بحث هذه المدونة الإلكترونية

2008/03/13

بمناسبة اليوم العالمي للمرأة

التاريخ المؤنث (*)
* بقلم: يسرى فراوس (محامية)

* السؤال عن الكينونة يجلب الدوار
"لا يمكن أن نفهم إنسان المستقبل ما لم نفهم إنسان الماضي"، قياسا على هذه المقولة لــ لوروا غورهانLeroi – Gourhan يمكن أن نجزم أنه لا يمكننا فهم امرأة المستقبل إذا كنا لم نفهم بعد امرأة الماضي، ولكن حتى نفهم علينا أولاأن نعرف امرأة العصور السالفة. تلك هي المسألة.
يبدأ التشكيل الفني من تمثل الذهن لخطوط ودوائر وتكعيبات هي حتما أطياف موضوعات محسوسة نراها ونلمسها في الواقع ثم نخزنها في الذاكرة، فحتى نشكل صورة لامرأة من الزمن الغابر لابد من طيف مختبئ في ثنايا الذاكرة.
استفزاز الذاكرة يفترض أن السبيل الأقرب للوصول إليها هو قراءة التاريخ، وهنا نكتشف المعضلة المعرفية حيث تؤكد آمنة بن ميلاد ضمن كتابها "هل للتونسيات تاريخ ؟ " أنه على مدى أكثر من ألفي سنة من التاريخ المكتوب لا وجود للحديث عن حياة النساء".
لا يمكننا إذا أن نعول على ما وصلنا من التاريخ حتى نرسم ملامح النساء عبر التاريخ البشري. وهنا يأتي السؤال التالي هل يعني غياب النساء من الخارطة الزمنية المحبرة أن كل النساء هن أميرات نائمات على مدى ألفي سنة من التاريخ المكتوب على الأقل؟ هل تخلفت النساء عن الفعل الإبداعي والإنتاجي؟ وهل أن كل ما وصلته البشرية من حضارة هو من صنع الذكور فحسب؟ هل اقتصر دور النساء طيلة قرون على توليد البشر والحفاظ على بقاء الإنسان دون أن يسهمن في الثقافة والصناعة والفلاحة وغيرها من بقية أسباب البقاء؟ هل أن النساء دونا عن الرجال قد ألهاهن التكاثر عن لعب بقية الأدوار التي صنعت ما آلت إليه الإنسانية اليوم من تقدم؟
إن كل هذه الأسئلة تذكرنا بعبارة ديكارت "السؤال عن الكينونة يجلب الدوار". هذه الأسئلة هي أسئلة كينونة فهي تطرح إشكالات متعلقة بالوجود النسائي على امتداد قرون. وهذا الدوار يجعلني أستحضر صورة جدتي تلك التي كنت اسند رأسي إلى ركبتيها وتروي لي حكايات مدهشة عن الجازية الهلالية والعارم والسيدة المنوبية وغيرهن من النساء القادرات الفاعلات المؤثرات، أنام وأنا أستحضر صورهن فكبرت وكبرن معي. في ذاك الوقت كنت أسألني لماذا لا تروي كتبي المدرسية حكايات مدهشة عن بطلات جدتي.
اليوم وأنا الشاعرة والحقوقية والنسوية أسألني بذات الحيرة لماذا لا تحدّث كتب التاريخ عن نساء جدتي؟ إذا لا يمكن الاطمئنان لهذا التاريخ المتنكر في ثوب الحياد والمنكر لأمجاد النساء ولحياتهن الإيجابية. لا بد من مساءلته عن الدور الذي لعبته النساء في كتابته ووضع فواصله.
في هذه الورقات تتملكني رغبة في البحث الأركيولوجي عن ملامح النساء اللواتي تملكن طفولتي كي أجزم مسبقا ومصدقة جدتي أن النساء قد غُيّبن من تاريخ يصنعنه لكنه يغفلهن. انهن أقصين من ذاكرة ينحتنها ويكتبها الرجال. المسألة هي من قبيل ما تسميه لطيفة الأخضر في كتابها امرأة الإجماع "تتبع تاريخ المظالم". ولكي لا أتهم بالإسقاط والتجني الإبستيمي فإنني أقترح هذه الورقات كمحاولة لتعرية حياد التاريخ من خلال البحث أولا في أسباب وآليات تهميش النساء من التاريخ للتطرق فيما بعد إلى البرهنة على أن التاريخ البشري صنيع النساء والرجال بذات الكيفية.
بادئ ذي بدء ثمة مسلمات يمكن أن ننطلق منها للتوصل إلى معرفة الكيفية التي تم بها إقصاء النساء من التاريخ أو تحديدا من مجهر التاريخ لتلفهن الحجب وتبتلعهن الظلال، أول هذه المسلمات هي تلك التي اعتبر فيها ميشال فوكو بأن "كل شكل معرفة ينجر عن علاقة نفوذ وسلطة" إذا فالتاريخ كشكل من أشكال المعرفة هو نتاج علاقة نفوذ وسلطة ولكن المسلمة الثانية هي تلك التي عبرت عنها سيمون دي بوفوار Simone de Beauvoir في le deuxième sexe الجنس الثاني بقولها:" كان المجتمع مذكرا على الدوام، لقد احتكر الرجال السلطة، والسياسة كانت بأيديهم على مر التاريخ ".
انطلاقا من هاتين المقولتين تتضح معالم اللوحة نسبيا إذ يتبين لنا أنه ثمة سلطة من يحتكرها هو وحده من يظل متربعا على عرش التاريخ وهو ما عبرت عنه إليزاباث بادنتار في كتابها l’un est l’autre بقولها "إن مسألة السلطة هي وحدها المحدد ".
* الهرمية الجنسية
إن استبعاد النساء من دائرة النفوذ هو الذي جعل الصمت يلف تاريخهن. ولكن كيف تم التوصل إلى هذه الآلية، منذ متى والرجال ينفردون بالسلطة والتسيير والنفوذ؟ هل أن فجر الإنسانية قد اقترن بتوزيع للمهام على نحو يكون فيه الذكور هم المسيرون والنساء مسيرين؟
كثيرون هم الذين طرحوا مثل هذه الاستفهامات في محاولة لتقصي أصل المظلمة ونقصد أصل التهميش ولعل الإجابة الأقدم كانت إجابة فريديريك انقلز، فهذا المفكر الألماني قد بين أنه بعد ولادة الملكية الخاصة صار الرجل مالكا لوسائل الإنتاج ومن ثمة نشأت هرمية جنسية مبنية على السيطرة وهكذا " تكونت أسس النفوذ المطلق للذكور في مقابل احتقار النساء والحط من أدوارهن. ومن حينها ونحن نشهد "الفشل التاريخي الذريع للجنس الأنثوي". فقد تحولت المرأة إلى "عبدة للذة الرجل...بل مجرد آلة إنجاب".
عندما ظهر كتاب انقلز سنة 1881 كان محاولة أولى للإجابة عن استفهام طرحه وحاول الإجابة عنه العديد من معاصريه وممن شغلهم السؤال: هل ساهمت النساء على نحو إيجابي في بناء التاريخ؟
باشوفان Bachofen هو أحد طارحي الإشكال في منتصف القرن التاسع عشر لكن إجابته في مؤلفه La condition feminine كانت أكثر تفاؤلا فقد اعتبر أنه كان للنساء ثلاثة أشكال من النفوذ:
(1) نفوذ تمارسه على مستوى عائلي.(2) نفوذ تمارسه على مستوى اجتماعي.(3) نفوذ نسبومي أي أن البنوة والتنظيم الاجتماعي يؤخذ فيه بعين الاعتبار النسب الأمومي" (المنهل)matrilinéaire وجد في عدد من المجتمعات غير الغربية والتي كانت تسمى في ذاك الوقت بالبدائية. لقد بنى "باشوفان" ثالوث النفوذ النسائي على فرضية أن المجتمعات البدائية تخضع للنساء ولا تخضع للرجال. وأنه فقط عند تقدم البشرية في السن والحضارة بدأت تتشكل ملامح السلطة الذكورية المطلقة.
حسب باشوفان تمكن الرجال من الاستحواذ على السلطة والممتلكات والمناصب التي كانت تشغلها النساء. لقيت المقولات المتفائلة لباشوفان صدى واسعا لدى الكثيرين من مؤيديه ولكن خاصة لدى النسويات اللاتي ركزن على نظرية السلطة النسائية في فجر التاريخ من خلال دراسة نماذج من الشعوب الإفريقية التي حافظت على نظامها ذاك إلى اليوم أو من خلال تسليطهن الضوء على الدور الذي لعبته النساء في توليد الأعراف والعادات الثقافية وهي التي ساهمت في الدخول بالأفراد إلى الحياة المجتمعية. وهو ما أكده بريفولت Brifaul صلب كتابه الأمهات The mothers مبينا أن النساء هن اللواتي مكن الأفراد من اكتساب أركان الحياة المجتمعية المشتركة بفضل أمومتهن الطبيعية وأنه على حد تعبيره "الجانب البيولوجي وهو البدائى قبل الاقتصادي كان الأساسي قبل الاقتصادي".
لكن نظرية السلطة الأمومية لم تبين معالم هذه السلطة ولم تحدد الأدوار التي اضطلعت بها النساء فعليا ثم إنها لفرط ما أقصت الرجال حتى صار المشهد كاريكاتوريا أقرب للحلم صعب التحقيق أو التصديق حتى على سبيل الفرضية. لذلك كانت مقولات إنقلز أقرب للتصديق مبينا أنه بمجرد دخول البشرية في مرحلة الحضارة حتى اختفت ملامح أي سلطة نسائية ليحل محلها نفوذ ذكوري مطلق.
لذلك ناقض انقلز هذه المقولات مبينا أنه بمجرد دخول البشرية في مرحلة الحضارة حتى اختفت السلطة النسائية البدائية، إن هذه السلطة النسائية قد استوعبتها الحضارات فاختفت لتحل محلها وبشكل مطلق سلطة الذكور.
إذا كانت نظرية السلطة الأمومية محل نقد لاذع وشديد فالمنتصرون لنظرية السلطة الأبوية هم الأغلب، فإدغار موران في كتابه "الأصول التائهة: الطبيعة البشرية" الذي يصور فيه المشهد كالآتي: "طيفان يظهرنا في المشهد البشري: طيف الرجل المنتصب، سلاحه إلى أعلى، مواجها الحيوان الضروس، وطيف لامرأة تحبو على طفلها بصدد جمع وجني الأعشاب"
فئة الرجال قد استحوذت على السلطة والرقابة. رقابة المجتمع. وفرضت على النساء والشباب نفوذا سياسيا لا يزال قائما إلى الآن. إن التأرجح بين نظريتين يجعلني أخلص إلى فكرتين:
(1) أنه على رأي إليزابات بادينتار " مسألة توزيع الأدوار بين الجنسين لم تتم بشكل كلي ونهائي. لقد اختلف التوزيع عبر العصور وعبر الأمكنة أيضا ". وبالتالي فان التسليم بشكل دغمائي أن النساء لم يبذلن أي مجهود لبناء التاريخ يكون تجنيا مطلقا.
(2) نستنتج أن إقصاء النساء من مجهر التاريخ وذر الغبار على دورهن كان فعلا ثقافيا بحتا، بمعنى أن ما تركه أسلافنا من آثار لم ينكر تواجد النساء فهن اللواتي وفرن النباتات لتغذية العائلة وبالتالي هن اللواتي سمحن بالتوازن الغذائي للمجتمعات البدائية. لكن هذا التوازن في الأدوار لم يتخذ حقه على مستوى المعرفة. هاهنا يتدخل الفكر البشري لكي يتحول الصيد والجني إلى فعلين اقتصاديين يميزان كل جنس على حده.
إذا بدأ تهميش النساء من خلال احتكار السلطة بصفة عامة ثم من خلال قصرها على أدوار معينة ثم تأتي الآلية الأهم والتي كانت فعل الفكر البشري الذي ارتكز لتقزيم أهمية النساء في التاريخ على تأليه دور الرجال مقابل التحقير من شأن الفعل الإنتاجي للنساء.
يحلل إدغار موران ما يمكن أن نطلق عليه "التفخيم مقابل التقزيم" معتبرا أن الصيد قد ساعد الرجال على تطوير ملكة الذكاء، على توظيف الجانب الحسي بمواجهة الحيوانات الأدهى وإتباع استراتيجيات خطرة لملاحقتها والحصول عليها. كل هذه العناصر حولت المجتمع ذكوريا، فالصيد يجمع الرجال للتعاون والتبادل والتوزيع على عكس النساء اللواتي لا يساهمن إلا نادرا في الصيد لانشغالهن بتربية الأطفال وجني النباتات والثمار فتحولن إلى "قاصرات اجتماعيا وثقافيا " والعبارة لإدغار موران .
* التحولات الثقافية
إذا وحدها "التحولات الثقافية" قد قلبت علاقات النفوذ بين النساء والرجال بل وذهبت إلى اكسائها تبريرا نابعا من الطبيعة البشرية وميتافيزيقية لكي تكون بذلك حتمية.
سنخرج قليلا عن مرحلة مفترضة وغير معاشة، تقترب من التاريخ الحديث وكذلك من الخارطة الزمنية حتى نصل إلى أرسطو الذي ولّد أفكار طبعت كل مريديه فيما بعد والتي كانت التعبيرة الثقافية عن إقصاء النساء كليا من الحقل العام وإعادتهن إلى الفضاء الخاص. مع أرسطو صار الرجل سيد المرأة وعلتها واجب طاعته فلا وجود لتبادل للأدوار أو ندية أو معاملة بالمثل حين يؤكد أرسطو في كتابه "السياسة" على أن:" بين الذكر والأنثى توجد علاقة تبعية دون أي تناوب أو انقطاع " لأنه بالنسبة إليه: "خلقت الطبيعة كائنا قويا وكائنا ضعيفا" بل انه كائن ناقص وهو جغرافيا وثقافيا ليس بمنطق بعيد عنا نحن نتاج هذه الثقافة العربية الإسلامية المكرسة منذ أكثر من خمسة عشر قرنا.
تؤكد أمنة بن ميلاد على كونية ظاهرة إقصاء النساء من التاريخ لكنها تؤكد على تمييز آليات إقصاء النساء العربيات أو المنتميات للفضاء العربي الإسلامي من التاريخ. في كتابها "امرأة الإجماع" قامت لطيفة الأخضر بتقصي آليات التصحر النسائي على مدى التاريخ معترفة بصعوبة المهمة ولضرورة البحث عن الموقع الحقيقي للمرأة في التاريخ الإسلامي من خلال التوزيع الذي أراده الرجل. فكان سبيل لطيفة الأخضر هو النبش في "مفاهيم دينية ثقافية بعيدة عن الحياد الذي تدعيه بمقتضى أنها صيغت ورتبت في سياق هيمنة الجنس الرجالي على الجنس النسوي وهو حياد مستحيل" على حد تعبيرها. هذا النبش جعل المفكرة تخلص إلى أن سلطة الخطاب الديني في فضاء المقدس المفلت بصفته هذه من قوانين التاريخ قد وحد أشكال النظر إليها وحكم على "أزمنتها بالتشابه" .
هنالك صورة نمطية رسمت عبر الحقب التاريخية بإحكام على نحو يجعل المرأة المسلمة تخرج بذات الصورة ولا تفلت منها رغم تحول الأزمنة وتغير المعطيات للبرهنة على التوحد في الفكرة رغم اختلاف الأزمنة، تتناول لطيفة الأخضر بالتحليل والنقد والمقارنة نماذج متباعدة تاريخيا ومن المفترض فكريا، من المفكرين العرب وهم ابن قيم الجوزي صاحب أحكام النساء وابن أبي الضياف ورسالته الشهيرة في المرأة ورشيد رضا في تعمير المنار.
فابن قيم الجوزي هو الذي ينطلق من مسلمات ادانية تجعله يرى - والحديث له - "فكرت في سبب إعراض عامة الناس عن الآخرة... إلا أنني رأيت النساء أحوج إلى التنبيه من هذه الردفة من الرجال لبعدهن عن العلم وغلبة الهوى عليهن بالطبع " وللتدليل على آرائه يرتكز ابن الجوزي على أحاديث مختلفة تجعل من جسد المرأة مركزا للفتنة والهوى لابد من مداراته بل وعزله لكي لا يسمح للمرأة بالتحكم فيه أو العيش من خلاله، وهنا تذكر المؤلف أحد الأحاديث التي يستند إليها ابن الجوزي والتي رويت عن الأعمش عن...عن... أن نسوة من أهل حمص دخلن على عائشة فقالت: لعلكن ممن يدخلن الحمامات؟ قلن نعم. قالت أما إني سمعت رسول الله يقول: "ما من امرأة وضعت ثيابها في غير بيت زوجها إلا هتكت ما بينها و بين الله عز وجل" من هنا يأتي الحصار ومن مركزية الجسد تنبع عبودية المرأة المكرسة لواحد أحد هو زوجها.
بعد قرون يأتي أحمد بن أبي الضياف ابن منطق النهضة والإصلاح ليصرح أن" الذكر أفضل من الأنثى وأبو البشر، أول مخلوق ومنه ولدت حواء أم الشبل والأصل أفضل من الفرع، فالذكر أهله الله للنبوة والخلافة في الأرض والقضاء بين الناس والإمامة في الصلاة ومباشرة الدفاع عن الدين والعرض والوطن..." تراتيبه مفسرة تذكر بالقرآن" وللرجال عليهن درجة" لكنها تذكر برواية الخلق عند اليهود، فهو إذن اتفاق اللاهوت على هذه الصورة، أي تلك التي تجعل النساء مسخا للرجال وبناء عليه تكون التبعية واجبة وحق. هكذا يبدو أن قدر المرأة أمام السلطة، من نبوة إلى قضاء إلى دفاع عن العرض والوطن، حكرا على الرجال.
إذا بعد قرون يتوحد ابن أبي الضياف مع ابن الجوزي في التصور التمييزي للمرأة وكذلك يجمع معهما رشيد رضا على ذات التصور رغم قربه الزمني من نهضة أوروبا ومعاصرته لها.
نتبين بهذا الشكل أن التاريخ مذكر أولا لأن الرجال احتكروا الصيد وتنصلوا من تربية الأبناء تاركين للنساء هذا الدور الذي أعتبر طبيعيا وقصر وجود النساء على تلك الوظيفة وجعلهن رهينات الفضاء الخاص حتى يجد ذلك تبريراته في كتب الفلاسفة وفي إجماع الأديان وفي تضخيم الجنسي في الإسلام مقابل تحجير الاجتماعي على المسلمين.
هذا العرض لتاريخ الأفكار الاقصائية يجعلنا من جديد ننتبه إلى أن الإجابة عن سؤال" بأي ذنب وئدت " لا يمكن أن يكتسب معناه الأجل إذا ما فهمنا أن السلطة والانفراد بها هو دافع بناء تاريخ تمييزي يوظف النساء ولا يكرمهن.
* الموازنة التاريخية
ولكن كيف يمكن إعادة الموازنة التاريخية؟ هاهنا لابد من الاعتراف للنسويات بدورهن في كشف النقاب عن تاريخ نحيا به، هو رواسبنا الكامنة فينا بل هو مسير لردود أفعالنا الباطنة دون أن نعلم انه تاريخ النساء، تاريخ البشرية. فبفضل أبحاث النسويات وبفضل " تتبعهن لتاريخ المظالم" صار من الممكن أن نجزم بأنه للنساء سلطات تسللت الى كتب التاريخ في غفلة من كاتبيه.
كان لابد من انتظار القرن العشرين كي تكون المساواة بين الجنسين مطلبا وأولوية للبشرية، ولتحقيق المساواة ثمة عمل أركيولوجي قامت بها النسويات بداية في أمريكا للكشف عن ذكورية الفكر البشري والتمييز الجنسي الذي بنيت عليه المعارف لتصير اقصائية كما التاريخ.انه صوت Ben Sadon في كتابها " حقوق النساء من الجذور إلى أيامنا" الذي يرن في أذهاننا حين تهمس.
" أن نكتب تاريخ النساء؟ طويلا كانت المسألة غائبة متروكة للصمت هل للنساء فقط تاريخ... إنهن المياه الراكدة حينما يطفو الرجال ويتحركون قالها القدماء وجميعهم يكررون ذلك. آثارهن لا تظهر إلا إذا تخلف الرجال عن بسط نفوذهم على المدينة. بناء الذاكرة وتسيير الأرشيف وتسجيل ما تفعلنه وما تقلنه مبثوث إعلاميا ولكن وفق غربال السلطة. عندما تلج النساء الفضاء العام، يعتبر الرجال ذلك كفوضى عارمة."
المسألة إذا تكمن في تحريك نساء التاريخ في الفضاء العام، إخراجهن من حيز الذاكرة ورسم ملامحهن لترسيخ صورهن من جديد. إن المحو الذي مورس بآليات متعددة ومعقدة لا يمكن أنم يواجه إلا من خلال إبراز دور النساء الايجابي، وهنا تكون الكتابة عن تاريخ النساء منفذا إلى جعل التاريخ مؤنثا.
وحدها إذا كتابة تاريخ النساء تجعلنا نفلت من الإقصاء والتهميش بل وحدها تحرمهم فرصة تشويه تاريخنا وتحويله إلى خرافات تتناقلها الجدات على نحو يجعل التداخل بين الواقعي والأسطوري سبيلا إلى تكذيب حقيقة وجودنا كفعل حي ونابض في التاريخ.
هكذا يكون من الجدير بنا أن نصغي إلى صوت Gabriel Camps في كتابها "شمال إفريقيا المؤنثة" وهي تحرك شخوصا متباعدة زمنيا كي تروي حكاياتهن وتغمز إلينا بسلطتهن ونفوذهن قائلة:" متواضعات، مزارعات أو بطلات بشخصيات أساطير أو شخصيات الحقيقة والتاريخ، لقد لفتن انتباهي، شددن خاطري، أنتن يا ظلال التاريخ أو مخلوقات خيالي، لقد أعدتكن إلى القرون الغابرة وتركتن لي شغفا لا ينتهي."
للانطباع بهن لابد من محاورتهم ومرة أخرى من Gabriel Campsنجد أنفسنا أمام هذا الإصغاء لنبضهن المتعالي والمختنق بين طيات كتب تاريخ تمييزي يجعلنا نتحدث عن آليات لإعادة التوازن للتاريخ ومثلما توافقنا مع Gabriel Camps نحتاج إعادة كتابة ورسم ملامح نساء متجذرات في وعينا ولا وعينا.
أما الآلية الثانية للمعرفة والتعريف بالتاريخ المؤنث للنساء هي تلك الأقل براءة من مجرد الكتابة الانتقائية. والمقصود عندي بالكتابة التاريخية الانتقائية هي تلك التي تستفز تاريخ البشرية في اتجاهين:
أولا: انتقاء نماذج تبين الخصوصية النسائية في صناعة التاريخ، فعلى سبيل الذكر لا الحصر انه لمن المستفز بل والمربك أن تختار لطيفة الأخضر شخصية كأم سلمى وهي هند بنت أبي أمية التي تجرأت على التعبير على نوع من الاحتجاج المطلبي على الرسول سائلة إياه:" ما للنساء لا يذكرن مع الرجال في الصلاح؟" فعلاوة على أهمية ذكر الحادثة للتدليل على البرهنة لدى النساء معاصرات الرسول وتشبعهن بالفكر النقدي حتى للنص القرآني بل وقدرتهن على الخروج من صمتهن و مواجهة الرسول فان لهذه الحادثة دورها في تغيير مجرى النص القرآني لأنه بعد احتجاج أم سلمى نزلت الآية القرآنية من سورة آل عمران(آية195 )"فاستجاب لهم ربهم ...لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر وأنثى والمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والصادقين والصادقات" حادثة كهذه قد تنمي الحس النقدي عند النساء وهو ما يجعلنا نخلص إلى أهمية الترميز بالشخصيات النسائية من أجل بناء وعي نسوي متأصل الجذور التاريخية.
ثانيا اختيار نماذج تاريخية معبرة عن الخصوصية النسائية، فمثلا وفي تاريخ الأدب العربي من المهم أن نذكر الخنساء بما لها من فصاحة وشعرية جعلتها تفوق بنثرها الرجال السابقين واللاحقين بها لكن الخنساء وهبت حياتها للبكاء على صخر، أوليس مهما إذا أن نذكر إلى جانب الخنساء أنخدوانا ذلك أنها عاشت سنة 2300 ق م وهي التي كتبت كل قصائدها مناهضة للحرب داعية إلى السلام والصفاء. فهي التي قررت إنذار البشرية بشعرها: "هلعا من رياح الجنوب العاتية، يعولون أمامك وينتحبون في الطرقات في غمار الحرب، كل شيء تكوم حطاما"...
الآلية الثالثة لكتابة التاريخ المؤنث هي كتابة اللحظة فالغياب وحده يسمح للذكور بالاستحواذ والتسلط واحتكار المشهد، في حين على النسويات أن يرسيين ذاكرتهن من خلال التأريخ لما يحدث، من تفاصيل النساء الصغيرة، من مساهمة النساء في الزراعة والفلاحة والصيد البحري إلى جميلة بو حيرد وسهى بشارة و لويزة حنون وما سيأتي من مؤنث الصوت في حلق التاريخ.

(*) جزء من مداخلة قدمت في الجامعة الشبابية الأولى بنزل أميلكار في صيف 2007 .