بحث هذه المدونة الإلكترونية

2009/10/16

المخرج الفلسطيني إيليا سليمان:



قريبا من الوطن بعيدا عن القضية



يصر المخرج والممثل الفلسطيني إيليا سليمان دائما على ابتعاده عن دائرة السياسة، إذ أنه لا يتردد في كل مرة في الإعلان عن هويته السينمائية بالأساس قبل أية هوية أخرى سواء دينية أو جغرافية، فقد سبق له أن صرح قائلا:"... أنا في النهاية سينمائي ولست سياسيا ومهمتي ليست البحث عن الحلول" وهذا الموقف يتجلى بصورة واضحة ضمن آخر عمل لإيليا سليمان "الزمن الباقي سيرة الحاضر الغائب" الذي يُعرض هذه الأيام بقاعة "آفريكار" بتونس العاصمة.
إيليا سليمان المولود في الناصرة عام 1960 والذي اعتقلته قوات الأمن الإسرائيلية ولم يتجاوز عمره السابعة عشرة... توزعت خطواته في أكثر من عاصمة أوروبية باعتباره كان محاضرا زائرا في مختلف جامعات العالم، من لندن إلى باريس وروما وبرلين وبرشلونة... فنيويورك التي احتضنته لمدة 12 سنة... وتوزعت رؤاه السينمائية والفنية عموما من فيلم إلى آخر، فكانت في كل مرة تضيق دائرة السياسة وتضمحل القضية الفلسطينية بأبعادها السياسوية لتتسع بالمقابل دائرة فلسطين الزعتر والزيتون، فلسطين البرتقال والدبكة... وجل أفلامه أن لم نقل كلها تشهد على ذلك مثل "سجل اختفاء" و"نهاية جدال" وطبعا فيلمه الأشهر "يد إلهية" الفائز بجائزة لجنة التحكيم في دورة 2002 لمهرجان "كان".
هي ذي فلسطين التي تطفو صورتها بشكل جلي في الأعمال السينمائية التي قدمها إيليا سليمان، والتي باتت يُشار لها بالبنان في كل مرة، فهي لا تنتهي في أفلامه وان انتفت القضية الفلسطينية، بل تبدو مثل منمنمة فارسية تبني صورتها قطعة قطعة، مثلما يبني إيليا سليمان مسيرته فيلما بعد فيلم، لكأنهما توأم فراش يكابدان الخروج من شرنقتهما، شرنقة "التسييس المفرط" لبلد تمادى في الجرح كثيرا... وشرنقة الالتزام المفرط في ايديولوجيته التي تقتل كل نفس إبداعي... ولذلك يمثل ايليا سليمان الضلع الرابع من المربع الذهبي للسينما الفلسطينية في المنفى إلى جانب ميشال خليفي ورشيد مشهراوي وهاني أبو سعد.
تكبر فلسطين الفرح، ويكبر معها إيليا سليمان المخرج المبدع، لا المخرج المتسربل بالسياسة واللائذ بالقضية الفلسطينية مطية سهلة...
يوغل في الرمزية وفي تصوير المشاهد العبثية التي تصل حد الدونكيشوتية، ولا تخلو أفلامه من الظلال السياسية والإشارات الواقعية التي يمررها بفطنة وحنكة متناهية الإتقان، تمنح جل أفلامه القدرة على إيصال الفكرة المراد تبليغها من خلال خلق فضاء شعري تأملي مشحون بواقع الفلسطينيين الحاضرين والمغيبين، وألئك الذين يصفهم هو بالممنوعين من الوجود حتى في الصورة المجازية...
لقد باتت تشكل أفلام سليمان تذكرة سفر إلى أعماق فلسطين، سفرة مجازية تؤمنها الرحلات الواقعية التي غالبا ما يستند إليها المخرج في أفلامه، ومنها فيلمه الأخير، الذي يصور معاناة الفلسطينيين في الضفة الغربية وداخل العمق الإسرائيلي من خلال الرحلة عبر الحافلة إلى مدينة رام الله حيث تتناسل مشاهد أرض البرتقال لتختلط مع مشاهد العنف المنظم والقمع المفرط لشعب بات مفخخا بالأمل...
إيليا سليمان لا يقترب من وطنه فحسب، بل انه يتماهي معه ويتورط في تفاصيله اليومية، فهو لا يتردد في كل مرة من التعبير عن إنغراسه في تربة فلسطين والتحليق في فضائها، واقعا وذكريات، ماضيا وحاضرا، من خلال عرضه المستمر، وبأشكال متنوعة ومختلفة، لسيرته الذاتية التي عاشها أو بحث عن تفاصيلها منذ 1948 ولسير أشخاص صنعهم خيال المخرج وما اختلفوا عنه في تشعب الحياة أمام بندقية الجندي، وبساطتها في رائحة البن الفائرة على طاولات المقاهي...
هذه التركيبة الثنائية، التعقد والبساطة، الحياة والموت... مثلت التيمة الرئيسية والمحمل الأساسي لرؤية إيليا سليمان الفنية والإيديولوجية التي تطورت وتعمقت بشكل تصاعدي طيلة العشرية التي أنجز فيها ثلاثيته السينمائية الروائية، "سجل اختفاء" ثم "يد إلهية" والآن "الزمن الباقي" ليتأكد لنا تشبث هذا المخرج بأسلوبه الحداثي وما بعد حداثي في استناده على مسرح بريخت وسينما قودار ...
إيليا سليمان يقترب من بساطة الوطن، ويسعى دائما للابتعاد عن تعقد القضية الفلسطينية، إلا أنه في كل مرة "يُفتضح" تورطه الواعي في القضية العادلة لشعبه، من خلال استناده لأحداث مفصلية في التاريخ الفلسطيني، بداية من إعلان دولة إسرائيل المزعومة سنة 1948 ومرورا بحرب حزيران عام 67 التي عجلت باحتلال الضفة الغربية فمعركة الكرامة في 68 والانتفاضة الأولى في 87 ثم ذكرى يوم الأرض الموافق لــ 30 مارس 1976 واتفاقية أوسلو في 93 وانتفاضة الأقصى سنة 2000 وغيرها من الأحداث .
أقوى من طلقات بنادق المقاومين، وأبلغ من بيانات التنديد والشجب والاستنكار السياسية، وبالموسيقى والأغاني وخاصة بالصمت المُثقل بالكلام، تتحدى أفلام إيليا سليمان مدافع الجنود الإسرائيليين وتفضح إصرارهم على تزييف التاريخ الفلسطيني وتشويهه، وتهب الحياة لفلسطين، ولو مجازا، وهي تُسقط أسوار الرعب المنظم المضروبة على شعبه الفلسطيني وعلى "الأقلية الفلسطينية" في إسرائيل، وهو واحد منهم.
"أن تكون فلسطينيا فهذا في حد ذاته تحديا"، هذا التصريح الذي قاله إيليا سليمان قد يُجمل بشكل واضح قيمة هذا المخرج وقدرته على تحويل "مواطنته الإسرائيلية" التي فُرضت عليه إلى "مواطنة فلسطينية" اختارها ودافع عنها في أفلامه مثلما تدافع الورود عن رائحتها والعصافير عن زقزقتها.