بحث هذه المدونة الإلكترونية

2009/01/28

Représentant commercial

الممثلون والممثلات الذين أعنيهم لا صلة لهم تماما بأولئك الذين تُطالعنا صورهم على صفحات المجلات والصحف، ولا علاقة لهم البتة بأولئك الذين نشاهدهم على شاشات التلفزة أو فوق ركح المسرح أو نسمع أصواتهم في الإذاعات...
الممثلون والممثلات الذين عرفتهم لا يحتاجون إلى المساحيق وأدوات التجميل ولا إلى شعر مستعار، ولا هم يُتقنون عقد ربطة العنق أو يُلمّعون أحذيتهم.. إنهم لا يستقلون السيّارات ولا يُحسنون الأكل بالشوكة والسكين ولم تطأ أقدامهم المراقص والملاهي الليليّة...
الممثلون والممثلات الذين أتابعهم كل يوم لا تطاردهم أعين المعجبين والمعجبات ولا يأخذ معهم الصحفيون مواعيد لإجراء حوارات ولا يتجوّلون بحرّاس شخصيين.. وليست لديهم أجور بالملايين ولا دفاتر تغطية اجتماعية أو تأمين صحّي...
الممثلون والممثلات الذين عرفتهم، لا وقت لهم لتصفّح الجرائد والمجلات، ولا وقت لهم لمتابعة المسلسلات والأفلام السينمائية والمسرحيات ولا حتى للاستماع للإذاعات...
الممثلون والممثلات الذين ترصّدت ملامحهم وخطواتهم بشراتهم جامدة لا يعرفون أحمر الشفاه ولا يقلّمون أظافرهم، لا شرائط ورديّة تزيّن جدائل شعورهنّ ولا عطور تفوح من رقابهن.. يتراصّون صباحًا في الحافلات الصفراء ويمضغون الكلام طول النهار...
الممثلون والممثلات الذين ألتقيهم كلّما جلست بمقهى وسط العاصمة، كلّهم شبّان وشابات، منهم المتخرّج في الجامعات ومنهم من انقطع عن التعليم ومنهم من تكوّن في مدارس التكوين المهني... كلّهم يمثلون من الصباح إلى المساء...
كل شاب وشابة يتأبّط محفظة مملوءة بقوارير العطر المُقلّد وببعض أقلام أحمر الشفاه وبعض علب التجميل من النوع المقلّد أيضا، يتنقلون كالخذاريف من مقهى لآخر ومن مطعم لثانٍ يعرضون سلعة أعرافهم القابعين في مكاتبهم...
هؤلاء الممثلون والممثلات التجاريون الذين يجوبون شوارع وأزقة وينفذون من جميع الاتجاهات تراهم يكرّرون أمام كل واحد نفس اللازمة التي تدرّبوا عليها: «نحن نمثل شركة الأمل للعطورات نقدّم لك آخر منتوجاتنا في إطار فرصة بأقل الأثمان ومع كل قارورة عطر لديك هديّة ثانية، القارورة التي تباع في المحلات تساوي خمسين دينارًا ونحن نبيعك إيّاها بعشرة دنانير فقط ومعها هديّة.. يقلب الواحد منّا البضاعة المقلّدة ويبخّ قليلا من مائها على عنقه ثمّ يتأسّف للممثلة أو الممثّل لعدم اقتناء ما عُرض عليه.. وهكذا يتواصل التمثيل...
هؤلاء الممثلون والممثلات لا يشتغلون بأجر يومي أو شهري، إنّما بنسبة متفق عليها تتحدّد وفقا لقيمة المبيعات التي ينجحون في ترويجها.. لنقل مثلا أنّها عشرون بالمائة عن كل عملية بيع.. أي أنّها ديناران بالتمام والكمال.. وبما أنّ التونسيّين والتونسيات كلٌّ يدّعي معرفته بالمقلّد من الأصلي وكلّهم جهابذة في اكتشاف البضاعة «المضروبة» من البضاعة «السينيي» فإنّ مبيعات الممثل التجاري في اليوم مثلا قد تصل إلى ستّة دنانير كاملة!!!
أحد الممثلين قرّر أن يرفع سعر تمثيله في الحلقة الواحدة من المسلسل الرمضاني إلى ستين ألف دينار... واحدة من الممثلات التجاريّة ضربت حريفا بقارورة عطر رخيص لأنّه تحرّش بها جنسيا ووعدها باقتناء كل محتويات حقيبتها إن هي رافقته إلى الحانة المجاورة ثمّ إلى بيته.
ممثلّة أخرى أيضا قرّرت مقاطعة الصحف والصحافيين لأنّهم أحرجوها كثيرا بمقالات الإطراء والتمجيد وبالحوارات المطوّلة بالألوان في المجلات والصحف.. ومع ذلك مازالت الصحفيات يطلبنها على هاتفها الجوّال والصحافيون يترصّدون خروجها من أستوديو التصوير.. وعلى الرصيف التونسي مازال الممثلون التجاريون يتناسلون ويولدون... ويولدون... Mis

2009/01/27

facebook

على نفس وتيرة الأيام الثلاث السابقة بدأت يومها الرابع. الساعة السادسة والنصف صباحا أخمدت رنين المنبه الحاد. مدة الثلاثين دقيقة الفاصلة عن الساعة السابعة ­ موعد الأخبار ­ عاودت كل حركات الأمس واليومين السابقين. حمام منعش يستغرق عشرين دقيقة تقريبا. عشر دقائق تُمضيها بين غرفة النوم والمطبخ. ترتدي بنطلونها الأسود في الغرفة، وفي المطبخ تضع ملعقتين من البن الأسود في الفنجان. تُلقي قميصها الأبيض فوق ظهرها وتُزَررَهُ وهي تُضيف السكر إلى البن وتَمزجهما معا بالماء الدافئ.

رشفة أولى ثم ثانية وينتشر دخان السيجارة في أرجاء الغرفة. تتخلل تموجات الدخان ثُقُوبَ المذياع الأسود القديم ليصل نحو حنجرة المذيع القابع داخله التي لا تَعرفُ منه إلا هذا الصوت الواثق كل صباح من طاعة المواطنين لأمره بعدم مغادرة منازلهم اليوم كذلك لئلا يعرضوا حياتهم وسلامتهم للتهلكة لأن حضر التجول وحالة الطوارئ لا تزال سارية في مدينتهم. مدينة الخش خش.

سَحَبَت نَفَسًا عميقا من السيجارة واقتربت من علبة الأوامر اللعينة نافثة داخل ثقوبها ملءَ صدرها وملءَ حنقها وغضبها سحابة الدخان التي حبستها داخل فمها عَل هذا المذيع الناعق كل صباح يختنق بالدخان فيخمد صوته إلى الأبد.

نفثت الدخان وكادت تصفع المذياع على خده الأسود لو لم تستنشق رائحة والدها الذي لم يبق لها منه سوى هذا المذياع الأسود القديم.

غيرت المحطة الإذاعية إلى الناطقة باللغة الفرنسية فاندفع الصوت نحو أدنيها بفرنسية طلقة ولهجة حازمة

:le couvre-feu continue aujourd’hui le 11 juillet 2010.

فَضت رباط الحذاء. أزرار القميص. حزام البنطلون واندست تحت الغطاء، ثم فتحت النات ودخلت آليا الى "الفايس بوك" أين التحقت بمظاهرة افتراضية، بعد أن أخرست المذيع القابع داخل العلبة السوداء.

2009/01/23

في قلب غزة



لا أعتقد أنه ثمة رقعة ما من جغرافيتنا العربية تستحق اليوم استقبال قمة عربية غير مدينة غزة. غزة المحاصرة والمُجوّعة على مدى ستة أشهر.غزة الماء العزيز الشحيح. غزة الظلمات المضروبة ليلا على أهلها بفعل انقطاع الكهرباء ونهارا بفعل القصف الهمجي. غزة المذبوحة من ابتسامة الطفل إلى صلاة الشيخ إلى زغاريد النساء...

نعم، غزة هي المكان الطبيعي والسياسي المؤهل لالتئام القمة واجتماع رؤساء اثنتين وعشرين دولة عربية، فهناك يمكنهم أن يلتقوا ويتبادلون المجاملات والقبلات في رحاب مبنى تعوزه السجادات الحمراء والمكيفات ولا تسوره الجنائن، مبنى سقفه قصف صاروخي مضاء بالقنابل الفسفورية ومكيف بالمتفجرات الحارقة وجنائنه أشلاء الأطفال والنساء... وأسواره الجدار العازل...

إن ما نتابعه يوميا على الشاشات من نط عشوائي للرؤساء العرب ووزرائهم ومسؤوليهم من دمشق إلى أنقرة فطهران والرياض ثم نيويورك فالدوحة ومنها إلى الكويت وقبلها شرم الشيخ إلى أروقة الأمم المتحدة إلى غرف الجامعة العربية... وغيرها من البقاع القصية عن المذبحة. جميعها عواصم لم ولن تقدم حلا لغزة وللإبادة الجماعية المسلطة على الشعب الفلسطيني، غزة التي تعيش منذ ما يقارب الشهر تقتيلا جنونيا يلحقها بسلسلة جرائم الكيان الصهيوني في دير ياسين وصبرا وشتيلا وجنين... فحسابيا عدد ضحايا العدوان يتنامى وعشرات الجثث تنتشل من تحت الأنقاض في سويعات وقف النار لتضاف إلى ألف ومائتي شهيد يمثلون 0،1 بالمائة من عدد سكان القطاع.

وحده عقد القمة في قلب غزة سيحقق وقفا فوريا ولا مشروطا لضرب النار ثم أنه سيكون مكسبا للشعب الفلسطيني من جهة ولكافة شعوب المنطقة من جهة أخرى.

تنقل "معاليهم" و"فخامتهم" و"سيادتهم" إلى غزة الأبية تماما كتنقل قارب الكرامة أو زيارة الوزير الألماني لمعبر رفح، سيرفع الحصار بلا شك عن غزة، ستطير طائرات أخرى غير الطائرات الحربية في سماء فلسطين، ستُفتح المعابر، ستتدفق المياه وتتدفق الكهرباء فيكتشفوا فعلا وجه الخراب.

تنقلهم إلى أرض الحرب سيخمد صوت المدافع ويطفأ النيران المؤججة، كما أنه سيشحن أهل القطاع معنويا وبالمثل سيعيد ربما بعض الأمل إلى الشعوب العربية الهادرة من المحيط إلى الخليج... حضورهم على مسرح الأحداث هناك قد يدخلهم إلى باب التاريخ إذ أنهم بذلك سيستجيبون لنداءات شعوبهم وقد يظفرون ببعض من الثقة التي افتقدوها تماما...

تنقل "جلالتهم" و"سموهم" إلى غزة سيحرج الكيان الصهيوني ويسد عليه أبواب الكذب الإعلامي والنفاق الأخلاقي والتعنت السياسي والإستنفار الحربي على شعب أعزل محتل منذ أكثر من ستين عاما... سيضع الكيان الصهيوني في موقف لن يُحسد عليه أمام العالم وأمام من يعضد همجيته ويسند صلفه، وسيدك وحدة لوبيات الموت والدمار... وأساسا سيمنح القضية الفلسطينية منعرجا تاريخيا وأفقا آخر...

حضورهم هناك سيرفع "السكين" عن رقبة محمود عباس لئلا يُذبح من الوريد إلى الوريد كما ادعى يوم تخلف عن قمة الدوحة باسم الحرص على المصلحة الفلسطينية (وأية مصلحة)...

يوم تجمعهم أرض غزة، أو أي شبر من الأرض الفلسطينية بضفتيها الشرقية والغربية، سيثبتون للعالم أن القضية الفلسطينية، وإن كانت أممية، فهي قبل ذلك القضية القومية الأولى للعرب، وليست قضية تركية أو إيرانية أو فينزويلية أو بوليفية، وهي بالأخير ليست للمزايدات السياسية ولا للحسابات الإستراتيجية الإقليمية... وإن كانت مواقف تركيا وإيران وفينزويلا وبوليفيا تُحترم...

قمة على الأرض الفلسطينية دون سواها تعني أن الرؤساء العرب يصغون إلى شعوبهم بآذان صاغية، ويتطلعون إلى تحقيق جانب من انتظاراتهم بشكل فعلي، ولكن القضية الفلسطينية كانت ولا تزال، ومنذ 1948، ونتمنى أن لا تظل مدى الحياة، المشجب الذهبي الذي يعلق عليه رؤساء الدول العربية نُظُمَهُم اللاديمقراطية القائمة على العشائرية والديكتاتورية والتسلطية والقمعية، وهي أيضا الستارة الحريرية التي تستر عوراتهم السياسية والأخلاقية أمام شعوبهم...

2009/01/19

التوزيع العادل للكلام



كشفت لنا أحداث العدوان الصهيوني الهمجي على قطاع غزة وما جاورها من المدن الفلسطينية منذ ما يقارب الشهر عن جملة من المفارقات التي لا يمكن لعاقل أن يتجاوزها دون التمعن فيها وإلقاء الضوء عليها، وهي مفارقات تدور أغلبها في فلك الأشكال التقليدية والمستحدثة لمساندة المقاومين ودعم صمودهم ونضالاتهم المشروعة أمام آلة الدمار...

ولئن كانت أغلب أشكال المساندة في السابق تتمظهر أساسا في المسيرات السلمية المنددة بالعدوان الصهيوني على الأراضي الفلسطينية وفي جمع التبرعات العينية والمالية وفي المقاطعة الفردية للبضائع الصهيونية والأمريكية وفي فتح قائمات المتطوعين في بعض الدول، وغيرها من أشكال المساندة والدعم، فإننا اليوم، وأمام استفحال الغطرسة الصهيونية وضربها كل المواثيق والقوانين الدولية عرض الحائط وتقدمها في السقوط الأخلاقي إلى الحضيض باستهداف المدنيين من الأطفال العزل والنساء والمسنين وفي تدميرها للمنشآت الاجتماعية كالمدارس والمستشفيات والمنازل... وقفنا على أشكال جديدة ومتطورة من التضامن مع أهل غزة والفلسطينيين عموما نذكر منها مثلا طرد الرئيس الفينزويلي لسفير الكيان الصهيوني من بلاده، أو تحطيم بعض المتظاهرين في الولايات المتحدة الأمريكية لواجهات المطاعم والمحلات الداعمة للحرب، أو تحطيم وحرق الآلات الموسيقية من قبل بعض الفنانين الموريتانيين، وحرق أحد الحاخامات اليهود لجواز سفره الإسرائيلي... ومطالبة متظاهرين ماليزيين بوقف التعامل بالدولار وتبني مقاطعة انتقائية للسلع الداعمة للكيان الصهيوني، وغناء الفنان الأمريكي مايكل هارت من أجل أطفال غزة، وتحول قارب الكرامة للقطاع لكسر الحصار المضروب على أهل غزة، وخروج الأطفال المغاربة في مسيرات منظمة بشكل لافت للانتباه...إلى جانب الحملات الالكترونية المساندة لغزة، وأيضا المظاهرات المليونية التي خرجت في أكثر من عاصمة أوروبية وغيرها من أشكال رفض العدوان الهمجي المتواصل على قطاع غزة بشكل مباشر وعلى باقي الأراضي الفلسطينية بشكل غير مباشر...

في خضم اختلاف هذه الأشكال المقاومة طالعتنا إحدى قنواتنا التونسية ببرنامج هزيل تظاهرت فيه بالنصرة لغزة من خلال استضافة زمرة من أشباه الفنانين الذين لم يتقنوا حتى التعبير عن مشاعرهم بشكل محترم، والأنكى من ذلك أن منهم من لم يفرق بين الصهيونية واليهودية... هذا فضلا عن استنجاد احدهم بورقة كتب فيه أربعة جمل سردهم على مسامع المشاهدين... وطبعا لم يخرج منشط البرنامج من جلبابه القديم في استهلاك عبارات الشارع وحركات الرقيب المنضبط للقوالب والخطوط الحمراء...

إن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح أمام مثل هذه البرامج يتمثل في مقاييس الاستضافة التي يعتمدها المنشطون في إعداد برامجهم، وأيضا سؤال التكريس الذي بات ينخر المشهد التونسي الإبداعي، ذلك أن الشاعر الواحد والرسام الواحد والعازف الواحد والمؤدي الواحد و و و... هم الذين يستأثرون بالموجات والأثير وببياض الصحف...

هناك أسماء جيدة تعرف كيف تتحدث عن القضية الفلسطينية، تعرف كيف تفك شيفرات العدوان الدائر بين الكيان الصهيوني وفصائل المقاومة، تعرف تاريخ انتهاك الأرض الفلسطينية وهي مؤهلة قبل غيرها للكلام في وسائل إعلامنا بشكل منهجي مقنع لا بشكل تهريجي مرتبك...

إن مقارنة بسيطة بالعديد من الفضائيات الفتية والمستحدثة تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن فضائياتنا ما تزال بعيدة كل البعد عن الحرفية، وأن العمل فيها لا يحتكم إلا للعشوائية وللارتجال والفوضى... وستظل على حالتها تلك ما لم تحسن التوزيع العادل لفرص الكلام، او تحديدا التوزيع الجيد والمنظم للمتكلمين...

2009/01/11

بطاريات شحن


حزمتها البارحة في كيس بلاستيكي يليق بقيمتها التي صارت عليها. وضعتها على عتبة باب المنزل لأنام متخففا من ثقلها، وأيضا لأجدها صباحا أمامي فألقيها على كتفي وأتخفى بها من شارع لآخر حتى أصل إليكم.

ألقيها الآن بينكم لمن يحتاجها.

حزمت البارحة كل المشاعر والأحاسيس التي كنت أحملها داخل هيكلي العظمي وهيكلي الوجداني وأتباهى بها منذ أن وعيت على الدنيا لأنها ما عادت تعنيني اليوم بعد أن أستوفيت صلاحيتها وانتهت على ما يبدو، أو لأن صلاحيتي الإنسانية قد انتهت برمتها...

ربما إعلان البيع هذا يعبر عن آخر حالة إحساس احتكم إليها، وقد تكون حالة الإحباط الكلي، والتي سأتخلص منها، بفضل تفهمكم وتعاونكم معي في الإقبال عليها واقتنائها من كيسي البلاستيكي في أسرع وقت، لألتحق بأكداس العلب المرصوفة فوق الأرفف الشامخة في المتاجر والفضاءات التجارية الشاسعة... وأتمنى أن لا تطالبني جهة ما بدفع ضرائب وأداءات عن عملية البيع هذه.

فالحب، التعاطف، التآلف، الرفض، القبول، الكره، الغضب، التسامح، النخوة، الاعتزاز، الحماس، الأمان، الأسف، الثقة، الحياد، الانتماء، الفرح، الراحة، التعب، الألم، التفهم، الأنفة، الشموخ، الكرامة، الحرية، الأمل... وغيرها من الأحاسيس والمشاعر التي تقادمت وتحطمت بداخلي سنة بعد سنة "ارغب" أن أتخلص منها دفعة واحدة وعلى الملأ ومن دون أي مقابل لا مادي ولا معنوي، لأني فقدت القدرة على المجاهرة بها والتمتع بها، وأصلا فقدت الإحساس بها.

فعندما تتكفل جهة ما بتصريف صوتك وتوجيهه الوجهة التي تختارها هي...

وعندما تتكفل جهة ما بضبط دقات قلبك، وتنسيق ذبذبات حنجرتك، وترتيب إيقاع خطواتك بالشكل الأنسب لها...

وعندما تسطو نفس الجهة على المدى الذي بحوزتك، وتعلن بدلا عنك موقفك ورأيك وما يعتمل بداخلك...

وعندما تبدي نفس الجهة قدرة فائقة على تطويق خزينتك الشعورية... وتدير مفتاح قلبك كلما عن لها ذلك...

عندما تصنع لك تلك الجهة الثقوب المحتملة، وتوفر لك المساحات المرسومة، وتسطر لك بالخط الأحمر حدود أنفاسك واتجاهات خطواتك...

عندما تستعيض عن صوتك بصوتها، وعن ألمك بألمها، ورؤيتك برؤيتها، وتسطو على رفوفك الباطنية وتبعثر ما عشت لأجله...

عندما تتحالف عليك كل الجهات وتصيرك يابسا مثل صارية العلم...

عندما لا تجد أين تصرف رصيدك الشعوري...

عندما تصل إلى أرذل العمر وأنت في قمة شبابك... ستتجه لأقرب محل وتقتني كيسا بلاستيكيا لتلقي فيه رفرفة القماشة التي كانت بداخلك وتبقى عاريا كتلك الصارية اليابسة...

أغلبنا صاروا صواري يابسة...

اغلبنا صاروا بطاريات شحن معلومة المدة...

أغلبنا اقتنوا الأكياس البلاستيكية منذ زمان...

أغلبنا باعوا بأبخس الأثمان...

ومنهم من وهب نفسه من دون مقابل...

***********

(السيد الذي طلب مني كتابة إعلان البيع هذا قال لي بأنه سيرسل لي الآلاف من أمثاله لأنشر لهم إعلانات بيع مماثلة.)


2009/01/05

نموت، نموت لتصدح الأغاني



مع انطلاق العدوان العدوان الصهيوني الهمجي على الأراضي الفلسطينية وتحديدا على قطاع غزة، جنت أغلب الإذاعات العربية، وأعلنت ثورات صوتية من داخل استوديوهات البث التابعة لها، حتى أن أحدهم – وهو أنا – فكر في وضع صخرة عظيمة فوق الراديو لإخماد الأصوات الهادرة داخل العلبة الالكترونية، خوفا من اندلاع ثورة ما فعلا في إحدى البلدان من جغرافيتنا العربية، أليست مقرات الإذاعات هي أول ما يتم اقتحامه إبان حدوث ثورة ما في هذا البلد أو في ذاك؟

طيلة أيام هدا العدوان الغاشم أفرغت الإذاعات الدولية والوطنية والجهوية والخاصة... كل ما في ذاكرتها من أغان ثورية وخطب حماسية وشعارات تعبوية، تضامنا ومساندة للشعب الفلسطيني في نكبته المتجددة مع العدو القديم (وكأنهم اكتشفوا نكبة فلسطين اليوم فقط)، وكل الأطفال الدين كبروا مع مختلف ألوان الموسيقى الغربية/التغريبية مثل الهيب هوب والهارد روك والتكنو... وكل الألوان الأخرى التي أجهلها ولا أستحضرها الآن صاروا – في ظرف أيام معدودات - موسوعيون في أغاني فيروز وأميمة خليل وجوليا بطرس ومرسال خليفة وأمال الحمروني وسميح شقير وخالد الهبر والشيخ إمام عيسى وجمال قلة ومجمد بحر ومجموعة الميادين والبحث الموسيقي والعاشقين والحمائم البيض وأولاد المناجم وجيل جيلالة وناس الغيوان... وكل الأصوات المتسامقة في قلوبنا والمغمسة مع حليب أمهاتنا منذ أول الحجر... حتى أن أحد هؤلاء المذيعين عندما ارتبك وهو يسال عن غير قصد (أو عن جهل وهذا هو المؤكد) من هي "حماس"؟‼‼ تدارك أمره وجهله فعاجل المستمعين بأوتار الموسيقى، وربما أيضا ليرد عن مصدحه الصدأ تلك الصخرة المعلقة بقبضة أصابعي‼

... أن نتعاطف مع قضية تحررية في العالم، حتمية لابد منها، على الأقل لضمان الشرط الإنساني الأول: الحرية. وأن تكون تلك القضية التحررية هي قضيتنا نحن بالدرجة الأولى، فان الأمر يتجاوز منطق التعاطف، أو على الأقل علينا أن نعي بأن التعاطف هو الخطوة الأولى والحلقة المؤسسة للمشاركة في النضال الفعلي والحقيقي والدائم بالأساس – لا الموسمي – من أجل القضية، قضيتنا، قضية لبنان وفلسطين والعراق، قضية الأنا العربي أمام الآخر الغربي طبعا الغربي المستعمر الهمجي.

ولكن تعاطف الإذاعات العربية مع الشعب الفلسطيني – وقبله اللبناني والعراقي - إبان اغتصاب أراضيه بجنوبها وشمالها، بدا كالحمل الثقيل الذي سارعت كل المحطات الإذاعية للتخلص منه، أو كالواجب الذي لا مفر من إسقاطه بأي شكل...

ولعل الشكل الأنسب لوصف الحالة الثورية التي تملكت المذيعين والمذيعات (مع الاستثناءات المتناثرة هنا وهناك)، يشبه شكل راقصة كباريهات صرت فساتين رقصها داخل حقيبتها اليدوية ووقفت ساعة أو نصفها في جنازة والدتها لتقبل العزاء فيها فتمضي بعدها نحو مرقصها في كامل زينتها وأناقتها لتواصل هز أردافها على خوان من اللامبالاة وعدم الاكتراث لما حصل ولما سيحصل عما غد وبعده؟؟؟

إن هذا التعاطف المتملق – وان كانت بعض نواياه حسنة إن لم نقل ساذجة – ليس بالأمر الغريب على هؤلاء المذيعين والمذيعات الدين يعبثون بآذاننا كل يوم، وهم يجتهدون قدر المستطاع للظهور بمظهر التلميذ النجيب أمام أمريكا المعلم الحازم الذي يتقن جيدا ترويج السموم الثقافية المعبرة عن انخرام القيم الاجتماعية داخل نسيجها الاجتماعي وعن تفككها الأخلاقي والجمالي (الايتيقي والاستيتيقي) ...

هي في الحقيقة لا تتقن ذلك وإنما نحن الذين نتقن جيدا جدا الابتلاع والهضم والقبول... فصنعنا نحن بأيدينا تلك الأسطورة المسماة أمريكا... أليس القوي بالنهاية هو من يستمد قوته من ضعف الضعفاء وجبن الجبناء؟.

هل قُدّرَ علينا نحن العرب، منذ أن جُبلنا على تناسل الهزائم والانكسارات فوق جسدنا الجغرافي المنهك بأيدينا نحن ولا أحد سوانا، وداخل ذهنيتنا الحضارية بشتى أبعادها، هل قدر علينا أن ننتظر كل عقد أو عقدين من الزمن انتهاكا ما أو عدوانا غادرا لنقيم على نخب الضحايا الأبرياء ثورات صوتية مجعجعة كدق الطبول مثل التي تابعنا ونتابعها هذه الأيام.

مات عبد الناصر واغتيل المهدي بن بركة والدغباجي وفرحات حشاد واغتيل عمر المختار والفاضل ساسي ومحمد بوضياف وياسر عرفات فغنينا وأذعنا الأهازيج والأغاني...

اغتيل غسان كنفاني وحسين مروة ومهدي عامل وسعد الله ونوس... ومات منور صمادح وعبد الرحمان منيف ومحمد شكري وفدوى طوقان وادوارد سعيد وعبد الحميد خريف ومحمود المسعدي ورحل محمود درويش... فغنيناهم وشيعناهم بالأشعار التأبينية...

وحتما سيموت هشام جعيط ومحمد أركون وسميح القاسم وأدونيس... وستموت فيروز ونوال السعداوي وحنان عشراوي... وطبعا ستغنيهم كل الإذاعات العربية وتؤدي واجب العزاء فيهم وفي الآتين من بغدهم...

اغتصبت صبرا وشتيلا ودير ياسين وقانا وصيدا ونابلس وسامراء وبغداد والفلوجة وبعقوبة... ولا نزال نثقب أذاننا بالأغاني والألحان الموسيقية...

إنها لمفارقة عجيبة وسريالية عندما تًلقم الإذاعات العربية الأغاني الهادفة والأشعار الملتزمة للأموات منا وتخدر الأحياء منا بالضجيج المؤدلج وبالأدران الحبرية المتواطئة...

أليس الشعر هو محرك الثورات؟ أليست الأغاني الملتزمة هي جذوة المقاومة ومنها تستمد نسغ استمراريتها وقوة صمودها؟ أم أننا شغلنا بترتيب الأغاني القيصرية التي تتساقط على أذاننا كل دقيقة بحجم جثث المقاومة الأبية في فلسطين والعراق ولبنان؟؟؟ ونرفع جسورا للصمت واللامبالاة بين أذاننا وقلوبنا لنمعن في الرقص فوق أشلاء الجثث المحترقة، جثث الأموات منا والأحياء على حد السواء، ونقدم بالمقابل ظهورنا قبل صدورنا لنيسر للعدو الطعن والهتك ونحن نبتسم ووجهتنا نحو القبر الذي نحن فيه نتنفس منذ قرون؟؟؟

2009/01/02

الدولة الصفر


تركيب العنوان المثبت أعلاه التقطه من متن البطاقة الأسبوعية الأخيرة لرئيس تحرير جريدتنا الأستاذ محمد العروسي بن صالح، ورغم إيراده لهذا التركيب بشكل عابر ضمن مقالته الموغلة في الرمزية، إلا أنه استفزني بشكل عميق وأحالني مباشرة على احد مؤلفات رولان بارط وأعني "الدرجة الصفر للكتابة" ولئن يحيل تركيب رولان بارط على بداية درجات الكتابة فإن تركيب "الدولة الصفر" يحيل مباشرة على نهاية مهام الدولة وعلى انتهاء صلاحياتها في التسيير والتنظيم.

يعرف أهل القانون الدولة بما هي وحدة لثلاث عناصر هي الأرض أو الإقليم والشعب والسيادة، ولسائل اليوم أن يسأل عن ما آلت إليه هذه الأركان الثلاثة.

فأما الأرض، ففي بلداننا لم يبق لها من وجود حقيقي وقد فقد حدود ملكيته الوطنية. تتقلص مساحات السيادة على كل شبر منه بالتفويت فيه إلى رأس المال الأجنبي وتتعالى الأصوات منادية برفع الحدود بين الدول بينما قوارب الموت تشهد على أمرين أولهما الهروب من هذا الإقليم الذي سُلبنا الإحساس بالانتماء إليه ثم ارتفاع صرح جدران بلدان ترفع شعار رفع الحدود وتضع في ذات الحين لأقاليمها حراسا يمنعون اختلاط الأجناس.

وأما الشعب فقد عرف مفهومه انزياحا نحو مفهوم السكان وأقصد بذلك أن الشعب هو الذي يصبو إلى تغيير أوضاعه طامحا إلى التحرر والتقدم والرقي ويمارس في سبيل ذلك كل الوسائل السلمية وحتى غير السلمية في اتجاه إقامة مثلى تحقق له الاستقرار والكرامة والنمو على أرضه، أما السكان وهو المفهوم الذي حل محل مفهوم الشعب فأولئك الذين يئسوا من التغيير وانغمسوا في الآني يلاحقون ما تجود به السوق من منتوجات استهلاكية وهم ملعونون على الدوام بأقساط البنوك وفوائد الدائنين.

وأما السيادة، المكون الثالث للدولة، فقد أزف عهد فاعليتها الخارجية. انتهت السيادة بانتهاء الاحتكام لقوة القوانين واللجوء لقوانين القوة. والسيادة اليوم تعود أولا للقوى المتحكمة في العالم بأسره تحدد سياساته وتسطر استراتيجياته وثانيا لصناديق النهب الدولي ولرؤوس الأموال متعددة الجنسيات. أما السيادة الداخلية فهي كل ما تبقى لدولنا حتى أن سكان دولنا لفرط ما يشعرون بهذه السيادة يلخصون الدولة فيها ويجعلون السلطة مرادفا للدولة.

و في ذات الوقت، وقد أصبحت الدولة مرادفا للسلطة أي للمؤسسات والأجهزة التي تنظم إقامة المواطنين على الإقليم وحتى بهذا المفهوم الضيق فإن الدولة تشهد تدهورها وتراجع دورها إلى درجة الصفر فتنتهي إلى شبه هيكل فارغ لا يدل عليه غير جدران المؤسسات التابعة لهياكلها..

الدولة، كما عرفناها، تلك الهياكل والمؤسسات المتماسكة بهرميتها التنظيمية التقليدية، بأدواتها ومهامها التسييرية تصل اليوم إلى درجة الإهمال واللامبالاة، وتتخلى تدريجيا وبنسق تصاعدي عن أسباب وجودها. تسحب ذمتها وترفع يديها عن كل ما يؤمّن استمراريتها وفاعليتها ويضمن هيبتها... إنها تتخلى عن رأس مالها الرمزي: المواطن لتتركه في مهب دولة جديدة أكبر من الجغرافيا واصغر من التاريخ لأن لا تاريخ لها إلا تاريخ تقنين النهب الدولي. تفتح الباب على مصراعيه لتدخل الأشخاص فيتماهوا معها إلى أن تغيب الفواصل ويعلو صوت لويس الرابع عشر من كل الجهات. دولة تحالف السلعة العابرة للقيم لا دولة القوانين والمبادئ العامة...

إن المؤشرات المحيلة على بلوغ الدولة إلى مرحلة الصفر أكثر من أن تعد وتحصى، وقد طالت جميع المجالات، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والمعرفية والقيمية، مما جعل معها طبيعة العلاقات الاجتماعية تطفو عليها الاضطرابات الدائمة فتتصاعد مشاهد العنف وتطول اللحي وتمتد تلابيب الأقمشة وتشتد الرقابة ويرتفع الضغط في رغبة تراجيدية إلى استعادة الوقار الحديدي. اليوم، وفي ظل تعطل جزء كبير من قوة العمل المتاحة، وفي ظل انخرام خارطة التوازن الاجتماعي بشكل حاد ومستفز وتعميق اللاتوازن بين الشمال والجنوب، وبين المركز والهامش، وبين الداخل ودواخل الداخل تتسلعن القيم، كل القيم: الحب، الجمال، الأدب، العلم، العمل... وما تبقّى من الدولة أو ما اختاروا أن يحتفظوا به منها إنما هو مرجل ساخن يغلي بما يعتمل في نفوس المواطنين المنضوين تحت هياكلها...

كل هذه المؤشرات سارعت في نسق تدهور الدولة مفهوما ووجودا إلى درجة الصفر والانتهاء بها إلى شبه هيكل فارغ لا ينبئ شيئا بحيويته سوى جدران المؤسسات التابعة لهياكلها...

*******

... وقف طفل صغير أمام والدته يسألها ببراءة:لماذا لا تدفئين المنزل يا أمي؟ فأجابته: لأنه لا يوجد لدينا فحم بالمنزل يا ولدي. فسألها: ولماذا لا يوجد فحم بالمنزل؟ فأجابت الأم: لأن والدك معطل عن العمل. فسألها الابن مجددا: ولماذا يتعطل أبي عن العمل؟ قالت الأم: لأنه يوجد فحم كثير بالأسواق يا ولدي...