فجأة يتحول كل الناس إلى محبين للسينما ومريدين للشاشة الفضية طيلة أسبوع أيام قرطاج السينمائية...
فجأة يتحول كل الناس إلى محبين للمسرح ومريدين لخشبات ركحه طيلة أسبوع أيام قرطاج المسرحية...
فجأة يتخلص كل الناس من قيود الجهل التي تطوقهم ويهيمون بين أروقة معرض الكتاب الدولي طيلة عشرة أيام...
فجأة أيضا، يتخلص كل الناس من تعلقهم المفرط بالبطاطا والبصل والسندويتشات ويهتمون بالشأن العام السياسي أيام الحملات الانتخابية... (وكأن البطاطا والبصل والسندويتشات ليست من الشأن العام)
فجأة...
فجأة...
فجأة...
فجأة يفيض شارع الحبيب بورقيبة مع كل حدث ثقافي، وفجأة تعود أرصفته إلى سباتها العميق... المدجج بالأقدام والرؤوس المنحدرة أبدا إلى أسفل البطن... ويعود الشعار المركزي لسرة العاصمة، شارع الحبيب بورقيبة وما تفرع عنه من انهج، فالكل، وبعد اختفاء مراسم البهرج الاحتفالية يقول لهذا الشارع "باي باي بورقيبة" فتعود القاعات إلى ظلمتها الدائمة والمسارح إلى مراتيجها والمكتبات إلى غبارها...
هكذا تبدو لي علاقتنا بالثقافة، علاقة طارئة أو موسمية، إذ نستهلكها بنهم وشراهة مفرطة طيلة الأيام المعدودات التي تقررها وزارة الإشراف، ثم وبمجرد أن ينتهي موسم الاحتفال نعود أدراجنا إلى قواقعنا وبيوتنا وأيامنا المتشابهة لنلوك الفراغ... لنكون بذلك أوفياء لحقيقتنا وحقيقة علاقتنا بالثقافة... تلك العلاقة البدوية الموغلة في الولائمية والمبنية أساسا على عادة "الزردة" وطقوسها النهمية...
إن تواتر الاحتفالات الثقافية وتناسل أشكال التنشيط الثقافي البسيط لا يعكس بالضرورة وجود أسس ثقافية متينة، لان الثقافة، يا أهل الثقافة، لا تقتصر على عرض الأفلام أو المسرحيات أو دعوة النجوم والمشاهير أو إقامة معارض للكتب واللوحات والمنحوتات...
فالثقافة هي قبل كل شيء، تلك الممارسات البسيطة التي نتسلح بها لنعرف كيف نستهلك المنتوج الثقافي. ونحن لم نمتلك ثقافة استهلاك الثقافة ولم نؤسس لها بعد، فالمواطن الذي يدخل قاعة سينما محملا بالسندويتشات و"القلوب" و"الشيبس" والمشروبات الغازية، ويترصد ظلمة القاعة ليصعد مكبوتاته، وبائع التذاكر الذي يتأفف من كثرة الجمهور، والشرطي الذي ينهر المارة، والسكارى الذين يترصدون الفتيات، وأصحاب المحلات والمقاهي الذين يستغلون هذه المواسم للترفيع في أسعار بضائعهم...
ولا ينم هذا السلوك إلا عن هشاشة علاقتنا بالثقافة، فهي علاقة سطحية في عمومها... لا تؤسس لأفق بناء بقدر ما توهمنا بذلك...
أما الرواق الآخر، رواق التنظيم والتخطيط والتنفيذ، فلم يتخلص أغلبه من ذهنية "المزية"، ومازلنا نسمع إلى اليوم من هنا وهناك أن هذا المسؤول أو ذاك "عامل مزية على البلاد" بتنظيم هذا المهرجان أو ذاك، ومازال البعض من هؤلاء التكنوقراطيين يتوهم أن الأموال التي تقام بها الأنشطة الثقافية هي منة أو هبة من الدولة... وليست من الضرائب التي يدفعها المواطن المحروم من قاعات السينما ومن المسارح كغيره من الخلق...