بحث هذه المدونة الإلكترونية

2010/07/19

كرسي قرطاج

إشارة لابد منها:

هذا البطاقة كنت قد نشرتها في الدورة السابقة لمهرجان قرطاج الدولي السنة الماضية، وإعادة نشرها مرة ثانية هذه السنة ليس بسبب خمول أصابني أو كسل، وإنما بسبب تكرر نفس الممارسات التي أشرت لها في متن هذا المقال، وهي ممارسات لا أظن أنها ستنتفي ويقلع عنها من ياتونها، لأنها ببساطة ليست ممارسات طارئة وإنما هي ذهنية كاملة.

للكرسي حكمته الأزلية وسحره الأبدي، فأما حكمته فهي تقتضي أن من يصله أولا يستأثر به ولا تهم الوسيلة التي أوصلته، وأما سحره فيتمثل في أسر من يجلس عليه ويمنحه صفة الالتصاق النهائية فوق جلده الأثير وسيقانه البرنزية...

وقلة قليلة من الكراسي التي لا نلهث وراءها للفوز بامتيازاتها، لعل أقربها إلى أذهاننا ومخيلتنا الجمعية، كراسي الصف الأول بالمدارس والمعاهد والجامعات، فهذا الصنف من الكراسي لا يتطلب قوة مال ولا قوة عضلات ولا حتى قوة دهاء ومكر، بقدر ما تتطلب قوة علم وحب للمعرفة، وهي قوة نادرة وباتت غير متوفرة اليوم بشكل كبير...

وللجلوس على كرسي ما والاستئثار به طقوس معلومة وسياسة كاملة في فن الجلوس لا اعرف كيف سها الجاحظ عن ذكرها في رسائله...

المهم، ما يعنيني في هذه المساحة، من أصناف الكراسي وأنواعها ما وصفته بكرسي قرطاج، واعني تحديدا تلك الكراسي المصففة في نصف الدائرة المخصصة لما يناهز ثلاث مائة شخص يشاركون كل ليلة الآلاف المؤلفة من جماهير مهرجان قرطاج، أولئك الذين تكاد تلتصق مؤخراتهم كل ليلة، بالحجر الأملس للمسرح الأثري الروماني الذي تنتظم على ركحه منذ 45 سنة حفلات مهرجان قرطاج الدولي، ومنهم نحن الصحفيون المجبورون كل ليلة، في إطار عملنا، على مواكبة سهرات المهرجان وحفلاته...

أصحاب وصاحبات كراسي مهرجان قرطاج، لا تعنيني صفاتهم ولا مراتبهم الوظيفية أو الاجتماعية ولا ثرواتهم، بقدر ما تعنيني تلك الممارسات التي لا تليق بهيبة الكرسي الذي يجلسون عليه ولا بحكمته أو سحره...

أصحاب الكراسي يتعمدون دخول المسرح متأخرين، ففي كل حفل أحضره ألاحظ حلولهم بالمكان عند اعتلاء الفرقة الموسيقية خشبة المسرح أو تماما بعد موسيقى استقبال النجم وفي أحيان كثيرة بعد استقبال الجماهير الغفيرة لهذا الأخير وتقديمه لشيء من أعماله...

حينها يتناسلون بين الكراسي البيضاء، ينتشرون ببدلاتهم الأنيقة وفساتينهن الناعمة يوشحون المكان بعطورهم الثمينة غير عابئين لا بالمغنى ولا المُغنّي ولا حتى المغنّى لهم، مع أنهم في الغالب يملكون سيارات تودعهم بأمان في الوقت المناسب بالمسرح ولا يمنعهم عن احترام الفنان وفنه تأخر وسائل النقل العمومي ولا اكتظاظها ولا رائحة العرق المعتق داخلها.

ثم أراهم كل ليلة يرفعون الكراسي فوق رؤوس الجالسين وكما لو أنهم على رقعة شطرنج يوزعونها مستسمحين الموجودين أو غير مستسمحين... وفي أحيان كثيرة أراقب أياديهم ترتفع غضبا على أعوان التنظيم محتجين على التوزيع الغير العادل للكراسي متحججين بتذاكرهم حاجبين عنا رؤية المطرب، شاغلين إياه بحركاتهم المستعلية.

هم نفسهم الذين يأتون متأخرين كأنما يختبرون نجوميتهم الاجتماعية، يغادرون المسرح قبل انتهاء السهرة. يحبذّون الخروج في الظلام، فنراهم ينسحبون واحدا خلف الواحد أمام أنظارنا وأنظار المطربين والعازفين فلا يفلحون إلا في إحباط المبدع الساهر لأجلهم وإقلاق الجمهور العريض...

هذه بالفعل ظاهرة اجتماعية جديرة بالدراسة من طرف علماء الاجتماع وعلماء النفس وأهل الاختصاص، وهي تتكرر أيضا بالمسارح البلدية مثلا وفي قاعات السينما بشكل متواتر ومستفز خاصة للمبدع الذي يشعر، لا محالة، بنوع من الإهانة أو الاحتقار من خلال تلك الممارسات التي يأتيها أصحاب الكراسي.

بالأخير لا يمكنني إلا أن أقول بان الغاية تبرر الوسيلة وبأن أصحاب الكراسي ليسوا هم دائما أصحاب الكراسي...

2010/07/07

مع عبد اللطيف بن عمار: النخل يموت واقفا رغم جراحه

بعد قصة "غاية في البساطة" و"سجنان" و"عزيزة" و"نغم الناعورة" يضيف المخرج التونسي عبد اللطيف بن عمار لرصيده السينمائي وللمدونة السينمائية التونسية والعربية عموما فيلما جديدا اختار له من العناوين "النخيل الجريح" وهو فيلم روائي طويل يمكن تصنيفه ضمن خانة سينما الواقعية الجديدة و"يقترح" المخرج عبد اللطيف بن عمار ضمن هذا الفيلم، مثلما صرح بذلك، مقاربته الخاصة إلى كتابة علمية وجادة للتاريخ من خلال إدانته للمفكرين الذين لا همة لديهم، إلا مصالحهم الخاصة يزورون التاريخ لأغراض سياسية ولنيل شرف لا يستحقونه" واضعا "إصبعه على إشكالية الفرق بين الرواية الشعبية للتاريخ والرواية الرسمية التي نجدها بكتب التاريخ".

وعمق المقاربة التي يعلنها عبد اللطيف بن عمار ضمن عمله هذا نجد لها جذورا ممتدة عند جيل دولوز من خلال سؤاله /الإشكال ماهي القوى الجديدة المتحكمة في صناعة الصورة؟ وهو السؤال الذي انبثق بشدة مباشرة اثر الحرب العالمية الثانية بأوزارها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية...التي خلفتها.

وغير بعيد عن جيل دولوز، يبني عبد اللطيف بن عمار عمله السينمائي هذا في صميم الواقعية الجديدة باعتبارها، "فن اللقاء وفن المصادفة بين الناس والأشياء والأحداث" مثلما يصفها "زافاتيني"، فالمنعرج الحاسم في فيلم "النخيل الجريح" هو جملة المصادفات التي تقاطرت على البطلة "شامة" (ليلى واز) في بحثها عن حقيقة استشهاد والدها (كمال بن محمود) ومن ورائها تاريخ حقبة حاسمة من تاريخ بنزرت وتونس عموما...وهي معركة الجلاء عن بنزرت التي دارت رحاها بين قوات الاستعمار الفرنسي وبين الشعب التونسي بكل فئاته طيلة أربعة أيام ممتدة من 19 إلى 22 جويلية 1961 التاريخ، ورغم أن مجلس الأمن الدولي صادق على قرار يقضي بوقف إطلاق النار إلاّ أن المستعمر الفرنسي خرق القرار الاممي، وبعد سقوط مئات التونسيين والتونسيات على إسفلت شوارع بنزرت وتخريب نخيل المدينة الهادئة تم الاتفاق في 18 سبتمبر 1961 على سحب كل القوات الفرنسية من مدينة بنزرت والعودة إلى مراكز انطلاقها، ليكون جلاء آخر جندي فرنسي عن قاعدة بنزرت يوم 15 اكتوبر من السنة ذاتها.

الرؤية الإخراجية ضمن هذا العمل كانت جد واضحة وهي استنطاق جانب مهم من تاريخ مسكوت عنه وتقديم قراءة رصينة ومتأنية لمرحلة هامة من تاريخ تونس الحديث، والاهم من هذا وذاك أن هذا العمل السينمائي أعاد "تصنيف" الفاعلين الحقيقيين في التاريخ، وهي قراءة مهمة جدا لأنها تسير في الاتجاه المعاكس للقراءات الرسمية وشبه الرسمية التي لا تنزع إلا لتلميع "الوجاهة الزعامتية" التي أفرطت، ولا تزال مفرطة، في تضخيم ذاتها وتأليهها واقصاء وتجاهل كل من ساهم بقطرة من دمه في صنع تاريخ هذا البلد، واصطفت من كان رصيده مكتنزا بالولاءات مثل شخصية "الهاشمي عباس" التي جسدها في الفيلم الممثل ناجي ناجح.

اختلاف قراءة عبد اللطيف بن عمار للتاريخ ضمن هذا الفيلم يمكن أن نقف على أهم ملامحها من خلال اختياره المرأة بطلة لفيلمه وكأنه يعلن بشكل واضح عن "رفضه" للذاكرة الذكورية وللتاريخ المذكر. كما نقف عليها من خلال احتفائه بجمالية رهيفة أمنتها المشاهد الطبيعية بالأساس وتلقائية الشخصيات وتمسكه بالمحايثة بعيدا عن التركيبات التقنية والإغراق في أساليب المونتاج ومؤثراته، والحيل السينمائية في الإضاءة والحركة، وأيضا باعتماده لا على ممثلين غير محترفين، وإنما على ممثلين غير "مستهلكين" بصريا لم تثقلهم مساحيق المكياج أو ما وصفه عبد اللطيف بن عمار في إحدى حواراته الصحفية بالممثل "الخام" الذي يقوم هو بتطويعه للدور المطلوب (النوري بوزيد، أولاد أحمد، الأسعد بن عبد الله، فتحي العكاري، نجا مهداوي، حمادي بن سعيد، خالد طبربي...) والتصوير في المواقع الفعلية للأحداث (رغم الاعتماد على ديكورات مركبة في بعض المشاهد) والابتعاد عن الاصطناعات الجمالية والسردية وإثارة العاطفة، والثابت أيضا ضمن هذا الفيلم "هوس" عبد اللطيف بن عمار بالصورة السينمائية كأداة جديدة لكتابة التاريخ وإعادة قراءته... بعيدا عن السرد الجاف للأحداث التاريخية والوقائع والحيثيات المملة... وجميع هذه العناصر تمنح الفيلم نسبة كبيرة من الاقتراب من الواقع والتحقق من حيثياته دون الوقوع في التوثيقية، ولعل قصة الحب التي تطورت بين "شامة" (ليلى واز) و"خليل" (جوهر الباسطي) وكذلك التفاصيل العشقية بين "نبيلة" (ريم تاكوشت) و"نور الدين" (حسان كشاش) ورغم دورهما الوظيفي في السياق العام للفيلم، إلا أنهما مثلا بشكل ما متنفسان دراميان أضفيا بعدا جماليا وفتحا أفقا تخييليا ضمن مسار الفيلم...

نقطة مضيئة أخرى في الفيلم بدت لي نقطة تحول مفصلية ذات دلالات وإحالات جد مهمة في الفيلم ككل، واعني بها الحفلة الثقافية المباغتة التي رتب تفاصيلها المخرج عبد اللطيف بن عمار على غير ما تعودنا به، حيث جمع مشكاة الفنون (النحت والرّسم والشعر والسينما والموسيقى) في لوحة موسيقية راقصة شارك فيها (النوري بوزيد ونجا المهداوي وحمادي بن سعد والصغير أولاد أحمد وخالد الطبربي ولسعد بن عبد الله) وهذا المشهد/اللوحة، وفضلا عن طابعها الاحتفالي البهيج الذي كسر هدوء السياق الدرامي لرحلة البحث عن الحقيقة مع شامة، وبعيد عن التأويلات "الساذجة" التي قد تشي بأنها ربما تكون لعبة تسويقية بالأساس للفيلم، فإنها مثلت "حركة" وفاء نبيلة للذاكرة الثقافية الوطنية من خلال اختيار تلك الأسماء الدالة التي أضافت للمدونة الثقافية الوطنية الكثير.

هذه بعض الإشارات التي اقتنصناها من مشاهدتنا الأولى للفيلم ضمن العرض الخاص بالإعلاميين، نتمنى أن تحفز القارئ لمشاهدة هذا العمل السينمائي المتميز الذي يستحق أن يُشاهد أكثر من مرة.