مثل لبؤة منطلقة في أفق لانهائي دحرجت الكاتبة التونسية مريم البوسالمي جملها وصورها وأفكارها في حقل من الألغام اللامرئية واللامعلنة دون كبير ارتباك أو تردد أو خوف...
دفعته لنا نحن القراء، بكل إمكانات الانفجارات المحتملة مع كل صفحة ندخلها، لتتركنا نحاول عبثا بطرق "هوا مائية" تفادي احتمالات شلل عضوي قد يصيبنا به لغم في مرورنا بالصفحات أو شلل فكري قد يقض سكينتنا الموهومة لألفتنا القديمة بتلك الكتب التي تشبه البيوت بعتباتها الثابتة وأبوابها المستطيلة وجدرانها الملساء... ندخلها كما نتصفحها فلا نمسك غير الحَسَك...
"مسودة حياة" ليس بيتا باردا ولا ثابت العتبات أو أملس الجدران... لا باب ندخل منه لكتاب مريم البوسالمي ولا منفذ فيه لننجو من ألغامه...
هذا الكتاب يشبهكَ ويشبهني ويشبهنا جميعا لأنه يحتفل بكل طفل ينتصب للحياة، ولأن كاتبته لم تذهب إلى أي سوبر ماركت لتتزود بواق ذكري في الأدب والكتابة درءا للإسهال الحبري الذي قد يجرف نصها الطفولي بترسانة المعاول القديمة، معاول الرفض المحنطة والجامدة...
مريم البوسالمي في كتابها "مسودة حياة" أثبتت أنها سليلة العصافير، تمقت القيود والأقفاص، وتنعم بالحياة في انتظار اكتمال مشروع موتها، وربما لذلك تكتنز إغماءات الكاتبة بتلك الايروسية التي تشطرنا إلى شطرين مثل تفاحة آدم: شطر للشبق وثان للألم... فنرتبك، مثل بطل الإغماءة الثانية، أينظف يديه أم المسامير العريضة؟
فعبر صور هذا النص وأسلوبه المباغت، ومثلما تُفتض البكارة افتراضا عبر الــsms أو الــchat أو عبر مكالمة هاتفية، يفض كتاب مريم بكارتنا الإسمنتية وحصانتنا الموهومة من أي خط مربك يهتك انضباط السرب الأدبي المطمئن، ويجعلنا نتذكر أن البكارة تنتصب فوقا ولا ترقد في الأسفل، وأن لا فرق بين عقدة الدم وحدود الحبر الأحمر، لأن ختم الصلوحية جاهز لرسم صلوحيات الجودة والخدمة وللتأشير على عبور هذا الجسد أو ذاك إلى مربع الحياة، وعبور هذا النص أو ذاك إلى مربع الانضباط الأدبي وخانة المقبول، فلا فكاك لنا من هذه الورطة إلا متى رسمنا وشما نعلن فيه أننا "Anti - vierge" من الفوق ومن الأسفل، وساعتها يمكننا أن نردم تلك المسافة الفاصلة بيينا وبيننا، أقصد مسافة السبعة أميال وخمسين قدما وحفنة السهول والجبال...
فمسودة حياة مريم البوسالمي يبدو في ظاهره نص موبوء بأنثويته المفرطة في تاء التأنيث، غير أن هتك حجبه البرانية سيمنح قارئه لذة مضاعفة لتحطيم الأوثان الجندرية والأصنام الجنساوية ليرى ذاك الجسد الإنساني الشفاف الذي رسمته الكاتبة بتأن...
يتكثف الزمان في المكان... تختلط هواجس الأبطال بصرير القلم، وتتناثر الأفكار كالبثور على كامل جسد الكتاب لتثبت الكاتبة أن متنها هو فعلا مسودة حياة، وأن كل نص من مجمل المنجز ه عملية جراحية لتغيير الجنس: جنس الطبيعة وجنس الكتابة، فالكتاب ليس رواية ولا هو قصة أو أقصوصة أو مقامة أو سيناريو أو نص مفتوح بقدر ما هو كل هذه الفسيفساء الأجناسية تتبرج على بياض الصفحات ولا تخيطها إلا نقاط الاستفهام المنتصبة صورا وجملا، إذ لم تترك الكاتبة لنفسها منفذا واحدا لتتخلص من شعار حياتها :"بقدر ما سأكشف عن ثورتي...ثورتي ستكتشفني" وهي تخط منجزها الحبري الأول وتعلم أن العثرات إما أن تأتي دفعة واحدة أو لا تأتي أبدا...
وهي بما لهذه الحدية بالذات قررت أن تقوم بعملية "Formatage" لذاكرتها لتدفع لنا بنص آبق ومختلف متنا وشكلا يرفض العيش بصيغة شرطية، ذلك أن كاتبته تعلن في الرسم الماثل في الصفحة (81) بأنها "ستتوقف عن صف الحروف مثلما يستدعي ذلك الاتفاق... فربما تصبح لها معنى" وهذا الميثاق دفع الكاتبة إلى دمج البصري مع النص المكتوب فأعلن الكتاب عن انتحار التصنيفات الأدبية الكلاسيكية، وقد يكون الشاهد الأول على ولادة "الكتاب الكراس" لطبيعته التفاعلية وحرية مساحات التعبير المفتوحة بين الكاتبة الأصلية مريم البوسالمي وشريكتاها اللاحقتان الفلسطينية باسمة التكروري والتونسية حسناء المناعي...
لكل هذا وغيره استحقت مريم البوسالمي أن تحوز لقب "Best Seller" العرب لسنة 2007 بعد أن اجتازت تمرين الكتابة المختلفة وأدخلت قارئها في تمرين قراءة طويل من خلال كتابها "مسودة حياة" الذي أصدرته مؤخرا دار الجنوب للنشر.