بحث هذه المدونة الإلكترونية

2013/06/27

عندما يتحول محمد مرسي رئيس الجمهورية إلى محلل سياسي

في الوقت الذي تكلمت فيه المسدسات وبنادق الخرطوش والأسلحة البيضاء والعصي، وفي الوقت الذي قُتل فيه شخصان وأصيب أكثر من 200 بجروح، في بعض المدن المصرية أياما قبل تجمع حركة تمرد يوم 30 جوان الحالي الداعية أساسا إلى إجراء انتخابات في اقرب وقت وسحب الثقة من الرئيس مرسي، في ذات الوقت اعتلى محمد مرسي رئيس الجمهورية المصرية منصة مركز المؤتمرات بمدينة نصر في القاهرة ليخطب أمام حشد من الحاضرين (أغلبهم من مناصريه) بعد أن رفع المجلس العسكري حالة الطوارئ، وبعد أن وجه مرسي تعليماته (حسب الصحف المصرية) لأمناء المحافظات لحشد الأعضاء بالقاهرة لتأييده عقب إلقاء خطابه، وذلك في مواجهة الدعوات للتظاهر بميدان التحرير وأمام وزارة الدفاع للقوى الثورية والمعارضة، وتكلم مرسي لأكثر من ساعتين ونصف لم يختلف كثيرا خطاب مرسي عن تعليماته بقمع المتظاهرين، حيث جاءت كلماته محملة بالوعيد والتهديد لكل من تسول له نفسه "الانقلاب على نظام الحكم"... خطاب مرسي الذي ألقاه يوم الأربعاء يأتي يوما واحدا بعد أن أصدرت حملة "تمرد" بياناً وصفته بـ"الرسالة الأولى والأخيرة" للرئيس طالبته فيها بالرحيل قبل فوات الأوان. ومما جاء في الرسالة: "باسم أكثر من 15 مليون مصري وقّعوا على استمارات حملة تمرد، وأعلنوا رفضهم لاستمرارك في قصر الرئاسة، وحتمية إجراء انتخابات رئاسية مبكرة وباسم كل من خاب أملهم فيك واستشعروا خطورة استمرارك فيما تفعله بالوطن والمواطنين.. نطالبك بالرحيل طوعاً". ولئن كانت رسالة القوى الثورية الحية في مصر واضحة ولا لبس حول مطالبها وأهداف تحركها، فأن خطاب مرسي لا يعدو أن يكون شبيها بخطاب محلل سياسي يحاول وصف الواقع وتشريح تفاصيله كما هو، وإذا كان المحلل السياسي يلتزم بأكبر قدر من الموضوعية في خطابه، فأن رئيس كل المصريين لم يكن موضوعيا مع كل المصريين في خطابه الأخير، إذ أطلق سهامه على مختلف القوى المعارضة واسترسل في ذكر الأسماء وتوجيه التهم لهم وأعتبرهم " مجرمون لا مكان لهم أبدا" (ويدعو في نفس الوقت لاستقلالية القضاء)، كما خصص جزءا كبيرا من كلامه لاستمالة مؤسستي الجيش والشرطة ووزارة الداخلية... رغم التجهم البادي على مسؤولي المؤسسات الأمنية الجالسين في الصفوف الأمامية من قاعة المؤتمرات... وبعد أن قسم المعارضة تقسيما سطحيا، وجه دعوته إلى ما أسماه المعارضة الوطنية للالتحاق بمبادرته حول تعديل الدستور والمشاركة في لجنة المصالحة الوطنية، غير أن دعوته أطلقها بلهجة فيه الكثير من التحدي يبدو أنها لن تؤدي إلا إلى مزيد الاحتقان والرفض والتمرد، خاصة أن حديث مرسي عن الاستقطاب الثنائي وخطورته على الاستقرار العام بالبلاد كان في صميم الاستقطاب الثنائي ذاته، ذلك أن مرسي لم يوجه خطابه إلى كل المصريين بل كان موجه إلى أنصاره من الإخوان المسلمين... ولذلك صنف بعض مؤسسي حركة تمرد هذا الخطاب بخطاب "الغدر" في انتظار "خطاب التراجع" ثم أخيرا "خطاب الهزيمة"... هكذا بدا خطاب مرسي خطابا تعبويا لأنصاره ومراوغا في تفاصيله، ضاربا عرض الحائط سخط أكثر من 15 مليون مصري، وهو خطاب نجد له صدى في خطاباتنا التونسية اليوم خاصة حول الجدل المحتدم بخصوص ما يسمى "قانون تحصين الثورة" وبعض الخطابات "الغوغائية" التي نسمعها هنا وهناك حول الديمقراطية وحقوق الإنسان والسلم الاجتماعي والتطور الاقتصادي... اذكر هنا رد الزعيم القومي جمال عبد الناصر في احد خطبه عندما صفق له الحاضرون وقالوا له "عدها يا ريس" فأجابهم بكل ثقة في النفس "أنا مش أم كلثوم علشان أعيد الكلام، الريس يقول كلمة واحدة وبس"... الرئيس يقرر ويأمر بالتنفيذ ولا يسرف لغته في التسويف وفي تعريجات اللغة وثناياها ولا يتورط في التحاليل والاستنتاجات...

انسحاب الجنرال رشيد عمار: البيان رقم واحد أم الشجرة التي لن تحجب الغابة؟

انسحاب الجنرال رشيد عمار: البيان رقم واحد أم الشجرة التي لن تحجب الغابة؟ استحضرت رواية "الجنرال في متاهته" للكاتب الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز التي توثق الشهور السبعة الأخيرة من حياة الجنرال سيمون بوليبار، أحد الزعماء الذين شاركوا في حركة الاستقلال السياسي لدول أمريكا الجنوبية في الربع الأول من القرن التاسع عشر، استحضرت تلك الرواية المحرضة على تغليب الحب والصحة والحياة على اليأس والمرض والموت... استحضرتها وأنا أتابع ككل التونسيات والتونسيين المهتمين بالشأن الوطني، الإطلالة التلفزية على قناة "التونسية" والتي دامت قرابة ثلاثة ساعات والنصف لرئيس أركان الجيوش الثلاثة، الجنرال رشيد عمار، الذي لم يفلح في جعل "شجرة" تجاوز السن القانونية تُخفي الغابة الشاسعة من التأويلات والقراءات المختلفة لأكثر من معلومة ساقها في حواره... لندخل معه في متاهة جديدة... ونلمح الظلال السياسية تقترب من المؤسسة العسكرية بسرعة... خاصة أن طلب الإعفاء يأتي بعد استقالة وزير الدفاع السابق عبد الكريم الزبيدي في مارس الفارط... وهي استقالة وُصفت بالاحتجاجية بسبب ما يتهدد المؤسسة العسكرية من محاولات إنهاك قواها واستنزافها من الداخل واستضعافها... طلب رشيد عمار إعفاءه من مواصلة قيادة المؤسسة العسكرية قد يكون مرتبطا فعلا بنهاية السن القانونية له (متقاعد منذ 2006)، ولكن الأكيد أن من بين دوافعها عديد الضغوط من بعض الأطراف السياسية، وبعد الحملات المشككة في قدرته وقدرة المؤسسة التي يديرها على إدارة الشأن العسكري في تونس خاصة مع اندلاع أحداث الشعانبي... ولعل مطالبة محمد عبو رئيس حزب التيار الديمقراطي باستقالة الجنرال وكذلك الجلسة "السرية" لراشد الغنوشي التي اعتبر فيها أن "الجيش غير مضمون" (اعتبر السفير التونسي السابق في منظمة اليونسكو، المازري حداد أنّ الجنرال رشيد عمار اضطر إلى الاستقالة نتيجة تصريح سابق لرئيس حركة النهضة راشد الغنوشي الذي خاطب السلفيين في شريط مسرب بقوله إنّ الجيش غير مضمون) وكذلك اتهام أيوب المسعودي المستشار الإعلامي السابق لرئيس الجمهورية لرشيد عمار بالخيانة... كما أن المدعو عماد دغيج نشر فيديو على الانترنات يطالب فيه بنصب المشانق لرشيد عمار... قد تكون من بين الأسباب المباشرة... أو من بين المؤشرات والرسائل الموجهة لرشيد عمار لتدفعه إلى إعلان طلب الإعفاء من المهام قبل أن تتم إقالته... خاصة أنها مثلت رسائل تشويش على المؤسسة العسكرية ومحاولات للتدخل في سير عملها وفي اخذ القرارات الهامة بدلا عن قيادييها. لكن يبقى السؤال المفتوح ذاك المتعلق بما لم يعلنه الجنرال رشيد عمار عن نواياه السياسية بعد أن يخلع الزي العسكري... وهو ما سيفعله بداية من غرة جويلية 2013 بعد أن وافق رئيس الجمهورية المؤقت محمد المنصف المرزوقي بسرعة على طلب تفعيل الإحالة على التقاعد، وبعد أن تم تقليد رشيد عمار الصنف الأكبر من وسام الجمهورية بمناسبة الاحتفال بالذكرى 57 لانبعاث الجيش الوطني... رسائل واضحة، وأخرى مشفرة صرح بها الجنرال، منها اعتبار أن اغتيال شكري بالعيد يمثل شهادة وفاة لحكومة حمادي الجبالي، وهو ما يعني أيضا اتهامها سياسيا بعملية الاغتيال. أيضا اقتراحه على حمادي الجبالي بتشكيل حكومة كفاءات وطنية إقرار واضح على فشل الائتلاف الحكومي القائم على المحاصصة الحزبية، وهو المقترح الذي رفضته الترويكا وفي مقدمتها حزب حركة النهضة، حتى أن راشد الغنوشي وصف المقترح بأنه انقلاب على الشرعية... ومن الرسائل الواضحة أيضا، الحديث عن الأولياء الصالحين، في إشارة إلى ما تعرضت له الأضرحة والزوايا من تخريب وتدمير ومحاولة "وهبنة" تونس وإدخال التيار الوهابي التكفيري عنوة من دول الخليج... وفي علاقة بهذا المنحى كانت رسالة الجنرال واضحة ولا لبس عليها حيث اعتبر أن كميات السلاح التي تخترق حدودنا هي تمهيد لانقلاب مسلح على الحكم في تونس... خاصة أمام محاولات "صوملة" تونس من قبل تنظيم القاعدة وفروعها وخلاياها المنتشرة، مذكرا في ذات السياق بأحداث سليمان سنة 2006... ولئن تم القضاء على مجموعة سليمان فان مجموعات "ما بعد الثورة" قد يستحيل القضاء عليها، باعتبار أنها "مسنودة" من "قوى مدنية" تدافع عنها وتوفر لها كل شروط "التخريب" من "دعم معنوي" وأموال مشبوهة تدفعها لها عبر "الجمعيات والمنظمات المدنية"، لذلك نتفهم اقتراح رشيد عمار بعث "وكالة وطنية للاستعلامات" تكون ناجعة ومستقلة عن أي طرف سياسي... الجنرال كرر أكثر من مرة أنه لن يتكلم في الشأن السياسي إلا عندما يخلع زيه العسكري، وهذا يدل عن رغبة رشيد عمار في ممارسة السياسة كمواطن لا كعسكري، خاصة بعد أن تهيأت له الأرضية بشكل مناسب، فعلاقاته الكبيرة والمتينة في الداخل والخارج ستكون خير سند له، كما أن "شعبيته" لدى التونسيين غير مشكوك فيها، إلى جانب طبعا التحالفات الممكنة مع الدوائر المالية والسياسية والجهوية لأبناء الساحل... وربما لا ينسى المتابع للشأن الوطني ذاك التصريح المدوي على شبكة التواصل الاجتماعي "الفايسبوك" لفرحات الراجحي عندما قال أن رشيد عمار "سيقود انقلابا عسكريا في حال فوز حركة النهضة الإسلامية بانتخابات المجلس الوطني التأسيسي"، ولئن لم يقم رشيد عمار بانقلاب عسكري طيلة السنتين المنقضيتين، فإن ما أبان عنه من حنكة سياسية ورؤية إستراتيجية قد تدفعنا إلى القول بأن الرجل اختار طريق "التكتيك الاستراتيجي" مع حليفين بارزين هما حمادي الجبالي من جهة والمنصف المرزوقي من جهة ثانية، فرصيد الجبالي الشعبي ارتفع بشكل ملحوظ إبان الإعلان عن حكومة كفاءات وطنية، رغم أن رشيد عمار هو الذي اقترحها ولم نكتشف ذلك إلا مؤخرا، كما أن سحب بعض نواب المجلس التأسيسي إمضاءاتهم من لائحة سحب الثقة من رئيس الجمهورية المؤقت المنصف المرزوقي تزامنت مع إطلالة رشيد عمار في قناة "التونسية"، ولا ننسى أن ما يُسمى "قانون تحصين الثورة" إن تم تمريره في المجلس التأسيسي سيحرم عددا من القيادات البارزة من الترشح في الانتخابات القادمة... ثم لا ننسى أن رشيد عمار كان واحدا من ضمن أعضاء لجنة الحكماء التي اقترحها حمادي الجبالي... في نفس السياق يأتي أيضا تصريح حمادي الجبالي مباشرة بعد يوم من ظهور رشيد عمار في التلفزة، حيث تمسك الجبالي في حوار له مع وكالة الأنباء الألمانية، تمسك بحكومة كفاءات وطنية موسعة تكون محل توافق من الجميع وتعمل على تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للشعب، ومقاومة العنف بكل أشكاله وخاصة العنف المسلح... وهذا "البرنامج الانتخابي" لن يرضي حتما حركة النهضة، التي يشغل الجبالي أمانتها العامة، وهو ما قد يدفعه للانسحاب من موقعه والالتحاق برشيد عمار والمرزوقي... وربما أيضا هنا نفهم تواتر تصريحات بعض السياسيين بفشل مرشحي حركة النهضة في الانتخابات القادمة (السبسي وأحمد نجيب الشابي خاصة)... إن السؤال الذي يطرح بحدة بعد تصريحات رشيد عمار، هو إذا كان الجنرال يشغل خطته منذ 2006 في إطار التمديد الذي تمنحه إياه الدولة، لماذا يصر اليوم على طلبه خاصة أن البلاد ستعيش انتخابات قادمة، ومن مهام المؤسسة العسكرية المساهمة بالقسط الأوفر لتأمين نجاح العملية الانتخابية، كما أن الفترة التي سيظل فيها منصب القائد الأعلى للجيوش التونسية (برا وبحرا وجوا) شاغرا، باعتبار أن التنظيم المؤقت للسلط يخول لرئيس الجمهورية المؤقت مهمة التعيينات والإعفاءات في الوظائف العسكرية العليا باقتراح من رئيس الحكومة، وهذا التعيين سيتطلب فترة من الزمن للتشاور والدراسة الدقيقة لخليفة رشيد عمار، فان السؤال المحير هو كيف سنؤمن هذه الفترة في غياب قيادة عليا للجيش؟... لئن اختار الجنرال رشيد عمار هذه المتاهة، فإنه دفع إليها الشعب التونسي دفعا من حيث لا يعلم أو يعلم، فهذا الشعب يجد نفسه اليوم أعزل أمام خطر "الوهبنة" و"الصوملة" و"الأسلمة"، كما باتت "ثورته" يتيمة ولا أفق لمطالبها الحقيقية إذا ما ظلت الحسابات السياسية تطغى على المصلحة العليا للوطن... وقد تكون مصيبة الشعب أكبر إذا ما كان حديث رشيد عمار بمثابة البيان رقم واحد والذي سيمهد لحكم عسكري متخفي في بدلة مدنية...

2013/06/14

الحجم الحقيقي لحركة النهضة

"لست منزعجاً لأنك كذبت علي اليوم، لكنني منزعج لأنني لن أصدقك من الآن فصاعداً." (نيتشة) يمثل الشعور بالاضطهاد والاغتراب أهم عاملين في تضخم "الأنا النهضوية"، وهو تضخم بدأ في دفع الحركة إلى تقمص دور "الجلاد" بعد أن كانت "ضحيته" من خلال استماتتها اليوم في بسط نفوذها بكل الأشكال والطرق، حيث تبني حركة النهضة خطاباتها، الدعوية والسياسية، على مبدإ صيغة التفضيل، وتقدمها قياداتها وقواعدها على حد السواء، على أنها الأفضل والأكبر والأقوى والأجدر عما دونها من باقي الأحزاب السياسية الوطنية، وهي تجتهد في تضخيم "أناها" لا فقط من خلال خطابها الملفوظ، بل أيضا من خلال الصورة التي تروجها عن نفسها بدءا من ضخامة مقرها المركزي بمونبليزير وحراسه (تذكرنا بدار التجمع الدستوري سابقا، المرتفعة بشارع محمد الخامس)، ومرورا بالمقرات الجهوية والمحلية، وصولا إلى الاجتماعات العامة التي تنظمها وتحرص على تقديمها بشكل "أركسترالي" مبني على الاستعراضات اللغوية والمشهدية، والتي تحشد لها الحافلات والسيارات لتحشد أكبر عدد ممكن من الناس فيما تسميه "المليونيات"... (مثل التجمع سابقا أيضا)... كما أن "زعيمها" يُصبغ على نفسه هالة مصطنعة انطلقت منذ أن أنشده مريدوه في مطار تونس قرطاج الدولي "أقبل البدر" ومنذ أن شبه الغنوشي انطلاقة حركته من جامع سيدي يوسف بانطلاقة الإسلام من غار حراء، وكذلك منذ أن قرر عدم الجلوس إلى منافسيه السياسيين في الحصص التلفزية والإذاعية (وهو ما قد يدل على قصور سياسي وافتقاد القدرة على الإقناع)... وأيضا بعد أن صار قبلة أصحاب المال والأعمال في مكتبه... وعودة بعض السياسيين له كلما "تناحروا" فيما بينهم (وما أكثر ذلك)... الصورة "الناصعة" لحزب حركة النهضة أيضا، يتم الترويج لها بطريقة متقنة من خلال الكتلة النيابية بالمجلس الوطني التأسيسي، وانسجامها الحديدي، في الدفاع المستميت عن الأخطاء الوزارية والمنزلقات الدستورية والقانونية، وهو "انسجام" ظاهري في الحقيقة، لأنه مبني على مبدإ "الموافقة دون اقتناع"، ومبني على التعليمات الفوقية القادمة من مجلس الشورى للحركة، لا على الاقتناع الذاتي لنائبات ونواب الحركة، وربما مقررة لجنة السلطة التشريعية والتنفيذية والعلاقة بينهما، صالحة بن عايشة عن حركة النهضة، قد تصدح ذات يوما بما خفي من تعليمات فوقية دونتها في الدفتر المتعلق بأعمال اللجنة والذي حاولت افتكاكه عنوة من النائب عمر الشتوي... أما الجانب المادي فهو الركن الأساسي في إبراز "ضخامة" حركة النهضة، فالإنفاق الباذخ يثير أكثر من نقطة استفهام حول مصادر تمويل الحركة، ولعل ما قدمته صحيفة "الاندبندنت" البريطانية، وما قامت به مجموعة "أنونيموس"، عندما اخترقت البريد الالكتروني لرئيس الحكومة السابق حمادي الجبالي، كاف لمعرفة بعض مصادر أموال الحركة، مثل قطر والسعودية وتركيا وواشنطن، خاصة إبان الحملة الانتخابية وأيضا أثناء الإعداد لمؤتمرها السنة الماضية، وهو ما كشف عنه أيضا ويليام تايلور، المبعوث الأمريكي لـ"التحول الديمقراطي في الشرق الأوسط" عن قيام واشنطن بتقديم أموال لحركة النهضة، ولا يخفى على أحد أن الجماعات الإسلامية في عمومها تعتمد أيضا على شبكات التهريب وخلق بؤر الاستثمار لضمان تمويلها المالي... ومن المهم أيضا التذكير بما أكده الصحفي الفرنسي "آلان جول" حول حادثة اعتقال السلطات الفرنسية لمستشار وزير العدل والقيادي في الحركة السيد بلقاسم الفرشيشي في مطار "أورلي" الدولي بتهمة تبييض الأموال بعدما تمّ القبض عليه صحبة تونسيين آخرين قادمين من السعودية بحقائب مليئة بالأموال... ولكن الثابت أيضا من ناحية أخرى أن الحركة تستمد "تعملقها" من تشتت القوى الديمقراطية وارتباك مواقفها من جهة، وأيضا من خلال سياسة الصمت والإفراط في "الانبطاحية" من طرفي الترويكا، حزب التكتل والمؤتمر... الأكيد أن مثل هذه المقومات وغيرها تساهم، بل ساهمت فعلا في إظهار حزب حركة النهضة كحزب "عملاق" لا يضاهيه أي تنظيم آخر، ولكن هل فعلا هذه هي الصورة الحقيقية لحزب عاش أكتر من ثلاثين سنة مشتتا بين السجون والمنافي ولاذ أكثر من ثلثيه بالصمت طيلة حكم النظام السابق وانحدر عدد كبير منها في مستنقع بن علي؟ أعتقد أن "تهديد" راشد الغنوشي في كل مرة "بأن محاولة إقصاء النهضة من الحكم سيدخل البلاد في منعرج التناحر والعنف" يؤكد، في لا وعيه ولا وعي الجماعة، أن حجم الحركة الحقيقي عكس الصورة المقدمة عنه، كما أن التلويح المستمر بأن حركة النهضة ستنتصر في الانتخابات المقبلة لا يدل إلا عن وعي "الجماعة" بحجمهم الحقيقي مما يدفعهم إلى توخي سياسة الهروب إلى الأمام من خلال الإيهام "بامتلاك ولاء الشعب" مثلما قال ذلك الغنوشي في اجتماعه بصفاقس بمناسبة الذكرى 32 لتأسيس "الاتجاه الإسلامي"... أما أهم المؤشرات الدالة على زيف الصورة المضخمة لحركة النهضة، فهي سياستها في حد ذاتها مع طرفين على الأقل بشكل مباشر، الأول هم السلفيون ومن لف لفهم من أحزاب كالتحرير وجبهة الإصلاح وحزب العدالة والتنمية وحزب الفضيلة وحزب الأمانة وأنصار الشريعة وحزب الأمة التونسي واللقاء الإصلاحي الديمقراطي، إلى جانب الجمعيات الدعوية... فجميعها تُظهر "العداء" لحركة النهضة وعدم الاتفاق مع سياستها، في حين أنها تمثل قاعدتها الانتخابية، ولنا في انتخابات 23 أكتوبر خير دليل على "الهبة الإسلامية" للسلفيين الرافضين آنذاك الانتخابات... وتصويتهم الجماعي لفائدة مرشحي الحركة... أما الطرف الثاني، فهو ما يحلو لحركة النهضة تسميتهم "التجمعيين النظاف" مثل حامد القروي الذي كتب عنه خالد شوكات في صحيفة المغرب، بأن الفترة التي كان فيها وزيرا أول (1991/1999) فاقت فيها ملفات التعذيب الأربعين ألف ملف، ومثلت عشريته الأكثر "عفونة وسوادا في زمن التحول العتيد"، وما حامد القروي إلا واحد من المئات... فسياسة الانتقاء التي تنتهجها النهضة مع أبناء النظام السابق، ومنحها بعض المتنفذين سلطة جديدة، مالية أو سياسية، تؤكد أن الحركة تنفخ في صورتها بشكل هستيري يبلغ حد "أكل لحم أبنائها المضطهدين" بكل جحود ونكران لذواتهم، وكل ذلك في سبيل الاستئثار بالسلطة وتحقيق حلم الحكم، ولعل رفع كلمة "ديقاج" في وجه أهم مؤسسي الحركة، المحامي عبد الفتاح مورو، خير دليل على مدى جحود ونكران أهل مونبليزير لآبائهم المؤسسين، (إلى الآن لم نرَ موقفا شاجبا أو رافضا للاعتداء على مورو)... كما أن قانون "تحصين الثورة" هو بالأساس مدخل منهجي وتكتيك سياسي لتحصين بقاء الحركة في الحكم بشروطها هي... ولذلك نتابع اليوم اللقاءات الماراطونية، العلنية والخفية، بين حركة النهضة والمعنيين بهذه "البدعة"، وهي لقاءات تبحث بالأساس شروط الرضى والموافقة... الجانب المهم أيضا والأساسي في التضخيم المفتعل لحركة النهضة، هو العودة بكل قوة إلى الخطاب الديني، باحتكار النطق باسم الله من جهة، واعتبار منافسي الحركة أعداء الله والدين، وهذا ما نجده في قول الغنوشي ذاته عندما قال "سيسجل التاريخ أنه في سنة 2012 تخلى البعض عن آخر التسميات أو الأفكار التي تظهر العداء للدين" في إشارة واضحة لحزب العمال الشيوعي سابقا...(الحزب الذي دافع بشراسة عن حركة النهضة أيام بن علي) ومثل هذا التصريح لا يدل على سذاجة فكرية، بل هو يدل على افتقاد حركة النهضة إلى أدنى شروط الديمقراطية في العمل السياسي، ويدل أيضا، ومرة أخرى، على وهم الصورة المضخمة للحركة... فمقارعة المنافسين السياسيين، حسب حركة النهضة، لا يتم وفق البرامج الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بل تستبيح فيه الحركة "المقدس الديني" وتنزل به من عليائه إلى الحضيض... وتُشهر فيه كل أشكال التشويه والادعاء بالباطل، وهذا ما يؤكد أن الحركة لا تمت بصلة للعمل السياسي المدني، وأن حجمها الحقيقي لا يخرج من مساحات المساجد والفضاءات الدعوية... وكأن الحركة لا تهتم بالمواطن التونسي بقدر ما تهتم بالمتدين... وربما لذلك نفهم إصرارها المستميت على الترويج الدائم لمقولة "الشعب التونسي مسلم"... إن الأحزاب التي لا "تصنع" لنفسها صورة مضخمة لا يمكنها أن تستأثر بالحكم وتسيير دواليب الدولة، مهما كانت الدولة، ولكن التضخيم المبالغ فيه والمبني على قاعدة هشة ومفتقد لأرضية واقعية وأفق واقعي سيعجل حتما بانهيارها واندثارها، وهو ما لا نتمناه لحركة النهضة باعتبارها جزء من المشهد السياسي اليوم، وهو ما نتمنى أيضا أن تستوعبه قياداتها وقواعدها، وتفهم أنها لا تمثل كل المشهد وليست أيضا الجزء "الأهم" و "الأصعب" فيه...