئلة الأدب التونسي» الصادر منذ ايام عن دار نقوش عربية وهو منجز يصنّف ضمن التأريخ الادبي لاجتماع مادته حول اهم أسئلة الأدب التونسي منذ الاستقلال الى أواخر الثمانينيات، وتفرعها على ابرز اعلام هذا المشهد في الاجناس الادبية من شعر وقصة ورواية ومسرح ونقد أدبي...
ينهض هذا المنجز الجديد / القديم للشاعر السوري الهادي دانيال اساسا على محاولته الجادة لتجاوز القصور الاعلامي الذي لم يساهم بشكل كبير في نشر الثقافة والادب التونسي، كما يستمد متن الكتاب أهميته من قدرة الكاتب على تجاوز «الحوارات الدبلوماسية» التي شابت ولا تزال ـ المدوّنة الابداعية التونسية... وهي ـ قدرة الكاتب ـ التي مكنته من بلوغ هدفه من هذا الاصدار المتمثل أساسا في الهدف المعرفي قبل الاعلاني أو الاعلامي...
وقد احتوى متن الكتاب الى جانب المقدمة، على فصلين أولهما «مبدعون ونقاد» وضمنه تمكن الهادي دانيال من سبر أغوار تجربة شيخ أدباء تونس وكتابها وشعرائها الاستاذ محمد العروسي المطوي ثم الشاعر والناقد والمترجم علي اللواتي والكاتب عمر بن سالم وعبد القادر بن الشيخ ومحمد لطفي اليوسفي والاب جان فونتان، وما يحسب للهادي دانيال ضمن هذا الفصل هو دقة أسئلته وطرافة الزوايا التي يتطرق اليها والتي لاقت صدى من حاورهم فكانت اجاباتهم مكتنزة بالافكار والمواقف ذات دلالات واحالات مرجعية.
أما الفصل الثاني الذي وسمه بتيارات» وقسّمه الى عدة أبواب الاول عن حركة الطليعة الادبية التونسية وضمنه وقف مع ابرز اعلامه كالطاهر الهمامي وأحمد حاذق العرف ومحمد المصمولي وفتحي اللواتي، والثاني عن الادب النسائي في تونس وضمنه حاول ان يفرز الحقيقة من الوهم عن هذا التصنيف مع نجاة العدواني وحياة بن الشيخ ونافلة ذهب، وكذلك بالعودة الى اراء النقاد الرجال عن هذا الادب مثل جان فونتان واحمد حاذق العرف ومحمد لطفي اليوسفي، اما الباب الثالث فقد أفرده للشعر التونسي وتحديدا جيل الثمانينيات من خلال شعراء تلك الحقبة مثل فتحي النصري والحبيب الهمامي ومحمد الصغير أولاد احمد وعبد الرؤوف بوفتح وآدم فتحي ونجاة العدواني ويوسف الرزوقة وكذلك مع ابرز نقاده مثل احمد حاذق العرف وسليم دولة ومحمد بن رجب ونور الدين فلاح وفتحي اللواتي...
واجمالا فان هذا المنجز يوثق حوارا ثقافيا رصينا متوازنا من خلال جمع المبدعين بالنقاد من ناحية ومن ناحية ثانية من خلال فطنة المحاور ودقته في طرح الاسئلة والاحراجات، وهذا الكتاب هو لبنة أولى ضمن مشروع متكامل حيث سيلحقه منجز ثان يتناول الفترة اللاحقة من المدوّنة الابداعية التونسية.

المكتبة المنزلية


غَرّبَتْنَا «مُكتسبات الحَداثة»، ونَأَتْ بنا «الثورَة التكنولُوجيّة» عن كُـنْه الحيَاة وسرهَا، فَأَدْمَنَتْ أصَابعنا الأزرَارَ البَاردَة، وتَعَلقَت أبصَارناَ بالشَّاشَات المُسَطَّحَة، وصرْنَا رَهَائنَ العُلَب الالكترُونية، نُعَاشرُهَا آنَاء اللَّيْل وأَطْرَافَ النَّهَار... حَتَّى صَارتْ تَفَاصيلُنَا اليَوْميَة مَضْغُوَطَة كَالأَقْرَاص اللَّيزَريَّة، مُهَددَة بالعَدَم والإتلاَف بمُجَرَّد خَدْش بَسيط... أوْ قُلْ هي هَويتُنَا وكَيْنُونَتنَا الإنسَانيَّة تلكَ التي بَاتَتْ مُنْذُ زَمَن غيْرُ بَعيد مَنْذُورَةٌ كل لَحْظَة لأَنْ تٌنْخَرَ بفيرُوسَات الحَدَاثَة ومَا بَعْدَهَا، والصِّنَاعَة وَمَا بَعْدَهَا، وَالتِّكْنُولُوجَيَا وَمَا بَعْدَهَا...
انْغَمَسْنا كُلُّنَا في اللَّهْث والرَّكْض الأَرْعَن خَلْفَ آخر انتَاجَات التَّقْنيَة، حَيْثُ صَارَ المُوَاطنُ التُّونُسي، وَتَحْديدًا الوَليُّ والوَليَّةُ، عَبيدًا جُدُدًا للهَوَاتف المَحْمُولَة، ولاَقمَات الأَقْرَاص (VCD/DVD/DVX/MP3/MP4/MP5) والهَوائيَّات الرَّقْميَّة والحَواسيب الشَّعْبيَّة... وَكُلَّ مَا يَشْتَغلُ بآلَة َتَحُّكم عَنْ بُعْد... حَتَّى صَارتْ البُيُوتُ التُّونُسيِّة لاَ تَخْتَلفُ كَثيرًا عَنْ المَغَازَات الصُّغْرَى، إذ تَتَوَفَّرُ عَلَى كل «الأَوَاني» والعُلَب الحَديديِّة والبَلاَسْتيكيِّة، في حين تَفْتَقدُ أغلبُهَا لإضْمَامَة كُتُب لاَ يَتَجَاوَزُ عَدَدُهَا أَصَابعَ اليَد الوَاحدَة...المَكتْبَة المنْزليَّة، كَمُكَوّن رَئيسيِّ منْ مُكَوِّنَات البَيْت، وَبغَضِّ النَّظَر عَنْ العَدَد الضَّئيل جدًا منَ المَنَازل التُّونُسيَّة، لَمْ تَعُدْ منْ مَشَاغل تَأْثيث البَيْت لَدَى أَغْلَب التُّونسيّيَن وَالتُّونُسيَّات، وَلاَ أَعْني بالتَّأْثيث، التَّوْظيفَ الدِّيكُوري وَالتَّزْويقي للمَكْتَبَة للتَّبَاهي وَالتَّفَاخُر بهَا، وَإنمَا أقْصدُ تَأْثيثَ العَقْل التُّونُسي والجيلَ التُّونُسي القَادم، بتَوْفير مُسَوِّغَات العَقْلاَنيَّة وَتَوْفير الأَرْضيَّة الابْستيميَّة في زَمَن صرَاع الهَويَّات وَ الحَضَرَات...فَالطِّفْلُ الذي يَكْبُرُ بَيْنَ الكُتُب والمُجَلَّدَات والمجَلاَّت والصُّحُف، سَيَكُونُ لا َمَحَالةَ مُحَصَّنًا منْ تلكَ الفيرُوسَات الالكْترُونيِّة، وسَيَكْتَسبُ تلكَ المَنَاعَةَ الدَّائمَة منْ أيِّ غَزْو أو اخْترَاق منْ شَأْنه أنْ يَهُزَّ كيَانَهُ وَوُجُودَهُ...طَبْعًا أناَ لسْتُ ضدَّ اسْتثْمَار مُكْتَسَبَات الحَدَاثَة، ولَسْتُ ضدَّ التَّمَتُّع بمَزَايَاهَا المتَطَوِّرَة وَالنَّاجعَة رَغْمَ علاَّتهَا، وَرَغْمَ فيرُوسَاتها الإيدْيُولُوجيَّة بالأسَاس (أَغْلَبُ الإحَالاَت أوْ الإشَارَات المرْسُوَمة عَلَى التَّقْنيَات الحَديثَة، إمَّا باللُّغَة الأنْقليزيَّة أوْ باللغة العبْريَّة)، قُلْتُ أنِّي لَسْتُ ضدَّ التَّوْظيف العَقْلاَني والمُتَّزن لمثْل هَذه الأدَوَات، بَلْ إنَّني لاَ أَرَى «الجَنَّةَ» اليَوْمَ إلاَّ بُسْتَانًا لاَ مُتَنَاهيًا منَ الكُتُب التي أتْلَفَهَا الطَّاغُوتُ أوْ أحْرَقَهَا اللاَّهُوتُ أوْ تلكَ التي اسْتَأْثَرَ بسحْرهَا التَّاريخُ لنفْسه، وَأَرَاهَا أيَضًا رُفُوفًا مُؤَلَّفَةً منَ الأَقْرَاص الليْزَريِّة المُكْتَنزَة بسحْر اللُّغَة، وَإنمَّا أنَا أُعْلنُ عدَائي الفطْري للعُبُوديَّة التَّكْنُولُوجيَّة، والتَّكَلُّسَ الذِّهْني والتنَّمْيطَ الميكَانيكيّ والسُّقُوط في بَرَاثن الحَيَاة الآليَّة التي تَنْفي الفكْرَ والفَاعليَّةَ وَتُكَرِّسُ التَّبَلُّدَ الذّهْني وَالوُجُودَ السَّلْبي والشَّخْصيَّة المُنْفَعلَة و المفْعُولُ بهَا... إنَّ تَوْفيَر أَوْ تَجْهيزَ مَكْتَبَة مَنْزليَّة لاَ يُسَاوي الكَثيرَ وَلاَ يَتَطَلَّبُ قُرُوضًا أو صُكُوكًا بَنْكيَّةً وَلاَ دُيُونًا مُتَخَلّدَةً بالذِّمَة، كَمَا لاَ يُكَلِّفُ الزَّوجَين تَشَنُّجًا أوْ خصَامًا عَائليًّا مثْلَمَا يَحْدُثُ عَادَةً بسَبَب اقْتنَاء آلَة الالكْترُونيِّة...المكتَبَة المنزلية، تَنمُو ـ في تَقْديري ـ كَمَا يَنمُو العُشْبُ ليبُاَغتَنَا ببُرْعُم ذَاتَ صَبَاح سَيَبني عَلَيه الطَّيْرُ أَيْكَهُ.إنهَا ممُكْنَة ومُسْتَحيلَة، مُمْكنَة لأنَهَا لا تُكَلفُ الموَاطنَ التُّونُسي الكَثيرَ منَ الأمْوَال، ومُسْتَحيلَة لأنَهَا ذهْنيَّةٌ كَاملَةٌ، ومُمَارَسَةٌ يَوميَّة تَنْبَني عَلَى المُرَاكَمَة المُتَوَاصلَة...

2008/05/21

محنة التصفيق التونسية


تمثّل تلك الحَركة البَسيطَة المتمثّلة في ضَرب كَفّ بكَفّ تعبيرَة جسَديّة عن شُعور بالاستحسَان والرضَا والتأييد لفعل مُشاهد أو لقولٍ مسْموعٍ...
والتّصفيقُ ـ في تقديري ـ تعبيرَة نبيلَةٌ ورَاقيةٌ مقَارنَة بالهُتَاف والصّيَاح، وأعتَقد أنّ التَّصْفيق هو فنٌ قائم الذَّات له شُروط ومقَاييسٌ مضبُوطة تُلزمُ من وَجَد نفسَه في مَوْضع تصْفيق بالانضبَاط لهَا وتَطبيقهَا لتُضفي تنَاسقًا وانسجَامًا مَع الفعل المشَاهَد أو القَول المسْمُوع...
طبعًا تلكَ المقاييس والشُْروط والضّوابط ليسَت مُدوّنَةً في الدّسَاتير أو التّشريعَات والقَوانين، وإنّمَا هي نتَاجٌ لتَوافقٍ ومُوَاضَعَة بين النَْاس قد تجمَعهم مَسرحيّة مَا أو فلمًا سينمَائيًا.. أو قد يُدعُون للحضور في بَرنامَج تَلفَزي أو يَلتَقُون في مَدارج مَلعَب للريَاضَة أو في قَاعَة مؤتمَرات وغيرها من الأمَاكن العُمُوميّة...
غير أنّ فن التصفيق النبيل يبدو أنّه صَارَ مِحْنَةً تونسيّة بامتيَاز ـ وهو الذي جلبَه أحَد البَايَات من فرنسَا مثلمَا يُروَى ـ وصَار تعبيرَة هستيريّة تَتَجَلّى في أسوإ صورهَا خَاصة في قَاعَات السينمَا والمسَارح وضمنَ بَرامج التَْنشيط التي تقَدّمهَا الفَضَائيَْات التُْونسيّة... وبصورَة أفظَع في مَنَابر الخُطَب سَواءٌ منهَا السيَاسيّة أو الأدَبيّة...
وفي اشَارَات عَابرَة يمكن أن تَرصُدَ استفحَالَ هَذه المحنَة بشَكلهَا الهستيري من خلاَل أمثلَة مُكَرّرة يَوميّا، فَيكفي أن نَسأَلَ كَمْ من شَاعر ارتَبكَ أمَامَ جمهور لا يُجيدُ الانصَاتَ للمَجَاز بقَدر مَا يُجيد ضَربَ الأكفّ، ويَكفي أن نشَاهدَ جمهورَ قَاعَات السينمَا ـ الضئيل ـ يَنسَحب اثرَ انتهَاء العَرْض في صَمت من دون التصفيق عَلَى العَمَل الذي تَابَعَه تمَامًا مثلَمَا يحدث دَاخل الطائرَات التونسيّة التي لَم يَعد يَسمعُ طيّارُوهَا تَصفيقَ الركاب علَى سَلاَمَة الرحلَة.. ويَكفي أن نتَابعَ مَوجَات التّصفيق المجَاني وهي تَقطَع نَسَقَ المسرحيّات... وتلك الموجَات المجَانية واللاّمبرّرة نَقف عَلَى أشَدّ مَظَاهرهَا أثنَاء الخطًَب الحزبيّة التي يَزدَهر فيهَا سوق اللُْغَة الرّنانَة والتَّصفيق الجَيّاش اللَْذَان يَظَلاّن حَبيسَا الجُدُرَان البَاردَة والأعْلاَم البَاهتَة...
محْنَةُ التَْصْفيق التُّونُسيَّة تَتَجَلّى أيْضًا وبصُورَة «لا َأخلاَقيَّة» أثنَاءَ بَرامج التَْنشيط التَّلفَزي حَيثُ نتَابعُ استنفَارَ حَفنَة من الشَْابَات والشبّان للخَبْط بأكفهم عَلَى أتْفَه الملاَحَظَات من مُنَشّط لا يُتْقنُ تَصريفَ الأفعَال، وبالمثل يَشْحَذونَ همَمَهم ليُقَاطعُوا بالتصفيق فكرَةً مَا ينوي أن يُعبّر عنهَا ضَيف ذاكَ البَرنَامَج...
طَبعًا التَْصفيق ظَاهرَة كَونيّة ولاَ تَقتَصر عَلَى الشَْعب التُْونسي، ولَكن أعتَقد أنّنَا صرنَا الشعبَ الأكثَر تصفيقًا في العَالم، فنَحن نُصَفّق حَتّى عَلَى مَوتنَا اليَومي وعَلى انحدَارنَا الأخلاَقي، ولَن أبَالغ إن قلْتُ أن هُنَاك مَن هُو قَابعٌ الآن في بَيته يُتَابع برنَامَجًا تَنشيطيّا أو يُشَاهدُ خطبَةً ويَجدُ نَفْسَهُ يُصَفّق تلْقَائيّا ـ بَل ميكَانيكيَْا ـ وبكُل حَمَاسٍ!!!

2008/05/20

موت العائلة التونسية



لست أدري هل طالت حمّى الإماتة مفهوم العائلة، بعد أن شملت موت الايديولوجيا والمثقف والفلسفة والكاتب في إطار فلسفة الإماتة المجانية التي تصلنا مُعلّبة مغلّفة ملوّنة بين طيات الكتب والدوريات الوافدة علينا من هناك وتقفز الى أبصارنا وبصيرتنا داخل بيوتنا من خلال الفضائيات التي تتحفنا مليون مرة في اليوم الواحد بتحاليل المفكر العظيم أو المنظر الفذ أو المثقف الشمولي... إلى غير ذلك من نعوت المذيعين البهلوانية...
لست أدري إن كان مفهوم العائلة قد انضم الى عائلة المفاهيم الميتة هناك ولكنّي بتّ على يقين ثابت أنها (العائلة) مفهوما ووجودا، سائرة نحو الموت والفناء هنا، في عقر دارنا، في تونس الملايين المعدودة والمساحات الشاسعة، هذا إن لم تكن قد ماتت فعلا، فيكفي أن نطّلع على مشروع شركة النهوض بالمساكن الاجتماعية (سبرولس) لسنة 2007 لنعرف حجم الموت الذي سيلحق بمفهوم العائلة التونسية المفترضة، فهذه الشركة وفي إطار برامجها السكنية ستوفّر هذه السنة لطالبي المنازل وحدات سكنية «نموذجية» بولايات بنعروس ومنوبة وسوسة والقيروان وقابس من صنفين، أوّل متكون من غرفة واحدة وقاعة استقبال وثان بغرفتين وقاعة استقبال، سعر الأولى 23 مليونا وسعر الثانية 71 مليونا.. وبغض النظر عن الفارق اللامنطقي بين الوحدتين والذي نستشف منه ان ثمن غرفة واحدة (4 حيوط) يناهز 38 مليونا بالتمام والكمال أو هو يفوق ثمن الوحدة الاولى بما قيمته 15 مليونا بالتمام والكمال ايضا... فإن الاسئلة التي يمكن ان تقفز الى ذهن الواحد منا لا يمكن لها إلاّ ان تحوم في مدار العائلة وفي سياق التواصل والاتصالية... ولنا في هذه الاستنتاجات او الخلاصات ان نقف على عين التفتت وعلى موت العائلة مفهوما وكيانا، فالعيش داخل علبة اسمنتية تتكون من غرفة يتيمة وبيت استقبال يعني تخصيص الغرفة للنوم وبيت الاستقبال للضيوف وهذا يترتّب عنه عدم انجاب الاطفال لعدم توفّر غرفة لهم، وعدم التناسل يعني ضرورة موت العائلة بيولوجيا، اما في حالة الانجاب فإن ضرورة الاستغناء عن استقبال الضيوف سيصير حتمية لا مفرّ منها وهذا ما سيؤدي الى موت العائلة اخلاقيا، ذلك ان فعل التزاور والتواصل كفيل بتأمين نصيب وافر من تماسك الاسر التونسية اما اذا انجبت العائلة أطفالا واستقبلت ضيوفها في غرفة استقبالها طبعا حيث تنتصب التلفزة شامخة أبيّة مستحوذة على الابصار والعقول مريحة حتى فكرة ترصيف بعض الكتب بجانبها او فوقها أو تحتها، وحيث تنتشر أرائك بيت الصالة على كامل مساحة غُريْفة الاستقبال فلا تترك مساحة لا للمكتب للمراجعة ولا أي مكان للحاسوب الشعبي مثلا... وبهذه الفرضيّة الثالثة تموت العائلة فكريا ومعرفيا الا من «ثقافة» و»معرفة» الشاشة العظيمة مُلهمة الجميع وشانقة الجفون... وما أضيق غرف سبرولس لولا فسحة اللغة...

مسمار في الريح...


من التراكيب اللغوية السيّارة على ألسن كل التونسيين والتونسيات تركيب «مسمار في حيط» دلالة على التأمين الدائم على الحياة بمجرّد انتداب الواحد الى الوظيفة العمومية وحصوله على كافة حقوقه في اطار قانون الشغل المعمول به بدءا من التمتع بأجر كامل وصولا الى أبسط حق يمكن ان يطالب به الموظّف لدى الحكومة طبعا الى جانب التأمين على المرض والتقاعد...
وثبات ذاك المسمار الشخصي في قلب الحائط الوطني لايختلف حول حقيقته عاقلان، فكل من يشتغل أو له أن يشتغل في القطاع العمومي يعرف ذلك جيدا ولكن اعتقد اننا يجب ان نُعود ألسنتنا على تركيب لغويّ جديد يتناسب مع وضعيات الشغل الجديدة في سوقنا الوطنية والتي تشمل تحديدا فئة الشباب وبالخصوص حاملو الشهادات العليا، واعتقد أن «مسمار في الريح» هو التركيب الاسلم والاقرب لتشخيص حياة ما يقارب 46 (حسب إحصائيات الاستشارة الشبابية) من الشباب المقبلين على عالم الشغل أو هم يخوضون غماره في مؤسسات القطاع الخاص، مقابل 45.5 للقطاع العام (حسب نفس الاحصائية من مرصد الشباب)، ولئن تذهب بعض القراءات البسيطة والساذجة أحيانا إلى أن توازي نسبتي المطالبة بحق الشغل في كلا القطاعين هو مؤشّر إيجابي على قطع الشباب مع ذهنيّة «مسمار في حيط»، فإنّي شخصيا لا ألمس أيّة إيجابية في ذلك بل بالعكس إنّي أرى ذلك مؤشرا خطيرا جدا جدا اولا على هيبة القطاع العمومي الذي بات يتآكل بفعل زحف الخوصصة على كل ما كان ثابتا قبل عقود قليلة من الزمن خاصة في مجال التعليم والصحة والنقل والطاقة... وغيرها من القطاعات الحيوية، هذا فضلا عن انسداد الآفاق المهنية في تمتع مستحقي الشغل واصحابه فعلا بوظائف في القطاع العمومي مما جعلهم «يرضخون» او «يكرهون» على التوجّه الى القطاع الخاص... الى قطاع الحقوق الجزئية... الى قطاع العقود اللاّ إنسانية... وإلى الحياة عن طريق المناولة.. أليست هذه هيّ حياة المسمار «الثابت» وتدا من الأوهام فيّ قلب الريح حيث لا أمر ثابت ولا حياة مؤمّنة إلاّ لمن رضي بأن يكون «قشّة» تتطاير بها رياح الشركات والعقود أنّى طارت رغبة الاعراف...وحده «القش» اليابس تزداد نسبته في الخريف وكذلك العواصف الهوجاء تزداد سرعتها كلّما ازداد زفير الريح وقوّته...

2008/05/19

"تونزياهم" ...


أعتقد أن شركة الاتصالات الهاتفية «تونزيانا» عندما تخيرت هذا الاسم كانت تعني جميع فئات الشعب التونسي بكل مكوناته، من الفقير إلى الغني ومن الجاهل إلى المتعلم، وكذلك من طالب الحق إلى الساكت عنه...
فنون الجماعة الملحقة باسم تونس تجمع الجميع للتمتع بخدمات هذه الشركة التي سعت بالفعل إلى تحقيق خدمات ذات جودة عالية ضمنت لها نسبة كبيرة من المشتركين في شتى ربوع البلاد التونسية... غير أن...
غير أن صمتها ـ إن لم نقل تواطؤها ـ عن عمليات «السرقة» التي يقوم بها أصحاب محلات الهواتف العمومية من خلال المطالبة بما قيمته خمسون مليما أو مائة مليم وحتى مائتا مليم عن كل عملية شحن بدينار واحد ضمن خدمة «light» من شأنها أن تسحب ثقة حرفائها الذين كثرت تذمراتهم من هذه السرقات اليومية التي تطال جيوبهم من دون وجه حق ومع ذلك لم تتحرك إدارة «تونزيانا» لوقف هذا النزيف اللاقانوني واللااخلاقي وقد صرت شخصيا أسمي هذه الشركة «بتونزياهم» ذلك أنها صارت توفر لأصحاب محلات الهواتف العمومية إمكانية الاستثراء على حساب المجموعة الوطنية، ويكفي أن نقوم بعملية حسابية بسيطة لترى حجم الخسارة التي يلحقها صمت «تونزيانا» باقتصاد البلاد، نعم اقتصاد البلاد، فمثلا محل عمومي واحد للهواتف يربح في الشهر الواحد من تلك الخمسين مليما والمائة مليم والمائتي مليم ما يقارب نصف مليون كاملا إذا ما اعتبرنا انه يقدم خدمة «light» يوميا بما قيمته مائة وثلاثون دينارا فقط... وطبعا علينا أن نضرب نصف مليون في ما لا يقل عن خمسمائة ألف محل هاتف عمومي في كامل البلاد... إنها ثروة بكاملها تنهب عنوة من قبل أصحاب تلك المحلات بإيعاز من صمت الشركة التي تقدم تلك الخدمات...
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو ما الذي سيكلف شركة «تونزيانا» أن تستصدر قانونا يجرّم كل من يطالب بمعلوم إضافي عن خدمة «light»، خاصة أنها هي التي تقطع معلوم الخدمة من قيمتها (40 مليما تقريبا عن الدينار الواحد) وتكثف المراقبة على هذه المحلات فالقانون وحده كما نعلم جميعا لا يطبق أبدا... ولم لا أيضا تحيل الأمر إلى منظمة الدفاع عن المستهلك ليقوما بحملة تحسيسية لكل مواطن على أن يتمسك بحقه المشروع في عدم دفع «جباية» اضافية.
أما من ناحيتي أنا فأقترح على «تونزيانا» أن تلزم كل من يطلب معلوما إضافيا بدفعه إلى صندوق تستحدثه هي لدعم الأعمال الثقافية كالسينما ونشر الكتب وغيرها...

2008/05/18

حوار مع عميد المحامين البشير الصيد

نطالب بإعفاء المحامين المتمرنين من أداء الضريبة الحكومية مدة تمرينهم

مثلت الأيام القليلة الماضية فترة انتقالية في تاريخ المحاماة التونسية بعد أن تمكن عميد هيئتها الحالية الأستاذ البشير الصيد من تحقيق أهم مكسب للقطاع الذي ناضل من أجله منذ أكثر من ثلاثين سنة والمتمثل في إحداث صندوق للضمان الاجتماعي خاص بالمحامين، إلى جانب العديد من المكاسب الأخرى المتعلقة بمعاليم طابع المحاماة وتسعيرة التساخير وصلاحيات نيابة المحامين وملكية نادي المحامين وتنظيم التربصات والدورات التدريبية وغيرها من مشاغل القطاع...
عن تفاصيل وحيثيات هذه المكاسب خصّنا السيد العميد بهذا الحوار المطوّل الذي أنجزناه على يومين بمكتبه بتونس العاصمة وللعلم فقد استعاد الأستاذ البشير الصيد عمادة هيئة المحامين في مؤتمرها الأخير 2007 بعد أن كان عميدا لها في دورة 2001/2004 وهو رئيس لجنة الدفاع عن العراق ورئيس منظمة مناهضة التطبيع مع العدو الصهيوني وعضو بالمكتب الدائم لاتحاد المحامين العرب وعضو مؤسس لمنظمة العدالة الدولية ببروكسيل وقد استقال الأستاذ البشير الصيد من سلك القضاء سنة 1973 بعد أن باشره مدّة ست سنوات أسس أثناءها بمعية ثلة من القضاة جمعية القضاة الشبان وانتخب أول كاتب عام لها كما انتخب عضوا بالمجلس الأعلى للقضاء ثم التحق في نفس السنة أي سنة 73 بسلك المحاماة وكان واحدا من بين الذين رافعوا في قضية الاتحاد العام التونسي للشغل يوم26 جانفي 1978 وفي قضية قفصة سنة 1980 وجل القضايا النقابية والسياسية...


* كيف يقيم السيد العميد المكاسب التي تحققت للمحامين؟
ـ الصندوق تأسس منذ عشرات السنين للمحامين وتضمن قانونه ان يشمل امرين هما تولي دفع جرايات التقاعد والتعويض عن الحيطة الاجتماعية اي التأمين الصحي، غير ان في التنفيذ اشتغل الصندوق من طرف مجلس الهيئة بخصوص التقاعد ولكن بقي منقوصا بالنسبة للتغطية الاجتماعية، وكان قانون المهنة قد نصّ على ان يصدر امرا ينظم الصندوق في مهمتين: دفع جرايات التقاعد للمحامين ولعائلاتهم عند الوفاة وتكاليف العلاج، الا ان هذا الامر لم يصدر وبقي المحامون محرومين من التغطية الاجتماعية وقد طالبت هيئات عديدة وناضل المحامون من اجل تحقيق هذا الهدف الاجتماعي السامي لعشرات السنين واخيرا تحصلوا على مبتغاهم في عهد هيئتنا وعليه فاني اؤكد اني واعضاء مجلس الهيئة وهياكل المهنة نعتبر اننا قد حققنا انجازا كبيرا في هذا الصدد لطالما انتظره المحامون وذلك باصدار سيادة رئيس الجمهورية للامرعدد 355 المؤرخ في 11 فيفري 2008 المتعلق بتنظيم وتسيير صندوق الحيطة الاجتماعية والتقاعد للمحامين الذي أسسّ منظومة التأمين الصحي للمحامين وكذلك بإصدار الأمر عدد 359 المؤرخ في نفس التاريخ المتعلق بضبط طابع المحاماة وكيفية اصداره وتوزيعه والترفيع في معلومه بحيث إن احداث التغطية الاجتماعية لفائدة المحامين يعد انجازا كبيرا ومطلبا عظيما قد تحقق خاصة ان المحامين كانوا محرومين من ذلك ثم ان هذا الامر قد جاء بضمانات هامة بخصوص الناحية الصحية والتأمين الاجتماعي.
* هل يُفصّل السيد العميد للقراء هذه الضمانات؟
ـ في الحقيقة الضمانات هامة ومتعددة جاء بها الامر المتعلق بتنظيم وتسيير الصندوق منها التعويض مائة بالمائة (100) عن تكاليف العلاج المتعلق بالامراض الثقيلة والمزمنة والعمليات الجراحية وشمولية لتكاليف العلاج كافة وعن الفحوص والعيادات والزيارات والكشوفات والتحاليل الطبية والادوية والعمليات الجراحية والاقامة بالمستشفيات والمصحات والتنقل الصحي ومؤسسات العلاج الطبيعي وتقويم الاعضاء واستعمال الالات وتركيبها للتعويض أو المساعدة والاعمال شبه الطبية وكل الوسائل الهادفة للعلاج.وكذلك منح المنح الوقتية في صورة المرض والولادة والحوادث والوفاة، وأيضا وجوب اسداء جراية التقاعد لكل محام أو محامية كاملة من ذلك أنه في صورة ما إذا كان المحامي قد اشتغل قبل التحاقه بالمهنة في ادارة اخرى مدة 10 سنوات مثلا فمن حق الصندوق أن يطالب هذه الادارة بان تدفع له جراية التقاعد عن تلك المدّة.
* لماذا اصررتم على ان يكون التأمين الصحي للمحامين في اطار صندوق خاص بقطاعكم؟


ـ الحقيقة لعدة اسباب منها أن صندوق المحامين الخاص هو مطلب قديم جدا قد تم تأسيسه منذ عشرات السنين وهو يشتغل ويؤدي جرايات التقاعد للمحامين غير أنه بالنسبة للفرع الثاني المتعلق بالتأمين الصحي بقي معطلا ثم ان الصندوق الخاص نرى أنه يحافظ عن استقلالية مهنة المحاماة كما ان هذا الصندوق أقرب الى المحامي بحيث تكون الخدمات أسهل اليه وأقرب عندما تديره هيئته وأعتقد انه سيعطي خدمات افضل من الخدمات التي تعطيها الصناديق الاخرى وهذا في الحقيقة يرجع الى أن الجهات الرسمية عموما ووزارة العدل وخاصة رئيس الجمهورية قد استجابوا جميعا الى مقترحاتنا بنسبة 90 بالمائة وهم مشكورون على ذلك।
* ... وماهي بقية المكاسب التي تحصلتم عليها هذه الايام؟
ـ اضافة الى المكسب الكبير المتمثل في احداث التغطية الاجتماعية للمحامين، فقد تحصلنا على مكاسب اخرى على غاية من الاهمية كانت هي الاخرى بمناسبة استقبالي كعميد للمحامين من قبل رئيس الجمهورية يوم 19 فيفري 2008 الذي تفضل أولا بتحويل ملكية نادي المحامين بسكرة الى الهيئة الوطنية للمحامين وثانيا بتوسيع مجال عمل المحامي اذ قرّر: (أ) ان تكون نيابة المحامي وجوبية لدى محكمة التعقيب في جميع القضايا الجزائية ج (ب) ان تكون كذلك نيابة المحامي وجوبية لدى المحكمة العقارية في قضايا التحيين ومطالب التسجيل وثالثا بالترفيع في منحة التسخير، كما طلب مني سيادة الرئيس ان ارفع له مذكرة شاملة لكل الاصلاحات المنشودة في قطاع المحاماة وبهذه المناسبة، وباسمي وباسم مجلس الهيئة الوطنية للمحامين اتوجه لسيادته بشكري وتقديري على استجابته لهذه الاصلاحات الهامة والكبيرة التي تحققت للسان الدفاع كما لا يفوتني ان أشكر الاستاذ البشير التكاري وزير العدل على المجهودات الهامة التي بذلها هو ومساعدوه من السادة القضاة والموظفين السامين بوزارة العدل من أجل تحقيق الانجازات المذكورة لفائدة المحامين.
* بالنسبة للتأمين الصحي فقد تحقق بصدور الأوامر التي ذكرتها، لكن متى سيتم تنفيذ هذه القرارات بخصوص ملكية النادي والتوسيع في مجال عمل المحامي والترفيع في منحة التسخير؟


ـ أنا أعتبر أنه طالما أذن بها رئيس الدولة فقد تمّت ولا يمكن تأخير تنفيذها।
* ولكن هناك ايضا مطالبٌ اخرى ينتظر أهل القطاع تحقيقها؟
ـ لا شك ان مطالب المحامين عديدة ومتراكمة والقطاع يشكو من كثير من الاشكاليات وينتظر اصلاحات شاملة وعميقة من ذلك الوضع المادي والادبي للمحامين المتمرنين الذين اصبح عددهم مرتفعا حيث بلغ قرابة 1800 محامية ومحام متمرنين فالمتمرنون يشتكون من تدهور ظروفهم المادية بالدرجة الاولى وهم ضمان مستقبل المحاماة إذ يعانون من الخصاصة نظرا لعدة اسباب منها كثرة عدد المحامين لان المحاماة الان تستوعب أكثر مما تستوعبه مؤسسات الدولة مجتمعة من اصحاب الشهادات العليا اذ يقوم مجلس الهيئة للمحامين بترسيم حوالي700 محام ومحامية سنويا من أصحاب الشهائد العليا الذين يُقبلون على مهنة المحاماة وفيهم الكثيرون الذين يضطرون لهذا الالتحاق لعدم حصولهم على وظائف بمؤسسات أخرى، ولذلك فإن المحاماة تشغّل عددا هاما من أصحاب الشهائد العليا يفوق بكثير ممّا تشغّله المؤسسات العمومية والخاصة في البلاد ولذلك كان من أولويات اهتمامات مجلس الهيئة الوطنية الاعتناء بالمتمرنين إذ بادرنا بالعناية بهم من ذلك أننا أسسنا في دورة سابقة صندوق دعم المحامي التمرين وحرصنا على تشغيله في هذه الدورة وأسسنا المجلس العلمي الذي سيعتني بتطوير وتحديث مضامين وأساليب محاضرات التمرين وتنظيم دورات تدريبية وتنظيم دورات للاعلامية والانترنات والحلقات التكوينية التي تقوم بها الفروع، الا أن مجهود الهيئة الوطنية لا يكفي ولذلك تقدمنا للجهات الرسمية وخاصة وزارة العدل للمطالبة باصلاح أوضاع المحامين المتمرنين الذين هم في حاجة الى اصلاحات خاصة بهم زيادة على الاصلاحات المنشودة لعموم المحامين من ذلك طلبنا تأسيس منحة خاصة للمحامين المتمرنين يتقاضونها مدة تمرينهم (سنتين)واعفائهم من اداء الضريبة الحكومية مدة التمرين ومساهمة الدولة في تكاليف الملتقيات والندوات العلمية بتونس أو بالخارج وغير ذلك من المطالب التي رفعناها لوزارة العدل في مذكرات مكتوبة...
* هل هناك نيّة لاعفاء المحامين المتمرنين من أداء معاليم الانخراط في الصندوق على الاقل مدة التمرين؟
ـ مراعاة للوضع المالي للصندوق لم نستطع اعفاء المحامين المتمرنين اعفاءا كاملا من دفع الاشتراك السنوي للتغطية الصحية ولكن يسّرْنا عليهم ذلك بأن خَفّضْنا معلوم انخراطهم الى 100 دينار فقط وهو مبلغ يتماشى ووضعهم كمتمرنين خاصة بعد الترفيع في منحة التسخير، وأملنا بأن الدولة ستحسن أوضاعهم المالية عما قريب الى جانب حرص هياكل المهنة على توفير التوزيع العادل لقضايا التّسَاخير والاعانة العدلية بين المتمرنين।


* من أين ستتأتّى مداخيل صندوق التقاعد والحيطة الإجتماعية للمحامين؟
ـ المورد المالي الاساسي للصندوق سيتأتّى من مداخيل طابع المحاماة مع اضافة اشتراك سنوي رمزي قُدّر بـ 300 دينار بالنسبة للمحامي لدى التعقيب و250 دينارا للمحامي لدى الاستئناف و100 دينار للمحامي المتمرن، وحتى تكون الخدمات الصحية التي يسديها الصندوق للمحاميات والمحامين وعائلاتهم وابنائهم محترمة ومتميّزة تم الترفيع في معلوم طابع المحاماة كما ورد بالامر عدد 359 المؤرخ في 11 فيفري 2008 على النحو التالي: 6 دنانير لاعمال محكمة الناحية و12 دينارا لمطالب تسعير الاتعاب والاعمال أمام الدوائر الابتدائية للمحكمة الادارية والمحاكم الابتدائية العدلية والعسكرية و18 دينارا للعقود المتعلقة بالعقارات المرسمة بادارة الملكية العقارية والاعمال امام الدوائر التعقيبية والاستئنافية للمحكمة الادارية ومحكمة التعقيب ومحاكم الاستئناف العدلية والعسكرية علما أن تنفيذ دفع معاليم الطابع بالنسبة للمحامي أو المحامية وفق تسعيرة الترفيع المذكورة سيكون بداية من 1 ماي 2008.
* هل سيبقى معلوم طابع المحاماة من مشمولات وزارة المالية أم سيعود إلى مجلس ادارة الصندوق؟
ـ إن النصوص القانونية المنظمة لطابع المحاماة قد أعطت صلاحية لطبعه وترويجه منذ سنة 1993 لكل من وزارة المالية بواسطة القباضات المالية ولهيئة المحامين، لكن في الحقيقة منذ ذلك التاريخ فإن وزارة المالية متكفلة بالطبع والبيع واحالة المداخيل الى صندوق التقاعد والحيطة الاجتماعية، وأرى حاليا أن الامر سيبقى كذلك، غير أن عملية الطبع والبيع تتطلب مزيدا من التنظيم والأحكام خاصة أن مداخيل الطابع بعد ترفيع معلومه ستتضاعف بنسبة كبيرة.
* هل يرى السيد العميد أن هيئة المحامين مؤهلة للتسيير الاداري والمالي للصندوق، بمعنى هل لديها الكفاءة التقنية اللازمة لذلك؟
ـ أرى أن مجلس الهيئة الوطنية مؤهل كل التأهيل لإدارة الصندوق وتسييره والقيام بمهامه على أحسن وجه وذلك بناء على النقاط التالية:
(1) لنا كفاءات وخبرات من المحامين أنفسهم إذ فيهم من اشتغل سابقا بصناديق الدولة والصناديق الخاصة والذين اكتسبوا خبرة مهمة يمكن الاستعانة بهم.
(2) إن مجلس الهيئة الذي هو مجلس إدارة الصندوق يعتمد حسب الفصل 11 من أمر التنظيم على إدارة فنية وإدارية ومالية تتكون من إطارات وأعوان مختصين في الميدان يباشرون مهامهم تحت سلطة وإشراف مجلس الإدارة.
(3) يعتمد مجلس الإدارة أيضا على خبراء «إكتواريين» تابعين لوزارة المالية والشؤون الاجتماعية وهم دوليون ويعول عليهم خاصة في تقارير الدراسات والمحاسبة يمكن لمجلس الإدارة بمقتضى اتفاقية أن يكلف الغير بإنجاز بعض أو كل خدمات الصندوق ومعنى ذلك أن مجلس الإدارة يمكن له أن يتعاقد مع مؤسسة مختصة في ميدان التغطية الاجتماعية مثل الصندوق القومي للضمان الاجتماعي أو الشركات الخاصة لكي تقوم بالمهام الفنية والمالية والطبية المختصة كما يمكن أيضا لرئيس المجلس أن يفوض حق الإمضاء لأحد إطارات الصندوق المختصين وبذلك نرى أن كل الإمكانيات مفتوحة أمام مجلس إدارة الصندوق الذي هو في نفس الوقت مجلس إدارة الهيئة।
* هل هناك بالفعل مشروع لتسهيل شروط الحصول على القروض لفتح مكاتب المحاماة؟


ـ هذا الموضوع يتعلق ببناء علاقات مع البنوك التونسية حتى يمكن أن يحصل المحامون على قروض لقضاء الاحتياجات مثل فتح المكاتب على اثر ترسيم المحامين بالاستئناف أو لأغراض أخرى كقروض بناء المساكن وغير ذلك، ومن بين اهتماماتنا الحوار والتفاوض مع بعض البنوك قصد إبرام اتفاقيات تمكن المحامين من الحصول على قروض ميسّرة।* هل هناك جديد بخصوص المعهد الأعلى للمحاماة وتوحيد المدخل للمهنة؟
ـ من مطالب المحامين الهامة التي مازالت محل تفاوض وحوار مع وزارة العدل المعهد الأعلى للمحاماة الذي تم إحداثه منذ مدّة وذلك لأن قانون هذا المعهد والأوامر والقرارات التطبيقية لم تعط لهيئة المحامين دورا أساسيا في تسيير المعهد وفي مناظرات الدخول للمعهد والتخرّج وفي المجلس العلمي... وقد بيّنا إلى وزارة العدل النقاط السلبية بهذا الصدد وطالبناها بتنقيح هذه النصوص بما يُمكّن هيئة المحامين من دور فاعل وأساسي في هذا المعهد الذي هو معهد محاماة وليس كلية وليس مدرسة عليا في القانون والحوار مازال متواصلا بهذا الصدد.
* ستنعقد الجلسة العامة الانتخابية للمحامين الشبان يوم السبت القادم 8 مارس 2008 فكيف ترون آفاق هذه الجلسة وحظوظ المرشحين؟
ـ بالنسبة لي كعميد للمحامين لستُ منحازا لأي مترشح ومن سيفرزهم الصندوق أهلا وسهلا بهم فستتعامل معهم الهيئة وتدعمهم ،وما أحرص عليه أنا ومجلس الهيئة هو أن تتوفر في هذه الانتخابات الموضوعية والشفافية بحيث تكون شفافة ونزيهة في إطار ديمقراطي بين كل المترشحين وحتى لا يقع الطعن في الصندوق الانتخابي. وقعتم مؤخرا اتفاقية مع المجلس الوطني لنقابات المحامين بفرنسا فما هو فحوى هذه الاتفاقية؟ـ الاتفاقية التي وقعناها مع مجلس هيئات المحامين في فرنسا هامة جدا لأنها تتضمن عدة مواضيع تتعلق بالتعاون بين الطرفين مثل إجراء التربصات للمحامين وتنظيم ندوات ودورات تكوينية وقانونية وكذلك يتعلق التعاون بالمسائل الإدارية والمعلوماتية التي تساعد المحامين التونسيين على تطوير وتحديث مهنة المحاماة وتجعلها مواكبة لعصرها.
* ألا ترى أن تفاوضكم وإتباعكم لأسلوب الحوار مع السلطة يخلّ باستقلاليتكم واستقلالية المهنة؟
ـ خلافا لم يروجه بعضهم انطلاقا من خلفية ليست سليمة فإني متشبث باستقلاليتي كمحام أولا وكعميد لهيئة المحامين ثانيا ومتشبث باستقلالية الهيئة وأدافع عنها دفاعا مستميتا والحوار والتفاوض لا ينال من أية استقلالية، بل بالعكس عندما يكون جديا وفي إطار الاحترام فهو يمثل الاستقلالية الكاملة، وليست الاستقلالية عنوانا للتشنّج أو الخصام أو التزيّد أو التهجم على الطرف المقابل أو رفض الآخر بل هي ثبات على المبدأ ومقارعة الحجة بالحجة والدفاع عن المطالب المشروعة، وأنا كعميد للمحامين متمسّك بقناعاتي وتوجهاتي।


* في الدورة السابقة للعمادة استعملتم أساليب وآليات العمل النقابي من اضرابات ورفع للشارة الحمراء واعتصامات... لكن في هذه الدورة توخيتم منهج الحوار والتفاوض فما الذي يبرّر هذا التحوّل؟
ـ هيئة المحامين هي في الحقيقة نقابة تدافع عن حظوظ منخرطيها ماديّا وأدبيا وأنا أؤمن بالعمل النقابي وكنت في الدورة السابقة أول عميد في تاريخ مهنة المحاماة التونسية لجأ إلى استعمال الأساليب النقابية في الدورة السابقة واعتبر نفسي مؤسسا للأسلوب النقابي في قطاع المحاماة إذ قمنا في الدورة السابقة بإضرابات واعتصامات ورفع الشارة الحمراء من اجل تحقيق مطالب المحامين ولكن الذي يخطئ فيه البعض أو يتجاهله أن الأسلوب النقابي يتكون من فرعين اثنين: الفرع الأول يتمثل في أن ممثل النقابة يقوم بالحوار والتفاوض مع الجهات الرسمية لتحقيق مطالب منظوريه وينبغي أن يكون هذا الحوار مركّزا وثابتا ومستمرا ولا يمكن التخلي عنه إلاّ إذا سُدّت الأبواب ولم يأت بنتيجة، آنذاك يقع الانتقال إلى الفرع الثاني والمتمثل في استعمال الآليات والنضالات النقابية السلمية والقانونية مثل الإضراب والاحتجاج والاعتصام إلى آخره، وعندما يقع استعمال هذه الأساليب النضالية تقع العودة إلى الفرع الأول أي الحوار والتفاوض وإذا أثمر الحوار والتفاوض عن نتائج ايجابية لا مبرّر للانتقال إلى الفرع الثاني أي لا فائدة في استعمال الاحتجاجات النقابية عندما تحقق أية نقابة مكاسب جدية ونحن في هذه الدورة طالبنا بالحوار مع الجهات الرسمية ففتحت وزارة العدل الحوار معنا على مصراعيه وشرعنا في التفاوض حول مطالب المحامين فور انتخابنا ومرت جلسات عديدة سادها الاحترام وتهدف إلى تحقيق الحلول لإصلاح قطاع المحاماة وفعلا أثمر الحوار والتفاوض نتائج ايجابية جدية وكسب المحامون مكاسب هامة وهي التي سبق بيانها في هذا الحوار.

2008/05/17

بورتريهات حية من مجتمع ميت



غالبا ما تأخذنا حالة من الاندهاش والتعجب المتلبسة بالإحساس بالحسد المقيت والغيرة من ذاك الرسام الذي يتقن، حد التماهي، ويجيد جيدا رسم ملامح صورة شخص ما، عادة ما يكون مشهورا، وغالبا أيضا ما تجمعه به علاقة حميمة، قرابة أو صداقة أو إعجاب...
وغالبا ما تعرض تلك الصور التي تسمى أيضا بورتريهات، في المزادات العلنية وتباع بأثمان خيالية... وهذا أمر طبيعي، أولا لشهرة المرسوم وثانيا لإتقان الرسام وايجادته في إخراج البورتريه...
أما مجموع البورتريهات التي سأعرضها تباعا، فهي ليست لمشاهير ولا لنجوم أو لعظماء البشرية الذين عاشوا وأفادوا وماتوا وما ماتوا، إنما هي لأشخاص أحياء يعيشون ويتنفسون بيننا، نراهم كل يوم تقريبا، وتصلنا أخبارهم إن غابوا عن أنظارنا.
كما أن هذه البورتريهات التي ستكتشفون ملامحها لم تكلفني البتة لا قلم رصاص ولا ممحاة، ولا مرسم تنهمر على أركانه الموسيقى الهادئة وشلالات الضوء الخافت... فقط طوعت لملامحها وأنفاسها بعضا من الحبر اللغوي ومن التصنيف الوظيفي لوجودها بيننا...
بورتريه 1
يركٌن سيارته «الفورد» وسط المأوى المحاذي لمحلات «ماكدونالد»، ويتجه مباشرة إلى ركنه المعتاد ليحتسى قهوته الصباحية المفضلة من نوع «ناسكافيه»، ويدخن معها سيجارتان لا أكثر من نوع «مالبورو»، ثم يمضي بعدها إلى ساحة الاجتماعات الكبرى ليلقي خطابا رنانا أمام الآلاف من الكادحين والعمال المتعاقدين وغير المضمونين اجتماعيا.... ويتناثر بصاقه على المصدح وهو يلح على ضرورة مقاطعة البضائع الإمبريالية باعتبارها تمثل سلاح أمريكا والدوائر الصهيونية والشركات العابرة للإنسانية الخطيرة التي تدمر الاقتصاد الوطني النامي!!!
بورتريه 2
لم يمض أكثر من ربع ساعة تقريبا وهو متسمر خلف ظهر سكرتيرته التي تشتغل لديه منذ أربع سنوات بعقد شغل. أملى عليها خاتمة الكلمة التي سيلقيه في المؤتمر العربي لتجمع الأحزاب المعارضة، وكاد يكسر لها عنقها عندما أخطأت رسم كلمتي الديمقراطية والتعددية الحزبية. عندما أنهى حصة الإملاء غادر مقر الحزب مباشرة نحو بيته حيث ألحت عليه زوجته وابنه وابنته بالحضور فورا. لما فتح له الخادم الباب، دلف إلى الصالة الفسيحة، أطفأت أنوار القصر ولاحت له من بعيد ثلاثون شمعة بالتمام والكمال. كانت عائلته تحتفل بذكرى توليه رئاسة الحزب منذ سنة 1976. أطفأ الشموع الثلاثين وقبلته زوجته وابنه وابنته وتمنوا له أن يظل رئيسا لحزبه الديمقراطي ثلاثون سنة أخرى!!!
بورتريه 3
لم يتلعثم أمام الكاميرا وهو يتحدث في البرنامج التلفزيوني، الذي يبث مباشرة، عندما انطلق في حديث مشحون عن فناني «الغلبة» الذين يتقافزون في الفضائيات والذين يغنون أي كلام بأي لحن وفي أي مكان، ويظهرون لنا وله أيضا مثل الكوابيس المزعجة وهم عراة حفاة ينطون كالقردة السائبة...كان حديثه متوازنا ومشحونا إلى أن انتهت الحصة المخصصة له.
أسبوع واحد، يظهر نفس الفنان على فضائية أخرى حافي القدمين، نصف حليق وهو يقدم للسادة النظارة «روميكس» نصفه ثغاء ونصفه الباقي قرع أرعن، ويصرح بعد نصف دقيقة – الزمن الكامل للأغنية الروميكس – بأن النسق أقوى من المبادئ، وأنه يلبي رغبة جمهوره «السميع»!!!
بورتريه 4
يشاهد بأم عينيه أن عدد المتسولين في الشارع يضاعف عدد حجارة الأرصفة، ويتابع بانتباه شديد آلاف المومسات يلقين حبالهن أمام أعين الأمن، ويمر بمظاهرات الطلبة المعطلين عن العمل منذ سنوات، ويقتني من السوق المركزية سمكة واحدة بنصف راتبه تقريبا. ينفض قميصه قبل أن ينام علً شرطيا يسقط من جيبه لكثرة ما شاهدهم في كل الزوايا يثقبون الظهور والبطون بأعينهم...
يعيش كل هذه الوضعيات يوميا ثم يرفع الكاميرا فوق ظهره ويخرج لنا فيلما عن الحب والأمان والراحة والعيش الرغيد!!!
بورتريه 5
يضع نظارته السوداء فوق عينيه عندما يشاهد منحرفا يفتح وجه فتاة بمدية حاد، ويرفع عصاه الغليظة في وجه ذاك الصبي الذي يبيع السجائر والعلكة بمحطات الحافلات. يرفع التحية للسيارة السوداء الفخمة المارة بالشارع ثم يوقف سيارة شعبية ليضع في جيبه ما غنمه بفضل امتياز زيه... يمطر جماهير الطلبة الهادرة أملا وألما بالقنابل المسيلة للدموع ثم يحمي الصعاليك والمنحرفين المتجهين نحو ملاعب كرة القدم... يرفع كل الحواجز الممكنة ليمنع المارة من الانعطاف نحو مقرات المنظمات الحقوقية ثم يفتح أبواب الحافلات والسيارات الخاصة والقطارات ليقل الناس إلى حيث يأتي الزعيم... يمارس كل تلك الأفعال وهو يلمع الشعار الوطني الذي يتدلى فوق صدره!!!

بورتريه 6
يأتي إلى الجامعة محملا بالأفكار والكتب والشعارات ويموت لأجلها طوال سنوات دراسته داخل أسوار الجامعة، يضرب عن الطعام ويسير في المصفوف الأمامية للمظاهرات ويلقي خطبا عصماء أمام الرفاق... يلعن النظام الذي حرمه من حقه في مجانية التعليم وجعل الكتب باهضة الثمن (مثل السمك) والسكن الجامعي غير متوفر ومنحة الدراسة لا تمنح... يفعل كل ذلك وتختلط دماؤه بجدران الجامعة استبسالا ومقاومة لأي بذرة خيانة لمبادئه...
عندما يتخرج ويحصل على إجازته، يترك كل الأفكار والكتب والمبادئ والشعارات والشهائد العلمية خلف أسوار الجامعة ويدخل إلى وظيفته ببطاقة حزبية وربطة عنق قزحية!!!
آخر بورتريه
ظل وحيدا داخل مرسمه يرفع الألوان في وجه البياض الصامت، راسما الأوجاع ومصورا الملامح مثلما هي. لم يتقن أبدا فن الخداع والتزييف. ظل وفيا لرأسه وريشته، رغم انه لم يشارك في أي معرض فني، فكل من شاهد رسومه ابتأس لفجاجتها وفضاعتها. في الحقيقة لم تكن رسومه فجة وفظيعة إلى درجة حرمانه من عرضها للعموم، وإنما كانت فقط رسوما حية... أو بالأحرى بورتريهات حية لملامح ميتة...
المرة الوحيدة التي دعي فيها للمشاركة بستة بورتريهات في معرض عالمي، لم يدر من أين انهالت على مرسمه تلك الجرافات العظيمة التي صيرته في لحظات معدودة ركاما هائلا من الحجارة والألوان، ولم يشعر بأي الم وهو يرى ذراعيه الاثنين ينعجنان مع الحجارة والألوان في محاولة يائسة ليظفر ولو ببورتريه واحد... وإلى الآن مازال ذاك الرسام معطوب الذراعين ويأس من التدرب على الرسم من جديد بأصابع ساقيه...
عندما زاره الزعيم وشمله برعايته وعطفه، منحه ذراعين من خشب، فرسم ستة بورتريهات مميزة لمناضل ثوري ورئيس حزب ديمقراطي ومطرب ومخرج سينمائي ورجل أمن وطالب جامعي، وقد نال على أعماله تلك وساما تقديريا وصار يعرض بورتريهاته في كل مكان!!!

2008/05/14

مزاد سرّي



بين حلم ويقظة ألفيت نفسي بين كوكبة من الرؤوس الآدميــة المشرئبة إلى صوت جهوري ينفذ إلى الصدور الواهنة وهو يفتتح مزادا سريا للتفريط في إضمامة من الأفكار والبــرامج التلفزية والإذاعية، تمت عُقلتها من بعض «الجماجم المثقفة» بعد ان تُركت متدلية فوق جثث أصحابها مثل عنــاقيد العنب وسط مقــاهي البلاد وحانـــاتها...
لم أتحسر كثيرا لافتقادي الأموال اللازمة لاقتناء بعضا من تلك المبيعات، بل لم أتحسر أصلا فالمزاد الذي ألفيت نفسي واقفا فيه انتفت منه شروط البيع بالحاضر والحمولة وغاب عنه محامي تنفيذ عمليات البيع، فكل الحاضرين كان لهم الحق في الاختيار والتأشير على الفكرة أو البرنامج الذي يقدر على تجسيده على أرض الواقع...لم تكن عملة الاختيار والتأشير الدينار التونسي، فقط كانت العملة المطلوبة الجرأة والشجاعة لتنفيذ البرامج التي يقع اختيارها.ألا أونو، ألا دوي، ألا تري، من يفتتح المزاد... من يفتتح المزاد... أفكار... برامج... مواضيع... اختاروا ولا تحتاروا... اقتربت قليلا حذو المصطبة التي يقف فوقها ذلك الرجل الذي يدير هذا المزاد، لم أكن أعرفه ولكني كنت أرى فيه ملامح وقسمات العديد من المفكرين الأحرار... وبعضا من أنفاس الإعلاميين والصحفيين الذين تركوا بصمتهم في تاريخ الحبر والأثير... وبالمقابل تعرّفت على اغلب الحاضرين في المزاد... كانوا زملاء وزميلات من مختلف المؤسسات الإعلامية الوطنية، السمعية والبصرية والمكتوبة والالكترونية...وزعت بعض التحايا والابتسامات على بعضهم ثم صوّبت سمعي وانتباهي إلى رجل المصطبة...
ألا أونو ألا دوي ألا ثري، أفتتح المزاد... اختاروا الأفكار... اغنموا البرامج... أثثوا منابركم... استعيدوا قراءكم ومشاهديكم ومستمعيكم... أذيعوا... اكتبوا... بثوا... ناقشوا... تحدثوا... هذه دفعة على الحساب وستتوالى المزادات وسيفتتح باب التواصل وتسري بينكم وبين المواطنين الثقة والتشجيع... هاكم هذه الأفكار الأولية...
ـ برنامج تلفزي عن العمل بالمناولة والتقاعد وشروط الانتداب.
ـ برنامج إذاعي عن خوصصة المؤسسات العمومية
ـ مقالات صحفية عن سرقة الآثار الوطنيةـ برنامج تلفزي عن العنف في المعاهد والمدارس
ـ برنامج إذاعي عن غلاء الأسعار وتدهور المقدرة الشرائية
ـ برنامج تلفزي عن سوء شبكة الطرقات داخل البلاد.ـ مقالات صحفية عن حرية الإعلام والانترنت.
ـ برنامج تلفزي عن الكتب الممنوعة من النشر.
ـ برنامج تلفزي عن ارتفاع الضرائبـ مقالات وبرامج عن الفرق بين السلطة والدولة
ـ مقالات وبرامج عن علاقة الإدارة بالمواطن.
مقالات، برامج، تلفزة، إذاعات، مواقع الكترونية...أعرف أن أغلبكم تطرق لهذه الأفكار والمواضيع... ولكن في هذا المزاد عليكم أن تعرفوا أن الشرط ليس توفر الفكرة وإنما زاوية طرح الفكرة...
إن البرنامج الناجح والمقال الأكثر مقروئية والإذاعة الأكثر استساغا هي تلك التي تكون أكثر التصاقا بالمواطن، بهمومه الحقيقية وبمشاغله اليومية...

2008/05/12

الثقافة والسوق السوداء



تنشط السوق الموازية أو السوق اللاقانونية، التي نطلق عليها اسم السوق السوداء، خاصة في الميدان الرياضي وتحديدا في بيع تذاكر المباريات ذات المنعرجات الحاسمة في البطولة أو الكأس في أذهان من يعتبرون أن الرياضة من الامور الحاسمة في بناء مجتمع ما.
كما تنشط أيضا السوق السوداء لدى أولئك الذين يكتبون على جدران بيوتهم «هنا يباع الخمر خلسة!!!» وأيضا لبعض المنتوجات الاستهلاكية التي يتكالب عليها المواطنون في المواسم والأعياد فترى الطوابير طويلة كالثعابين أمام الدكاكين والحوانيت ... في مقابل هذه الظاهرة التجارية بالأساس، تظل الثقافة ـ نتاجا وفعاليات ـ سوقا كاسدة لا تغري المغامرين والمقامرين باستثمار حيلهم وأساليبهم في التمعش منها في نطاق سوقهم السوداء ... إذ لا يزال سوق الثقافة أبيض شاحبا إلا فيما ندر من حفلات الهرج والمرج التي تنتظم هنا أو هناك والتي تمثل «المصيدة» و «الفخ» و «الوليمة» للذين يمارسون عمليات البيع اللاقانونية لجمهور الشباب المندحر بعيدا بعيدا في أقانيم الجهلوت والعمى المُنذر بالخراب الماثل قيد أنملة من خطواتنا...ومن دون التوغل في شعاب اللغة «الفضفاضة» والأفكار التي قد تبدو للبعض هدامة وسوداوية سأكتفي بالإشارة الى بعض «الحالات الثقافية» لنلامس شبح الموت القادم على مهل ... هل شاهدتم مثلا سوقا سوداء لبيع تذاكر الدخول لقاعات السينما التي تعرض أفلاما تونسية (بغض النظر عن القرصنة الرديئة والمسيئة لتقليد الفرجة داخل القاعات والمكرسة لتقليد استهلاك الثقافة فقط)؟!هل لمحتم يوما ما بائعي تذاكر مسرحيات وطنية أو حتى في أيام قرطاج المسرحية أو السينمائية؟!هل شاهدتم سوقا سوداء تبيع هذه الرواية أو تلك المجموعة الشعرية أو ذاك الكتاب النقدي؟!هل استوقفكم يوما ما بائع تذاكر سوداء أمام متحف أو دار ثقافة أو ناد ثقافي بمناسبة ندوة أو محاضرة أو أمسية شعرية ؟!!أبدا، ... فهذا السياق لا يستهويهم ولايدر عليهم الأموال كالخمور والخراف وصياح الملاعب وهستيريا القبة وقرطاج ...أعرف أني أنظر للاقانون وللممارسات اللاأخلاقية ولكن أعتقد أن الأمر لم يعد يحتمل وأخشى أن يأتي اليوم الذي تغلق فيه كل المكتبات وكل دور الثقافة ونواديها وكل الفضاءات الحرّة التي تراهن على الثقافة الحرّة ...
ويصاب كل الكتاب والشعراء بسكتة إبداعية!!!أخشى أن تصير رقعة الشطرنج سوداء لا يرفرف فوقها إلا علم القرصنة والقراصنة... وعصابات السوق السوداء...

2008/05/05

السياسي والديني في المجال الإسلامي لمحمد الشريف الفرجاني:


مقاربة نقديّة للقراءة الأصوليّة والطرح الاستشرافي

«النشأة» و»التطوّر» هما المفهومان الأساسيّان اللذان دفعا بالبحث في وجهة جعلت منه سعيا دؤوبا إلى الكشف عن ذاكرة الكلمات والوقائع والأفكار والمؤسسات، وعن كيفية تناسلها وعن الروابط فيما بينها»، بهذا المقتطف المفصلي الدّقيق، الذي ورد ضمن مقدّمة الكتاب، يمكن للقارئ العربي أن يقف على جدّية ومتانة المقاربة النقدية بمنهجها التفكيكي التي قدمها ضمن مؤلّفه الجديد الصادر بالمغرب حديثا والذي وسمه بـ «السياسي والديني في ـ المجال الإسلامي»... ومحمد الشريف الفرجاني أستاذ بجامعة ليون الثانية، أصدر العديد من الدّراسات عن الإسلام والعالم العربي، منها «سُبل الإسلام: مقاربة علمانية للظواهر الإسلامية» (1966) و »الاسلاموية، العلمانيّة وحقوق الإنسان» (1992)، وقد صدر كتاب «السياسي والديني في المجال الإسلامي» ضمن سلسلة «الدين والمجتمع» عن «منشورات مقدمات» المغربيّة وقام بترجمة الكتاب محمّد الصغير جنجار ـ مدير سلسلة «الدين والمجتمع».. بدعم من مصلحة التعاون والعمل الثقافي التابعة للسفارة الفرنسية بالمغرب.
وضمن مقدّمة المترجم أكّد محمد الصغير جنجار نموذجية نص الأستاذ محمد الشريف الفرجاني باعتباره «يعالج موضوعا محوريّا لم يفتأ السجال بشأنه يتأجج منذ عدّة عقود. أنّه موضوع العلاقة بين السياسي والديني الذي يوجد اليوم في قلب نقاش داخلي يفرز استقطابات ايديولوجية المنهجية الضروريّة للخروج من مأزق ثنائية، المقاربتين الأصولية والاستشرافية «لإشكالية السياسي والديني في المجال الاسلامي»، كما يأتي كتاب محمد الشريف الفرجاني خير ردّ ـ كما كتب عبده الفيلالي الأنصاري ـ على «أطروحات برنارد لويس، لكونه يقيم البرهان على أن ما اعتبره هذا الأخير اللغة السياسية للإسلام ليس في واقع الأمر سوى لغة الإسلام السياسي».
ويقوّض كتاب «السياسي والديني في المجال الإسلامي» التمركز الإثني لحساب كونية الإنسان المهدّدة بأسطرة الدين سواء كان إسلاميا أو يهوديا أو مسيحيا، وكذلك يقوّض المركزيّة الغربية المُفرطة في عدائها لكل من غايرها...
كتاب محمد الشريف الفرجاني احتوى متنه على حشد كبير من المفاهيم والأفكار والوقائع التي فكّكها وفكّك بنياتها مثل النظام القبلي والحكم السياسي والقانوني في القران ومفاهيم الأمة والملة والإمامة والخلافة وجدلية الحرب والسلم في القران وسلطة الله وسلطة القيصر والنظريات السياسية الشيعيّة والسنيّة والتصوّف والشريعة والحقوق وحريّة المعتقد ووضعيّة المرأة في المجتمعات الإسلامية والعلمانية...

2008/05/03

الشباب والامبريالية



«اليوم لا يوجد شعب واحد معيّن يحتاج للتّحرير. واليوم لا يوجد شعب واحد معيّن يحتاج للإنقاذ. اليوم، يحتاج العالم بأسره وكل البشريّة للتّحرير والإنقاذ». من هذه الإشارة المُختصرة، البليغة والواضحة لفيدال كاسترو يمكننا أن نتحسّس وضعنا اليوم، باعتبارنا جزءا مهما من العالم ومن البشريّة جمعاء، جزءا مهما من العالم المنهوبة ثرواته لمدّة خمسة قرون من طرف قوى النّهب والاستغلال بمختلف تمظهراتها: أسطورة الشّعب المختار... اليهود... ثم الكنيسة الكاثوليكيّة في روما، ثم البروتستانت في بريطانيا والولايات المتّحدة الأمريكيّة... رأسماليّة... استعماريّة... ليبراليّة ديمقراطية... نيوليبيراليّة... إمبريالية... عولمة...
نتحسّس وضعنا باعتبارنا جزءا مهما من البشرية جمعاء وتحديدا من ألـ 80 بالمائة الفائضين عن الحاجة، الذين لن يمكنهم العيش إلا من خلال الإحسان والتّبرّعات وأعمال الخير ومن خلال عولمة التّضامن، هذا إذا ما صمت منظّرو العولمة واقتصاديّوها عن مقولاتهم الرّاهنة المصمّمة على إن مراعاة البُعد الاجتماعي واحتياجات الفقراء أصبحت عبئا لا يُطاق وأن شيئا من اللامساواة بات أمرا لا مناص منه، وأن دولة الرّفاه تهدّد المستقبل، وأنها كانت مجرّد تنازل من جانب رأس المال إبان الحرب الباردة، وان ذلك التّنازل لم يعد له الآن ما يبرّره بعد انتهاء هذه الحرب...
إن قتامة المستقبل الذي يخشاه الـ20 بالمائة النّاهبين هي أبلغ صورة عن الماضي المتوحّش للنّظام الرّأسمالي الذي أرسوه هم والذي استنزف جميع خيرات الأرض وقوى العمّال بما يكفي لتدميرها وإفناء شعوبها المفقّرة، ونتيجة للحاضر المبني على مجتمع الخُمس الثّريّ (20 بالمائة) وأربعة الأخماس المُفقّرين الذين يمثلون 80 بالمائة.
والسّؤال البسيط والضّروري في آن الذي يتوجّب طرحه بكل إلحاح أمام هذين الرّقمين الفارقين 80 بالمائة و20 بالمائة هو : ما الذي يؤمّن للأقليّة الثّريّة الاستمرار بالاستغلال والنّهب والحكم الاستبدادي؟ وما الذي يمنع الأغلبيّة الفقيرة من الخروج من توابيت موتهم التي يتنقّلون بها من رصيف الجوع إلى رصيف البطالة ورصيف الإبادة الجماعية حينا والإعدام الفردي حينا آخر؟ وهل من الضروري التذكير بأن الحرية هي شبيهة بنا نحن المنعجنين بصهد الأيام المكرورة نٌلاطم أمواجا عاتية ليست سوى أنفاسنا نحن الـ80 بالمائة...
إن المطروح اليوم، من مهام ومسؤوليات، على كافة «الأنفاس الفائضة» ليست بالضرورة مهامات ومسؤوليات ثورية أو متمردة، بل هو الالتقاء الواعي بين جميع قواها الحية منها والمقهورة المشتتة في كل دول جهتي الأرض الجنوبي والشمالي، لتحديد وإيجاد نقطة اتفاق حول أكثر من نظام بدءا بالليبرالية والرأسمالية والإمبريالية ووصولا إلى العولمة والحداثة وما بعدهما، وحتى مفهوم المجتمع المدني بمنظماته وهيئاته علينا أن نتفق حول الصيغة الأمثل التي تحسم أكثر من عائق يحول دون نجاعة نضاله بدءا بالتشكيك في التمويل ووصولا إلى تجاوز صبغة المنظمات والجمعيات والهيئات، نسوية أو ذكورية، سياسية أو نقابية، ثورية أو إصلاحية... فكل هذه التعلات لا تخدم إلا مصالح الأنظمة الاستبدادية بصنفيها المدني أو التيوقراطي.
«من أجل عالم للشباب ممكن» شعار لا بد آن يرفعه كل شاب وشابة في كل العواصم ليقض مضاجع الناهبين ويضخ الأمل في خطوات المنهوبين في العالم ... شعار آعتقد أنه آن لشباب العالم أن يتوحد حوله في اليوم العالمي لمناهضة الامبريالية الموافق ليوم 24 أفريل ضد كل أشكال الامبريالية بدءا من امبريالية الأب وصولا إلى امبريالية الدولة...