بحث هذه المدونة الإلكترونية

2009/02/27

بالله اربح



اقتصادا في اللغة والكلام، وتجنّبا للثرثرة واللغو العقيمين اقتنيت هاتفا جوّالا مزوّدا بالإذاعة ليرافقني حديث الأثير وتصحبني أوتار الموسيقى في ذهابي وإيابي درءا للسموم التي تنفثها الألسن التونسية في الحافلات والمترو والشارع... وأيضا لألاحق عبر أثيرها تفاصيل البلاد وأخبارها مثلما تشتهي كل محطة إذاعية أن تقدّمها... يوما بعد يوم ضجّت أذناي بسيول الضجيج المخترقة من الإذاعات التي يلتقطها هاتفي: الإذاعة الوطنية، إذاعة الشباب، إذاعة تونس الدولية وإذاعة موزاييك... فأربعتهم يتناوبون على مسامعي بالقرْع والطبل من تباشير الفجر إلى آخر ساعات الليل...

لغة يندى لها الجبين سمجة ووقحة... أخطاء في التركيب وركاكة في النطق والتعليق تنثال على مسامعي أينما نقلتها في مربّعي الأسود مربّع الإذاعات... برامج إذاعية تتشابه وأفكار تتوالد من بعضها البعض في دائرة مغلقة... دائرة التمجيد... الشكر... الامتنان... ودائرة المرور العابر على الهموم الدائمة..

هذه الدائرة المفرغة والمغلقة صارت تيمتها الإذاعية وميزة تفرّدنا الأثيرية اعتاد عليها المستمع التونسي حتى نفر من الإذاعات بمواصلة الاستماع إليها هكذا سبهللا كما يقول العرب قديما...

ولكن الاكتشاف الجديد الذي منّ عليّ هاتفي الجوّال به وجعلني أقف عليه في المحطات الأربع من دون استثناء هو ذلك الإلحاح العجيب من مذيعي برامج الترفيه والتنشيط على المستمعين لربح الجوائز والفوز بها.

طبعا برامج التنشيط عالميّة ولها مقاييس وضوابط وشروط علمية وأخلاقية وأدبية.. ولكن شروط ومقاييس مسابقات إذاعاتنا عجيبة وغريبة ذلك أن الجوائز مثلا تتمثل في تذكرة حفل مثلا أو تبّان سباحة وفي أقصى الحالات خمسون دينارا... هذه من ناحية ومن ناحية ثانية فان طبيعة الأسئلة المدرجة في هذه المسابقات هي من قبيل كم من ساق للكرسي!!!

وهل التفاح ثمرة صيفية أم شتوية!! وهل غنت فيروز في لبنان!!! طبعا أنا قلت إن الأسئلة من هذا القبيل لأني لا استحضرها حرفيا ولكن سذاجتها المفرطة وتفاهتها المغرقة في الإسفاف لا يمكن أن انساهما ولكن مرة أخرى ما يصيبك بالجنون حدّ الخبل هو أن المستمع المشارك في هذه البرامج وأمام حيرته أمام تلك الأسئلة لا يخجل من طلب مثلا ثلاثة مقترحات تسهيلا له أو يطلب سؤالا آخر اقل تعقيدا من البحث عن عدد سيقان الكرسيّ!!! هذا طبعا إلى جانب المطالبة بحقه في مهلة زمنية للتفكير والتثبّت لئلا يخطئ في معرفة فصل التفّاح!!!

من قاعات البث الإذاعي ومن وراء المصدح يتناغم البؤس المعرفي للمذيعة أو المذيع مع البؤس المعرفي المضاعف لدى المستمعين فلا يجد المذيع أو المذيعة بدا من إطلاق صرختها عاليا أو الإكثار من الإلحاح على المستمع بان يربح الجائزة القيّمة... باللّه اربح... هكذا تتكرّر لازمة التجهيل في إطار رسميّ بكل جرأة وأحقيّة!!!



2009/02/24

مسجد لكل مواطن

لا نراهن على وقع العنوان المثبت أعلاه لهذه التدوينة العابرة لشد القارئ، وإنما نسعى من خلال هذه الأسطر الافتراضية إلى لفت انتباه اكبر عدد ممكن من الناس لظاهرة خطيرة باتت تنهش المجتمع التونسي من عاصمته إلى أطراف أطرافه ونعني بها ظاهرة جمع التبرعات من أجل المساهمة في بناء بيوت الله من قبل شيوخ يتناثرون صباحا مساء في كل الأزقة والأنهج الفرعية والرئيسية وفي الحافلات والميتروات وخاصة أمام المساجد والجوامع كامل أيام الأسبوع وطبعا يتضاعف عددهم يوم الجمعة.

طبعا أولئك الناس لا يوزعزن التذاكر من محض ارادتهم او تبرعا وانما تقف وراءهم دوائر منظمة يهمها ان تتناسل المساجد لتُحكم المراقبة بميقات الصلوات الخمس...غير أن سؤالي عن هوية تلك الدوائر يدخلني في دوامة لا مخرج منها ولا يشغلني بقدر ما تشغلني أسئلة أخرى أسوقها إلى القارئ العزيز عله يجد إجابة عنها.

كيف تبنى بيوت الله و الناس بلا بيوت تأويهم... اطفال مشردون... عائلات باسرها تسكن فوق السطوح... ..شبان مؤهلون للزواج مع وقف التنفيذ... كراءات وكراءات....

ثم كيف تراها تبنى بيوت الله بأموال مسلولة من ريقنا وعرقنا اليومي بفضل روح التضامن المتأججة على ما يبدو في صدور مواطني هذا البلد السعيد في حين تزدحم شرايين العاصمة بأمهات عزباوات وأطفال الشوارع ومهمشين وفقراء ...

أليس من الاجدر ان نوفر تلك الاموال إذا لبناء بديل مجتمعي حقيقي كأن تبنى بها مآو لهذه الفئات التي ما فتئت تتسع باطراد منذ سنوات بفعل الخيارات الاقتصادية وتراجع توظيف الضرائب لحل مثل هذه المشاكل.
ثم كيف تراها باموالنا تبنى بيوت الله ونحن تنظم من أجلنا المهرجانات الصيفية في كل مدينة وكل قرية منسية فيستلذ بها ابناء الشعب الكريم دون ان تخصص لتلك المهرجانات الفضاءات اللائقة أليس من الأجدر إذا أن نخصص تلك الأموال لبناء بديل ثقافي حقيقي كأن يبنى مسرح في كل قرية وسينما في كل مدينة...

المساجد وعلى ما توفره من طمأنينة لروادها تغلق بميقات وتفتح بميقات فلن تأوي تلك المشردة بطفليها في محطة المترو ولن تحمي ابنيها من برد الشتاء ولن توفر لهم الزاد الثقافي والفكري الذي يلزمهم ...

قد أدركنا بتفاقم الفقر والبطالة والتشرد أننا منذورون للريح وعلينا ان نستل من قوتنا لبناء غدنا فعلى الأقل فلنوفر ما نستله من أجل ترميم ما تبقى من بنياتنا الداخلية والمعنوية ومن أجل إنقاذنا نحن فيه من تخلف حضاري وعلمي وثقافي.

نعم رحل الرومان وعلى الرغم من الأذى الذي ألحقوه بهذه الأرض تركوا مسارح عظيمة لم تلحقها يد ألاف السنين وعشرات القرون ومن مجد مسارحهم تلك لا تزال تغذي نخوتنا الإنسانية.

فكرة وكتابة ناجي الخشناوي ويسرى فراوس

2009/02/23

شعرية المهمل ... اسطرة المهمش...

من يصدق فعلا أن سلة المهملات لا تحوي إلا الأوراق المستخدمة والأقلام التي انتهت صلاحيتها والعلب الفارغة والنفايات التي لم نعد بحاجة إليها؟...
«الحاجة» إذن هي التي ترسم الخط الفاصل بين الأشياء التي نحتفظ بها والأشياء التي نتلفها ونهملها بحركاتنا البهلوانية ونحن نملئ سلة المهملات الشخصية كل يوم بصور وكلمات وأحداث وكذلك بأشخاص مثلنا... أشخاص يتحركون ويبتسمون ويتألمون ويحبون ويكرهون... أشخاص بشحمهم ولحمهم نهملهم وسط سلة أيامنا المتناسلة في تشابهها المقيت...

نهمل ـ نحن البشر ـ في سلة مهملاتنا الشعر والشعراء ونمضي مسرعين نحو زمننا اليومي منصاعين لتلك التيمة الملعونة التي اصطلحنا عليها «حاجة»... نهمل حديقة المجانين في تلافيف مدن العقلاء...
بالمقابل، وعلى ضفة مغايرة تماما، يعتني بنا الشعراء... يرتبون تفاصيلنا المهملة، يلمعون أحاسيسنا المنفلتة ويصنعون من أيامنا قوس قزح... يلتقطون قسماتنا وأسماءنا ويترصدون خطواتنا ويحصون أمنياتنا التي نيأس من تحققها بعد محاولة واحدة...
يأتي الشاعر ليصير المهمل جماليا، ويجعل المهمش في قلب دائرة الاهتمام...
هكذا أتى عدنان الهلالي شاعرا متأنيا ليرفع «فراطيطو» من الدرك الأسفل للحياة إلى الدرك الأعلى للكلام بحساسية مفرطة في الإيقاع المتناغم مع أوجاع الرصيف الذي ناس به شبح «فرطيطو» المهمل... المنسي...
«فرطيطو» ذاك الرجل الهائم الذي ظهر فجأة في الشوارع، صيره الشاعر عدنان الهلالي «بيكاسو سفيطلة» وجعله صنوا لفرانكو وهرقل ولينين... «بيكاسو سفيطلة» الذي أخرسته حوافر أهل المدينة وصغارها ودسوا حكمته وسط سلاتهم اليومية يلحقه الشاعر بسياق شعري يليق بما رسمته عبثيته وجنونه على مسرح الحياة المتحرك...
ضمن هذه المجموعة الشعرية البكر لعدنان الهلالي سيلمس القارئ «هوسا مركزا» لم يصطلح عليه بشعرية المراقبة، او الشعرية المتحركة... الشعرية التي اقتضتها طبيعة «فرطيطو» المتفلب بين الجنون والجنون... وبين الحكمة والعقلانية... بين الحركة والسكون...
يقتنص عدنان الهلالي خطوات «فراطيطو» ويتقصى سكناته منذ أن «ظهر في الشوارع رجل هائم/صائم/يرتدي معطفا/.../اسمه فراطيطو» إلى أن تدك لعنة هذا المجنون/الحكيم المدينة وتصير قوس المدينة يهوي غبارا على العابرين وعرسها عراكا على العازفين...
فاسترسال النص ووحدته السياقية والدلالية غذتها شخصية «فراطيطو» باعتبارها الموجه الأساسي لنسق النص التصاعدي وبؤرته المحورية التي تشحن فعلي التقصي والتخييل من خلال قدرتها ـ أي الشخصية ـ على التحول الدائم والمفاجئ من حال لآخر...
وفي تلافيف نصوص المجموعة يتورط الشاعر في فخ نصه حيث يجد نفسه ـ كالمجنون ـ يدور في حلقة كتابية توهم بدائريتها وانسياقها في منطق البداية والنهاية أو لحظتا الولادة والموت امتثالا لحركات البهلوان «فرطيطو» الذي يظهر فجأة في أول سطر شعري ويؤول إلى فراطيطو الدفين في آخر سطر شعري من المجموعة.غير أن الإيقاعين الداخلي والخارجي لهذه المجموعة يكسران حدود الدائرة وتبعثر منطقها الصارم خاصة من خلال الاشتغال المتقن للشاعر على حروف مفردة «فراطيطو» وجرسها الإيقاعي الذي تخفت وتيرته كما تتصاعد وفقا لما تقتضيه حركة الشخصية داخل النص وكأن هذه الحركة الإيقاعية المنقسمة على نفسها هي صورة بليغة لانقسام فرطيطو إلى اثنين وكذلك النص إلى مدارين، شعري وسردي...
«انقسم إلى جثتين
دفن مرتين
وحط بعيدا
ككل غمامة»
هكذا يتآلف الإيقاع مع الحركة والنص مع سياقه فتتشكل في المجموعة توازنات سردية وإيقاعية تمنح جميع النص مرونة لغوية وتحميه من الوقوع في التركيب الميكانيكي. كما مكنت النص من الإفلات من البناء الدرامي الذي ربما تقتضيه مخيلتنا العادية لفراطيطو وأمثاله... ولعبة التوازن السردي والإيقاعي هذه تتجلى أساسا في التعويل على أسلوبية «التكرار اللفظي» فكلمة «فرطيطو» ذكرت قرابة 88 مرة إضافة لكونها العنوان الرئيسي للمجموعة الشعرية، ومع ذلك فقد كانت تؤدي، في كل إدراج، سياقها الدلالي الخاص بموضعها، فسطوة كلمة «فراطيطو» منحت الشاعر إمكانات متعددة لإضاءة مساحات قصية عن الصور البصرية المنجزة رسما ومراقبة وتصويرا على البياض، وهذا ربما ما جعل الشاعر يصرح بأن «فرطيطو هو المرجعية...»
«فرطيطو هو المرجعية»، هي ذي التيمة السحرية التي أكسبت الشاعر مشروعية مطلقة لرسم أسطورة هذا الكائن الواقعي/المتخيل والقفز بها من أرض المهمش إلى سماء المركز سنده في ذلك شغف التقصي والإصغاء بحواسه مجتمعة لقراءة الآخر رمزيا وماديا...
من يصادق المجنون والمعتوه والمهمش غير الشاعر؟؟؟
من يخلد المدينة غير شاعرها ومجنونها؟؟؟
ما الفرق بين عدنان الهلالي و»فرطيطو»؟؟؟
لا فرق بينهما سوى الاحتفال الدائم بالألم فوق خشبة مسرح الحياة والانصياع التام لهذه النثرية المفعمة بالشعرية التي نفتقدها نحن البشر المدمنون على الإقامة على هامش الحياة... أن هذا النص الشعري /النثري سيظل قيد الانجاز مع كل قراءة ومفتوحا على أكثر من صياغة...

2009/02/20

يوميات ميونيخ لحسونة المصباحي




"أنا أفعل شيئاً لم يفعله شخص قبلي ولن يقدر شخص بعدي على تقليده". هكذا افتتح جون جاك روسو كتابه الأشهر "اعترافات".

وربما لن نضيف جديدا إن قلنا إن كتابة اليوميات الشخصية ما تزال على هامش الأدب بمختلف أجناسه، أو هي أقل منه حظوة واهتماما، رغم أنها باتت تنافسه من حيث الرواج والانتشار بين القراء بشكل مطرد لمَ تتوفر عليه من انفتاح يغري القارئ بترصد تفاصيل كاتب اليوميات، هؤلاء الذين صاروا يتقنون جيدا التخلص من أي عبء أخلاقي كالخجل أو الحرج أو التكتم عن أسرار قد "تشوه" صورة الكاتب لدى قرائه.

فكُتًاب اليوميات ينزعون إلى الإفضاء بسريرة أنفسهم والى التعبير عن معتقداتهم وآرائهم دون تكلف أو تصنع، وهي لذلك ربما تُعتمد هذه المصنفات كوثائق أولية لدى النقاد الدارسين، ومن أهم اليوميات تلك التي سجلها راعي أبرشية فرنسي مجهول من عام 1409 إلى عام 1431 تحت عنوان "يوميات برجوازي باريسي" ومن أشهر اليوميات تلك التي دونها جونثان سويفت والسيروولتر سكوت وفرانز كافكا وأندريه جيد وفيتولد غومبرو فيتش وكاثرين مانسفيلد وجان بول سارتر ومارغريت يورسونار وناتالي ساروت ... وغيرهم كثر.

وتُعتبر كتابة اليوميات شكلا من أشكال التأريخ، ذلك أن كاتبها يرصُد مواقفه وآراءه وانطباعاته انطلاقا مما يحف بحياته من أحداث تفرزها المرحلة التي يحياها وقد يعيشها بشكل مباشر أو غير مباشر. كما أن فرصة السفر والتجوال تمنح الكاتب آفاقا أرحب وإمكانات أوسع لشحن يومياته بدفق مختلف يغري أي قارئ بملاحقة ما يخطه من تفاصيل وحيثيات ودقائق دون أن تتماهى مع أدب الرحلة...

وتنهض كتابة اليوميات أساسا على مرجع العين والذاكرة، والفكر أيضا... ولئن يتعدد الراوي في مختلف الأجناس الأدبية، فإنه في اليوميات واحدٌ معلوم.

أتقن جيدا التخلص من أي عبء أخلاقي كالخجل أو الحرج أو التكتم عن أسرار قد "تشوه" صورته ككاتب وإعلامي لدى قرائه... وأفضى بسريرة نفسه وعبر عن معتقداته وآرائه دون تكلف أو تصنع... ورصد مواقفه وآراءه وانطباعاته انطلاقا مما حف بحياته من أحداث أفرزتها المرحلة التي يحياها وأثرت عليه بشكل مباشر أو غير مباشر... سافر كثيرا وتجول في عدة بلدان وعاشر أكبر الكتاب والشعراء وغيرهم من المبدعين العرب بالخصوص والغربيين أيضا... وكتب بضمير الأنا "يوميات ميونيخ" ليطل من شرفاتها على عالم الأصدقاء ويعود بذاكرته إلى أحراش القيروان ومقام غرس الله، إلى ساحات وشوارع ومقاه ومطارات ونزل مر بها ورسخت بذاكرته...

كتب عن كوابيسه وأحلامه، عن مساءاته وصباحاته، عن قراءاته وكتاباته، عن نساء عرفهن وأخريات انتظرهن وما أتين، رصد تحولاته النفسية من فصل لآخر... انكسارات وانتصارات... أحزان وأفراح...

أهم التفاصيل والدقائق التي عاشها بين سنة 2001 و2004 رصدها صاحب "هلوسات ترشيش" و"الآخرون" ووداعا روزالي" و"نوارة الدفلى" و"التيه" و"أصوات مراكش" وطرحها للعموم عن دار الفارابي ضمن "يوميات ميونيخ".

المواقف والآراء الشخصية فيما أفردته تحولات العالم السياسية منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر ووصولا إلى سقوط بغداد، إلى جانب الأحداث الثقافية، مثلت أهم محمل ـ في تقديري الشخصي ـ ليوميات الكاتب التونسي حسونة المصباحي، وهي ربما التي تمثل بؤرة هذه اليوميات لمَ تتوفر عليه من صدق وعفوية قد لا تلاقي صدى لمن لا تتحمل صدورهم اختلاف الرأي حتى وان كان إطلاقيا وانطباعيا.

2009/02/16

منتدى ثقافي


يرى الدكتور عبد السلام المسدي أنه ليس من معنى ولا من وزن لموقف المثقف العربي الذي يقول بحتمية الحدث التاريخي فيعلن تسليمه بأن العولمة شيء حاصل بالفعل ما لم يكن له وعي بأن الحاصل بالفعل لا يلغي وجود الحاصل بالقوة ألا وهو العولمة المضادة

هذه الفقرة القصيرة والمكثفة التي عثرت عليها في كتاب الدكتور محمد حسين أبو العلا دكتاتورية العولمة قراءة تحليلية في فكر المثقف بدت لي وهي بالفعل كذلك كافية بل مستفيضة لتشخيص حالة اليباب التي تكتسح أرض المثقف العربي...

هي أرض يباب تنوس فيها أشباح وظلال تخينة وقصيرة وشاحبة باهتة :كتّاب، شعراء ، روائيّون ، قصاصون ، نقاد، مغنون، عازفون, رسامون, سينمائيون, مسرحيون... كلهم يحملون صفة مثقف وأغلبهم يقفون فوق ربوة نائية جدا عن الأزقة والمنعطفات ... ينأون عن المعامل والمصانع ومخازن الشركات العابرة للإنسانية... كلهم بعيدون عن تفاصيل الوجع اليومي وعنه ساهون...

لا نراهم إلا مجازا فوق الأوراق البيضاء... فوق خشب المسارح الضيقة والمغلقة للترميم... في ظلمة قاعات السينما البالية... أو في الملتقيات الولائمية والمآدب الاحتفالية...

نراهم متوارين خلف هذه الأطر يكتبون عن الظلم... عن الاستغلال... الاستبداد... يشخصون الماسي... يصورون آلام البشر... يسلطون الأضواء على عتمة الخراب المعمم في جغرافيا الأحزان التي تسمى وطنا عربيا... وأيضا يبشرون بوجه أفضل وأجمل لوجود آخر بملامح أخرى ومقومات أخرى...

هل تكفي الأوراق والريشات والصور والأقلام لإيقاف تسو ناميات الاستبداد الثاوية داخل كل حاكم جائر؟

هل تكفي مثل هذه الأدوات لإيقاف تسو ناميات الاستغلال الثاوية داخل كل رأسمالي يجوع آلاف النساء ويشرد آلاف الأطفال والرضع ؟

هل تكفينا آلاف القصص والروايات والأفلام والمسرحيات والرسومات واللوحات والأغاني والقصائد للوقوف صدا منيعا أمام زحف الموت والخراب القادمين من صمتنا ومن غطرستهم ؟

هل تكفينا جميعها لنرسم بديلا حقيقيا وصيغة أخرى لحياة من سيأتي بعدنا ؟؟؟

ربما تكفينا وتكفي أجيالا قد تتناسل من جراحنا تكفينا بالقدر الذي يُتقن واضعو هذه الأعمال وخالقيها حسن توظيفها والتمسك بالمواقف المقدمة من خلال تلك الإبداعات...

قد تكفينا بالقدر الذي يتحمل فيه الفنان والمبدع والمثقف مسؤوليته كاملة فيما يكتب ويصور ويعبر... بالقدر الذي يمارس فيه المبدع المثقف قناعاته الحبرية على الأرض الترابية، وأظن أنه من غير المجدي أن أذكر أسماء مثل مظفر النواب، مرسال خليفة، عبد الرحمان منيف، صنع الله إبراهيم ، جان جونيه، جون كوكتو ، محمد شكري، تيسير علوني ، غسان كنف اني ، محمد علي الحامي ، الطاهر الحداد ، رضا الجلالي... الفاضل ساسي، منوّر صمادح، جليلة بكّار...

إن الثقافة تكفينا بالقدر الكافي عندما تترجل وتسير مع العاملة والعامل. تسير جنبا إلى جنب مع المزارع والمزارعة ... مع المعطل والمعطلة عن الشغل ... مع المهمش والمقصي والمفرد ... تسير معهم جنبا إلى جنب فوق الأرصفة الإسفلتية للأزقة المظلمة في المدن المثخنة بآلامها...

إن الثقافة تكفينا بالقدر الذي يقف فيه المثقف في الصف الأمامي لتظاهرة شعبية... عندما نراه في الصف الأمامي لمسيرة سلمية... لتجمع عمالي من أجل حق مدني أو نقابي أو سياسي ... عندما نراه يشبك ذراعيه في الصف الأول مع عضو نقابي شاب أو مع شابة حقوقية أو طالب معطل عن العمل أو مع والدة سجين أو زوجة معتقل ... تكفينا الثقافة عندما يقف المثقف في صف الشعب...

تكفينا الثقافة عندما يتحرر مثقفينا من عصبية البن وتجمعات المقاهي الرديئة والحانات الموبوءة ويترجلون داخل شرايين المدينة وفي ساحاتها العامة...

تكفينا الثقافة عندما يتفق مثقفونا وفنانونا ومبدعونا على ضرورة السعي نحو تشكيل منتدىً ثقافيًا عربيًا يتوج بعد العديد من المنتديات الوطنية والإقليمية، منتدىً ترتفع فيه الرواية والمجموعة الشعرية والمجموعة القصصية والقيثارة والعود والريشة واللوحة وكتاب النقد والصورة الفوتوغرافية والمقالة الهادفة... وعين الكاميرا الثّاقبة...

عندما يتشابك كتاب المثقف وقلمه مع ريشة الرسام ولوحته بمنجل المزارع والمزارعة وبمطرقة العامل وبقبضة النقابي وهتاف الحقوقي... عندما تتشابك هذه الأدوات سيحق لنا أن نحلم بوطن يحترم مواطنيه...

عندما يفيض شارع الحمرا ببيروت اللبنانية بالمثقفين والمبدعين, أو شارع طلعت حرب بالقاهرة المصرية, أو شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة التونسية أو شارع الثورة بالعاصمة الجزائرية أو شارع الرشيد ببغداد العراقية.. أو شارع عمر المختار في الجماهيرية الليبية... عندما تفيض هذه الشوارع بالمثقفين والمبدعين والفنانين يحق لنا ساعتها أن نحلم بوطن يحاكم مجرميه...

عندما تنتصب خيام عملاقة في المدن الصغيرة المتوارية خلف الجبال والهضاب أو الشاردة في الصحارى والفيافي وفي المناطق النائية التي تسمى بهتانا مناطق ظل ... ساعتها يمكننا أن نحلم بوطن ينعم كل مواطنيه بخيرات حقوله ومصانعه.

بين الحاصل بالفعل والحاصل بالقوّة يقف موقف جريء وخطوة عمليّة تُسمّى ˜منتدى ثقافيŒ ينأى عن التنظيمات الإداريّة والبرامج الساذجة والغايات الفئويّة... منتدى ثقافي يتحدّى واقع العولمة ليؤسّس عولمة مضادّة ترتفع فيها قامة الإنسان أعلى وتتسانق فيها قيمة الحريّة نحو ذُراها...