بحث هذه المدونة الإلكترونية

2011/10/03

عروب الفالت ضد الحكومة



* بقلم: نـاجـي الخشنـاوي

يبقى السجن سجنا مثلما يبقى المجرم مجرما مهما كانت صفته، ومهما علا مركزه الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي أو الفكري، ولا فرق بين اسكافي فقير ووزير ارستقراطي في العقاب، مادامت أركان الجريمة متوفرة، ومادام كل الناس متساوين في الحقوق كما في الواجبات، غير أن هذه المسلمة يبدو أنها لا تنطبق إلا في السينما أو في الروايات، أما في الواقع فالأمثلة تعد على أصابع اليد الواحدة...

ولعل الذاكرة تسعفنا بفيلم "ضد الحكومة" الذي تنبأ فيه مخرجه عاطف الطيب منذ سنة 1992 بما يدور اليوم في أروقة المحاكم المصرية والتونسية، فهذا الفيلم الذي جسد فيه أحمد زكي شخصية مصطفى خلف المحامي الذي اعتاد التحايل على القانون باستغلال ضحايا حوادث الطرقات، ليحصل من أسرهم على توكيلات تطلب تعويضات يحصل عليها لنفسه محققا بذلك أرباحا طائلة. ومن تشابك تفاصيل الفيلم نصل مع البطل إلى درجة رفع دعاوى ضد وزير التعليم ووزير النقل ورئيس هيئة السكك الحديدية يتهمهم فيها بالإهمال، فيساومه لسان دفاع السلطة للعدول عن القضايا التي رفعها ضد الحكومة ثم يزج به في قضية تنظيم إرهابي ليلقى جميع أنواع التعذيب دون أن يتخلى عن موقفه، فأصبحت القضية قضية رأى عام وفي الأخير وافق القاضي على استجواب كبار المسؤولين.

كما يمكن للذاكرة أن تحيلنا على رواية عبد الجبار العش "محاكمة كلب" تلك التي تضعنا "منذ البداية في قاعة المحكمة، وإزاء شخصية ملتبسة وقضية لا تقل عنها التباسا، فالمتهم له مواصفات إنسان ولكنه يحمل في ظاهره ملامح من الكلب وفي باطنه شعورا عميقا بالتكلب" والكلب المتحدث عنه في الرواية "ليس قناعا للشخصية وإنما هو جزء من حقيقتها الاجتماعية والأنطولوجية وحتى الجسدية." وربما لذلك استعصت محاكمة عروب الفالت، بطل الرواية، رغم ترافع عميد المحامين العرب في قضيته والذي قال في ختام الرواية "نحن هنا نظرا لكون المواطن عروب الفالت ليس متهما عاديا في قضية عادية، بل انه في تقديرنا، يمثل بل يختزل نسغ روح هذه الأمة. انه التكثيف المأساوي للمواطن العربي في هذه اللحظة الجليلة من الألفية الثالثة... إن محاكمته هي محاكمة تاريخنا، فمن في مقدوره محاكمة التاريخ؟."

ولا يفوت من شاهد الفيلم أو اطلع على الرواية أن يمسك بذاك الخيط الشفيف الرابط بينهما والمتمثل في انزياح الأزمة الوجودية لشخصية "مصطفي خلف" في الفيلم وشخصية "عروب الفالت" في الرواية، وتحولها إلى أزمة اجتماعية بالأساس وسياسية بشكل معلن في الفيلم ومتستر في الرواية...

إن هذين المثالين يرفعان جسرا متينا ينقلنا من المتخيل إلى الواقع، أو من خطاب النص إلى خطاب السلطة على الطريقة الفوكاوية، فها نحن اليوم نبلغ آخر سيناريو فيلم عاطف الطيب وخاتمة رواية عبد الجبار العش، ونكاد نصدق نبوءتهما، وان تباينت، ونحن نتابع تتالي أسماء كبار المسؤولين سابقا يقفون أمام القضاء من أجل تهم الفساد بالخصوص وتورطهم في منظومة مافيوزية نخرت كل إمكانات النهوض بهذا البلد... من رئيس هارب بما ملك جبن مع أفراد من عائلته إلى وزراء ومديرين عامين ورجال أعمال وإداريين... يتم استنطاقهم بشكل يومي... منهم من تحصن بالفرار ومنهم من يقف خلف قضبان "ناعمة" بشكل تحفظي ومنهم من حجر عنه السفر... ملفات مفتوحة وأبحاث جارية أما الأحكام النهائية فمازالت قيد الغيب... الغيب!!! هل يوجد هذا المصطلح في نظام السلطة؟؟؟

يعلمنا ميشال فوكو أن السلطة تتفاني في ترويض أجسادنا دون أن تستعمل وسائل الإكراه والقمع بل "بالنظرة واللغة"، وها نحن نقف اليوم على انصع مثال في الترويض السلطوي من خلال إقامة ندوة دولية حول الفساد والرشوة والدعوة لإقامة هيكل مؤسساتي لمقاومة الفساد والرشوة واستغلال النفوذ!!! فمتى ينتهي موسم فتح الأبواب المفتوحة؟؟؟

هنا تتراص الأجساد المتعبة في زنزانات السجون التونسية (العمومية) ... يتقاسم المسجونون "القميلة"... أم ملتاعة تأتي من أقصى الجنوب لتعود ابنها المسجون في أقصى الشمال وفي يدها قفة بسيطة... كلمات محمومة تدور بينهما داخل "البارلوار" (غرفة الزيارة) تحت أعين الحارس... تقول له كل شيء إلا عن بيعها قطعة الأرض الوحيدة لديهم لتدفع أجرة المحامي...

وهناك يطلع علينا المتهمون في بهو المحاكم بربطات عنق قزحية وبدلات أنيقة وشعر مصفف بعناية... ابتسامات في وجوه القضاة وطوابير لا نهاية لها من المحامين... قنوات تلفزية ترصد المحاكمات وصحف تتابع الأخبار... سيارات فاخرة تزورهم أمام "سجنهم الخاص"...

الأكيد أن للقضاء مبرراته حول التأخير في التصريح بالأحكام حول من ثبتت التهم الموجهة إليهم، والأكيد أيضا أن تأسيس منظومة قضائية مستقلة وعادلة تستوجب وقتا طويلا وإرادة حقيقية... ولكن بالنسبة لي يبدو أن السجن لا يليق بغير الفقراء مادام حكرا عليهم كالأسواق الشعبية والمستشفيات العمومية وحانات الشوارع الخلفية...

سأستعير من الصديق فتحي بالحاج يحي فكرة ساقها في كتابه "الحبس كذاب والحي يروح" تلك التي تحدث فيها عن أغنية المطرب الفكاهي صالح الخميسي "يا بودفة شبحتنا" "تلك الأغنية الشهيرة التي تفاعل معها كل التونسيين وحفظوها عن ظهر قلب، وكأن فيهم توجسا بأنهم زائروه يوما لا محالة."