وحدها التلفزة تدخل إلى بيوتنا من دون استئذان. تستأثر بزمننا النهاري والليلي، وتقوض كل إمكانات التواصل والتحاور بين أفراد الأسرة الواحدة. تمارس علينا كل أنواع الانزياحات المعنوية والأخلاقية... مرة تُدهش الساكن فينا، ومرة تُمعن في استغبائنا واستبلاه عقولنا، ومرة ثالثة ترمينا بالسأم والملل...
تتوزع مهامها أساسا بين الإخبار والتثقيف والترفيه والإبداع أيضا، وما على المستهلك أمام ما يقدمه صندوق العجب إلا أن يختار ويفرز الجيد من الرديء متى استطاع إلى ذلك سبيلا، فهذا الصندوق بات يمتلك اليوم من السلطة ما لا تحتكم له اعتى الحكومات والأنظمة في العالم...
في تونس، وقريبا من "صناديقنا العجيبة"، أي قنواتنا التلفزية، يمكننا بمعادلة بسيطة أن نقسم الشعب التونسي إلى صنفين من المشاهدين، ونقول بنوع من الموضوعية أن 45 بالمائة يشاهدون البرامج ذات البعد الديني والمسلسلات (النساء خاصة وجحافل كبيرة من الشباب) و45 بالمائة يتابعون البرامج الرياضية (الرجال خاصة) ونترك العشرة بالمائة للنزر القليل من المتابعين للبرامج "الثقافية" وهي أيضا، تقريبا، النسبة التي تخصصها قنواتنا التلفزية لهذه المادة أو أقل.
ولكن الملاحظ أننا في السنوات الأخيرة، ومع بروز البرامج ذات البعد الاجتماعي والقانوني، تقاربت تلك النسب والتقت في مفترق هذه البرامج، بعد أن استأثرت هذه النوعية من البرامج بنسبة كبيرة من المتابعين لها لاقترابها من مشاغلهم ومشاكلهم، رغم أنها كانت في الغالب تبتعد عن تحليل وملامسة عمق المشاكل الحقيقية.
مثل هذه البرامج التي اكتسحت الزمن التلفزيوني واجتاحت بحلقاتها منازل الملايين من الناس وتحولت إلى محور أحاديث المشاهدين في مكاتب الشغل وفي المقاهي وبين ربات المنازل، باتت تمثل خطرا حقيقيا لما بات يُعرف بدولة "القانون والمؤسسات"، ذلك أن أقصى طموح لدى الملايين من الناس هو الوصول إلى هذا البرنامج أو ذاك المنشط أو تلك المنشطة لطرح قضيته على "الرأي العام" وصار الهاجس الأوحد للمواطن المظلوم اللجوء إلى "بلاتو" التلفزة لكسب "تعاطف شعبي" مع قضيته أو لفت انتباه هذا المسؤول أو تلك الإدارة لضيم لحق به أو بأسرته...
بهذه البرامج يسقط الشعار الحقيقي للمواطن المتمثل في "القانون" ليأخذ مكانه شعار جديد هو "التلفزة معاك"، ولئن توهمنا هذه البرامج بأن دورها لا يتعدى الوسيط بين المواطن والقانون أو الحق، فان ذلك لا يشفع لها السقوط الواضح من جهة أولى في "الانتقائية المسالمة" التي تبتعد قدر المستطاع عن مكامن الفساد الحقيقية وارباك السكون المعمم في أرجاء المؤسسات والادارات، وفي "استثمار الحالات" التي تقدمها لكسب اكبر عدد من المشاهدين وبالتالي اكبر عدد من المستشهرين من جهة ثانية، وهو الهدف الرئيسي لمنتجي هذه البرامج الذين لا هم لهم سوى مراكمة الأموال على حساب مشاعر الناس وعواطفهم.
بهذه البرامج تحولت وجهة المواطن من المؤسسات القضائية والإدارية باعتبارها الراعية الأولى والأخيرة لحقوقه ومصالحه، وانتقلت إلى أبواب المؤسسات التلفزيونية وهواتف المنشطين والمنشطات، وهي وجهة تنذر بالخراب لأنها لا تبني الوطن ولا تخدم مصالح المواطن بقدر ما تخدم مصالح أشخاص بعينهم.