بحث هذه المدونة الإلكترونية

2013/02/28

"شرعية" الدكتاتورية تحتفي بحبر رجاء بن سلامة

لم تتوقف الدكتورة والباحثة رجاء بن سلامة عن تحريض التونسيين والتونسيات على الثورة من خلال كتاباتها، ولما تحققت الثورة في جانفي 2011 لم تنتظر سوى أياما معدودة لتعود من القاهرة إلى تونس على جناح الأمل في المساهمة في تحقيق أهداف الثورة بما ملكت من معرفة تسوقها لطلبتها بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمنوبة أين عادت للتدريس، وبما ملكت من ثقافة حقوق الإنسان والمواطنة تنشرها مع المدافعين عن مدنية تونس وحداثتها... عادت إلى تونس وهي تعرف أن "فتوى" إهدار دمها في انتظارها بساحة "الباساج" في قلب العاصمة، أين سيشنقها أوصياء الدين الجدد حتى تكون عبرة لمن شاطرها الرأي "وخطوة حميدة في استتباب دولة الخلافة النقية المجيدة"...عادت ولم تخشى أن تكون "شهيدة الحق الليبرالي" مثلما وصفها الدكتور شاكر النابلسي في مقال دافع فيه عن هذه "الدكتورة الزنديقة"... التقيتها مرتين في ذات الساحة، ساحة الباساج... كانت (حسب معجم الترويكا الحاكمة في تونس) "سافرة" كما عرفتها منذ 1997 لما درستني مادة الأدب القديم بكلية منوبة... وأذكر أنها لم تطردني من حصتها ذات مرة لما دخلت بقميص مفتوح الأزرار... وقفنا طويلا في ساحة الباساج. لم تكن خائفة بل معتدة بذاتها، متأنقة ودائمة الابتسام. تحدثنا عن الجامعة والثورة وما يتهددها من أسوار دوغمائية قد تنسف مبادئها التي اندلعت لأجلها وتطوق فائض الحرية الممكنة... وتواعدنا أن نلتقي في إحدى مسيرات الحريات، تلك التي باتت خبزنا اليومي في تونس. هي ذي الدكتورة والباحثة التونسية رجاء بن سلامة كما عرفتها مدججة بالعلم والمعرفة، لا تتحرك إلا في فلك فكر الاختلاف وفكر النقد والتحرر وهي المولودة في العقد الذي اهتز فيها النظام الديغولي بفضل فورة طلاب السربون الباريسية الذين قوضوا الهيبة الأبوية داخل العائلة وهيبة رأس المال داخل المصانع وهيبة الأستاذ داخل المدارس، ودكوا أركان البديهيات الثقافية والجنسية والنفسية... جاءت في الفترة التي بدأت تظهر فيها حركات تحرر المرأة في أوروبا وانهيار الأنظمة الشمولية... وولدت لما انفجر مرجل الكتابة بفكر الاختلاف مع بيار بورديو وجاك دريدا وميشال فوكو ورولان بارت وسيمون ديبوفوار... وغيرهم من الفلاسفة والكتاب الذين دكوا أسوار المدرسة البونابرتية... تقول رجاء "أنا ابنة فكر الاختلاف وامرأة حرة في عشقي وحبري"... بهذه الجملة تقنعك مؤلفة كتاب "نقد الثوابت" أن تاريخ الميلاد لا يهم، وإنما السياق الذي نولد فيه هو الذي ينحت طيننا ويرسم شكل خطواتنا... وإن كان للسياق التاريخي دور في رسم تفكير الدكتور رجاء، فلمكان ولادتها دور كذلك في نحت شخصيتها، فقد ولدت في مدينة القيروان بالوسط التونسي، مدينة عقبة ابن نافع وابن رشيق القيرواني والإمام سحنون والحصري وابن الجزار... ولدت في عائلة بن سلامة التي تذكر بعض كتب التاريخ أن جزء منها سافر مع عقبة ابن نافع في الفتوحات الإسلامية وسافر جزء ثان مع طارق ابن زياد إلى الجزائر والمغرب... مما جعل "فتوحات" رجاء بن سلامة في العلم والمعرفة لا تعترف بالحدود، فإلى جانب دكتورا الدولة (2001) حصلت سنة 2011 على الماجستير في التحليل النفسي من باريس... وهي التي ترجمت كتاب "الإسلام والتحليل النفسي" لشقيقها الدكتور فتحي بن سلامة منذ سنة 2008. هكذا تأتي هذه المرأة إلى الأرض وهي تدري ماذا تختار من ارثها الحضاري والثقافي، تختار أن تتدرب على التمرد لتشق أفقها التحرري بعد أن قتلت الموت، الذي غيب والدها، بين طيات منجزها النقدي "الموت وطقوسه من خلال صحيحي البخاري ومسلم" (1997) الكتاب الذي قاتلت فيه الموت وطقوسه الجنائزية بما ملكت من معاول انثروبولوجية ومعرفية بعيدا عن ثقافة الخوف والترهيب وعذاب القبر ... أليست الكتابة بطاقة حضور في وجه الموت؟ أليست طقسا من طقوس العبور إلى النص المفتوح؟ كالنص الذي تفتحه الدكتورة رجاء بن سلامة أمام طلبتها بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمنوبة، وتعلمهم كيف يشيدون سماء أوسع من اللغة، ويرفعون أوتاد خيمتهم من الأدب والحضارة العربية والإنسانية، وكيف يتجرؤون على مداعبة أعواد الثقاب لإشعال الحرائق في بيادر المسلمات والبديهيات والحقائق الجامدة، غير أن هذا النص المفتوح وهذا المنهج المتحرر دفع ببعض الأصوليين والمتشددين إلى "تجنيد" بعض الطالبات، لكتابة شهادات ضد أستاذتهن لاتهامها بتهجمها على الإسلام والقرآن. تمرد الدكتورة رجاء بن سلامة لا يتوقف عند الحبر والورق، وهي التي ذهبت فيه شوطا متقدما من خلال مؤلفاتها التي تعد إضافة نوعية للمكتبة العربية الحديثة خاصة بكتبها "صمت البنيان" و"نقد الثوابت: آراء في العنف والتمييز والمصادرة" و"بنيان الفحولة" وبالمؤلفات التي قامت بترجمتها مثل كتاب "الشعرية" لتزفتان تودوروف ... في فلك الحب، الصيغة الممكنة للتأليف بين الدوافع الجنسية العمياء والقيم الإنسانية، تدور رجاء بن سلامة، وتغري كل من يقترب منها بالدوران في فلكها، بذات الحب... إن تكلمت أو كتبت، إن رددت جملة موسيقية أو رقصت في جلسة خاصة... حتى في غضبها تتأجج حبا لكأن غضبها هو حبرها أو كأنها تذكرنا دوما بأنها صاحبة "العشق والكتابة"، ذاك الكتاب الذي هتكت فيه أحجبة الحب الاخلاقوية وحفرت عميقا في أخاديد الخطاب العشقي المسور بالعذرية والصوفية والأبنية الأسطورية واللاهوتية... تمردها الحبري كان جسرا لعبورها نحو الممارسة الجمعياتية، فكانت من أوائل المنخرطات في الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، الجمعية التي أقضت مضجع النظام التونسي السابق، ثم كانت سنة 2007 من بين المؤسسات لرابطة العقلانيين العرب دعما للمشروع التنويري العربي وللفكر الحداثي والنقدي وأشرفت على مجلة "الأوان" الالكترونية، منبر الرابطة وفضائها الحر... وهي تنشط أيضا في جمعية "بيان الحريات بفرنسا" و"الجمعية الثقافية التونسية للدفاع عن اللائكية"... ونادرا ما تقع بين يديك عريضة تنديد أو عريضة مساندة لا تعثر فيها على توقيع رجاء بن سلامة كاتبة وباحثة (هكذا تُمضي) كما أن هتافاتها في المسيرات والتحركات الاحتجاجية المدافعة عن الحريات تنقر مسامعك من بعيد، فتغريك بأن تتوقف عند هذه الدكتورة التي تترك أريكتها الدافئة بمنزلها وتنزل للشارع مع البسطاء والفقراء لتواجه عصا البوليس وغازاته المسيلة للدموع... وهي التي تسيل الكثير من التعاليق "الفايسبوكية" بما تكتبه كل يوم على صفحتها المدججة بالأعداء قبل الأصدقاء... الدكتورة رجاء بن سلامة كائن افتراضي يعسر مجاراة نسق إبحاره على الشبكة العنكبوتية من خلال كتاباتها في موقع "الأوان" وخاصة على صفحتها بالموقع الاجتماعي الفايسبوك، حتى أنك تشك بأنها تقاسم "مارك جوكر بيرج" ملكية هذا الموقع الذي اخترعه سنة 2004، فرجاء موجودة في كل الأوقات كتابة وتعليقا ونقاشا ونشر مقاطع الفيديو والصور... ولكن هل تقاسم فعلا مخترع الفايسبوك شهرته وثروته أم أنها تواصل درب النقد والحرية والثورة الفكرية على ضفة أخرى؟ "نستعمل الفايسبوك كوسيلة اتصال ولا نتركه يستعملنا كوسيلة إعلام مشوهة ولا مسؤولة"، هكذا تتعامل رجاء مع هذا المارد الأزرق، ومن يدخل صفحتها على الفايسبوك سيعرف أن هذه المرأة جُبلت على المواجهات وولدت من رحم المعارك الفكرية، وخاصة تلك المعارك الذكورية والعقدية التي تتمركز حول ذاتها وتنفي من خالفها، وهي لذلك تكتب عن الجهل المقدس وعن رجال الدين المقنعين وعن الخطر السلفي وتدعو إلى مأسسة الثورة التونسية ومقاومة المسامير الصدئة وتذكر متصفحيها بأنه لا ثورة من دون فكر ثائر... وتكتب وتكتب... وتكتب رجاء بن سلامة كثيرا "عن كل القوى اللاديمقراطية، وعن كل من يهدد الحلم الديمقراطي"... وتحرض على مقاومة الخوف والتردد لدى الخائفين أو الراغبين في "فنتازم" السيناريو الجزائري... لان كل الكتابات عندها محترمة سوى تلك الكتابة الجاهلة، وأن كل كاتب محترم ما عدا ذاك الذي يريد أن يفتك مكان الله. من بين ما كتبته الدكتورة رجاء بن سلامة على جدارها الفايسبوكي:"حكومة تكره الحياة وتحبّ الموت والخراب... لا خير في حكومة تعتدي بالغاز والمتراك على شبّان يريدون الرّقص في الشّارع، وتترك المخرّبين والمرضى يعتدون على النّاس وعلى الممتلكات والمعالم الأثريّة. حكومة تانتوس لا يمكن أن توقف عجلة الحياة وحبّ الحياة. تحيّاتي للشباب المتمرّد على الجهل المقدّس بالفنّ والإبداع. تحيّاتي لراقصي "هرلام شارك". مساندتي التامة لكلّ التّلاميذ ضدّ السّلطات الغبيّة". لأن الدكتورة رجاء بن سلامة من هذه الطينة وأكثر، كان لابد لها في هذا الزمن الأعور أن تمر من أروقة المحاكم أين مثُلَت يوم الخميس 28 فيفري 2013 أمام قاضي التحقيق بالمحكمة الابتدائية بالعاصمة للاستماع إلى أقوالها في القضية التي رفعها ضدّها المقرر العام للدستور الحبيب خذر بعد أن عبرت عن رأيها بخصوص الفصل 26 من الدستور المتعلق بالحريات الذي أصبح قاتلا لها... وشبهت ما قام به النائب المذكور مجازا "خيانة مؤتمن" خاصة أن هذا الفصل كان محل توافق في اللجنة التأسيسية للحقوق والحريات في الصياغة الأولى للفصل... هي ذي الحريات التي سال من أجلها دم الشبان والشابات... ولم ننتظرها تنزل من درج الطائرات القادمة من لندن وباريس وجنيف والدوحة... هي ذي الحريات في مهب الالتفاف والقيود...

2013/02/21

من الخيار الشخصي إلى الحزبي قد يضيع الخيار الوطني

قدم السيد حمادي الجبالي رئيس الحكومة المؤقتة استقالته (خيار شخصي) إلى السيد محمد المنصف المرزوقي رئيس الجمهورية المؤقت، دون تقييم جدي وواضح لأسباب "فشل" أعمال حكومته طيلة فترة عملها، ولئن تم حصر أسباب الاستقالة في فشل (أو إفشال) مبادرة السيد حمادي الجبالي حول تكوين حكومة كفاءات وطنية غير متحزبة، فان الطبقة السياسية اليوم تحصر اهتمامها بالحكومة القادمة في أسماء المرشحين لرئاسة هذه الحكومة، وبدا جليا أن الأحزاب الموجودة خارج الحكم تقدم مواقفها من منصب رئاسة الحكومة استنادا إلى "تصريحات" رئيس حركة النهضة وبعض القياديين في هذا الحزب (خيار حزبي)، فبعد الإصرار على إجهاض مبادرة تشكيل حكومة كفاءات وطنية و"إقالة" السيد حمادي الجبالي، تردد اسمه لتولي ذات المنصب مجددا بشدة، وهو ما باركه اغلب الطيف السياسي ودافع عنه، غير أنه وبمجرد أن عدلت حركة النهضة عن أمين عام حزبها رئيسا للحكومة المؤقتة الجديدة، وبدأت تروج لقائمة اسمية محتملة لرئاسة الحكومة، عادت الطبقة السياسية من جديد إلى مناقشة أهلية المرشحين الجدد لينحصر النقاش مجددا في مربع الأسماء والمحاصصة وتهميش الآليات الكفيلة بإنجاح عمل الحكومة المؤقتة المرتقبة... وما قد يزيد الوضع تأزما ويدفع بالبلاد مجددا إلى حافة المجهول هو "خيار" الإقصاء الذي أعلنت عنه حركة النهضة بصريح العبارة لحركة نداء تونس (بعد الجلوس إليها في المفاوضات) إلى جانب ضبابية الموقف من وزارات السيادة (الداخلية والخارجية والعدل والمالية)... وهو ما جعل بعض الأحزاب السياسية "ذات الوزن" تفضل دعم الحكومة الجديدة دون أن تشارك فيها. أمام كل هذه المؤشرات السلبية وغيرها، نلمس وضوح وواقعية موقف الاتحاد العام التونسي للشغل وهو الذي عبر عنه رفقة الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والهيئة الوطنية للمحامين بتونس في رسالة سابقة أرسلها إلى رئاسة الحكومة تضمنت مفاتيح موضوعية للخروج من الأزمة (حياد الإدارة، حل المليشيات والرابطات، تقليص عدد الوزراء، تحديد موعد الانتخابات، انتخاب الهيئات التعديلية، تحييد المساجد، دفع الحوار الوطني الذي دعا إليه الاتحاد ومعالجة الوضع الاجتماعي...) كما نتفهم موقف السيدة وداد بوشماوي رئيسة منظمة الأعراف، عندما تعبر عن "عجزها" توجيه رسالة طمأنة للمستثمرين سواء الوطنيين أو الأجانب. قد يكون الحل الأسلم أيضا للخروج من هذا المأزق الذي قد يطول، قد يكون بيد السيد محمد المنصف المرزوقي الرئيس المؤقت للجمهورية، فمن صلاحياته أن يقوم بتعيين الشخصية "الأقدر" على تحمل المسؤولية، وهذا التعيين مثلما اتفق على ذلك أساتذة القانون الدستوري، يمكن أن يكون شخصية وطنية لا تنتمي لا إلى الترويكا ولا إلى المجلس الوطني التأسيسي... وحتى لا نخرج من حلقة مفرغة لندخل في حلقة ثانية مفرغة أيضا ستكون نتائجها كارثية على البلاد، وحتى لا يتحول المأزق من السياسي إلى الشعبي والأمني، يتوجب على الفاعلين السياسيين، التوافق حول حكومة تلتزم بتسيير أعمال الشعب التونسي، لا حزب بعينه أو توجه مخصوص، ويتوجب عليهم أيضا الاقتناع التام بأن دور التشكيلة الحكومية المرتقبة هو تصريف الأعمال لا أكثر ولا أقل وتأمين فترة الانتهاء من صياغة الدستور الجديد والتوجه إلى صندوق الاقتراع مجددا، وساعتها فليتنافس المتنافسون.

الإقالة القسرية و"الكاستينغ" الوزاري

"الإقالة القسرية" التي اُجبر عليها السيد حمادي الجبالي رئيس الحكومة المؤقتة، من طرف حزبه بعد عملية ربح الوقت وإثارة بعض المسائل الهامشية في مرحلة أولى دامت أكثر من سبعة أشهر، ثم بعد عملية لي الذراع التي استمات فيها حزب الجبالي ذاته خاصة بعد اغتيال الشهيد الوطني شكري بالعيد يوم 6 فيفري، هذه "الإقالة" كانت منتظرة، وكانت كل المؤشرات تدفع نحو هذا المأزق الذي دُفع إليه الشعب التونسي دفعا... واعتقد أن من أهم أسباب "توريط" الشعب التونسي في هذا المأزق، هو إصرار الترويكا على ضرب السلطة الأصلية ممثلة في المجلس الوطني التأسيسي من جهة، ومن جهة ثانية الإصرار المستميت على تقديم "جيش" الوزراء والمستشارين وكتاب الدولة... سلطة شرعية وحكومة دائمة ضاربين بذلك مفهوم "حكومة تصريف الأعمال" ولم يكن رئيس الحكومة المؤقتة بمنأى عن هذا الخلط المتعمد للأدوار... فهو المسؤول الأول عما تردت إليه تشكيلته الوزارية... قد يكون بصيص الأمل في وفاق محتمل، السبب المباشر في تأخير الإعلان عن هذه الإقالة القسرية، ولكن الثابت أن "هاجس" تقدير موازين القوى السياسية والحزبية بين من في الحكومة ومن خارجها هو السبب الحقيقي الذي حرك كل التفاصيل الحافة بعملية التحوير الوزاري...بدءا ثم تشكيل حكومة جديدة منتهى... ولعل الاستعراضات الشعبوية التي أتاها "سدنة" الشرعية في الشوارع وفي المنابر الإعلامية خير دليل على الاستهتار التام بمستقبل الدولة التونسية وعلى استبطان مفهوم الدولة/الحزب... ولعل خير دليل على استبطان الاستبداد إصرار الفريق الحكومي على نجاح دوره رغم الإقرار الواضح بالفشل من قبل رئيس الحكومة المؤقتة... حتى أن وزير الخارجية مازال يلوك "حكمته" القائلة "نحن أفضل حكومة في تاريخ تونس"؟ وفي انتظار تكوين حكومة مؤقتة جديدة والتي لن تخرج عن المحاصصة الحزبية وان تغلفت بغلاف تقني وإداري، فإن "الكاستينغ" الوزاري المرتقب سيكون على أشده خاصة بعد أن "توضحت" نوعا ما مسافات الابتعاد والاقتراب لدى الأحزاب المتهافتة أو المتوجسة من حزب "مونبليزير"... هذا الحزب الذي تمكن من دواليب الدولة وانتشر في مفاصلها بما يضمن له إعادة تكرير الحزب الواحد الأوحد... ولن يكون مدخله غير مدخل الحزب السابق... متراك البوليس ومصادح التطبيل والتهليل... وملامح الحكومة المرتقبة تظهر للعيان من خلال السرعة القصوى المُعلن عنه من "مونبليزير" مما يعني أنها جاهزة منذ مدة، وجهازيتها لن تمنع تأخرها عن العمل فالاقتراحات ستكون عديدة والنقاشات ستطول أما الطعونات فستكون محتدمة وعلى أشدها خاصة أن الأسماء المرشحة من مونبليزير تثير أكثر من نقطة استفهام، فعلي العريض شهدت فترته اغتيال الشهيد الوطني شكري بالعيد وانخراما امنيا لا مثيل له، أما محمد بن سالم فهو من الوزراء الذين لم يعلنوا عن ممتلكاتهم إلى حد الآن فضلا عن سمة التوتر الغالبة على سلوكاته ومواقفه، ولا ننسى موقفه الغريب المستهجن من الزيادة في أجور الشغالين لتغطية جزءا من تدهور قدرتهم الشرائية، في حين يبقى عبد اللطيف المكي "أخطر" المرشحين لمَ عرف عنه من تشبث حزبي شديد وهو ما يتنافى مع مقتضيات منصب رئيس حكومة ولا يمكن تجاهل وهو الذي كان يرفع شعار فصل الحزب عن الدولة زمن تعليمه الجامعي. المؤلم في كل السيناريوهات المرتقبة، والتي لن تختلف عن سابقاتها، هو تضاعف حجم "الإهانة" التي تلحق بالشعب التونسي وبالدماء التي لا نخالها زورقا آمنا لعبور زمن طويل من "الحقرة"... وللابتعاد عن الإفراط في التشاؤم، سنبحث عن بعض العزاء في "تفاؤل مؤقت" نُسند به "بقايا" حلم الانتقال الديمقراطي، حينما "نصدق" أن الفريق الحكومي القادم "سيلتزم" بمبدأ تصريف الأعمال الحكومية إلى حدود إجراء الانتخابات القادمة... وحينما "نُصدق" انصراف أعضاء المجلس الوطني التأسيسي إلى إنهاء صياغة الدستور، وحينما "نُصدق" السعي الجدي إلى تركيز الهيئة المستقلة للقضاء والهيئة العليا المستقلة للإعلام والهيئة العليا المستقلة للانتخابات ومراجعة ضبابية المعايير المعتمدة في تعيين أعضائها. وقد يتعزز منسوب التفاؤل حينما يتم الرجوع عن التعيينات الحزبية التي فاقت 1200 في كل الإدارات وبخاصة في سلك الولاة والمعتمدين والمديرين العامين للمؤسسات الوطنية، وعندما يتم الإعلان عن حل كل اللجان والميليشيات والرابطات والمجموعات البربرية المنظمة للعنف. وقبل هذا وذاك كشف حقيقة اغتيال الشهيد الوطني شكري بالعيد لأنه المفتاح الحقيقي لمعرفة اتجاه مستقبل تونس.

2013/02/14

من سياسة التعليمات الى الامن الجمهوري: المؤسسة الأمنية في مفترق الطرق

ناجي الخشناوي تقف اليوم المؤسسة الأمنية التونسية في مفترق طرق حاد، وما من خيار أمام أعوانها وموظفيها وهياكلها سوى المضي قدما نحو تأسيس أمن جمهوري يكون منسجما مع روح الثورة التونسية ويتخلص تدريجيا من إرث سياسي جعل هذه المؤسسة أداة قمع وردع دون سواهما، مما عمق هوة التجافي بين المواطن ورجل الأمن وجعل العلاقة بينهما علاقة تصادم لا تواصل، ورغم إصرار جزء كبير من منظوريها على تحييد مؤسستهم وجعل الأمن التونسي جمهوريا، فإن عديد المعوقات والعراقيل تحول دون هذا الهدف. يد القمع في المهد اتسمت العلاقة بين المؤسسة الأمنية والمواطنين في بدايات الحكم البورقيبي، منذ أن تم بعث قوات الأمن الداخلي يوم 18 أفريل 1956 بما يمكن تسميته "بالشراكة" باعتبار أن تلك الفترة كانت فترة بناء الدولة الحديثة، ولئن آمن بورقيبة بالديمقراطية فكرا، فإنه فشل في تطبيقها على أرض الواقع، فشرع في تطويع المؤسسة الأمنية وتحويلها تدريجيا إلى أداة للقمع والردع يستعملها ضد خصومه السياسيين والنقابيين والطلبة إلى أن طالت يد القمع كل فئات الشعب التونسي خاصة في بعض الأحداث المفصلية مثل 26 جانفي 78 وأحداث الخبز سنة 1984... تخمة القمع والجدار العازل مع انقلاب السابع من نوفمبر، لم تكن المؤسسة الأمنية بمنأى عن طبيعة المسار الانقلابي لبن علي، حيث كان لها الدور الرئيسي في الفترة الممتدة من 87 إلى 90، أو ما سمي آنذاك، فترة الوفاق الوطني، لتنغمس بعد ذلك المؤسسة في سياسة القمع الممنهج من خلال الملاحقات والمداهمات والاعتقالات والتنكيل بمختلف أطياف المعارضة من اليساريين والإسلاميين والنقابيين والطلبة، وكان بن علي يضرب بيد من حديد بواسطة وزارة الداخلية التي كانت قائمة على ما يسمى "منظومة التعليمات" فساهمت في إرساء ديكتاتورية مكّنت السّلطة الأمنيّة من التّسلّط عبر منح رجال الأمن حصانة تفلتهم من العقاب إن خالفوا القانون، ليرتفع بذلك جدار "عازل" بين رجل الأمن من جهة والمواطن من جهة ثانية، وتنحصر علاقتهما بين الإذلال والابتزاز والتسلط والترهيب من جهة رجل الأمن، والحقد والكره والخوف و"الاهانة" من جهة المواطن، ولم يشترك الأمن والمواطن سوى في الفقر والتهميش والحرمان، وربما لذلك كانت المواجهات على أشدها بينهما خاصة في انتفاضة الحوض المنجمي وما تلاها من انتفاضات جهوية ومحلية إلى أن بلغنا يوم 14 جانفي... الجسر الهش... رغم أن جزءا كبيرا من المؤسسة الأمنية لعب دورا رئيسيا لإجهاض وإفشال ثورة التونسيين تنفيذا للتعليمات أو حفاظا على وهم "هيبتهم التسلطية"، فان الجزء الأكبر والاهم انحاز إلى مطالب الشعب، وإن بنوع من التردد والخوف، وساهم من موقعه في إنجاح الثورة التونسية مما خلق جسرا جديدا بين رجل الأمن والمواطن، ولئن كان هذا الجسر هشا بسب "العداء" التاريخي المفرط بين "الشقين" فإن الخطوات الأولى التي تدفع نحو تصليب وتمتين العلاقة بين الأمن والمواطن، هي الأخرى لم تكن بمعزل عن محاولات الإفشال والإرباك والوأد قبل الولادة. الخطوات الأولى... مثلما منحت الثورة التونسية هامشا كبيرا للمواطن في التحرر خاصة على مستوى حرية التعبير وإبداء الرأي والتنظم، فقد منحت الثورة جزءا كبيرا من أعوان الأمن الجرأة والشجاعة لتمزيق جبة الاستبداد والقمع للنأي بمؤسستهم عن التجاذبات السياسية والحزبية وتحقيق ما حرموا منه طيلة عقود من الزمن خاصة على المستويين المادي والتشريعي، فتأسست النقابة الوطنية لقوٌات الأمن الداخلي يوم 3 جوان 2011 ثم تلاها تأسيس الاتحاد الوطني لنقابات الأمن التونسي ليتحدا في مرحلة لاحقة صلب هيكل نقابي واحد هو "نقابة الأمن الجمهوري" التي تأتي تركيزا لمفهوم الأمن الجمهوري وبناء مؤسسة أمنية تنأى بنفسها عن كل التجاذبات السياسية شعارها الولاء للعلم فقط. وكان يوم 19 نوفمبر 2012 يوما تاريخيا بالنسبة للأمنيين عندما كانت لهم جلسة استماع أمام نواب المجلس الوطني التأسيسي من أجل دسترة المؤسسة الأمنية والتنصيص على حيادية المؤسسة الأمنية في باب المبادئ العامة للدستور الجديد... غير أن الجلسة رُفعت والمسودة الأولى والثانية للدستور لم تتضمن هذا المطلب المصيري... ولذلك كان اجتماع الأمنيين نوعيا يوم 26 جانفي 2013 بقصر المؤتمرات بتونس العاصمة... من حيث العدد (أكثر من 5000 مشارك)، ومن حيث الرسائل الموجهة إلى سلطة الإشراف والى كافة مكونات المجتمع المدني والسياسي، وقد اعتبر الأمنيون أن اجتماعهم آنذاك اجتماع التحدي لكل من تسول له نفسه المس من العمل النقابي لقوات الأمن. وقد شبه الأمنيون أنفسهم بالماء لا لون ولا طعم ولا رائحة لهم ولكنهم ضرورة لهذه البلاد. رفض نقابة الأمن... عادة ما يكون العمل النقابي محل رفض قطعي من قبل "الأعراف"، باعتبار أن النقابة، في نظرهم، ستضر بمصالحهم وقد تضرب نفوذهم وسيطرتهم، وهو ما يحصل مع النقابات الناشئة بعد الثورة صلب المؤسسة الأمنية، حيث تم التشكيك في "نزاهة" هذه الهياكل النقابية باعتبارها وليدة فترة حكم الباجي قائد السبسي، وبعد اتهامها بتسييس المطالب المهنية، وحصر مطالبها في إقالة السيد علي العريض وزير الداخلية وهو ما صرح به عبد الفتاح مورو عن حركة النهضة، كما اعتبر لطفي زيتون أن النقابة انحراف عن العمل الأمني معتبرا انه ليس من حق الامنيين بعث نقابة خاصة بهم، غير أن وزير الإشراف السيد علي العريض، يفاجئ منظوريه والشعب التونسي برمته عندما خرج على الموقع الاجتماعي الفايسبوك وقال في شريط فيديو مسجل نشرته وزارة الداخلية على صفحتها الرسمية "خرجت مجموعة وبدأت توتر الوضع وتضرب مصداقية الأمن وتمس بسمعة الأمن وناموسه". وأضاف أن "بعض النقابات لها حسابات حزبية وسياسية وأقامت علاقات مع أحزاب سياسية وأطراف أجنبية" متهماً إياها بـ"خدمة أجندات ليس لها أي صلة بالأمن". وفي نفس السياق اتهم داعية سلفي محسوب على حزب "النهضة" نقابات الأمن بـاقتراف جريمة ما أسماه "الخيانة العظمى".، كما تمت قرصنة الموقع الرسمي للاتحاد الوطني لنقابات الأمن التونسي على الانترنت... إرباك الأمن من غياب الإرادة السياسية... عُرفت المؤسسة الأمنية منذ عقود بصرامتها في إماطة اللثام في جل القضايا والجرائم، ورغم حالات الانفلات التي عاشتها البلاد في أكثر من فترة إلا أن هذه المؤسسة حافظت على الأمن والاستقرار العامين للمواطنين وللمنشآت والمؤسسات في البلاد، وقد يعود هذا الجهد إلى قدرة هذه المؤسسة على استيعاب مهمتها الحقيقية، غير أن عديد الحوادث التي هزت البلاد خاصة في الفترة الأخيرة، والتي "فشلت" فيها أجهزة الأمن في لعب دورها المعتاد، يطرح أكثر من سؤال حول ما يمكن تسميته "الاختراق" السياسي للجهاز الأمني، ومحاولة إضعافه وتركيعه، ولعل حادثة الهجوم على السفارة الأمريكية خير دليل على حالة الارتباك في التصدي للمجموعات التي هاجمت مقر السفارة وهو ارتباك يعود أساسا إلى تداخل "التعليمات" والقرارات بشان الحسم في حماية السفارة، ويعود أيضا إلى ما أشار إليه عدة نواب في المجلس الوطني التأسيسي حول تعيين كوادر أمنية وفقا للولاءات الحزبية لا للكفاءات المهنية. ويتجلى "تسييس" المؤسسة الأمنية بشكل واضح في التعامل "السلس" مع السلفيين الجهاديين الذين استعملوا السلاح سواء في القصرين أو في جندوبة أو في بئر علي بن خليفة... كما أن دور رجال الأمن في حماية الاجتماعات الحزبية باتت تطرح أكثر من سؤال، فأغلب تحركات المعارضة تشهد أعمال عنف وشغب لمجموعات منحرفة ولم تسلم المقرات الأمنية وأجهزتهم من الاعتداءات الممنهجة في كل مرة، في حين لم تشهد تحركات أحزاب الترويكا الثلاثة أية حادثة تقريبا. كما أن تكرر الاعتداء على زوايا الأولياء الصالحين والتي فاقت الأربعين اعتداء لم يتم العثور إلى حد الآن على الجناة أو مقترفي هذه الفعلة الشنيعة... إلى جانب الاعتداءات المتكررة على الإعلاميين وهي كلها موثقة بالصورة والصوت... وطبعا الاعتداء الممنهج والهمجي على مقر الاتحاد العام التونسي للشغل يوم الاحتفال بذكرى الشهيد الوطني فرحات حشاد... وظلت وحدها مونبليزير المنطقة الآمنة من كل اعتداء... "الأمن الموازي"... نقلت عدة تقارير صحفية بالصورة والصوت، وجود مجموعات غير أمنية في أكثر من جهة من جهات البلاد تقوم مقام الأمنيين ولهم "قادة" يرجعون إليهم في "مهماتهم" التي تنازع وزارة الداخلية في صلاحياتها الأساسية وهي إحلال الأمن بين المواطنين وحماية الممتلكات العامة والخاصة، وقد سبق أن شاهدنا في بعض القنوات التلفزية وجود عدد من "المليشيات" التي رافقت رجال الأمن خاصة في أحداث 9 أفريل وهي الأحداث التي مازالت قيد البحث... إلى جانب ما بات يُعرف بالشرطة الدينية، وهي التي تجد لها سندا ومرجعا في خطب الأيمة والدعاة المتشددين، إلى جانب الدور المشبوه لمَ يسمى رابطات حماية الثورة، والتي تجد كل الحماية من طرف الأحزاب الحاكمة ومن رئاسة الجمهورية... هذا فضلا عن المجموعات التي تتدرب على فنون القتال في الجبال وعلى الحدود، وكل هذه المظاهر لم تجد من وزارة الداخلية سوى بيانات التكذيب والتصريحات المتشابهة حول عدم وجود مثل هذه المجموعات وان وجدت فان تحقيقا سيُفتح في شانها، والى الآن لم نسمع بنتيجة تحقيق واحد في هذا السياق... كما أن بعض المصادر تشير إلى أن "أنصار الشريعة" لها 213 جمعية خيرية موزعة على كل ولايات الجمهورية تقدر نسبة تعاملاتها المالية 3مليارات و826 مليون دينار... وأن حركة النهضة لها189 جمعية خيرية واجتماعية تقدر معاملاتها المالية ب4.2 مليار من المليمات... ولحزب التحرير87 جمعية خيرية وطبية تقدر معاملاتها المالية ب1.9مليار من المليمات، وتنتشر هاته الجمعيات في الأماكن الأكثر فقرا والأكثر تهميشا وتستحوذ على الأسواق الأسبوعية بنسبة 69 في المائة وإعطاء مساعدات مالية للعديد من المفقرين لإقامة أماكن لبيع الخضر والغلال وغيرها. اغتيال شكري بالعيد المنعرج... قد يكون يوم 6 فيفري 2013 تاريخا فاصلا بين ما قبله وما بعده، باعتبار أن اغتيال المناضل الوطني شكري بالعيد أمين عام حركة الوطنيين الديمقراطيين هي حادثة سياسية بالأساس أكدت أن الانفراد بالحكم والتأسيس للدكتاتورية من جديد هي السمة الأكثر وضوحا منذ انتخابات 23 أكتوبر، وهي أيضا الحادثة التي قوضت ما تبقى من ثقة أغلبية التونسيين خاصة في وزارتي الداخلية والعدل، فالأولى أصابها الارتباك في أداء مهمتها والثانية جعلت من التساهل والتباطؤ سمة مهمتها، ويبدو أن تسارع الأحداث والمستجدات منذ اغتيال الشهيد شكري بالعيد تؤكد أن هاتين الوزارتين هما بصدد "الانحدار" لصالح الحزب الحاكم خاصة بعد الاستدعاء السريع للصحفي زياد الهاني اثر تصريحه التلفزي بتورط بعض كوادر وزارة الداخلية في تدبير عملية اغتيال الشهيد شكري بالعيد إلى جانب عدد آخر من الإعلاميين والسياسيين... غير أن اغتيال الشهيد شكري بالعيد فتح الباب على مصراعيه للضاربين عرض الحائط بمقومات الدولة المدنية التونسية ومنها أساسا الأمن الجمهوري، حيث تتالت رسائل التهديد بالقتل لتضم الأخ حسين العباسي الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل وعددا من الصحافيين وعددا اكبر من السياسيين، وحلقة التهديد تبلغ مداها بسبب الإصرار على "تسييس" وزارة الداخلية ووزارة العدل وتحويلهما مجددا إلى أداة من حديد لضرب كل من يخالف الرأي للترويكا وتحديدا لحزب حركة النهضة. وربما دعوة أحد المسؤولين النقابيين بالاتحاد الوطني لنقابات الأمن التونسي، بالكف عما أسماه "المتاجرة" بدم الشهيد لطفي الزار، عون الأمن الذي مات أثناء الأحداث المتصلة باغتيال الشهيد شكري بالعيد، لعلها خير دليل على محاولات تسييس المؤسسة الأمنية، خاصة أن ما يلقاه الشهيد لطفي الزار اليوم لم يحظ به عدد من رجال الأمن الذين استشهدوا سابقا خاصة في مواجهاتهم مع السلفيين. رسالة الاغتيال... الرصاصات الغادرة والآثمة التي طالت جسد الشهيد شكري بالعيد، هي الرصاصات التي تم إطلاقها بشكل مكثف منذ الإعلان عن نتائج انتخابات 23 أكتوبر، وهي رصاصات إسكات كل الأصوات المنادية بالحرية وبالديمقراطية ومنها الصوت الأكثر ارتفاعا، صوت فقيد الحرية شكري بالعيد، وهذه السياسية هي استنساخ مشوه وقذر لمَ حصل في الجزائر سنوات الجمر عندما تم تخيير السياسيين والإعلاميين والمفكرين والمبدعين والحقوقيين بين الصمت أو الاغتيال، ولئن وجدت الأطراف الملتفة على أهداف الثورة إصرارا كبيرا من الطبقة السياسية ومن شق كبير من الإعلاميين ومن الحقوقيين والنقابيين، وعدد لا بأس به من المثقفين، رفضا للمشروع الاستبدادي الجديد، فان "الأمل" في تركيع كل مخالف للرأي وكل خارج عن السرب مازال قائما وساري المفعول حتى بعد إهدار دم شكري بالعيد، وهذا "الأمل" يستمد "قوته" من الشق الأمني الذي اختار مواصلة العمل بالتعليمات ولم يتنازل بعد عن جبة القمع والتسلط... ولعل في تصريح رئيس الحكومة السيد حمادي الجبالي لصحيفة "لوموند" الفرنسية الذي قال فيه:"هنالك جهاز كامل وراء عملية اغتيال شكري بالعيد وهذا الجهاز له استراتيجية. هذا حقا اغتيال سياسي، انتظروا حقائق خطيرة جداً" لعل في هذا التصريح الكثير من الدلالات والمعاني... مقومات الأمن الجمهوري • ضرورة التخلي عن القانون الأساسي الحالي الذي حكم به بن علي ودجن السلطة الأمنية من إطارات وقياديين وأعوان أمنيين. • على السلطة السياسية الحالية التفاعل إيجابيا مع مطالب الهياكل النقابية المنتخبة باعتبارها مكسبا "ثوريا" للأسرة الأمنية وضمانا للأمن الجمهوري وحماية لقوات الأمن التونسي. • العمل مع نقابات الأمن التونسي لضمان عملية إصلاح ناجعة وفعالة حماية لحقوق المواطنين والأمنيين على حد السواء. • الكف عن ممارسة الضغط وسياسة الترهيب الممنهجة عن طريق النقل التعسفية والإيقاف عن العمل لعدة شهور.... معوقات تأسيس امن جمهوري • وجود ما يُقارب 1200 نص قانوني غير معلن لأهل الاختصاص ثلاثة أرباع هذه النصوص تعنى بالجانب الردعي في حين أن 0,04 من هذه النصوص تعنى بالجانب الصحي والاجتماعي. • وقعت وزارة الدّاخليّة اتّفاقيّة تعاون مع مركز جنيف للمراقبة الدّيمقراطية للقوّات المسلّحة، تنصّ على مساعدة المركز لوزارة الدّاخليّة على إصلاح المنظومة الأمنيّة، غير أن هذه الاتفاقية لا تزال ، حسب عديد الملاحظين، مجرّد حبر على ورق. • الاحتفاظ بعدد هام من رموز النّظام الأمني السّابق ببعض مواقعهم في الدّاخلية، وعدم تغيّر العقليّة الأمنيّة، وهي المهمة الأكثر عسرا باعتبارها تتطلب مدة من الزمن طويلة. • استمرار "منظومة التّعليمات" رغم تعهّد وزير الدّاخليّة علي لعريض، في خطابه بمناسبة حفل اختتام السّنة التكوينيّة لمُختلف المدارس الأمنيّة لسنة 2011-2012، بالشروع في إصلاح المنظومة الأمنيّة. • استمرار العمل بالقانون عدد 70 لسنة 1982 المؤرخ في 6 أوت 1982 والذي يتعلق بضبط القانون الأساسي العام لقوات الأمن الداخلي الذي ينص على أن أعوان الأمن ملزمون بتطبيق تعليمات رئيس الجمهورية. • استمرار العمل بالقانون عدد 4 لسنة 1969 الذي ينصص على تحديد المسؤولية الجزائية لمن يستعمل الذخيرة الحية. • هشاشة القوانين التي تحمي رجل الأمن عند أداء مهامه ومنها منحة الخطر المرصودة لهم التي لا تتجاوز 20 دينارا في الشهر. • غياب قانون حول حوادث الشغل والسلامة المهنية خاص بالأمن بمختلف أسلاكه. • تدخل وزير الداخلية في العمل الميداني في حين أن دوره الرقابة ووضع البرامج السياسية. • تأخر المراجعة العميقة للقوانين التي تخص الانتداب والتكوين والترقيات والمنح ومراجعة نظام النقل باعتبار اغلبها "تعسفية" وتؤثر على استقرار ووحدة عائلة الأمني. • غياب قانون ينظم العقوبات للأمنيين على غرار مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية.

من ضيق الحكومة إلى أفق الحَوكَمَة

غلبت السمة الميكيافلية على المشهد السياسي منذ انتخابات 23 أكتوبر 2011، وانتفت كل القواعد الأخلاقية الممكنة بين الفرقاء السياسيين، مما جعل باب الصراع مفتوحا بشكل معلن بين الأطراف الحكومية من جهة والأطراف المعارضة من جهة ثانية، وبشكل خفي فيما بين أحزاب الترويكا نفسها، فتدحرجت استحقاقات الثورة التونسية من حرية وكرامة وعدالة اجتماعية إلى أسفل سلم الأولويات، وظلت الغايات السياسية طافحة على سطح المشهد، حتى كان اغتيال الشهيد المناضل شكري بالعيد صبيحة 6 فيفري 2013 المنعرج الحاسم ـ إلى حد ما ـ للقطع مع الميكيافيلية المقيتة والتوجه نحو رؤية سياسية تقترب أكثر من المطالب الشعبية وتنأى عن الطموحات الحزبية... وتنتقل من الحكومة الضيقة إلى الحكم الواسع...لاستعادة الثقة الشعبية... ولئن وجدت "مبادرة" رئيس الحكومة المؤقتة، السيد حمادي الجبالي بتشكيل حكومة تكنوقراط (وهو مفهوم يعود إلى المفكر الاشتراكي الفرنسي سان سيمون الذي تنبأ بقيام مجتمع يحكمه العلماء والمهندسون) لئن وجدت الصدى الطيب والحسن لدى اغلب مكونات المجتمعين السياسي والمدني إضافة إلى القاعدة الشعبية العريضة التي ساندت مبادرة تشكيل حكومة كفاءات وطنية، وبغض النظر عن الموقف المتردد لحزب رئيس الحكومة، فإن تأمين نجاح هذه الحكومة في مهمتها الأساسية المتمثلة في تصريف شؤون البلاد إلى حدود إجراء الانتخابات المقبلة، مرهون بالأساس بجملة من التوصيات التوافقية التي وردت في جواب كل من الاتحاد العام التونسي للشغل والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والهيئة الوطنية للمحامين بتونس، على مراسلة السيد حمادي الجبالي رئيس الحكومة المؤقت حول تشكيل حكومة الكفاءات الوطنية، وهذه النقاط تتمثل في: ـ حكومة محدودة العدد لا يتحمل أعضاؤها مسؤوليات حزبية ولا يترشحون للانتخابات القادمة رئاسية كانت أم تشريعية، وان يكون لأعضائها الصلاحيات الكافية وقوة المبادرة. ـ الرجوع عن التعيينات الحزبية التي فاقت 1200 وتشكيل لجنة عليا للتشاور حول التعيينات الجديدة وفق مقاييس موضوعية. ـ حل كل اللجان والميليشيات والرابطات والمجموعات المنظمة التي تنشر ثقافة الكراهية والضغينة والعنف تجسيدا لمبدأ احتكار الدولة وحدها مسؤولية الأمن وحماية الحريات العامة والخاصة. ـ الإسراع بكشف حقيقة كل أحداث العنف وحقيقة اغتيال الشهيد الوطني شكري بالعيد وتقديم الجناة ومن يقف وراءهم إلى العدالة. ـ تحييد المساجد والنأي بها عن الصراعات السياسية والحزبية ومحاسبة كل الداعين للتكفير والتحريض على العنف. ـ التعجيل بتركيز الهيئة المستقلة للقضاء والهيئة العليا المستقلة للإعلام والهيئة العليا المستقلة للانتخابات ومراجعة ضبابية المعايير المعتمدة في تعيين أعضائها وتعيين سقف زمني محدد للانتخابات. ـ تفعيل ما تم الاتفاق بشأنه في العقد الاجتماعي الممضى بين الأطراف الاجتماعية ومعالجة الوضع الاجتماعي المتردي. والى جانب هذه النقاط، يجب، من باب الوفاء لروح الشهيد الوطني شكري بالعيد، عقد مؤتمر وطني ضد العنف بكل أشكاله وخاصة منه العنف السياسي والاغتيالات. إن التوافق حول هذه النقاط من شأنه، أولا أن يحسم الجدل الدائر حول طبيعة الحكومة القادمة، أهي سياسية أم تقنية، وثانيا من شأنها أن تعيد الطمأنينة والثقة لنفوس التونسيين وتعزز وحدتهم ضد كل محاولات الزج بالبلاد في أتون المجهول، وثالثا من شأن هذه النقاط أن تضفي مزيدا من الوضوح لدى المواطن حول القوى السياسية الداعمة للدولة المدنية وللانتقال الديمقراطي السلس، وللقوى المصرة على إرباك هذا المسار. كل هذه النقاط وغيرها يمكن أن يتوافق حولها جميع الفرقاء السياسيين والفاعلين المدنيين في إطار مؤتمر الحوار الوطني الذي دعا إليه الاتحاد العام التونسي للشغل ليستكمل مهامه عبر اللجان التي تمّ انتخابها ،والباب مفتوح للذين تخلفوا... ناجي الخشناوي

حيّاك بابا حيّاك... ألف رحمه على بيّاك

ناجي الخشناوي ‎"اقتل شكري، اقتل جابر، عذب جندي، اسحل صابر، املا الأرض كلاب وعساكر، كل ما تدبح هي بتطرح، بدل الثائر مليون ثائر" (أحمد فؤاد نجم) "أيها المحتفلون بسفك دمي توغلوا في الاحتفال فأنا الباقي وانتم إلى زوال" (سليم دولة) كيف ألف لحم الكلام بقطن الحروف دون أن أجرح المعنى؟ وكيف أصير أزيز القلم على الورقة موسيقى أعلى من صوت الرصاص في الجسد؟ وكيف أثق بعطر الورد فوق قبرك حارسا أمينا على هدايا لم توصلها إلى نيروز وندى؟ وقُبلات نسيت أن ترسمها على خد بسمة... بسمة الرفيقة والحبيبة... وأنت تنام الآن داخل حلمهم المشتهى، وتقض مضجعنا بكابوس ابتساماتك تنثرها حيث وليت وجهك لتذكرنا بأن الموت لا شيء يهينه سوى الغدر، فتلك هي الاستعارة الأكثر إيقاعا من كل الأصوات الأخرى، وتلك هي اللوحة التي تمنيت أن ترسمها وتتوسدها شاهدة قبر... أيها العيد المتسربل بالفرح والأمل والعشق، المتوغل في داخلنا بكل وثوق... وأنت تقرع الأجراس من تحت الاسمنت وتدق نواقيس الوطن من قبرك الواسع... الواسع جدا... تجعل من خطى قاتلك مرتبكة... لغته متلعثمة... و"حياته" ميتة... جاءتك الحياة برمتها وبالمثل جاءتك الموت، على طبق من فضة وذهب وزمرد، وتركت لهم الفتات ممرغا بالأحذية المتعفرة بالدم... غمرتك المدائح والقصائد والمجازات والاستعارات... وتركت لهم كل اللغة الميتة من الشرعية إلى الترويكا... وتركتهم يتخبطون تحت جبة قطر وخلف شاشة الجزيرة... حملت معك شعبا بأكمله، وتركت لهم المصادح وخشب الاستوديوهات والمراسم الباهتة والقاعات الشرفية وأروقة المؤامرات والحراسة المشددة... واللوز الكاذب... وأكياسا من الحسد والحقد... ابتعدت عنهم واقتربت منا أكثر، وتركت لهم كل تأويلات اللغة فلم يمسكوا بناصيتها واختلفوا في شهادتك، وأربَكتَ لسانهم وحبرهم فعدوك "معصوم الدم"... وكعادتهم وقعوا في فخاخ اللغة... وكما الحياة تأتي دفعة واحدة بمباهجها، أتتك الموت دفعة واحدة، ولم تقبلها، كعادتك، مجزئة، فسحبت فوق قبرك بساطا ملكيا من النجوم لتؤنس نومتك الأبدية، ومن ضوئها تسمع نشيدنا العالي... هل تسمع نشيدنا العالي يا شكري... نشيدك... خطنا المرسوم بين النهاية والبداية... ودربتنا اليومية على الضوء... الحفر في الرخام... ومعرفة كيف نموت... ولا نموت... أيها النائم تحت بستان أندلسي... أيها المحروس بحبات المطر... أيها الرائي الذي لا نراه، حملت معك كل ما ملكت: زغاريد النساء اللواتي عرفتَ وما عرفتَ... هتاف الرفاق وعزم الأصدقاء... تحية العلم الوطني والصمت الصاخب للجيش الوطني... والموت العابر في مقبرة آهلة بالأوفياء... من اشتقاقات اللون، ومن رائحة المطر، ومن زغاريد شقيقات الريح... صنعت جنازة باذخة، تليق بهامتك وأنت تودع وطنا وتهبنا آخر... في بلاد أضيق من الحب، أطلقت لغتك وسرحت خطواتك وسكبت أحلامك، وكنت صاخبا مثل الثورات... والثورات لا تنتصر إلا في حضرة ثائر صاخب... أراك يا شكري في نومتك شامخا وأرى خطواتهم متسربلة بالذل والمهانة... أراك تدعك الحروف والنقاط لتنضج المعنى على أفواهنا وأراهم يتهجون تشقق المرآة في مناظرهم.... أيها الكائن الذي صافحني أسبوعا واحدا قبل أن يرحل وأجج الأمل في قلمي وحبري... ها أنا اليوم أقف على "جنتك" وأركضُ كفرس شاردة في لغتك وابتسامتك وتحديك... وأعرف أننا نحن نحن... وهم هم... مثلما أنت أنت... لأن كلماتك كانت أقوى من الرصاصة، ظلت الأيادي المرتعشة تنتظر الإشارة لتضغط على الزناد وتطلق رصاصات حية على رأسك الذي به تفكر وقلبك الذي به تحب... لأن طينتك من طينة المناضلين الأشاوس، لم تهرب على متن طائرة ملكية، وظللت هنا بين الرفاق والمفقرين شوكة في حلق النظام... نظام المخلوع... ونظام الشيخ... لأن اسمك كان شكري بالعيد المناضل ولأن اسمك ظل شكري بالعيد المناضل والشهيد ستظل رفيقا للفقر والفرعنة وسيظل لأعدائك دين الردة والظلام... مثلما كتبت لرفيقك حسين مروة ذات قصيد:"لأعدائنا دينهم... ولنا الفقر والفرعنة"... فحياك بابا حياك... ألف رحمة على بياك...

2013/02/03

سخاء صندوق النقد الدولي والهرولة نحو التداين المفرط

غادر تونس منذ يومين وفد رفيع المستوى عن صندوق النقد الدولي الذي دامت زيارته أسبوعين بعد أن كانت له جلسات تفاوضية مع الحكومة أفضت إلى منح تونس قرضا مغريا يتجاوز حصتنا من هذا الصندوق تبلغ 500 مليون دولار، وهو أيضا المبلغ الذي قال عنه وزير المالية أن ميزانية 2013 مازالت بحاجة له. القرض يندرج فيما تسميه الحكومة مسايرة نسق الشغل والاستثمار والانتقال إلى مستوى أعلى من نسبة النمو الذي يتطلب إصلاحات هيكلية على المدى المتوسط والبعيد حتى يرتقي جهاز الإنتاج إلى معدلات نمو أرقى لاستقطاب اليد العاملة، وتفرضه ـ حسب الحكومة ـ ميزانية الدولة المرهقة بالأجور والتحويلات الاجتماعية والدعم. وككل القروض، يفرض هذا القرض الجديد شروطه التي ستضمن سداده، ومنها الترفيع في أسعار المحروقات، وتسهيل جلب الاستثمارات وتخفيف الضغوطات على رجال الأعمال وإعادة هيكلة بعض القطاعات ومراجعة المنظومة التربوية وربما الضغط على أجور العمال والموظفين... يأتي هذا القرض في الوقت الذي بلغت فيه نسبة الغلاء العامة في المواد الغذائية والاستهلاكية سنة 2012 ما يناهز 6.7 بالمائة وهي التي لم تتجاوز 2.3 بالمائة سنة 2011. ومعلوم أن سياسة التداين الخارجي في تونس أصبحت تدريجيا المصدر الأساسي لتمويل الميزانية خاصة منذ السبعينات مما قاد البلاد إلى حافة الإفلاس سنة 1985 . ولئن لم يتجاوز حجم القروض الخارجية 5700 مليون دولار على امتداد الحقبة البورقيبية حتى سنة 1987 فقد تضاعف بحوالي خمس مرات في عهد بن علي ليصل إلى 25 ألف مليون دولا بنسب فائدة عالية تصل إلى حد 8 بالمائة مع شروط مجحفة مست من استقلالية القرار الوطني والسيطرة المطلقة على الاقتصاد التونسي، لتكون تونس، بهذا التمشي، خير مثال على مقولة "الجوع والمديونية سلاحان يستعملهما أسياد العالم لإخضاع شعوب العالم واستغلال ثرواتها"، و"تساهم" تونس في إنقاذ البنوك المفلسة وتحويل أزمتها إلى أزمة الشعوب. ورغم أن الشعب التونسي ثار أساسا على الوضع الاقتصادي والاجتماعي، واسقط نظاما خنق حياته بالديون، وكان أمله في حكومة ما بعد الثورة كبيرا لتغيير نظام التجويع والارتهان الخارجي، ها هو يجد نفسه مكبلا بنفس النظام ومحاصرا بذات الديون التي تفاقمت، حسب الخبراء والمهتمين بالشأن الاقتصادي، وتجاوزت نسبة 100% . يبدو أن سياسة الدوائر المالية العالمية لم تتغير إذ لم تستمع لاستحقاقات الثورات وخاصة في بعدها الاجتماعي ، كما لم تتعلم حكومتنا ضرورة كبح سياسة التداين وخاصة منها التي تتوجه إلى الاستهلاك لا إلى الاستثمار. كما أن ما يحير فعلا، أمام "هرولة" الحكومة الحالية نحو التداين المفرط ورهن الأجيال القادمة من الشعب التونسي بتسديد هذه الديون وفوائضها المجحفة، هو التباطؤ في تدقيق الديون التي أرغمت تونس على الحصول عليها في العهد السابق، والصمت عن استرجاع الأموال غير المشروعة التي تم تحويلها إلى البنوك الأجنبية، والسكوت على الكشف عن الحسابات المرقمة وحسابات الشركات الواجهة التي تخفيها طبقا لقانون مكافحة تبييض الأموال، وعدم الضغط على البنوك السويسرية والبريطانية والفرنسية والخليجية خاصة، والتلكؤ في إرساء الحوكمة الرشيدة المشروطة بالشفافية وباستقلالية المؤسسات المالية والبنك المركزي ومعهد الإحصاء، مع غياب محاسبة الفاسدين من رجال الأعمال قضائيا بعيدا عن الولاءات السياسية، في حين يتواصل طلب الديون في شكل سيولة مالية بدل مشاريع تنموية... إن الحكومة المؤقتة، التي من مهامها تصريف الأعمال بما توفر من إمكانيات ذاتية داخلية، والتي ستكون آليا خارج دائرة المحاسبة، لا يحق لها أن تحدد لوحدها الخيارات التنموية والاقتصادية والاجتماعية للبلاد، ولابد من البحث عن التوافق الوطني بين كافة مكونات المجتمع السياسي والمدني لاتخاذ قرارات حاسمة من هذا القبيل أو تأجيل البت فيها إلى ما بعد الانتهاء من كتابة الدستور والانتخابات المقبلة.