بحث هذه المدونة الإلكترونية

2012/08/21

من "صفر فاصل" إلى "خمسين فاصل"

ربما من بين أهم النتائج التي أفرزتها التجربة الانتخابية التي عشناها بعد الإطاحة بالدكتاتورية السابقة، حالة التشتت والانقسام التي أصابت مختلف الأطياف السياسية ذات الأفق التقدمي والتنويري، بل يمكن تسميتها نتيجة النتيجة، فلولا التشتت بين مختلف الأحزاب والتيارات والعائلات الايديولجية المشتركة في حد أدنى من الديمقراطية لما كانت النتائج بتلك الشاكلة، وربما تلك النتيجة هي التي جعلت القوى الديمقراطية والتيارات اليسارية التونسية تسعى لبناء "جبهة سياسية مفتوحة" عساها تفلح في وضع حد لحالة التشرذم التي تشقها ومواجهة نزعة التيار اليميني لاحتكار الحياة السياسية. وحالة تشتت اليسار التونسي‮ ‬بمختلف فصائله وأحزابه وتياراته هي‮ ‬حالة تاريخية بامتياز،‮ ‬فرغم أن اليسار التونسي‮ ‬لم‮ ‬يجلس في‮ ‬الجهة اليسرى للبرلمان بصفته كتلة موحدة منذ نشأة المؤسسة البرلمانية في‮ ‬تونس فهو لم‮ ‬يلتق خارجها أيضا كتلةً‮ ‬موحّدةً‮ ‬ذات هدف مشترك وان برزت بعض التحالفات في‮ ‬السبعينات والثمانينات فهي‮ ‬لم تفلح في‮ ‬رفع أوتاد خيمة تتسع لجميع فصائل اليسار التونسي‮ ‬من ماركسيّين لينينيّين وماويّين وتروتسكيّين وغرامشيّين على ما أظن‮... ‬وهذا‮ ‬يبدو أمرا طبيعيا ومفهوما ذلك أن تاريخ تونس الحديث لم‮ ‬يفرز منعرجا حاسما من شأنه أن‮ ‬يمنح المدرسة اليسارية باشتراكييها وشيوعييها فرصة الالتقاء على أرضية صلبة‮... ‬فهذا القطب الإيديولوجي‮ ‬والسياسي‮ ‬لم‮ ‬ينتظم‮ ‬يوما في‮ ‬جهاز واحد ولم‮ ‬يجمعه نظام قيمي‮ ‬واضح، وبالطبع تفرقت وجهات منتسبيه من مقر إلى آخر وتوزعوا بين النشاط العلني‮ ‬في‮ ‬الأحزاب المعترف بها أو النشاط السري‮ ‬لمن لم‮ ‬يحصُل على تأشيرة نشاط‮... في هذا الإطار تم الإعلان مؤخرا عن تشكيل جبهة شعبية ضمت 12 حزبا يساريا وشخصيات مستقلة، تشكلت "بديلا عن الاستقطاب المغشوش بين الائتلاف الحاكم والفصائل الليبرالية التي تدعي بحكم تواجدها خارج السلطة كونها تمثل بديلا عن حكومة الترويكا". وهي جبهة تهدف إلى "تحقيق أهداف الثورة في الحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية في شكلها الشعبي وليست الديمقراطية الليبرالية التي لا تخدم، كما كانت دوما، غير البورجوازية ورجال الأعمال والمتنفذين مالا وجاها وتحقيق المساواة والعدالة الثورية في جميع مستوياتها سواء بين المرأة والرجل أو بين الفئات الشعبية وبين الجهات". خاصة أن التونسيين "لم يجنوا من ثورتهم سوى مزيد من التفقير والتهميش والاستبلاه والتسويف". لا يختلف تونسيان في أن التجربة السياسيّة في تونس كانت مشوّهة ومشلولة لأسباب يعلمها القاصي والداني ويمكن أن نُجملها في دكتاتورية الحكم في "جمهورية" ما بعد الاستقلال بنسختيها البورقيبيّة والنوفمبريّة... والتجربة السياسية موصولة حتمًا بالوعي السياسي، هذا الذي انحسر طيلة نصف قرن فيما يُعرف بالطبقة السياسية في مختلف تلويناتها وخطوطها، بمعارضتها وموالاتها، وهو ما ساهم في غلق قنوات التواصل بين "الطبقة السياسيّة" والقواعد الجماهيرية المعنية بالشأن العام فظلت تلك الجماهير طيلة حكم بورقيبة وبن علي "بضاعة مٌعلَّبة" تُباع وتُشترى زمن "المسرحيات الانتخابية" السابقة... ورغم عدم التخلّي عن سياسة القطيعة بين ما اصطلح عليه بالنخبة وبين الشعب، ورغم تعدّد المؤشرات السلبيّة والسالبة لمواطنة المواطن، فإنّ التجربة السياسية التي سيُقدم عليها الشعب التونسي من خلال المشاركة في ثاني انتخاب بعد الإطاحة بالنظام النوفمبري تحمل في عمقها عديد المؤشرات الممكنة للقطع مع سياسة الوصاية والاستحواذ على إدارة الشأن العام... ويكفي اليوم أن يجلس كل مواطن إلى نفسه ويسأل كيف سأختار من يمثلني ولماذا؟ هذا طبعًا بعد أن يكون قد آمن بأن صوتًا واحدًا من شأنه أن يحدّد وجهة هذا الوطن والكف عن الاستخفاف بقيمة الصوت الواحد... وبالتالي بقيمته إنسانا أولا ومواطنا ثانيا.... وهي الدرجة الأولى للدخول في التجربة السياسيّة... بوعي بسيط، ولكنَّه عملي في مرحلتنا الراهنة... إن هذه الجبهة وغيرها من الجبهات المتأصلة في الديمقراطية والمؤمنة فعلا بالعدالة الاجتماعية والحريات قد تأتي ثمارها على عكس التحالفات الظرفية التي تشكلت قبل الانتخابات (مثل القطب الديمقراطي الحداثي، الائتلاف الديمقراطي المستقل، ائتلاف 23 أكتوبر، تحالف الأربعة) واتسمت في مجملها بنزعتها البراغماتية المتمثلة في الفوز بأكبر عدد ممكن من المقاعد، في حين أن التحالفات الجديدة تبدو تحالفات إستراتيجية ذات عمق سياسي ورؤية بعيدة المدى تعلي المصلحة الوطنية فوق كل المصالح الحزبية وتنأى عن التقسيمات العددية البائسة التي ابتدعتها حركة النهضة من قبيل "جماعة صفر فاصل" وهي التي تذكرنا بمصطلحات النظام النوفمبري من قبيل "الشرذمة الضالة".