بحث هذه المدونة الإلكترونية

2010/12/20

محروقاتنا وفواتيرهم

أكّدت المؤشرات الأخيرة لوزارة الصناعة أنّ تونس ستحقّق فائضا في ميزان المحروقات موفى السنة الجارية في حدود نصف مليون طن من النفط (الانتاج 9 مليون طن مقابل استهلاك 5،8 مليون طن).
ويذكر أنّ استثمارات تونس في قطاع التنقيب عن المحروقات وتطوير الحقول تضاعف بأكثر من خمس مرّات بين 2005 و2008 (من 500 مليون دينار إلى 7،2 مليار دينار).
كما بيّن التقرير السنوي للبنك المركزي التونسي أنّ عائدات تونس من الغاز الطبيعي ازدادت 2،8٪ السنة الفارطة لتصل إلى 2،3 مليون طن وظلّت الاستثمارات المخصّصة لهذا القطاع في مستوى مرتفع لم ينزل دون 9،1 مليون دينار رغم تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية خلال 2009.
رغم هذه "المعطيات الايجابية" و"المؤشرات الهامة" إلا أنّ إمكانية ارتفاع أسعار المحروقات تبقى واردة في كلّ لحظة وهذا ما حصل في موفى الأسبوع المنقضي إذ أعلنت المصالح المختصّة عن زيادة جديدة في أسعار المحروقات كانت على النحو التالي:
ـ البنزين الرفيع بدون رصاص: دينار و370 مليما للتر الواحد
- بترول الانارة: 810 مليم للتر الواحد
- الغازوال العادي: دينار و10 مليم للتر الواحد
- الغازوال الرفيع: دينار و200مليم للتر الواحد
- الفيول الثقيل عدد 2: 420 دينارا للطن الواحد
- غاز البترول المسيل قارورة 3 كيلو غرام: دينار و 860مليما
- قارورة 5 كيلوغرام: ثلاثة دنانير و15 مليما
- قارورة 6 كيلوغرام: ثلاثة دنانير و590 مليما
ـ قارورة 13 كيلوغراما: سبعة دنانير و 700مليم
ـ قارورة 25 كيلوغراما: 27 دينارا و 670مليما
ـ قارورة 35 كيلوغراما: 38دينارا و735 مليما
ـ الطن الواحد للغازالمسيل صبة: 1106 دينار و750 مليما
ـ الطن الواحد للغاز البروبان المسيل ـ صبة: 1138 دينارا و416 مليما.
وللإشارة فإنّ الإحصائيات الواردة في أوّل المقال نُشرت ثاني أيّام عيد الأضحى، أي أنّه لم يمرّ على زمن التصريح بها وزمن الزيادة في الأسعار شهر واحد وهو ما يطرح أكثر من نقطة استفهام، بل نقطة تعجب أمام هذه المفارقة؟
فالمنطق يقتضي حتمًا، وفقا للفائض المعلن عنه وللتطور في قطاع التنقيب، يقتضي في أسوأ الحالات أن تظلّ أسعار المحروقات على ما كانت عليه، على الأقل لمدّة زمنية أطول من شهر وإلاّ فإنّ الشكوك ستطال صحة ومصداقية الإحصائيات المعلن عنها "بكل فخر واعتزاز".
وإذا كانت تونس قد تجاوزت محنة الأزمة الاقتصادية العالمية، وفق هذا التقرير، وكلّ التقارير الرسمية الأخرى، فإنّ المنطق أيضا يفترض أن تظلّ أسعار المحروقات على ما كانت عليه...
ولكن يبدو أنّ النظريّة الوحيدة المعتمدة من طرف وزارة الصناعة هي الزيادة ولاشيء غير الزيادة وهي أكيد نظريّة لا يفهمها إلاّ أصحاب "قصاصات البنزين" ومالكي السيارات الإدارية (قرابة 35٪ سيارات إدارية من أسطول السيارات في بلادنا)...
أذكر أني عندما سافرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية وكندا منذ ثلاث سنين تقريبا تردّدت كثيرا على محطّات البنزين لاقتناء علب السجائر وقد انتبهت إلى وجود لوحات ضوئية مثبتة أعلى مضخات المحروقات لم أشاهدها من قبل لا في تونس ولا في بعض البلدان العربية التي زرتها، وبسؤالي عن هذه الآلات قيل لي أنّها معدّات خاصة بسعر برميل النفط وهي تقوم بعمليات التحيين وقتيا وبناءًا على المعطيات التي تقدّمها تلك اللوحات يتزوّد صاحب السيارة بالبنزين حسب السعر الذي يتوافق مع سعر برميل النفط في ذات اللحظة (طبعًا مع إضافة الاداءات ومعلوم التكرير..).
إن هذا الاختراع يمكّن المواطن من "استهلاك" المحروقات بشكل تتواتر فيه زيادة السعر كما نقصانه، باعتبار تقلّب سعر برميل النفط، وهذا الاختراع يبرهن على مدى احترام تلك الحكومات لمواطنيها وتعاملها معهم بشفافية مطلقة... فإن طالتهم أزمة مالية أعلنوها دون خجل وإن أنعمت عليهم الطبيعة لا يحرمون أحدًا من خيراتها...
فهل نشاهد يومًا ما مثل هذه الآلات تنتصب في محطّات بنزيننا فتريحُ جيوبنا وتقينا شرّ الشكوك والسؤال عن حقنا في ثرواتنا الطبيعية؟

2010/12/18

شعب تونس... منتصر

منذ أعلنت أجهزة الأمن عن تمكنها من العثور على الطفل المختطف المدعو منتصر بن رجب وإلقاء القبض على المختطفين فجر يوم الثلاثاء 7 ديسمبر 2010 تحول هذا الخبر إلى أهم مادة إعلامية في كامل البلاد، إذ تصدّرت صور الطفل المختطف (صور قديمة) أولى صفحات الجرائد، وافتتحت به نشرة الثامنة ليلا أخبار البلاد والعالم بعد أن شهد بيت الطفل أضخم ندوة صحفية في تاريخ الإعلام التونسي (هكذا سمعت على أمواج احد الإذاعات الخاصة التي واكبت حفل استقبال الخبر، لا الطفل، وأحصت عدد الخرفان المذبوحة وعدد زغاريد النسوة...).

ومنذ يوم 7ديسمبر أصيبت وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة والالكترونية بإسهال حبري وإسراف لغوي من خلال المقالات الإخبارية والتحليلية والبرامج التلفزيونية والإذاعية التي عالجت الخبر وأغدقت عليه من التعاليق والتأويلات والاستنتاجات ما لا حصر له... وكل ذلك من اجل إنارة الرأي العام الوطني والعالمي المتعطش لمعرفة أدق تفاصيل هذه الجريمة التي تحولت إلى أسطورة أكبر من موقع ويكيليكس... ومن حريق حيفا...ومن ثلوج أوروبا...

طبعا لكل مواطن الحق في معرفة أخبار البلاد والعالم، ومن واجب كل منبر إعلامي أن يقدم الخبر في آنه ويلم بكل جوانبه، ويتناوله من الزوايا الأكثر قربا من الحقيقة.

وفي علاقة برواية منتصر، الطفل المختطف، وبغض النظر عن تواتر الحكايات واختلاف الروايات وتعدد التأويلات بخصوص حيثيات هذه القضية، فان ما يهمني شخصيا هو "الاهتمام المنظم" الذي أبدته مختلف المنابر الإعلامية، على اختلاف توجهاتها، بهذا "الحدث" العادي، الأمر الذي ذكرني بفيلم "الهروب" للمخرج المصري عاطف الطيب والذي تقمّص فيه الممثل احمد زكي شخصية "المنتصر" (رب صدفة خير من ألف انتصار)... هذا الفيلم الذي كان بطله الحقيقي الإعلام حيث الأمور "دبّرت بليل" ليشغل منتصر الناس ويملأ الدنيا.. ويفسح المجال للسلطة لتدبر أمورها بالليلل. وليبرهن "المنتصران" بأن التعددية الإعلامية إنما هي تعددية كمية لا نوعية في عمومها...

تطابق في الأسماء جعلني أتساءل: ممّا يهرب الشّعب التونسي حتى يركّز كلّ هذا التركيز اللافت على قضية منتصر؟ أو ليست هذه القصة – مع احترامنا لمشاعر عائلته وحقوق منتصر بن رجب الطبيعية وحقوق الطفولة عموما...- إحدى آلاف القصص التي يشاهدها ملايين التونسيين في برامج استثارة العواطف واستفزاز سيول الدموع التي تكاد القنوات تبثها صباحا مساء ويوم الأحد ؟

نعم ذلك هو الخيط الرفيع الرابط بين "هيلولة" الاحتفاء بعودة منتصر والسياق العام لتلك البرامج الرثائية فجميعها هروب ممّا كان أعظم. جميعها مواراة للهموم الحقيقية للشعب التونسي، تجاوز مدروس لارتفاع ثمن المحروقات والقهوة وتجنّب ممنهج لطرح أزمة البطالة وتلاف – عبارة مشتقة من اللفظة العامية "تتليف"- لمشكل التأمين الصحي وإلهاء عن حرقتنا لاحتراق حيفا وعن تشرّد أبناء الأحياء القصديرية بسبب الفيضانات بالمغرب وغيرها من الأمور والأخبار التي كانت قبل انتشار شعار "قناة تلفزية لكل مواطن" تمثل جراحات جماعية ينشغل بها التونسيون ويجدون الوقت الكافي للتفكير الجماعي بشأنها ومحاولة إيجاد الحلول لها وإبداع سبل التحرك حولها.

إذا كان عاطف الطيب واحمد زكي قد أبدعا في فيلم "الهروب" وأبلغا رسالتهما، فان الإعلام التونسي قد أتقن جيدا إخراج فيلم "المنتصر" كعادتنا به واسهم من موقعه "الريادي" في تمرير رسالته التي من اجلها صنع...

2010/12/10

وثيقة حقوق الإنسان في الوطن العربي


إعلان النوايا أو النص الغائب

وافقت بعض البلدان العربية على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 ديسمبر 1948، وبعض هذه الدول صادقت على الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية والاتفاقية الدولية بشأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الصادرتين عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 16 ديسمبر 1966.

واشتدت الدعوة داخل الوطن العربي لتحقيق حماية دولية للمواطن العربي وذلك بإصدار ميثاق مخصوص لحقوق المواطن العربي في حمى المنظمة الإقليمية العربية (جامعة الدول العربية). وقد وضعت بالفعل مشروعا لهذا الميثاق ومهدت له بمذكرة إيضاحية ترصد له أهم اتجاهاته، وبقرار مجلس الجامعة عدد 668 بتاريخ 15 ديسمبر 1970 شُكلت لجنة من الخبراء التي أنجزت " إعلان حقوق المواطن في الدول العربية ".

ولئن عمم المشروع على الدول الأعضاء جميعهم فان 9 دول فقط هي التي عُنيت بالرد !!! وقد رفضته دول أخرى شكلا ومضمونا. ولهذا التباين في المواقف مبرراته على أرض الواقع، فتنوع الإيديولوجيات في الوطن العربي ولاسيما في المجال السياسي والحيز التنظيمي يشكل أحد أهم العوائق في وجه جمع الكلمة حول مشروع تصورات قانونية ولوجيستيكية محددة في شأن حقوق المواطن العربي، وهي أيضا تعبيرة "موضوعية " تدل على تباين مواقف سلطة الحكم في كل قطر من مسألة الحريات، إذ أنه يتفاوت تشددا أو تساهلا بتفاوت مدى ديمقراطية هذا الحكم أو استبداده و مدى إعلائه أو تحطيمه لحاجز التجهيل السياسي الشاهق والمضروب على أفق المواطن العربي مند قرون خلت وحال بينه وبين إدراك الأوليات والبديهيات الأساسية المتعلقة بحقوقه في وجه السلطة.

ولكن المصادقة العالمية والحماية الإقليمية ظلت تنظيرا متعاليا _ ولا تزال _ عن الممارسة الواقعية، ولهذا الأمر أسباب تعيق التحقيق وشروطه الطبيعية، وتنأى به عن التجسيد بدءا من النص/ النوايا وصولا إلى الفعل/ الغائب.

فالإعلان العالمي، ولئن كانت نواياه حسنة، فانه واقع ضمن رؤية إيديولوجية أفرزتها طبيعة المرحلة التاريخية التي صدر فيها (1948)، إذ ليس لحقوق الإنسان من معنى سوى حق رجل الأعمال الغربي في التسرب إلى كل ركن من أركان العالم للسيطرة على الأسواق والاستحواذ على الثروات واستثمار مواده الأولية وتحقيق الأرباح، وهذا هو جوهر كونية حقوق الإنسان بالمفهوم البرجوازي الإمبريالي، ظاهره إنساني أممي، وباطنه طبقي استعماري.

أما على مستوى الحماية الإقليمية العربية، فان العوائق تتعدد وتختلف، وفي تقديري الشخصي، فإنها تنحصر في أربعة أركان رئيسية، أولها ما أصطلحُ عليه بالحلقات الاستعمارية الضاغطة وهو ما أعني به التبعية العمياء للقوى الاستعمارية الأجنبية، ولا أقصد بهذا ضرورة الاستقواء بالأجنبي، لأن التبعية دائما ما تكون للدوائر الرأسمالية وللكمبرادورات الاقتصادية واللوبيات الاستعمارية في حين أن الاستقواء بالأجنبي هو الالتقاء الحر والواعي بالقوى الديمقراطية والتحررية في العالم من أجل ضمانة أكثر لإنسانية الإنسان.

ثاني العوائق، هو فقدان التجارب الميدانية، بمعنى فقدان الصيغ التي تُطرح كبدائل أو أصول للنظم الديمقراطية، وسببه أن الشرائح التي تصل إلى سدة السلطة في أي قطر من البلاد العربية ومن دون استثناءات، عبر كفاحها التحريري، هي الشرائح الوسطى أو الشرائح البرجوازية الصغيرة وهو بطبيعتها متذبذبة وغير مستقرة إيديولوجيا وسياسيا، ولهذا أسقطت _ بمجرد نيلها استقلالا صوريا _ برامجها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية "الإصلاحية" لحساب مصالحها الطبقية وزجت بشعوبها نحو مطبات الفقر والجهل والقمع.

ثالث العوائق هو ما يمكن أن نصطلح عليه بضياع العقل العربي بين جاذبية الأصالة/التراث من ناحية وجاذبية الحداثة/العولمة من ناحية ثانية، خاصة على مستوى التأويل الديني وتحليل العلاقات الاجتماعية وإنتاج الرؤى الاستشرافية.

وآخر العوائق، وهو أهمها وأخطرها في الوقت الراهن، فهو يتمثل في الكيان الصهيوني وما استنزفه ويستنزفه من طاقات حيوية في مجالي التخطيط والعلاقات الدولية المُحتمل إقامتها بندية مع الطرف الآخر غير العربي.

هذا على مستوى ما هو نظري، أما على المستوي التطبيقي الواقعي، فان الأسباب تختلف أيضا وتتعدد، فالبنية الانثروبولوجية للدولة تتسم عموما بطابعها ألحصري القائم على الإقصاء، بمعنى أن السلطة تحتكرها جماعة محددة بشكل ضيق وهي أسرية، وفي الأعم اقتصادية (نفطية، تجارية، صناعية، خدماتية...) وهي عموما تغيب دور المؤسسات وتوجه برامجها إن أوجدتها لالتزامات خارجية بطبيعة الحال مثل المنظمات الحقوقية بصورة خاصة. وهذا الطابع ألحصري يمنع أية عملية "ارتقاء" يطرحها من هو خارج إطارها ومنظومتها ولا تقبل به إلا إذا دخل منظومتها (مثلها مثل نظام الموالي)، أي من ضمن علاقة دينية للطرف الآخر، مما يفضي عمليا إلى دفع هذا الآخر إلى المعارضة القصوى (التيارات المتطرفة).

وفي الحقيقة فان لهذه العوائق والتمظهرات السلبية جذور وأصول تمتد إلى زمن البدايات، بدايات تشكل نظام الحكم في الوطن العربي، ويمكن حصر هذه الجذور في : " حرفية التفسير " وهو ما يسمى في علوم القانون باسم " الصورية " أو ما يعرف عادة بالجمود وضيق الأفق النظري...

أما الحقوق والحريات الغائبة تماما فأهمها حرية الرأي والتعبير عنه شفاهة أو كتابة أو طباعة، وما حرية الرأي المزعومة إلا حرية الموافقة والإجماع المطلق، وما تطور أجهزة الرقابة لدى مؤسسات الدول العربية أو تحديدا لدى الأحزاب الحاكمة إلا دليل قاطع على الانتهاك الصارخ لهذا الحق الرئيسي.

أيضا الحق في التجمع السلمي سواء أكان ذلك في أماكن مغلقة أو في فضاءات مفتوحة، إلا إذا أوحت به أو نظمته السلطات الرسمية، ويكفينا مثالا على دلك ما تبثه وسائل الإعلام الرسمية من مسرحيات مفبركة حول التجمعات والمسيرات الحقوقية والنقابية والحزبية والجمعياتية. كذلك حق تشكيل النقابات أو الأحزاب السياسية أو الجمعيات غير الحكومية، ولا يخفى على عربي واحد التباين الفاضح بين مقرات الأحزاب المعارضة التي تشبه المحلات التجارية والمساكن الشعبية ومقرات الأحزاب الحاكمة والتي تشبه النزل الفاخرة وهي المشيدة بأموال الشعب المنهوبة عنوة.

ومن أهم الحقوق الغائبة أو المغيبة كليا في المجتمعات العربية هو حق المشاركة في إدارة الحياة العامة، إما مباشرة أو عن طريق ممثلين يختارهم بحرية الرفض والقبول فقط. أما أخطر الحقوق المغيبة فعلا خاصة منذ استفحال النظام الرأسمالي وتنامي آفة الخوصصة فهو حق الشغل/حق الحياة، ولا داعي للتذكير بآلاف المعطلين عن الشغل وآلاف المتعاقدين مع الموت والذل في كل المؤسسات والشركات وحتى في مكاتب الوزارات الرسمية في الأقطار العربية.

أما الحقوق والحريات الغائبة جزئيا في الوطن العربي فهي أساسا الحقوق المدنية المتوافرة قانونا في حالات معينة وتشمل على سبيل الذكر حق الإنسان في الحياة وفي عدم تعرضه للاستغلال والعبودية والعمل الإلزامي (بغير حكم قضائي) وكذلك حقه في الأمن الشخصي وفي المساواة أمام القضاء وفي الاعتراف به حيثما كان كشخص أمام القانون وعدم التدخل بشكل تعسفي أو لا قانوني في شؤونه الخاصة أو العائلية. ثم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية...

بالأخير أعتقد أنّ هناك نقطتان مهمّتان يجب أن نضعها في الاعتبار دائما وأبدا، الأولى تتمثّل في أنّ الدّفاع عن الحريات يعني القيام بهذا الدفاع في وجه المعتدي الحقيقي وهو لن يكون في معظم الأحيان سوى سلطة الحكم المنصبة من طرف القوى الإمبريالية، والراعية لمصالحها الاقتصادية والحضارية داخل أوطانها والثانية هي أن نؤمن بأن كفالة الحريات وضمانتها مهمة نضالية مستمرة سواء أكان الحكم ديمقراطيا أو غير ديمقراطي. فمادامت الديمقراطية ليبرالية في عمقها فإننا لا نضمن حقوق متساوية لكل البشر.

2010/11/18

أرضُ الخرفَان


انقضت صباحات عيد الأضحى ومساءاته أيضا، وانتهت لحوم الخرفان المذبوحة في بطون الكبار والصغار بمذاقاتها المختلفة، مشوية ومقلية ومطهية... ونامت بطاقات المعايدة الورقية، إن مازالت، في ظلمة أدراج مكاتبنا في حين انتهت المعايدات الإلكترونية إلى سلة المهملات الافتراضية، كما هدأ ضجيج الهواتف الجوالة، ومحركات السيارت خمدت وتقلصت قبلات التهاني... وكل السلوكيات الاجتماعية التي لا نأتيها إلا في مناسبة عيد الأضحى انتهت... أو تبدو انتهت...

تبدو أنها انتهت بعد أن عادت الحركة الطبيعية إلى وتيرتها اليومية، بين الإدارات والمدارس والكليات والطرقات والمتاجر وغيرها من فضاءات دواليب الدولة، غير أن رائحة عيد الأضحى ما تزال عالقة بأرضنا، منتشرة هنا وهناك، نلمحها في الدماء المتخثرة فوق التراب وأمام العمارات، وفي أكداس التبن المتكومة في قلب العاصمة، وفي الروائح العطنة المتطاولة على ما ألفته أنوفنا من دبق المدينة...

في المدن الغربية، المتحضرة طبعا، توفر أجهزة الدولة للمسلمين المتواجدين بأرضها مذابح خاصة يقوم فيها الجزارون المختصون بذبح الأضاحي وسلخها وتقطيعها وفقا للطريقة "الإسلامية" في الذبح بأسعار رمزية، ويتم التصرف في فضلات الأضاحي وأوساخها بطريقة صحية وفي أماكن مخصوصة ومعدة سلفا للغرض، فلا تبقى لا أثار الدماء ولا التبن ولا الروائح العفنة، وكأن شيء لم يكن، وتظل المدن مزهوة في أناقتها المعمارية ومتبرجة في روائح حدائقها الجميلة وتسير الحياة بنسقها الحر...

قد يكون هذا مطلبا مبالغا فيه أن نقتفي أثرهم في الاحتفال بعيد الأضحى، ولكنه ليس بالمستحيل، والأهم، طبعا للمسلمين، أنه لا يتعارض مع الشرائع السماوية والتعاليم الدينية، فما الذي ينقصنا نحن لنؤثث لمواسمنا الدينية بشكل حضاري يواكب عصرنا؟ ومتى ننسى أننا بدو وأننا لا نستطيب العيش إلا في المغاور والجبال رغم أننا نوزع خطواتنا أمام المباني الشاهقة ونقضي أيامنا داخل المكاتب الوثيرة ونستعمل الأنترنات والهواتف الجوالة؟

أكتشف، ككل عيد أضحى، أن الكل يتساوى في "الانحطاط الحضاري"، المتعلم والأمي، الغني والفقير، فكلاهما يُصاب بأزمة ضمير إن لم يسمع الخروف "يبعبع" في بيته، وكلاهما يُصاب بالخجل إن لم "يسيح" الدم أمام عتبة بيته، وأيضا أمام العمارة التي يسكن بأحد شققها ولا يهمه في باقي المتساكنين، وكلاهما يُصاب بإحباط إن لم يحمل رأس خروفه وسيقانه لأحد الأطفال المنتصبين على الطرقات العامة، لتنظيفها وترك بقايا الصوف على قارعة الطريق العام؟؟؟؟

أتأكد، كل عيد أضحى، أننا شعوب تفكر ببطنها دائما، وتسترسل في تهجين نفسها بما ملكت من قدرة على ذلك ممعنة في سقوطها الصاروخي وهبوطها المخجل إلى أرض الخرفان أو ما شابهها من الدواب المنهمكة في حياتها القطيعية.

2010/11/10

مراسم الكذب لشكري الباصومي:


كتاب التمائم اليومية

ما الذي يمكن أن يُحرّك البِرَكَ الرّاكدَة؟ وما الذي يمكن أن يقطع خيط الصمت الطويل؟

كيف يمكن أن نَفرُكَ المصباحَ فيخرج ذلك الماردُ الغارق في غيبوبته منذ زمن بعيد؟

كيف يمكن أن نسحب أنفسنا من أيامنا اليتيمة ونأتي إلى الورقة متعرّين من كل شيء، إلا من صدق الرغبة في تغيير الوقت؟

هل لدينا متّسع من الوقت؟

بل لعلَّ الوقت هو الشيء الوحيد المتوفّر لدينا حتى نفكر في اغتياله وشنقه من عقاربه.

وشنق الوقت لا يكون إلا بالكتابة، لأن الكتابة دهشة وإدهاش في الآن. ضرب من العصيان اللغوي والتمرد الحبري على ما سكن واستكان، ووحدها الكتابة الآبقة تكسر قيود العقارب الميتة، وتحبك حبائلها المجازية وهي تستنفر كل حواسنا وتحرضنا على رفع "سماء ثامنة" تمطرنا بوابل نقاط الاستفهام والتعجب من كل ما خلناه حقيقة أو صدقا...

"مراسم الكذب" لصاحب القلم المتوثب أبدا، شكري الباصومي، ضرب من الدهشة والادهاش، ضرب من العصيان اللغوي والتمرد الحبري... لأنه يكتب لنا تمائم "سحرية" فنحملها مثلما حمل ديوجين شمعته وجاب شوارع باريس بحثا عن الحرية، ومع شكري الباصومي في هذا المنجز نقتحم دواخلنا خلسة منا بما تشذر فينا ومن حولنا.

من إبن الأثير إلى أبي حيان التوحيدي، ومن المعري إلى ابن المرزيان، ومن ابن عبد ربه والغزالي والقشيري وابن قتيبة وأبي ذر الغفاري، إلى ابن الحداد، فأبي الفرج الأصفهاني، وأبي سليمان الخطابي وعلي السيستاني وغيرهم يدخلنا شكري الباصومي إلى بستان شذراته التي يتعانق فيها الشعر بالنثر، ويمتزج فيها المجاز بالسخرية.

ومن خلال شهادات للماغوط والراحل محمود السعدني وبدر شاكر السياب ومظفر النواب، والبير كامو، وناصر الدين النشاشي ودريد لحام وأغاثا كريستي وجمال الغيطاني والهادي دانيال ورياض الصيداوي وغيرهم تتقاطع ترنيمات شكري الباصومي بين مختلف فضاءاتها وتلقي بضلالها الوارفة على ما تعتم منها أو ما أوهم باشعاعه...

كتاب "مراسم الكذب" لشكري الباصومي الذي قدم لمتنه الكاتب الحر سليم دولة، كتاب كرنفالي، احتفالي، مزهو بفزاعة اللغة، لأنه كُتب في "زمان القرود والريح الصنصر... في زمن السكر المرشوش على الموتى..." لم ينضبط كاتبه إلى أي تصنيف أجناسي بقدر ما فسح لقلمه حرية الجولان في متاهات اللغة... وطرق الأبواب الموصدة لخلخلة مراتيجها الصدأة...

كتاب شكري الباصومي يخز أدراج الفطنة المستترة لدى القارئ المتقلب، ويرمى الحصى في البرك الراكدة لتتسع دوائر السؤال بشكل مطرقي ولا يترك لك مجالا واحدا للتنصل من إغراض التأويل والجري به نحو المناطق الأكثر تلغيما في مخيالنا اليومي...

كتاب يصيبك بلعنة التمرد والانتفاض:

جوعان أنت

وشجاعة الشجعان

بين يديك

فلماذا أنت صائم

عن الرأي؟.

كتاب لا يترك لك فرصة الكتابة عنه بموضوعية، بقدر ما يهبك فسحة التجول في داخلك...

2010/11/05

"باي باي بورقيبة"


فجأة يتحول كل الناس إلى محبين للسينما ومريدين للشاشة الفضية طيلة أسبوع أيام قرطاج السينمائية...

فجأة يتحول كل الناس إلى محبين للمسرح ومريدين لخشبات ركحه طيلة أسبوع أيام قرطاج المسرحية...

فجأة يتخلص كل الناس من قيود الجهل التي تطوقهم ويهيمون بين أروقة معرض الكتاب الدولي طيلة عشرة أيام...

فجأة أيضا، يتخلص كل الناس من تعلقهم المفرط بالبطاطا والبصل والسندويتشات ويهتمون بالشأن العام السياسي أيام الحملات الانتخابية... (وكأن البطاطا والبصل والسندويتشات ليست من الشأن العام)

فجأة...

فجأة...

فجأة...

فجأة يفيض شارع الحبيب بورقيبة مع كل حدث ثقافي، وفجأة تعود أرصفته إلى سباتها العميق... المدجج بالأقدام والرؤوس المنحدرة أبدا إلى أسفل البطن... ويعود الشعار المركزي لسرة العاصمة، شارع الحبيب بورقيبة وما تفرع عنه من انهج، فالكل، وبعد اختفاء مراسم البهرج الاحتفالية يقول لهذا الشارع "باي باي بورقيبة" فتعود القاعات إلى ظلمتها الدائمة والمسارح إلى مراتيجها والمكتبات إلى غبارها...

هكذا تبدو لي علاقتنا بالثقافة، علاقة طارئة أو موسمية، إذ نستهلكها بنهم وشراهة مفرطة طيلة الأيام المعدودات التي تقررها وزارة الإشراف، ثم وبمجرد أن ينتهي موسم الاحتفال نعود أدراجنا إلى قواقعنا وبيوتنا وأيامنا المتشابهة لنلوك الفراغ... لنكون بذلك أوفياء لحقيقتنا وحقيقة علاقتنا بالثقافة... تلك العلاقة البدوية الموغلة في الولائمية والمبنية أساسا على عادة "الزردة" وطقوسها النهمية...

إن تواتر الاحتفالات الثقافية وتناسل أشكال التنشيط الثقافي البسيط لا يعكس بالضرورة وجود أسس ثقافية متينة، لان الثقافة، يا أهل الثقافة، لا تقتصر على عرض الأفلام أو المسرحيات أو دعوة النجوم والمشاهير أو إقامة معارض للكتب واللوحات والمنحوتات...

فالثقافة هي قبل كل شيء، تلك الممارسات البسيطة التي نتسلح بها لنعرف كيف نستهلك المنتوج الثقافي. ونحن لم نمتلك ثقافة استهلاك الثقافة ولم نؤسس لها بعد، فالمواطن الذي يدخل قاعة سينما محملا بالسندويتشات و"القلوب" و"الشيبس" والمشروبات الغازية، ويترصد ظلمة القاعة ليصعد مكبوتاته، وبائع التذاكر الذي يتأفف من كثرة الجمهور، والشرطي الذي ينهر المارة، والسكارى الذين يترصدون الفتيات، وأصحاب المحلات والمقاهي الذين يستغلون هذه المواسم للترفيع في أسعار بضائعهم...

ولا ينم هذا السلوك إلا عن هشاشة علاقتنا بالثقافة، فهي علاقة سطحية في عمومها... لا تؤسس لأفق بناء بقدر ما توهمنا بذلك...

أما الرواق الآخر، رواق التنظيم والتخطيط والتنفيذ، فلم يتخلص أغلبه من ذهنية "المزية"، ومازلنا نسمع إلى اليوم من هنا وهناك أن هذا المسؤول أو ذاك "عامل مزية على البلاد" بتنظيم هذا المهرجان أو ذاك، ومازال البعض من هؤلاء التكنوقراطيين يتوهم أن الأموال التي تقام بها الأنشطة الثقافية هي منة أو هبة من الدولة... وليست من الضرائب التي يدفعها المواطن المحروم من قاعات السينما ومن المسارح كغيره من الخلق...

2010/11/03

فيلم الخارجون عن القانون



سطوة الخطاب السياسي على الخطاب الجمالي

"الخارجون عن القانون"هو عنوان الفيلم الأخير لصاحب الفيلم الشهير "انديجان" الجزائري الفرنسي رشيد بوشارب، الفيلم الذي أسال في الدورة الأخيرة لمهرجان "كان" السينمائي الكثير من الحبر وأثار موجة من النقد والانتقاد في الأوساط السينمائية بفرنسا وخارجها وألقى بظلاله على السياق السياسي برمته قبل وأثناء وبعد مهرجان "كان"، بعد أن انتقدت الدوائر الفرنسية الرؤية والزاوية السينمائية والتاريخية التي انتهجها المخرج رشيد بوشارب للخوض في مراحل كثيرة من التاريخ المشترك بين الجزائر وفرنسا وكان من ابرز محطاتها مجازر 8 ماي 1945 وفيدرالية جبهة التحرير الوطني في فرنسا والتي كان من بين المنتمين اليها فرنسيون معتدلون حيث اعتبرت الانتقادات آراء رشيد بوشارب غير مسؤولة ومجحفة في حق الفرنسيين إبان احتلالهم للجزائر خاصة ما تعلق برؤيته لمجازر 8ماي 1945 حيث اتهم بأنه يشوه الفرنسيين الذين حسب نظرهم هم أول من عانى من "ظلم" الجزائريين لهم عندما اعتدوا على الأهالي من الأوربيين خلال 8 ماي 45 فما كان على السلطات الفرنسية حينها إلا أن تتدخل وتضع حد "للعصيان المدني" و"الاعتداء" على الفرنسيين العزل من طرف الجزائريين متناسين، كحال كل مستعمر، أن الحقيقة التاريخية التي يدركها الجزائريين وغيرهم أن مجازر8 ماي 45 كانت من فعل الفرنسيين المدججين بأسلحة الحلف الأطلسي في حق الجزائريين العزل وهي الرؤية التي حاول رشيد بوشارب إبرازها من خلال فيلمه "الخارجون عن القانون".

فيلم رشيد بوشارب كان حاضرا ضمن فعاليات الدورة 23 لأيام قرطاج السينمائية التي احتفت بالمخرج وبهذا العمل السينمائي الجزائري التونسي، باعتبار أن منتجه طارق بن عمار وباعتبار أيضا الظهور العابر لأكثر من وجه سينمائي تونسي في هذا الفيلم، إلى جانب طبعا التقنيين ومكان التصوير، وقد تم عرض الفيلم للمرة الأولى صباح يوم الأحد الفارط للإعلاميين بمخابر قمرت، ومساءً لعموم الجمهور بالمسرح البلدي.

الفيلم في مجمله يروي جزءا مهما وحاسما من ملحمة النضال الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي، ما بين 1830 و1962، ويرصد تحديدا الفتنة بين اليمين واليمين المتطرف الفرنسي من جهة، والسلطات الجزائرية، ممثلة حزب جبهة التحرير الوطني، أقدم وأكبر حزب سياسي في الجزائر، ويقدم الفيلم عموما أشكال النضال المسلح التي فتحها الجزائريون من قلب باريس باسم "جبهة التحرير الوطني" (FLN) وهذا السياق العام هو الذي رفد الخطوط العريضة للمنجز السينمائي الجزائري.

"الخارجون عن القانون" يروي قصة الأبناء الثلاثة الذين عايشوا مجزرة 8 ماي وشهدوا استشهاد والدهم لتبدأ بذلك قصة مأساتهم حيث يقتاد الابن الأكبر مسعود (رشدي زام) للمشاركة ضمن القوات الفرنسية ضد الفيتنام، ويقتاد الثاني عبد القادر (سامي بوعجيلة) إلى السجن، في حين يختار الثالث سعيد (جمال دبوز) الهرب من الفقر والتذلل بانتهاج طرق مختلفة لكسب المال، في حين يقف أخواه بعد عودة كل واحد منهما في وجهه لإقناعه بأن الكرامة تتمثل في المقاومة ومجابهة العدو ويعملان على غرس الوطنية ومحاولة تجنيد الجزائريين في صفوف جبهة التحرير الوطني لتختار هذه الأخيرة عبد القادر ممثلا لها في فرنسا ويقود عمليات عسكرية ضد مراكز الأمن ورجال الشرطة الذين عملوا على التنكيل بالأبرياء.

"الخارجون عن القانون" راوح بين السرد التخييلي والنسق التسجيلي docufiction وخضعت أحداثه لخط دائري صارم حيث انفتح الفيلم بمشهد افتكاك الفرنسيين للأرض الجزائرية وانغلق باسترجاع الأرض وتحرير الجزائر، كما أن الفيلم، في الكثير من مشاهده لم ينجو من الوقوع في العديد من "الكليشيهات" المستهلكة والبسيطة كصورة الأم النمطية التي قدمها الفيلم ومشهد الاغتيال في المقهى، وصورة الزوجة...

ولم تشفع للفيلم دقة المشاهد وجمالية زوايا التصوير والإضاءة المحكمة والحرفية العالية في إدارة الممثلين وإحكام تنفيذ الديكور من السقوط في الرتابة والنمطية، بل وجعل الفيلم اقرب إلى التسجيلي منه إلى الخيالي، خاصة أن السيناريو كتب بطريقة جافة وحادة في نفس الوقت، ومقارنة بسيطة مثلا بين فيلم الخارجون عن القانون لرشيد بوشارب وفيلم النخيل الجريح لعبد اللطيف بن عمار اللذان يلتقيان بشكل ما في رصد العلاقة الصدامية بين المستَعمر والمستعمر سنلاحظ من دون عناء كبير أن سيناريو النخيل الجريح كتب بطريقة أكثر فنية وبحس مرهف من خلال تلك اللعبة الذكية التي اخترعها عبد اللطيف بن عمار داخل الفيلم التي فسحت للمشاهد مساحات أوسع للتخييل والحلم وكسرت أفق انتظار المتفرج في توقع ما ستؤول له الأحداث، كما أن النوافذ التي فتحها فيلم النخيل الجريح أضفت مسحة من الجمالية المتقنة والتي تخرج بالمشاهد من حدة المشاهد الحربية والصراعات إلى مناطق أخرى مثقلة بالجب والحياة، وهو ما يفتقدها فيلم رشيد بوشارب فلا الموسيقى التصويرية أفلحت في "تنفيس" المتفرج من وابل الرصاص ولا قصة الحب غير المعلنة بن البطل عبد القادر والفتاة الفرنسية فتحت أفقا أوسع من الدمار وهو ما أصاب الفيلم بنوع من الاختلال العميق بين الخطاب السياسي القوي المقدم من جهة والخطاب السردي غير المقنع من جهة ثانية.

رسالة المخرج كانت جد واضحة في هذا الفيلم ويمكن التفطن لها في تلك الجملة المكثفة والمكتنزة بالدلالات عندما خاطب المفتش الفرنسي عبد القادر وهو ميت "أنت من انتصرت"، أي عدالة القضية الجزائرية هي التي هزمت وقهرت وحشية المستعمر الفرنسي.

2010/11/01

فيلم "فراق" للتونسي فتحي السعيدي:



قل إن سفينتي ساقتها الرياح، لا ادري أين مرساها؟

"الفراق" أو (séparations) هو عنوان الفيلم الثالث في رصيد المخرج التونسي المقيم بفرنسا فتحي السعيدي، أخرجه على نفقته الخاصة سنة 2010 بعد فيلمه الأول "أنا وبحبح" الحاصل على جائزة أول إنتاج في مهرجان "جون روش" السينمائي بباريس سنة 1995 وفيلمه الثاني بعنوان "عمارة" الذي أنتجه سنة 2002 وشارك في أيام قرطاج السينمائية في نفس السنة.

فيلم "فراق" الذي أنتجته شركة "بلكون" والمُهدى إلى السينمائي الفرنسي "جون روش"، هو من النوع الوثائقي "الاثنوخيالي" (مخرجه حاصل في فرنسا على شهادة الدراسات المعمقة اشتغل فيها على موضوع "السينما:الانثروبولوجي والوثائقي")، يدوم قرابة الساعة والنصف ساعة وساهم في انجازه إلى جانب فتحي السعيدي كل من عايدة بن شعبان ووسام التليلي وبسام عون الله وحاتم الكنزاري وياسين بن منصور، وهو يرصد بعدسته القريبة ملامح تونسي "حارق" احترق بنار البؤس واليأس والندم بعد أن ضاقت به الدنيا في تونس وخالها ستتسع وتبتسم له في باريس أو روما، غير أن سفينته ساقتها الرياح وتنقلت به من ليبيا إلى لمبدوزا الايطالية فباريس وضواحيها... فعودة خائبة إلى تونس...

وموضوع الهجرة السرية أو غير الشرعية أو ما نصطلح عليه بالحرقة، هو موضوع مطروق في السينما العالمية وفي السينما التونسية، خاصة في الأفلام القصيرة التي أنتجت في العشرية الأخيرة، غير أن ما يضفي فرادة ما على فيلم "الفراق" هو طبيعة الوضع الاجتماعي للحارق الذي اختاره المخرج في الفيلم، فإذا كان المتعارف عليه أن أغلب الحارقين هم من فئة الشباب، وتحديدا العاطلين منهم أو المعطلين عن العمل، فإن "حارق" فتحي السعيدي، محمد، هو كهل تجاوز العقد الرابع من العمر يشتغل بائع ثياب قديمة بتونس العاصمة وأب لأربعة أطفال (ميسا، ياسين، وسيم ووئام). محمد "حرق" يوم 28 أوت 2008 مع قرابة 350 شخص من مختلف الجنسيات على متن الزورق الذي أبحر خلسة من المياه الليبية باتجاه ايطاليا، وبعد شهر انتقل إلى فرنسا.

هذا الوضع الاجتماعي المختلف عما ألفته عين المشاهد في ما شابه من الأفلام، هو الذي أضفى على الفيلم شحنة مضاعفة من التفاعل مع الشخص الحارق، من خلال تلقائيته وعفويته ومن خلال المسؤولية التي يتحملها تجاه أبنائه وزوجته ونفسه من ناحية، وأيضا باعتبار أنه كان يشتغل في تونس، رغم قلة مداخيله، وشحنة "التعاطف" أو التفاعل التي تسري عند مشاهدة هذا الفيلم لا تعود بالأساس إلى "الحارق" في حد ذاته بقدر ما تعود إلى فطنة المخرج في التركيز على ملامح بطله من خلال الاعتماد على اللقطات الكبيرة والمكبرة والإتقان المحكم لضبط حدود الإطار (cadrage) واقتناص، إلى جانب الملامح التعبيرية لمحمد من جهة وزوجته وأبنائه من جهة ثانية، لدقائق الفضاءات التي تم التصوير فيها، فجمال المناظر الطبيعية في فرنسا وضخامة المباني والأماكن الأثرية التي اقتنصها المخرج إبان تصويره لمحمد منحت الفيلم فائضا دلاليا رفد تفاصيل حكاية "البطل". ورغم الجمال الباريسي من خلال الحدائق المزهرة فإن الرجل كان مثخنا بالجراح ومثقلا باليأس، ورغم المباني الشاهقة فإن محمد أصابته لعنة الإحباط من عدم العثور على شغل، ورغم تراص المبيتات السكنية فإن الحارق لم يجد لا خيرا ولا عونا من أبناء بلده أو من أمثاله الحارقين في ليالي تسكعه وتشرده والنوم في المحطات العمومية، ولا تعاطفا وتضامنا من أخت زوجته القاطنة بباريس.

لقد حقق المخرج انسجاما دقيقا بن الخطاب والصورة وجعل من الفضاء خادما أمينا لخطاب فيلمه في جزءه المصور بفرنسا، وكذلك كان الأمر مع الجزء المصور في تونس مع عائلة محمد، حيث رفدت أركان البيت القديم بأثاثه البسيط خطاب الزوجة والأبناء عن حالة الفقر والخصاصة التي دفعت بعائلهم إلى المغامرة بحياته من اجل تحسين وضعهم. كما أن تصوير ملامح الأبناء عن قرب واقتناص تفاصيل فرحهم الطفولي عبرت بشكل غير مصطنع عن أملهم في نجاح والدهم وتحقيق أمانيهم من بيت وسيارة وملابس أنيقة... فمثلت حركة الكاميرا وعدستها ومسافاتها وزواياها وطريقة التركيب منجزا لغويا مفتوحا اخرج الفيلم من السياق التوثيقي إلى سياقات أخرى تزدحم فيها القراءات والتأويلات.

في الفيلم انتفت الموسيقى، وانتفاؤها لم يؤثر على الفيلم بقدر ما خدم حكايته، إذ أن الإيقاع الداخلي لخطاب محمد وعائلته كان أبلغ من الموسيقى. لقد كان العزف داخليا مشحونا بالشجن هناك مع تنهيدات محمد وزفراته، وممتلئ بالبهجة هنا، مع ضحك الأبناء ولعبهم مع والدتهم، تارة يعلو وطورا يخفت وما بينهما تتواتر أصوات "الميترو" الباريسي منذرة بقرب السفر والرحيل... أو تتخللهما بعض المقاطع من أغاني "الحرقة" التي كان يستمع إليها ابنه البكر عبر آلة التسجيل أو من خلال اللقطة التي صور فيها حضور الابن حفل "وين ماشي؟" الذي نظمته جمعية النساء التونسيات للبحث حول التنمية السنة الفارطة (2009) بقاعة الحمراء في إطار مشروعها من اجل الهجرة الآمنة.

موسيقى الفيلم أيضا يمكن أن نلتقطها بحساسية مفرطة من خلال الإيقاع الحي لهذه العائلة، فرغم حالة البؤس التي تعاني منها، إلا أنها كانت عائلة "ديمقراطية" بأتم معنى الكلمة ويتجلى ذلك من جهة، من خلال الحوارات المفتوحة بين الأم وأبنائها ونقاشهم في كل المواضيع بطريقة تُحترم فيها الآراء ووجهات النظر على بساطتها واختلافها، ومن جهة ثانية من خلال الاتصالات الهاتفية بين الأب المهاجر وأفراد أسرته، وقدرة محمد على إسعاد أبنائه بحرارة الكلام ودفء المشاعر رغم ألم الفراق وبرد باريس.

الفيلم، ورغم الطول النسبي الذي كان بإمكان المخرج أن يتفاداه ويتجاوز بعض المشاهد التي يتكرر فيها تقريبا نفس الخطاب، رغم ذلك فإن رسالة، فتحي السعيدي، في هذا العمل تتكثف في تلك الخلاصة التي وصل إليها محمد بعد رحلة الشقاء التي اختارها غصبا عنه، إذ يصف فرنسا (بلاد الغربة) بقوله هي "بلاد فلوس وبلاد إنسان له مستوى ثقافي محترم ومعارف، وان لم تمتلك هذا المفتاح فلن تدخلها"، لذلك تخلى مكرها عن حلمه وعن "النظرية" التي جعلته يغامر بحياته، وهي نظرية كل الحارقين من تونس، تلك التي قالها محمد في هذا الفيلم "أنا ميت سواء في تونس أو في البحر ولذلك علي أن أحرق."

2010/10/18

التلفزة معاك


وحدها التلفزة تدخل إلى بيوتنا من دون استئذان. تستأثر بزمننا النهاري والليلي، وتقوض كل إمكانات التواصل والتحاور بين أفراد الأسرة الواحدة. تمارس علينا كل أنواع الانزياحات المعنوية والأخلاقية... مرة تُدهش الساكن فينا، ومرة تُمعن في استغبائنا واستبلاه عقولنا، ومرة ثالثة ترمينا بالسأم والملل...

تتوزع مهامها أساسا بين الإخبار والتثقيف والترفيه والإبداع أيضا، وما على المستهلك أمام ما يقدمه صندوق العجب إلا أن يختار ويفرز الجيد من الرديء متى استطاع إلى ذلك سبيلا، فهذا الصندوق بات يمتلك اليوم من السلطة ما لا تحتكم له اعتى الحكومات والأنظمة في العالم...

في تونس، وقريبا من "صناديقنا العجيبة"، أي قنواتنا التلفزية، يمكننا بمعادلة بسيطة أن نقسم الشعب التونسي إلى صنفين من المشاهدين، ونقول بنوع من الموضوعية أن 45 بالمائة يشاهدون البرامج ذات البعد الديني والمسلسلات (النساء خاصة وجحافل كبيرة من الشباب) و45 بالمائة يتابعون البرامج الرياضية (الرجال خاصة) ونترك العشرة بالمائة للنزر القليل من المتابعين للبرامج "الثقافية" وهي أيضا، تقريبا، النسبة التي تخصصها قنواتنا التلفزية لهذه المادة أو أقل.

ولكن الملاحظ أننا في السنوات الأخيرة، ومع بروز البرامج ذات البعد الاجتماعي والقانوني، تقاربت تلك النسب والتقت في مفترق هذه البرامج، بعد أن استأثرت هذه النوعية من البرامج بنسبة كبيرة من المتابعين لها لاقترابها من مشاغلهم ومشاكلهم، رغم أنها كانت في الغالب تبتعد عن تحليل وملامسة عمق المشاكل الحقيقية.

مثل هذه البرامج التي اكتسحت الزمن التلفزيوني واجتاحت بحلقاتها منازل الملايين من الناس وتحولت إلى محور أحاديث المشاهدين في مكاتب الشغل وفي المقاهي وبين ربات المنازل، باتت تمثل خطرا حقيقيا لما بات يُعرف بدولة "القانون والمؤسسات"، ذلك أن أقصى طموح لدى الملايين من الناس هو الوصول إلى هذا البرنامج أو ذاك المنشط أو تلك المنشطة لطرح قضيته على "الرأي العام" وصار الهاجس الأوحد للمواطن المظلوم اللجوء إلى "بلاتو" التلفزة لكسب "تعاطف شعبي" مع قضيته أو لفت انتباه هذا المسؤول أو تلك الإدارة لضيم لحق به أو بأسرته...

بهذه البرامج يسقط الشعار الحقيقي للمواطن المتمثل في "القانون" ليأخذ مكانه شعار جديد هو "التلفزة معاك"، ولئن توهمنا هذه البرامج بأن دورها لا يتعدى الوسيط بين المواطن والقانون أو الحق، فان ذلك لا يشفع لها السقوط الواضح من جهة أولى في "الانتقائية المسالمة" التي تبتعد قدر المستطاع عن مكامن الفساد الحقيقية وارباك السكون المعمم في أرجاء المؤسسات والادارات، وفي "استثمار الحالات" التي تقدمها لكسب اكبر عدد من المشاهدين وبالتالي اكبر عدد من المستشهرين من جهة ثانية، وهو الهدف الرئيسي لمنتجي هذه البرامج الذين لا هم لهم سوى مراكمة الأموال على حساب مشاعر الناس وعواطفهم.

بهذه البرامج تحولت وجهة المواطن من المؤسسات القضائية والإدارية باعتبارها الراعية الأولى والأخيرة لحقوقه ومصالحه، وانتقلت إلى أبواب المؤسسات التلفزيونية وهواتف المنشطين والمنشطات، وهي وجهة تنذر بالخراب لأنها لا تبني الوطن ولا تخدم مصالح المواطن بقدر ما تخدم مصالح أشخاص بعينهم.

2010/10/07

تحيا السينما


عندما يقول المخرج الفلسطيني نصري حجاج إن مدينة نابل ستنافس "كَان" الفرنسية وتطوان المغربية ووهران الجزائرية في تحويل الصورة السينمائية إلى أيقونة لازوردية، فإنه حتما لا يلقي الورود إلى عاصمة الوطن القبلي التي كرمته واحتفت بآخر انتاجاته السينمائية "كما قال الشاعر" ضمن لقاء نابل الدولي للسينما العربية...

وعندما يقول المخرج التونسي إبراهيم لطيف بأن لقاء نابل للسينما العربية لقاء فريد من نوعه ومغامرة محفوفة بالإصرار والمكابرة فهو حتما لا يجامل ولا يمدح من سهر على هذا اللقاء وأثث لياليه وأيامه بالحب قبل التعب...

وعندما يصرح الممثل محمد علي بن جمعة بأعلى صوته أمام كاميرا طلبة المعهد العالي للفنون الجميلة بنابل ويقول "تحيا لغة السينما وتسقط لغة كرة القدم" فانه حتما يعبر بكل تلقائية وعفوية الممثل المتعطش للجمهور عن سعادته بملاقاة جحافل المشاهدين المتوافدين على المركز الثقافي نيابوليس بنابل لمشاهدة السينما المختلفة والمغايرة...

وعندما تتفق المخرجتين السوريتين لمى طيارة وعلياء خاشوق والجزائرية حجلاء الخلادي والمغربي إدريس شوكة على أن من يقوم بالفعل الثقافي يجب أن يكون مهووسا قبل أن يكون موظفا، فإنهم حتما لا يقصدون مدير المركز الثقافي نيابوليس السيد الطاهر العجرودي في شخصه وإنما يقصدون تلك الفورة المتوثبة بداخل كل شابة وشاب من طلبة المعهد العالي للفنون الجميلة بنابل وكل من تحركت خطاها أو خطاه بثبات بين أروقة وقاعة هذا الفضاء الشامخ في قلب مدينة نابل...

وعندما "تجازف" المؤسسة الثقافية الرسمية، في شخص السيد لطفي المسعدي المندوب الجهوي للثقافة والمحافظة على التراث بنابل، بإطلاق هذا اللقاء وتجند لإنجاحه كل الوسائل، فإنها حتما تراهن على أن يكون مولودها ناضجا في سنته الأولى وواثقا في خطوته الأولى...

خطوة أولى مؤسسة لدرب طويل سيُشرع نوافذ أوسع للحلم ويدخل مريدي الشاشة الفضية إلى عوالم أكثر انفتاح ويمنحهم مفاتيح لم تصدأ بعد بفعل التجارة والاستهلاك المفرط حد الهلاك...

لقاء نابل للسينما العربية، باختياراته السينمائية، بضيوفه، بجمهوره، بإدارته، وبمن أراد له الاختناق في السر والعلن... أثبت بعد دورته الأولى انه "بروفة" ناجحة لفعل ثقافي جاد ومختلف ومؤسس، واثبت أن مركزة الثقافة في العاصمة وَهمٌ لم تنجح جدران المؤسسات الثقافية المنتصبة في شوارع العاصمة وأزقتها في تثبيط عزائم وإصرار من أصابتهم لعنة الثقافة الحقيقية البعيدة عن التنشيط الثقافي العابر والمهووسة بكتابة الجمل الاسمية الباهتة...

لقاء نابل للسينما العربية يبدو انه سيكون مثل ذاك الديوان الشعري الذي نحتفظ به داخل غرف نومنا لنختلي كل ليلة بقصيدة منه ونحلم بالتي ستليها... وبما ستحمله لنا من فوائض دلالية وجمالية...

وأن نحلم بما لا ننتظر هو الحلم في ذاته...